المقاطعة الشعبية المستدامة.. السلاح الأقوى
تاريخ النشر: 29th, October 2023 GMT
د. عبدالله باحجاج
عندما نُعمل التَّفكير في كيفية الرد على المجازر النازية للكيان الصهيوني بمُشاركة غربية واسعة- مُمثلة هنا بحلف الناتو- ونخص بالذكر الأربعة الكبار هم أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، فإننا ينبغي أن نلفت الانتباه إلى أنَّ جرائمهم المُستمرة حتى الآن، ستؤسس لوقائع مُستدامة مُتعددة داخل فلسطين المحتلة وخارجها معًا.
لذلك تُصنَّف تلكم الدول كالفاعل في الجرائم؛ حيث لم تكتف بالمُساهمة بالمال والعتاد البشري والعسكري والدعم السياسي، وبعضها كواشنطن قد أرسلت عناصر من نخبتها العسكرية "المارينز" تقاتل مع العدو على الأرض، والمُفارقة هنا أنَّ هذه الدول لم تكتف لوحدها بالوقوف مع الصهاينة، وإنما كذلك شركاتها الكبرى التي تبرعت بالأموال والغذاء وبصورة علانية تستفز وتُثير غضب المسلمين في العالم، وهي هنا تنحاز للكيان، ونحملها معه في مسؤولية مجازره النازية.
لن نطالب هنا بما هو مستحيل لا يتناغم مع الواقع السياسي العربي وخلفياته الدولية، وإنما بالممكن، وهو تطوير سلاح المقاطعة الشعبية الراهنة، بحيث تكون مؤسسية مستقلة ومستدامة وممهنجة- أي وضع خطة مرسومة وثابتة للمقاطعة- فحركات المقاطعة الشعبية الراهنة رغم تأثيراتها الآن، تحتاج إلى تنظيم وتعبئة عبر إقامة مؤسسات شعبية داخل الدول التي تفتقر لمثل هذه المؤسسات، وذلك لمقاطعة بضائع تلكم الدول وشركاتها بحيث تعبر عن إرادة الشعوب، لا عن أنظمة الدول التي فيها، لأنَّ الأنظمة تتعرض الآن لضغوط أمريكية قوية لمنع المساعدات لغزة، وتعمل على إصدار قوائم لمقاطعة الأفراد داخل كل دولة.
كلنا نعلم حجم سوق تلكم الدول وشركاتها في المنطقة العربية والخليجية على وجه الخصوص، لذلك المقاطعة كما يقال السلاح الأسهل، لكنه الأقوى تأثيرًا في ظل عدم مقدرة الأنظمة خوض حرب أو اتخاذ موقف رادع، كما إنها- أي هذه الأنظمة- لن تتمكن من مقاومة الضغوط الأمريكية والغربية عامة، لذلك تترك الشعوب تعبر عن موقفها ما دام سلميًا، والمقاطعة هي كذلك، وهي موقف سياسي، كما يُصنَّف بالمفهوم الغربي، ويتم تطبيقه على الدول والأفراد الجماعات، فلنتعامل معها بنفس فكرها وثقافتها.
هذه المقاطعة وفق تطبيقاتها الشعبية الاختيارية الراهنة في الكويت مثلًا، تفتح لنا آفاق تأسيس الرد الممنهج على الجرائم بصورة مستدامة، ووفق الأساليب السلمية، وسيكون من شأنها تجنب تفكير الشعوب في الرد غير السلمي الذي قد تجنح إليه العواطف إذا لم يكن هناك عمل فاعل للرد كالمقاطعة الشعبية الممنهجة والمؤسسية؛ فمجازر الأعداء تنتج عنفًا وإرهابًا منفلتًا إقليميًا ودوليًا نتيجةً لدموية المجازر النازية لأطفال غزة، وقد ارتفع عدد الشهداء من الأطفال إلى قرابة 3 شهيد، إلى جانب عشرات الآلاف من الجرحى ضمن حصيلة شهداء بلغت أكثر من 8 آلالاف شهيد.
وفي إحدى تغريداتنا المنشورة على حساباتنا على وسائل التواصل الاجتماعي بعنوان "دول الكذب.. لا تؤتمن"، طالبنا قمة الوعي السياسي الخليجي الحذر من مآلات كذب واشنطن ولندن وباريس وبرلين، فمن رؤسائها مرورًا باستخباراتها وأخيرًا إعلامها يكذبون منذ مئات السنين، وقد جاءت مجازر غزة لتكشف كذبهم المتجذر في وضح النهار، واستشرفنا في هذه التغريدة مستقبل قوة الأنظمة في الخليج عندما يطالها كذبهم المُعوْلَم، وطالبنا بالحفاظ على قوتهم الشعبية والفكرية، وعدم المساس بها، واعتبرنا أنَّ المساس بها سيكون من مستهدفات دول الكذب وضغوطهم على الأنظمة في الخليج؛ فالحذر الحذر من استعداء الشعوب، وجعل الأنظمة دون غطاء شعبي.
ومن الذكاء السياسي استيعاب الأنظمة لجموح شعوبها الغاضب من المجازر الإنسانية في غزة التي لن تُسقط مسؤولية تلكم الدول عنها أبدًا، لذلك على الدول العربية المسلمة التسليم بحق الشعوب في تبني خيارات ناعمة ذات تأثير خشن ومؤلم على تلكم الدول، دون أن تكون أنظمتها طرفًا فيها، لدواعي المستحيلات التي أشرنا إلى بعضها سابقًا.
بصرف النظر عنها- أي المستحيلات- فإن ميكانزمات العلاقة البنيوية بين رجال الأعمال في كل دولة، والقرارات الحكومية تحول بدورها دون المطالبة بقيادة الحكومات للمقاطعة، والكويت حالة استثنائية هنا، فرجال الأعمال في الحكومات، لن يضروا مصالحهم بهكذا قرارات، لذلك لا نطالب الحكومات بالمقاطعة، وإنما عدم الوقوف ضدها، واعتبارها كخيارات مجتمعية واعية ومسلم بها، لأن المجتمعات جزء أصيل من أركان الدول، وبالتالي ينبغي أن يكون هذا الركن متناغمًا مع بقية أركانه الأساسية، وما أحوجنا الآن إلى تطوير وتفعيل دور مؤسسات المجتمع المدني، وشموليتها، وتحديث قوانينها.
وعندما نرسم مُحددات للمقاطعة الشعبية المستدامة، الممنهجة والمؤسسية، وذلك حتى تؤتي المقاطعة نتائجها المؤثرة سريعًا، وننتقل من المقاطعة العفوية والعاطفية والانتقائية رغم أنها مؤثرة الآن، بدليل ما أحدثته مقاطعة بعض المنتجات لمدة عشرة أيام فقط، فقد أدت بشركات كبيرة إلى التنصل عن مواقف فروعها التي وقفت مع الكيان المحتل، وتقديم الدعم المالي لغزة، وحجم هذا التأثير وتوسيعه وديمومته، هو المستهدف من المقاطعة الشعبية الممنهجة والمؤسسية؛ فالمجتمعات تحتاج إلى توجيهات وخارطة طريق للمقاطعة، لذلك لا بُد من وجود داخل هذه الكيانات أطر وكوادر متخصصة في كل القطاعات والمجالات، وعلى إلمام شامل ببعدها العالمي والسياسي والقانوني والتقني.
مثلًا نحتاج لأطباء متطوعين؛ فهناك شركات للأدوية كبرى أعلنت بعضها دعمها للكيان، مما قد يثير قضية البديل عن أدويتها من حيث الجودة والفاعلية، ومن ثم هل ينبغي أن تقاطع أم لا؟ كما نحتاج لخبرات على معرفة سياسية بالدول والشركات التي دعمت الكيان، ويستوجب مقاطعتها، وكذلك معرفتهم بطرق ووسائل تغلغل البضائع الصهيونية داخل منطقتنا العربية والخليجية سواء المباشرة أو عن طريق طرف آخر.. إلخ.
لن تتحمل الدول وشركاتها طويلًا مثل هذه المقاطعة، فقد رأينا نتائج مقاطعتها لعشرة أيام فقط وبالطريقة غير الممنهجة والمؤسسية وعلى يقين أن هذه المقاطعة ستنجح، وأنها ستؤثر على قوى الظلم واستباحة الدماء البريئة، وستنحني أمام ارادات الشعوب، لأن تأثير المقاطعات سيكون مؤلما على اقتصادياتها التي تشهد بصورة دائمة أزمات مالية واقتصادية نتيجة الصراعات والحروب والتوترات الجيوسياسية.
في المقابل ستنهض المقاطعة باقتصاديات أخرى منافسة للغرب كالصين وموسكو.. مما يفتح هنا الباب أمام تنافس عالمي على المنطقة الإسلامية العربية الخليجية، وسيكون لها إرادتها في فرض أجندتها، وحمل الدول الكبرى على عقلنة مواقفها، وستحسب شركاتها الكبرى حسابات عميقة قبل اتخاذ مواقف انحيازية، ولو كانت واشنطن ولندن وباريس وبرلين تعلم أن مشاركتها المباشرة والعلنية في العدوان على غزة سيكون له تداعيات كبرى على اقتصادياتها، فلن تكون مشاركتها بهذا الاستفزاز المنتج للعنف المضاد.
من هنا ندعو الفعاليات الاجتماعية في كل دولة إلى العمل على تبني خيار المقاطعة الممنهجة والمؤسسية المستدامة فورًا، وهو أقل الأدوار وأنجعها في التأثير على الدول والشركات المُلطّخة أياديها بدماء المجازر في غزة.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
غارديان: دونالد ترامب يسعى إلى تغيير الأنظمة في أوروبا
يرى الكاتب الصحفي جوناثان فريدلاند أن الولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترامب لم تعد مجرد شريك متردد لأوروبا، بل تحولت إلى طرف معادٍ يسعى صراحة إلى التأثير في مستقبلها السياسي.
وقال الكاتب -في عموده بصحيفة غارديان- إن الأمر وصل إلى العمل على تغيير الأنظمة داخل القارة، استنادا إلى ما ورد في إستراتيجية الأمن القومي الأميركية الجديدة التي تقول إن "تنامي نفوذ الأحزاب الأوروبية الوطنية" مدعاة لتفاؤل كبير، وإن الولايات المتحدة ستفعل ما بوسعها لمساعدة أوروبا على "تصحيح مسارها الحالي".
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2واشنطن بوست: "الدعم السريع" تحتجز آلاف الرهائن وتقتل مَن لا يدفع فديةlist 2 of 2نيوزويك: 3 مؤشرات على حرب وشيكة بين الولايات المتحدة وفنزويلاend of listوقد وجهت إستراتيجية الأمن القومي الأميركية الجديدة انتقادات حادة إلى أوروبا، واعتبرتها مهددة بالاندثار الحضاري بسبب الهجرة وتراجع المواليد وما تصفه بقمع حرية التعبير.
وأكد الكاتب أن هذا الخطاب الذي يعكس رؤية ثقافية وعنصرية ترى أن أوروبا تفقد هويتها البيضاء والمسيحية لا يقتصر على لغة أيديولوجية أو مزايدات إعلامية، بل يمثل خطة سياسية واضحة تعلن واشنطن بموجبها نيتها دعم الأحزاب اليمينية المتطرفة واليمين المتشدد في دول أوروبية كبرى مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، والعمل على إضعاف الاتحاد الأوروبي.
ويربط فريدلاند هذا التوجه بالمصالح الروسية، معتبرا أن تقويض الاتحاد الأوروبي هدف إستراتيجي قديم بالنسبة لموسكو، وهو ما يفسر الترحيب الروسي بالسياسة الأميركية الجديدة، في تقاطع غير مسبوق بين موقفي واشنطن والكرملين.
لحظة مفصليةويتناول المقال أسباب العداء الأميركي للاتحاد الأوروبي، مرجحا أن جزءا منه يعود إلى قدرة الاتحاد على فرض قيود وتنظيمات تحد من نفوذ شركات أميركية وشخصيات نافذة مثل إيلون ماسك، إضافة إلى رغبة ترامب في التعامل مع دول أوروبية متفرقة يسهل الضغط عليها بدل تكتل قوي موحد.
إعلانوبغض النظر عن الدوافع يؤكد الكاتب أن الولايات المتحدة باتت ترى الاتحاد الأوروبي خصما لا حليفا، وهو واقع لم يعد قابلا للإنكار، وبالفعل حاول المدافعون عن ترامب القول إن الإدارة لا تعادي أوروبا بحد ذاتها، بل الاتحاد الأوروبي تحديدا.
أوروبا تواجه لحظة مفصلية تتطلب شجاعة سياسية للاعتراف بأن التحالف الأطلسي يمر بأزمة عميقة، وأن الاعتماد التقليدي على الولايات المتحدة لم يعد مضمونا
وعلى الصعيد الأمني، ينتقد فريدلاند الموقف الأميركي من الحرب في أوكرانيا، معتبرا أن واشنطن تمارس ضغوطا على كييف للقبول بشروط تصب في مصلحة روسيا، في وقت يتجاهل فيه قادة أوروبيون -بمن فيهم الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو) مارك روته– حقيقة أن أقوى دولة في الحلف باتت أقرب إلى موسكو منها إلى حلفائها التقليديين.
من جهة أخرى، يسلط الكاتب الضوء على التناقض في الموقف البريطاني، حيث يعلن رئيس الوزراء كير ستارمر دعمه لأوكرانيا، لكنه يواصل إعطاء الأولوية للعلاقة مع واشنطن على حساب التعاون الأوروبي، سواء في ملفات الدفاع أو التجارة.
ويخلص المقال إلى أن أوروبا تواجه لحظة مفصلية تتطلب شجاعة سياسية للاعتراف بأن التحالف الأطلسي يمر بأزمة عميقة، وأن الاعتماد التقليدي على الولايات المتحدة لم يعد مضمونا.
وفي ظل هذا الواقع، يدعو الكاتب القادة الأوروبيين إلى مواجهة الحقيقة وبناء موقف أوروبي أكثر استقلالية وتماسكا بدل التمسك بعلاقات لم تعد متبادلة ولا قائمة على الثقة القديمة.