منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزَّة أوائل الشهر الماضي ونحن نسجِّل كُلَّ يوم عتبة غير مسبوقة في الوحشيَّة البربريَّة الَّتي تسجّل في تاريخ الشعوب للصهاينة وعلى صُعد مختلفة وسط صَمْتٍ أو تساهل أو تخاذل دوَلي مريب وبتشجيع من الحكومات الغربيَّة الَّتي سارعت إلى إرسال شحنات مرعبة من الأسلحة لقتل المزيد من الأطفال والأُمَّهات وهدم البيوت على ساكنيها في غزَّة.
فهذه هي المرَّة الأولى الَّتي أشهد فيها حربًا تجعل من المشافي والجرحى ومراكز الإيواء للنازحين والمراسلين هدفًا أساسيًّا دُونَ أن يحرِّكَ العالَم ساكنًا ودُونَ أن تقومَ دُنيا الإعلام الغربي الَّذي أقام الدُّنيا ولَمْ يقعدها حَوْلَ ما حدَث في أوكرانيا بَيْنَما التزم الصَّمت حيال أبشع جرائم تُرتَكب بحقِّ مَرضى وجرحى وعُزَّل وأطفال ونساء وشيوخ لا حَوْلَ لَهُمْ ولا قوَّة. بَيْنَما تستمرُّ وسائل الإعلام الغربيَّة بالصدور وهي تعبِّر عن تأييدها المُخزي لقيام جيش الاحتلال العنصري بارتكاب جرائم الحرب الَّتي تزهق كُلَّ هذه الأرواح وتستهدف كُلَّ مَنْ يتجرَّأ في الغرب على قول كلمة حقٍّ أو اتِّخاذ موقف ضدَّ الظلم ولو كان مجرَّد موقف إعلامي لا يغيِّر من معادلة الميدان شيئًا لصالح ضحايا الغرب من المَدنيِّين العُزَّل.
بعد أن ارتكب المعتدون الإسرائيليون مئات المجازر بحقِّ الفلسطينيِّين وقتلوا عشرات الآلاف من الأطفال ومِثلهم من الأُمَّهات والنِّساء يبدأ المسؤولون الغربيون بالحديث الخجول عن ضرورة عدم استهداف المَدنيِّين والدَّعوة إلى هدنة لمدَّة ساعات فقط!! والسؤال الَّذي يلحُّ على خاطري اليوم: لماذا نقرأ بعد اليوم أو نشاهد إعلامًا غربيًّا لا كلمة ولا موقفًا لدَيْه سوى دعم جرائم الحرب والوقوف بعدَّته وعديده إلى جانب المُجرِمين ضدَّ حقوق وإنسانيَّة الإنسان؟ ولماذا نسمع من يُعدُّون أنفُسَهم زعماء ومسؤولين غربيِّين بعد أن برهنوا ألَّا قِيمة لِمَا يتشدقون به من تقارير عن حقوق الإنسان ولِمَا ينافقون به في خُطبهم وتصريحاتهم عن الحُرِّيَّة؛ إذ لا موقف لدَيْهم سوى الانسياق وراء مَنْ يضْمن لَهُمْ استمرارهم في مراكزهم، ولا ضمير لدَيْهم لنصرة مظلوم أو ردع الظالم عن تماديه طالما أنَّ الظالم مُجرِم حرب صهيوني تدعمه أموال اللوبيَّات في الانتخابات، بل ويمدون الظالم بكُلِّ أسباب وأدوات القتل الوحشيَّة؛ لأنَّهم لا يجرؤون على فعل شيء مخالف للصهيونيَّة المتحكِّمة بمراكز القوَّة في الغرب من مال وإعلام ومخابرات كَيْ لا يخرجوا من دوائر القرار والسُّلطة.
والعتبة الأخرى غير المسبوقة هي أنَّ الرأي العامَّ العالَمي لا وجود له على أرض الواقع؛ إذ لا يستطيع أن يحرِّكَ ساكنًا أو يتَّخذَ قرارًا وحتَّى حين التوصل إلى قرار في الجمعية العامَّة؛ لأنَّ مجلس الأمن عمليًّا مشلول، فلا مرتسمات لهذا القرار على أرض الواقع؛ لأنَّ قصف الطائرات والدبَّابات لا يُقيم وزنًا لرأي دوَل أو لكُلِّ المماحكات والحوارات ومسوَّدات القرارات، سواء رأت النور أم لَمْ ترَه.
والسؤال إذًا: أين نعيش نحن اليوم وفي أيِّ عالَم؟ ما شهدناه في العدوان الإسرائيلي الآثم والخطير وحرب الإبادة ضدَّ الشَّعب الفلسطيني والتطهير العِرقي والعنصري للفلسطينيِّين يُري أنَّنا نعيش في عالَم متوحِّش تحكُمه شريعة الغاب الغربيَّة، وأنَّ البقاء هو لِمَن يمتلك كُلَّ وسائل القهر والتدمير وأنَّ الأسلحة واستعراض القوَّة نجح في إرهاب الآخرين حتَّى عن قول كلمة حقٍّ لأنَّ القنابل الفوسفوريَّة اليوم، وليس السَّيف فقط، مسلطة على رؤوس مَنْ يتجرَّأ ويعلن موقفًا مساندًا للمظلومين والضحايا.
والعتبة الأخرى هي أنَّ المعتدين يعملون جاهدين لِقتلِ أسراهم هُمْ كَيْ لا تتمَّ مبادلتهم بأسرى فلسطينيِّين لدَيْهم مسجونين ومقهورين بغير وَجْه حقٍّ منذ عشرات السِّنين وأنَّ أحَد الوزراء الإسرائيليِّين من أبناء جلدة الأسرى المعتدين يدعو إلى قصف غزَّة بالقنبلة النوويَّة، وحين سُئل عن الأسرى قال إنَّه ثَمَن يجِبُ دفعه، أي أنَّنا نسمع مرَّة أخرى مادلين أولبرايت تتحدث عن قتل آلاف الأطفال العراقيِّين وتقول: «كان الثَّمَن جديرًا أن يُدفعَ».
وأنا أنظر إلى وجوه النَّازحين من العوائل من شمال غزَّة إلى جنوبها يتراكضون بالآلاف قَبل أن تلحقَ بهم آلَةُ الموت ويغطون وجوههم من الكاميرات أقول لَهُمْ ليس عَلَيْكم أن تخجلوا من الكاميرات، بل العار الأبدي الَّذي يسجِّله تاريخ وذاكرة الشعوب على الَّذين يقومون بكُلِّ هذه الأعمال الوحشيَّة ضدَّ إنسانيَّتكم وعلى السَّاسة في الغرب أن يخجلوا ممَّا اقترفت أيديهم وبدعم نظام الأبارتيد المتوحِّش، وأن يخجلوا من افتقارهم إلى أدنى درجات الإنسانيَّة.
والسؤال الآخر المُلِحُّ: لماذا الاجتماعات والنقاشات والقرارات والتصريحات والإدانات إذا كانت غير قادرة على إنقاذ حياة طفل فلسطيني أو امرأة أو جريح أو لاجئ إلى المشفى من قصف لا يرحم ولا يبقي؟!! كُنَّا دائمًا نعْلَم أنَّ المشافي والكنائس والمساجد هي المأوى الَّذي يلجأ إليه النَّاس في أوقات الحرب والعدوان، ولكنَّ هذا العدوان قَدْ كسَر كُلَّ المُحرَّمات الإنسانيَّة والدوليَّة وما زال يحظى بعبارة لا يخجل المسؤولون الغربيون من ترديدها وهي «الدِّفاع عن النَّفْس» الَّتي يمنحونها لقوَّة متغطرسة قرَّرت إبادة شَعب بكامله أمام أعيُن وأنظار العالَم الغربي المتصهين. هذا العالَم الَّذي برهن عن عجز مطلق وأنَّه عمل على تدمير النِّظام الدوَلي كَيْ يبقى القطب الأوحد الَّذي لا يحترم أيَّ قانون دولي ولا مؤسَّسات قادرة على اتِّخاذ موقف وضمان احترام هذه القوانين.
في غمرة كُلِّ هذا الظلم والعجز وشريعة الغاب عمل صحفيون وأطبَّاء وممرضون وعاملون وعاملات في الليل والنَّهار وتحت القصف لإنقاذ طفل أو امرأة أو رجل عجوز، ودفعوا حياتهم وحياة عوائلهم أثمانًا لمواقفهم النبيلة، وبقيَ مسؤولو المشافي المنكوبة للحظات الأخيرة يحاولون إنقاذ حياة هنا وأخرى هناك، كما استمرَّ المقاومون الأشدَّاء بالاشتباك مع قوَّة غاشمة لدَيْها أضعاف أضعاف ما لدَيْهم من عتاد وقوَّة، ولكنَّ هؤلاء استمروا في الإنقاذ والعمل والقتال جميعًا كَيْ يبرهنوا أنَّ المروءة الإنسانيَّة لَمْ تمُتْ عِند أبطال غزَّة، وأنَّ الشَّرف ليس كلمة جوفاء، بل هو مثال لصمود سكَّان غزَّة، وأنَّ قلوب الفلسطينيِّين ما زالت تنبض بالإنسانيَّة والشهامة رغم كُلِّ هذه المأساة الَّتي طالت البَشَر والشجر والحجر ورغم الوهن والعجز في عالَم غربي متصهين يدَّعي الحداثة والتقدُّم والابتكار. هؤلاء الجنود المجهولون في غزَّة الَّذين ضحوا بأنْفُسهم لإنقاذ الآخرين هُمُ الوحيدون الَّذين يستحقون احترامنا واهتمامنا وعرفاننا. أمَّا الألقاب الرسميَّة والأساطيل والمراكز العالَميَّة الجوفاء فقَدْ سقَطَ عَنْها القناع وظهرت حقيقتها البائسة المُخجِلة.
أ.د. بثينة شعبان
كاتبة سورية
المصدر: جريدة الوطن
كلمات دلالية: العال م
إقرأ أيضاً:
رغم الحر الشديد.. موجة صقيع غير مسبوقة تضرب 3 دول| ما القصة؟
في وقت تواجه فيه العديد من دول العالم موجات حر شديدة، تعاني ثلاث دول في أمريكا الجنوبية من موجة صقيع قياسية أودت بحياة 15 شخصاً على الأقل، في ظاهرة مناخية شديدة الندرة يعزوها الخبراء إلى تسرب كتلة هوائية قطبية قادمة من القارة القطبية الجنوبية (أنتاركتيكا).
وبحسب السلطات المحلية، فقد ضربت الموجة الباردة الأرجنتين وتشيلي وأوروغواي، متسببة في انخفاض حاد بدرجات الحرارة إلى ما دون الصفر، وانقطاع التيار الكهربائي، وفرض تدابير طوارئ لمواجهة آثار البرد القارس.
الأرجنتين أدنى حرارة منذ 34 عاماًسجلت العاصمة بوينوس آيرس انخفاض غير مسبوق في درجات الحرارة وصل إلى 1.9 درجة مئوية تحت الصفر، في أدنى مستوى تشهده المدينة منذ عام 1990.
وفي مناطق أخرى مثل بلدة ماكينشاو بإقليم باتاغونيا، وصلت الحرارة إلى 18 درجة تحت الصفر، فيما تساقط الثلج على شواطئ المحيط الأطلسي، بما فيها مدينة ميرامار.
وأعلنت منظمة "بروييكتو 7" غير الحكومية وفاة تسعة مشردين بسبب موجة البرد القاتلة، في وقت عانى فيه الآلاف من انقطاع التيار الكهربائي لأكثر من 24 ساعة، نتيجة ارتفاع الطلب على الطاقة.
وأوقفت الحكومة إمدادات الغاز عن المصانع ومحطات الوقود، مفضّلة توجيهها لتدفئة المنازل.
أوروغواي إعلان حالة تأهب حمراءوفي أوروغواي، أعلنت السلطات حالة "تأهّب حمراء" على مستوى البلاد عقب وفاة ستة أشخاص بسبب البرد، وهو ما أتاح للحكومة استخدام سلطتها في نقل المشردين قسراً إلى مراكز الإيواء. وبلغت الحرارة في العاصمة مونتيفيديو أدنى مستوياتها المسجلة في مثل هذا التاريخ منذ عام 1967، بحسب عالم الأرصاد الجوية ماريو بيديغين.
تشيلي خطة طوارئ لمواجهة البردمن جانبها، أطلقت تشيلي خطة طوارئ لإيواء المشردين في أكثر الأيام برودة.
وسجلت مدينة تشيلان الواقعة على بُعد 400 كيلومتر جنوب العاصمة سانتياغو، درجات حرارة بلغت 9.3 درجة تحت الصفر، وفقاً لهيئة الأرصاد الجوية.
وقال خبير الأرصاد راوول كورديرو من جامعة سانتياغو، في تصريحات لوكالة الصحافة الفرنسية، إن "المنطقة تتعرض لموجة برد ناتجة عن تسرب كتلة هواء قطبية من أنتاركتيكا"، مشيراً إلى أن الأوضاع قد تبدأ في التحسن خلال الأيام المقبلة.