«ينبغي أن يكُونَ واضحًا بالنسبة لنَا أنَّه لا مكان لشعبَيْنِ في هذا البلد» هكذا قال يوسف فايتس (1890–1972) مدير إدارة الأراضي والتحريج في الصندوق القومي اليهودي في كتابه المذكَّرات ص 1965. وبتصوُّري أنَّ جزءًا كبيرًا من الاستراتيجيَّة السِّياسيَّة والأمنيَّة الإسرائيليَّة للتعامل مع احتلال الأرض الفلسطينيَّة تعمل وفق هذا المبدأ الاستعماري القديم المُتجدِّد.


لا أتصوَّر أنَّ هناك أيَّ مسألة تاريخيَّة أو سياسيَّة أو أمنيَّة أو غير ذلك غائبة في فهْمِ أبعاد الصراع على أرض الطُّهر والرسالات فلسطين المحتلَّة، إلَّا أن أُريد لها أن تغيَّبَ أو يتمَّ تناسيها أو تجاهلها، وينطبق هذا الأمْرُ على مختلف الإشكاليَّات والحلول الممكن طرحها. أقول هذا؛ لأنَّ هذه القضية أصلًا أكبر بكثير من إمكان حسمها عَبْرَ أيِّ حلٍّ سياسي أو دبلوماسي أو حتَّى عسكري بشكلٍ كامل، والجميع يدرك ذلك تمامًا.
بل لديَّ قناعة مُطْلَقة أنَّ القيادة السِّياسيَّة والعسكريَّة الإسرائيليَّة نَفْسَها تعلَمُ يقينًا باستحالة نجاح أيِّ عمليَّة عسكريَّة أو حتَّى حلول سياسيَّة كاملة لوقف الصراع والاقتتال بَيْنَ الأطراف المباشرة للأزمة، وتنطبق ذات القناعة على المؤسَّسات السِّياسيَّة والعسكريَّة العربيَّة، بالإضافة إلى الأُمم المُتَّحدة الَّتي لَمْ تقبلْ «إسرائيل» لها أيَّ قرار، ومن أهمِّ تلك القرارات عدم اعتراف هذه الأخيرة بقرار التقسيم الصادر في 29 نوفمبر 1947.
لعلَّ المستعمرة الإسرائيليَّة الكبرى تعوِّل للحصول على أكبر قدر ممكِنٍ من المكاسب على الدَّاعمين لها مِثل الولايات المُتَّحدة الأميركيَّة، بالإضافة إلى استغلال ضعف الصَّف العربي الرَّسمي في هذا الوقت. وأقول هذا الوقت؛ لأنَّ لدى «إسرائيل» نَفْسِها قناعة أخرى بعدم وجود ضمانات أبديَّة لاستمرار المواقف السِّياسيَّة للدوَل الإسلاميَّة أو إمكان عودة العرب إلى مواقف الوحدة العربيَّة لسببٍ أو لآخر، وفي أسوأ الأحوال تراجع الولايات المُتَّحدة الأميركيَّة أو حتَّى ضعف دعمها لأسبابٍ عديدة ومختلفة، بالإضافة إلى اتِّساع هوَّة الرافضين لاستمرار الصراع والحرب في الداخل الإسرائيلي نَفْسِه، وما يُمكِن أن تتسببَ به مواقف الشعوب المسلِمة في مواجهة تغيير مواقف حكوماتها تجاه قضيَّة الأُمَّة الإسلاميَّة في مواجهة المستعمرة الإسرائيليَّة الكبرى.
أسهل ما يُمكِن توضيحه لتأكيد الموقف السَّابق هو الثوابت لدى الأُمَّة الإسلاميَّة، بالإضافة إلى الفلسطينيِّين كأصحاب حقٍّ من جهة، والإسرائيليِّين والقوميِّين الصهاينة المحتلِّين والدَّاعمين لهم في الغرب من جهة أخرى. بمعنى آخر، هل يُمكِن أن يقبلَ أيُّ مُسلِم التنازل عن المسجد الأقصى؟ هل يفكِّر أيُّ عاقل بإمكان تنازل الفلسطينيِّين عن أرضهم؟ هل يُمكِن أن تبردَ الدِّماء النَّازفة بسلام واهمٍ أو مؤقت؟ كما أنَّ الإسرائيليِّين أنْفُسهم لا يُمكِن لهم الخروج من فلسطين؛ لأنَّهم أصلًا غير مقبولين في أيِّ مكان حَوْلَ العالَم.
على العموم لعلَّ البعض يطرح سؤالًا حَوْلَ عنوان هذا المقال، ما دخل السفسطة بالقضيَّة والصراع على أرض الطُّهر والرسالات فلسطين والمواجهة مع المستعمرة الإسرائيليَّة الكبرى؟
وأنا أقرأ كتابًا لديفيد بن جوريون المعنون «الصورة والحقيقة في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني» ص 110، شدَّ انتباهي الجملة الآتية «يرى الجميع أنَّ ثمَّة صعوبة في مسألة العلاقة بَيْنَ العرب واليهود، ولكن ليسوا كلُّهم قادرين على أن يروا أنَّه ليس من حلٍّ لهذه المسألة، ليس من حلٍّ! هناك هوَّة وليس من أحَد قادر على ملئها، وحْدَها السفسطة يُمكِنها أن تحلَّ النزاع بَيْنَ المصالح اليهوديَّة والعربيَّة، لا أعرف أيَّ عربي سيوافق على أن تصبحَ فلسطين ملكًا لليهود… نحن كأُمَّة نريد أن يكُونَ هذا البلد لنَا، والعرب كأُمَّة يريدون أن يكُونَ هذا البلد لهُمْ».
طبعًا فهْمُ بن جوريون لهذه القضيَّة يوضِّح بجلاء كيف يفكِّر اليهودي والصهيوني والقائد السِّياسي والعسكري في «إسرائيل»، كيف يفهمون ويمارسون السِّياسة وثقافة التعاطي مع الصراع حتَّى هذا اليوم، حيث إنَّ السفسطة من وجهة نظره وحدها مَن يُمكِن أن يتعاطى مع هذه القضيَّة، والسفسطة باختصار هي مجموعة من الأوهام الَّتي تعتمد على الجدل والتلاعب بالألفاظ بقصد الإقناع. بمعنى آخر: إنَّ الخداع والأوهام والتلاعب بالمصطلحات والأفكار جزء من ثقافة التعاطي الإسرائيلي مع الحلول الَّتي يُمكِن أن تطرحَ للتعامل مع مسألة الصراع، أمَّا الرؤية الواقعيَّة الَّتي يؤمنون بها فهي ترتكز على أبديَّة الاحتلال والتوسُّع، وهو ما يؤكِّده بن جوريون بقوله «إنَّ الأمْرَ لا يكمن في الإبقاء على الوضع القائم فنحن بحاجة إلى دَولة حركيَّة مهيَّأة للتوسُّع».

محمد بن سعيد الفطيسي
باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية
رئيس تحرير مجلة السياسي – المعهد العربي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
[email protected]
MSHD999 @

المصدر: جريدة الوطن

كلمات دلالية: ة الإسرائیلی بالإضافة إلى

إقرأ أيضاً:

نهاية أوهام حل الدولتين.. من رؤية نتنياهو إلى قرار ضم الضفة

علي بن حبيب اللواتي

في تسعينيات القرن الماضي، أصدر بنيامين نتنياهو كتابه السياسي "تحت الشمس"، الذي لم يكن مجرد تأريخ سياسي، بل بيان أيديولوجي يكشف عن ملامح المشروع الصهيوني في صورته الصلبة.

وفي كتابه، عارض نتنياهو صراحة قيام دولة فلسطينية مستقلة، مؤكدًا أن "أمن إسرائيل ووجودها" يتطلبان السيطرة الكاملة على الضفة الغربية، بما فيها غور الأردن، ورفض أي انسحاب أو تفكيك للمستوطنات.

واعتبر أن ما يُعرض على الفلسطينيين يجب ألا يتجاوز حكمًا ذاتيًا إداريًا بلا سيادة حقيقية فعلية، بل كبلدية تُدار تحت قبضة أمن الاحتلال.

وجاء قرار الكنيست الإسرائيلي الصادر يوم الأربعاء بتاريخ 23 يوليو 2025، بالإجماع (71 صوتًا مقابل فقط 13) بضم الضفة الغربية وغور الأردن كجزء لا يتجزأ من "أرض إسرائيل"، داعيًا الحكومة إلى فرض السيادة الكاملة على مناطق الاستيطان، ليشكّل علامة فارقة في مسار القضية الفلسطينية المركزية.

إن قرار الكنيست يعد بمثابة "شهادة وفاة سياسية" رسمية لحل الدولتين، فالقرار لم يُبقِ أي مجال جغرافي أو قانوني لقيام دولة فلسطينية.

بل هو إعلان صريح بأن إسرائيل لم تعد تعتبر الضفة "أرضًا متنازعًا عليها"، بل هي جزءٌ من "أرض إسرائيل الكبرى".

ورغم أنه قرار رمزي غير ملزم، إلا أنه يعكس إرادة سياسية متصاعدة تسعى إلى ترجمة رؤية نتنياهو في كتابه إلى واقع فعلي معاش.

ولتأكيد ذلك، نشاهد ازدياد عدد المستوطنين في الضفة ليتجاوز المليون مستوطن حاليًا، وإنشاء أكثر من 150 مستوطنة كبرى تم إنشاؤها بقضم أراضي الضفة الغربية، وتشييد شبكات طرق خاصة تربطها داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة وتفصلها عن قطاع غزة، وجدار الفصل العنصري الذي مزّق الجغرافيا الفلسطينية تمزيقًا، والحواجز الأمنية التي حجزت أصحاب الأرض في أحياء مقفلة.

هذه التعديات على الأرض جعلت من أي تصور لدولة فلسطينية "متصلة" أشبه بالخيال...!

فهل بعد ذلك يمكن أن يُبنى ويُعمر روح السلام وتُقام دولة فلسطينية على خريطة ممزقة؟

والمتابع للأحداث يجد بأن مواقف القيادة الإسرائيلية فعليًا ترفض تمامًا إقامة دولة فلسطينية، فعلى الرغم من اختلاف الوجوه والأحزاب الحاكمة، ظل الموقف الإسرائيلي متصلبًا.

لم توافق قيادات دولة الاحتلال رسميًا في أي لحظة على قيام دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة.

وكل ما قُدِّم للفلسطينيين في أفضل صوره باتفاقية أوسلو هو إدارة ذاتية محدودة الصلاحيات، فعليًا ليس حكمًا ذاتيًا مستقلًا، بل أشبه بإدارة بلدية تقع تحت قبضة الأمن العسكري للاحتلال، ومن دون سيطرة على الحدود أو الموارد أو المجال الجوي والبحري. وما خفي من الشروط أعظم.

أما الدعم الأمريكي خلال العقود الماضية، فقد كان وما زال الراعي الأول المحتكر لمفاوضات "السلام" دون السماح لدول أخرى بمشاركتها.
لكنها عمليًا، ظلت واستمرت منحازة بالكامل لدولة الاحتلال.
إدارة تلو الأخرى، بما فيها إدارة بايدن وترامب، لم تضغط بشكل حقيقي على إسرائيل لإنهاء الاحتلال، بل اكتفت ببيانات دبلوماسية تحمل أوجه تفسيرات متعددة، ومن دون أي خطوات عملية تردع التوسع الاستيطاني أو الانتهاكات اليومية التي فرضت سيطرتها على الأرض.

وفي الطرف الآخر، منذ تسعينيات القرن الماضي، ظل مصطلح "حل الدولتين" يتردد كالنشيد الدبلوماسي في كل محفل دولي يتعلق بالقضية الفلسطينية.
ورغم تعاقب الحكومات، وتبدل القيادات في الوطن العربي، ظل جوهر الطرح العربي: إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967 تعيش جنبًا إلى جنب مع دولة إسرائيل.

غير أن الواقع السياسي للاحتلال، والحقائق على الأرض، تحكي واقعًا مختلفًا...!!

والقرار العربي الرسمي يبدو مستمرًا في تكرار نفس الخطاب، فرغم كل هذه المعطيات الجديدة، لا تزال بعض الأطراف العربية متمسكة بخيار الدولتين كأن شيئًا لم يحدث.

ويرى بعض المحللين العرب أن هذا التمسك بات يُستخدم كذريعة لتبرير "اللاحراك" العربي الرسمي، وتتفادى الدول اتخاذ مواقف حاسمة.
فخيار الدولتين، كما يُطرح اليوم، أصبح أقرب إلى شعار بروتوكولي، لا يعكس واقعية سياسية.

وأخيرًا.. يأتي السؤال الصعب الآن:

إذا كان حل الدولتين قد انتهى واقعيًا، فما هو البديل؟

هل نحن أمام حل الدولة الواحدة؟

أم هو نموذج الفصل العنصري الطويل الأمد؟

أم ستشهد فلسطين انفجارًا جديدًا؟

وقد أصبح واضحًا الآن للشعب الفلسطيني المضطهد وللشعوب العربية، بعد حرب الإبادة المنظمة في غزة وتآكل أراضي الضفة الغربية وقرار الكنيست (الذي لم يتم إقراره إلا بعد أن كشف الاحتلال ضعف الرد العربي الحازم والعالمي تجاه الإبادة الإجرامية الهمجية في غزة)، أنهم لم يعودوا يثقون بما يسمى "المجتمع الدولي" بأنه جاد في إنصاف الشعب الفلسطيني وإعطائه حقوقه المشروعة.

ومع كل ذلك، تبقى إرادة الشعوب، وحق الفلسطينيين في أرضهم، حقيقة لا تمحوها قرارات الكنيست، ولا جدران الاحتلال، ولا حكم فرض الواقع.

فهل بعد تلك الوقائع يصحو العالم العربي الرسمي من غفوته ليتطلع إلى مشروع حضاري يوازي التحديات فيعيد التوازن للقضية المركزية العربية الإسلامية الأولى؟

سؤال ستكشف الأحداث عن إجابته، لنتابع تطورها...

والسلام على فلسطين يوم احتُلّت، ويوم قاومت، ويوم تتحرر كوعدٍ إلهي سيأتي يومًا.

رابط مختصر

مقالات مشابهة

  • نهاية أوهام حل الدولتين.. من رؤية نتنياهو إلى قرار ضم الضفة
  • خبراء فلسطينيون: العمليات اليمنية تعيد رسم خارطة الصراع مع الكيان الإسرائيلي
  • اربع عمليات لقوات صنعاء على اهداف حساسة في عمق الاحتلال الإسرائيلي
  • البرلمان العربي يرحب بإعلان الرئيس الفرنسي عزم بلاده الاعتراف رسميًا بدولة فلسطين
  • القوات المسلحة تستهدف أهدافًا حيوية للعدو الصهيوني في فلسطين المحتلة
  • البرلمان العربي يرحب بإعلان فرنسا عزمها الاعتراف بدولة فلسطين
  • البرلمان العربي: إعلان ماكرون عزمه الاعتراف بدولة فلسطين انتصارا للعدالة
  • العاملون بسكك حديد مصر: قرار الكنيست الإسرائيلي يزيد الأوضاع ظلاما في فلسطين
  • بعد قرار الضم من قبل الكنيست الإسرائيلي.. غضب في الضفة الغربية: جزء من أهداف الحرب على الفلسطينيين
  • البرلمان العربي يدعو لتجميد عضوية «الكنيست الإسرائيلي» في الاتحاد البرلماني الدولي