الإسلامويون وإنكار الواقع وتبرير الفشل والإصرار على الحسم العسكري
تاريخ النشر: 14th, November 2023 GMT
الحرب الدائرة الآن تودي بحيوات آلآف السودانيين والسودانيات، وتشرد الملايين، وتعرض مئات السودانيات للإغتصاب والتحرش الجنسي وربما للبيع كرقيق، وتدمر وتنهب الممتلكات العامة والخاصة ومصادر رزق ملايين المواطنين والمواطنات. بغض النظر عمن هو المتسبب في الحرب وأهدافه، فإن الموقف الرسمي لحزب الاسلامويين، المؤتمر الوطني، هو مساندة الجيش عسكريا وسياسيا وإعلاميا وبالطبع هم يسيطرون على قرار الجيش ولو جزئيا بفعل سياسة التمكين، هناك أيضا فصيل أو عدد غير قليل من الإسلاميين اتخذوا جانب الدعم السريع وهو من صنائع الإخوان المسلمين، فلا عجب أن بعضهم موالين له في صراع السلطة هذا.
تطاولت حرب ١٥ أبريل وعلى وشك بلوغ الشهر الثامن، إلا أن الواضح من خلال بيانات المؤتمر الوطني ومنصاته الإعلامية، ومشاركات التيار المحسوب عليه في وسائط التواصل الإجتماعي، هو إنكار الواقع وتبرير الفشل والإصرار على الحسم العسكري. هذه الوصفة هي نتيجة تفكير تبريري ورغبوي، عند التفكير التبريري يلجأ الشخص إلى إخلاء مسؤوليته من أي أمر يقع ويلوم الآخرين على أخطائه، وله تبرير لكل حدث يقع ولكنه غير مسؤول ولم يخطئ مهما كانت درجة تورطه في الأفعال والأقوال التي تسببت في ذلك الخطأ أو الحدث، أما التفكير الرغبوي أو التفكير بالتمني فهو بمعنى الإعتقاد وإتخاذ القرارات بناءا على رغبات الشخص بتمني ما يريده عوضا عن التفكير والتدبير الذي يستند على الأدلة والعقلانية والواقعية. هذه الطريقة في التفكير التبريري والرغبوي أدت بمرور الوقت إلى فقدان الجيش لبعض مواقعه وإنحسار وجوده في عدد من الولايات، كما نتج عنها إضعاف موقف الجيش التفاوضي، فالإتفاقيات تتحدد نتائجها بما يملكه كل طرف من أوراق عسكرية وسياسية. التفكير التبريري والرغبوي بعيدان عن التحليل العسكري والسياسي الصارم المبني على الوقائع وتحليل متغيرات الصراع مثل عدد الجنود والتسليح والتدريب ونقاط قوة وضعف الخصم، والأطراف الداخلية والخارجية الداعمة لكل طرف وقدرتها وحدود تدخلها، وغيرها من الوقائع والمتغيرات. ويمكن تقفي طريقة التفكير التبريري والرغبوي هذه إلى أساسيات منطلقاتها ومسبباتها، وهذه الأساسيات هي فكر وقناعات حركات الإسلام السياسي.
من المسببات الأساسية في تشكل وتحكم وسيادة التفكير التبريري والرغبوي لدى الاسلامويين:
أولا: قناعة الإخوان المسلمون أنهم يمثلون ويحتكرون الحق المطلق وفق تفويض إلهي، وبالتالي هم يمثلون المقدس، والمقدس لا يخطئ وغير قابل للنقد، لذلك كان نهج الجماعة أنها لا تقبل النقد من خارج الجماعة، ثم بحكم تمثيل الجماعة للحق، والجماعة تتمظهر في القيادة فلا يمكن نقد القيادة، وكذلك بيعة الأعضاء للقيادة بالطاعة المطلقة في العسر واليسر والمنشط والمكره، فصار نقد القيادة غير ممكن لأنه نقد للحق، وعززت منعه البيعة فصارت الجماعة لا تقبل النقد حتى من داخلها، فأصبح المتاح للأعضاء هو تبرير أخطاء القيادة فقط وبأي حجج خارجة عن المنطق والعقلانية، ويزداد الأمر تعقيدا إذا كانت هذه القيادة شخصية كاريزمية كالدكتور حسن الترابي او حسن البنا مثلا، فتظهر تصورات أسطورية عن قدرات القيادات في جماعات الإسلام السياسي.
ثانيا: الإسلامويون في الغالب يرفضون تعريف إخفاقاتهم بالفشل أو الهزيمة، ويبررون مثل هذه الوقائع إلى القدر الذي يخبئ حكمته عنهم، ويركنون إلى ذلك؛ بدلاً من البحث في مسؤولياتهم التي سيسألون عنها أمام الله، وهم لا يكترثون لمساءلتهم أمام الناس لقناعتهم بإمتلاكهم الحق وحدهم، ولذلك أيضا لا يسألون أنفسهم عن مسؤوليتهم عن الفشل، وأيضًا لاعتقادهم أن مآل الأمر كله لهذا الدين، بيد أنهم هنا لا يفرقون كثيرًا بين الدين وأنفسهم.
ثالثا: قناعتهم بأنهم يملكون الحق كله وهم المفوضون من الله وبالتالي هم أحبابه، ولذلك فإن الله ناصرهم في كل حال، لذلك في النقاش، الذي يُفترض فيه أن يتم استعراض المعطيات الواقعية، وإجراء تحليل علمي يكشف عن صوابهم وأخطائهم، ويكشف عن مجمل العوامل الفاعلة في الحدث، فهم يقحمون تدبير الله، وكأنه جل وعلا، يشتغل في تدبيره عند بعض من عباده، الذين هم الاخوان المسلمون، لا العكس!.
هذه القناعة بإمتلاك الحق وفق تفويض إلهي، ورفض تعريف إخفاقاتهم بأنهم فشلوا، والقناعة بأن الله ناصرهم على كل حال، تجعل الجماعة تتجه نحو إنكار الواقع وتبرير الفشل والتمسك بالرأي باستخدام تبريرات غير منطقية وغير عقلانية، تصل أحيانا حد السذاجة وخداع النفس، فهي لا تنطلي على العقلاء، و أحيانا يستخدمون غيبيات كمبررات للفشل، وأحيانا يبررون الفشل بالكذب والإحتيال، و قد تلحق بهذه التبريرات فتاوى كمسوغات دينية لتعزيز التبرير، ومع تحطم نموذجهم الديني في أذهان الشعب السوداني نسبة لما أقترفوه في حقه خلال حكمهم قاموا بإدخال تبريرات وطنية لإنكار الواقع وتبرير الفشل. ونتيجة لقناعتهم بأنهم يمتلكون الحق وحدهم فقد قاموا بقتل وتعذيب السودانيين المختلفين معهم سياسيا في بيوت الاشباح، وفصلوهم من وظائفهم في الدولة، ومكنوا أعضاء تنظيمهم في وظائف مؤسسات الدولة وبرروا ذلك بفقه الضرورة وتثبيت الدين، وبما ورد في الأثر عن سيدنا عثمان رضي الله عنه "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن" وغيرها من التبريرات، وعندما أجازوا القروض الربوية الخارجية برروا ذلك بفقه الضرورة، وعندما سرقوا و تعذر عليهم إخفاء الجريمة برروا عدم المحاسبة بفقه السترة وفقه التحلل، وعندما يكتشف كذبهم بخصوص إخفاء هزيمة ما فهم يبررون ذلك بأن الحرب خدعة ومكر، أو يقللون من شأن الهزيمة، أو برروه بأنهم أخفوها ومنعوا تداول أخبارها حتى لا تؤثر على معنويات الجيش والشعب، كما سمع السودانيون خلال سنوات حكمهم عن النمل الذي يلتهم أطنان من السكر، والجقور التي تتسبب في إنهيار الجسور، والضب الذي يتسبب في إنقطاع الكهرباء عن مناطق واسعة من السودان، وماكينة اللحام التي تسببت في إنفجار مصنع اليرموك وكان تعرض للقصف من الكيان الصهيوني ثم اعترفوا بعد ذلك بعدما نشرت صحف أجنبية الخبر، بل حتى الوقائع الكبيرة الجسيمة مثل إنفصال الجنوب أو إحتلال حلايب كان لهم تبريراتهم الواهنة، وترتبط هذه التبريرات أيضا بعدم قناعتهم بمفهوم الوطن والمواطنة المتساوية. الآن هم يلومون الداخل والخارج كله على الحرب ولا يلومون أنفسهم على صناعة الدعم السريع وتقنينه ولا على إضعافهم للجيش، وبالمجمل هم يلومون الآخرين جميعهم إلا أنفسهم.
كذلك أدت القناعة بأن نقد القيادة هو نقد للحق إلى حالة من الجمود والكسل الفكري لدى الغالبية الساحقة من أعضاء حركات الإسلام السياسي فهم متلقون لتعليمات القيادة فقط وفق البيعة، فأدت بدورها إلى غياب النقد الداخلي وسيادة التفكير التبريري، وتحويل الحجج إلى غيبيات يستحيل معها النقاش العقلاني، فمثلا تكون الضائقة المعيشية في السلم أوالهزيمة في الحرب، هي إبتلاءات من الله أو لحكمة يعلمها هو. أما الآن فقد عادت إلى الواجهة مرة أخرى التبريرات بالسحر والعمل السفلي والقرود المسخوتة كما في أيامهم الأولى، فقد دعا أحدهم في مؤتمر الاستراتيجية القومية الشاملة سنة ١٩٩١ إلى الاستعانة بالجن المسلم لحل مشكلة السودان الإقتصادية وتفجير الطاقات. ونتيجة لتطاول أمد حكمهم في السودان، وتمكين منتسيبهم ومواليهم في مؤسسات الدولة والمجتمع، فقد أصبحت هذه الذهنية التبريرية والرغبوية البعيدة عن الطرق العلمية والبحثية هي السائدة وسيطرت على عقلية المؤسسات الحكومية والمجتمعية، بل ربما تفشت حتى في أوساط معارضيهم، فمثلا صرح وزير سابق للصحة تولى المنصب بتوقيع إتفاق سلام مع حكومتهم داعيا الدولة لوقف حزم الدعم لمرضى السرطان قائلا: "الحكومة بتصرف قروش على مرضى السرطان كتيرة جدا وفي النهاية يموتوا" فهو يبرر لإيقاف الدعم بالقضاء والقدر، فلنترك الجانب الانساني وأثره على معنويات ونفوس هؤلاء المرضى في مثل هذا التصريح التبريري جانبا، أما الأسئلة العلمية الصحيحة التي يجب أن تسأل قبل الإدلاء بمثل تصريحه وهي أسئلة تجاوب عليها الدراسات العلمية فمثلا ماهي معدلات عيش مرضى السرطان في السودان؟، وهل هي متوافقة مع المعدل العالمي او المعدل في دول الجوار بمعنى هل يعيشون فترة اطول او اقصر عند علاجهم مقارنة بالمرضى في هذه الدول؟، وإذا كانوا يموتون أسرع فهل هذا بسبب ضعف ما يحصلون عليه من تشخيص وعلاج؟، وهل هناك توعية صحية كافية للفحص الذاتي لسرطان الثدي مثلا، والذي عند اكتشاف بعض انواعه مبكرا تصل نسبة شفاء المريضة إلى ١٠٠%؟، وهل إذا تم رفع الدعم هل هذا سيزيد من معدلات عيش المرضى ام سيقللها؟، والكثير من الاسئلة غيرها!!، هذا بخلاف المعروف أن لمرض السرطان أنواع وتصنيفات مختلفة، وتختلف استجابتها وتكلفتها العلاجية، مثال آخر على هذه الطريقة في التفكير في المؤسسات المجتمعية، هو حملة "الغالي متروك" التي دعت لها جمعية حماية المستهلك السودانية لمحاربة غلاء اللحوم، فطريقة المقاطعة هي طريقة فعالة ومستخدمة على نطاق العالم، ولكن في بلد كالسودان معروف بوفرة الثروة الحيوانية لماذا ترتفع أسعار اللحوم؟، وهل هذا الإرتفاع هو جزء من التضخم الشامل؟، و هل هذه الزيادة في الأسعار تنطبق فقط على اللحوم؟، الحقيقة هو أن زيادة الأسعار هي جزء من التدهور الاقتصادي الشامل في البلاد، وشملت كل السلع والخدمات، فهل الحل هو أن يقاطع الشعب كل السلع الاستهلاكية والخدمات!؟.
كذلك فإن قناعتهم بإمتلاك الحق وحدهم هي ما يدفعهم لعدم الإعتذار عن الأخطاء، فهي تدخل في باب الإجتهاد، لذلك هم ليسوا مخطئين في نظر أنفسهم ويؤجرون على ذلك.ما يتجاهله الإسلامويون هو أن البشر مسؤولون من أفعالهم أمام الله أولا، وأمام شعوبهم، وواجبهم تفسير أفعالهم، والبحث في أين أصابوا وأين أخطأوا، وهل قاموا بما في وسعهم بالتفكير والعمل، وأن الإيمان بقضاء الله وقدره لا يتعارض مع ذلك. يكتب ساري عرابي وهو إسلاموي فلسطيني في نقده لطرق الإخوان المسلمين في التحليل السياسي "إنّ الإيمان، مهم من أجل تعزيز صمود المؤمن في معمعة الصراع، وتصبيره في غمرته، وليس للتغطية على إخفاقاتنا وفشلنا، وهذا النموذج (يقصد الكاتب منهج الإخوان المسلمين في التحليل السياسي ولخصه بكونه الإيمان بموقع الحركة الإسلامية المُفضّل داخل إرادة الله الغالبة! )، ينبغي أن نعتقد إزاءه أن الحقّ لا يحلّ في أحد من عباد الله، وأن انتسابنا لهذا الحقّ، لا يعفينا من الخطأ، وأن حكمة الله متسامية على أهوائنا ورغباتنا ...الفكرة المهمّة هنا، أننا مسؤولون عن أفعالنا، وواجبنا تفسير تلك الأفعال، وتصحيحها، وأنّ الإيمان بتدبير الله، لا يعارض ذلك أبدًا، إذ ليس لنا بأعياننا، أفرادًا وجماعات تنتسب للحركية للإسلامية، عهد على الله، وإذا كانت حكمة الله التي لا يحيط بها إدراكنا، أو موازين القوى في لحظة معينة، قد تدفع بنا إلى الهزيمة، فإنّ مآلات الأنبياء الذين قتلوا من قبل، والنبي الذي يأتي وليس معه أحد يوم القيامة، وأصحاب الأخدود، نماذج للاستمرار في المكابدة، لا للاستدلال بها على غلبة القدر على تدبيرنا؛ هربًا من محاسبتنا أنفسنا، أو تزكية لتدبيرنا وحركتنا. بمعنى أننا مطالبون دائمًا بالبحث في أين أصبنا، وأين أخطأنا، وإن كنّا قد استنفدنا وسعنا بالتدبير والقوّة أم لا، وإن كانت أسبابنا الذاتية غالبة على إخفاقنا أم أنّ توزيع القوّة بيننا وبين خصومنا هو الغالب، وإن كنّا أحسنا التعامل مع ذلك التوزيع أم لا، دون الاستناد إلى أن لنا حظوة خاصّة عند الله، من دون المسلمين، أو من دون بقية العاملين في حقلنا نفسه. ".
هوامش:
١. سيد قطب، معالم في الطريق، ١٩٨٧، الطبعة الحادية عشر.
٢. حيدر إبراهيم علي، أزمة الإسلام السياسي: الجبهة الإسلامية القومية في السودان نموذجا، ١٩٩٥، الطبعة الرابعة.
٣. إبراهيم علي محمد أحمد، المدخل إلى علم الاستخبارات: رؤية إسلامية، ٢٠٠٠، الدار السودانية للكتب
٤. ساري عرابي، النموذج المهيمن في التحليل السياسي لدى الإسلاميين!، ٢٠١٧، موقع قناة الجزيرة الإلكتروني.
mkaawadalla@yahoo.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الإسلام السیاسی
إقرأ أيضاً:
التعليم في عصر الميتافيرس والذكاء الاصطناعي (1-2)
د. عبدالله بن سليمان المفرجي
في لحظةٍ فارقةٍ من تاريخ البشرية، نقف اليوم أمام ثورةٍ معرفيةٍ تهز أركان كل ما اعتدنا عليه في عالم التعليم؛ كالمسافر الذي يقف على قمة جبلٍ شاهق، يرى من جهةٍ وديان الماضي التي احتضنت أجيالًا من المتعلمين في فصولٍ تقليدية، ومن جهةٍ أخرى يرى آفاقًا لا متناهية من الاحتمالات الرقمية تتراقص أمامه كسحرٍ من الخيال العلمي.
إننا نعيش في عصرٍ لم تعد فيه جدران الفصول الدراسية قادرةً على احتواء طموحات العقول الشابة التي تتوق إلى استكشاف عوالم جديدة، حيث تتداخل الحقيقة مع الافتراض، والواقع مع الخيال، في نسيجٍ متشابكٍ من الإمكانيات اللامحدودة.
والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاحٍ شديد اليوم ليس ما إذا كانت منظومتنا التعليمية ستتغير؛ بل كيف ستتكيف مع هذا الطوفان التكنولوجي الجارف الذي يجتاح العالم بسرعة البرق. فإذا كانت الحضارات السابقة تُقاس بقدرتها على بناء المعابد والقصور، فإن حضارتنا المعاصرة تُقاس بقدرتها على بناء العقول القادرة على ملاحقة إيقاع التطور المتسارع دون أن تفقد بوصلتها الأخلاقية والإنسانية. وفي هذا السياق تتجلى أمامنا صورةٌ مركبةٌ ومعقدةٌ لحال التعليم في عالمنا العربي، وكأننا أمام سفينةٍ عملاقةٍ تصارع كأمواج متلاطمة في محيطٍ مضطرب.
فمن ناحية، نرى طموحاتٍ جليلةً تتمثل في رؤى وطنية طموحة كرؤية "عُمان 2040"، التي تسعى إلى بناء اقتصادٍ معرفيٍ قادرٍ على المنافسة عالميًا، ومن ناحيةٍ أخرى، نواجه واقعًا تعليميًا يعاني من تحدياتٍ بنيوية عميقة تعيق تحقيق هذه الطموحات النبيلة. لقد أصاب أحمد زويل كبد الحقيقة حين شخّص الداء المزمن في منظومتنا التعليمية بقوله إن المشكلة تكمن في ثقافةٍ مجتمعيةٍ تستثمر في دفع الناجحين إلى الفشل بدلًا من النجاح، إنها ثقافةُ كسر المجاديف قبل أن تبدأ الرحلة، وتهميش الأفكار المبتكرة قبل أن تُولد.
وهذا التشخيص النافذ يكشف لنا أن المشكلة ليست تقنية محضة؛ بل هي أعمق من ذلك بكثير، إنها مشكلةٌ ثقافيةٌ واجتماعيةٌ تضرب بجذورها في أعماق فهمنا لمعنى التعليم والتعلم. إن المتأمل في قوانين التعليم العالي والمدرسي في بلداننا العربية يجد مفارقةً عجيبة، فبينما ترفع هذه القوانين شعار التحول الذكي والثورة الرقمية، تظل الممارسات الفعلية أسيرة النمط التلقيني الذي يحول المعرفة إلى معلباتٍ فكريةٍ جامدة، تفتقر إلى روح الإبداع وحرارة التجديد.
وكما قال الإمام الغزالي في "إحياء علوم الدين": "العلم بلا عمل كالشجرة بلا ثمر، والعمل بلا إخلاص كالجسد بلا روح"، وهذه الحكمة الخالدة تتجلى اليوم بصورةٍ أكثر إلحاحًا حين نرى منظومتنا التعليمية تعاني من فصامٍ نكدٍ بين الخطاب النظري المتقدم والممارسة العملية المتأخرة. فقد تحول الإطار الوطني للمؤهلات، رغم تصميمه الهندسي الدقيق، إلى وثيقةٍ بيروقراطيةٍ تفتقر للروح التطبيقية، إذ تُقاس جودة البرامج الأكاديمية بمدى توافقها مع النماذج الورقية، لا بقدرتها على إنتاج عقولٍ نقديةٍ تلامس تحديات الرؤية الوطنية.
وهنا تبرز المفارقة الصارخة التي تدفعنا إلى التساؤل: كيف يمكن لاشتراط النشر في مجلاتٍ مصنفةٍ عالميًا فقط أن يُسهم في بناء اقتصادٍ معرفي، بينما يكرس ثقافة انفصامٍ بين البحث الأكاديمي وحاجات السوق؟ إن الإجابة تكمن في الفجوة بين الخطاب التشريعي المعلن والممارسات اليومية التي تُفصح عن العجز عن تجاوز النموذج التقليدي في التقويم، حيث تُختزل معايير الجودة في توثيق العمليات بدل تحليل مخرجات التعلم. وقد جاء في حكم ابن خلدون ما يتصل بهذا المعنى حين قال: "العلم صناعة والصنائع لا تحصل إلا بالممارسة"، فكأن المعرفة التي لا تتحول إلى فعلٍ وممارسةٍ وتطبيقٍ لا قيمة لها.
وهو عين ما يعانيه تعليمنا اليوم من أزمة "التضخم الأكاديمي"؛ حيث تُمنح تراخيص برامج البكالوريس والماجستير والدكتوراه الجديدة كحقٍ كَمِّيٍ لا كمسؤوليةٍ نوعية، فتُضاف الشهادات العليا إلى السوق كأرقامٍ إحصائيةٍ تفتقر للقيمة المضافة التي يتطلبها الاقتصاد المعرفي التنافسي. وإذا كان هذا هو حال التعليم العالي في عصر ما قبل الثورة الرقمية، فإن الأمر يزداد تعقيدًا حين تقتحم تقنيات الميتافيرس والذكاء الاصطناعي ميدان التعليم بإمكاناتها الهائلة وتحدياتها غير المسبوقة.
لقد بات الذكاء الاصطناعي قوةً خارقةً تجتاح كل مجالات الحياة، كسيلٍ عرمرمٍ يكتسح السهل ويزلل الجبال الرواسي ويقتحم أسوار الوعر، والتعليم ليس استثناءً من هذا الاجتياح، وها هي تقنيات الميتافيرس تُضيف بُعدًا جديدًا لهذا المشهد المتسارع، ناسجةً خيوطًا افتراضيةً بين عوالم الواقع والخيال، كالبحر الذي لا تُحد أمواجه ولا تُسبر أغواره. يصف الباحثون الميتافيرس في التعليم بأنه ليس مجرد تقنيةٍ ثلاثيةِ الأبعاد، بل هو انقلابٌ معرفيٌ يكسر الحدود بين الواقع والخيال، ويحول المفاهيم المجردة إلى تجاربَ معيشة، فما كان يصعب شرحه بالكلمات كخصائص الذرة أو تجاويف القلب أو أعماق المحيطات، أصبح ممكنًا استكشافه والإبحار في دقائقه دون حدودٍ ماديةٍ أو مخاطرَ واقعية.
وهنا يتساءل المفكرون التربويون: هل تقف مؤسساتنا التعليمية موقف المتلقي السلبي لهذه التقنيات، كالسفينة العاجزة أمام أمواج البحر الهائجة، أم تسعى لامتلاك ناصية التفاعل الإيجابي معها وتطويعها لخدمة أهدافها التربوية، كالربان الماهر الذي يحول قوة الريح إلى دافعٍ لإبحار سفينته؟ والإجابة تكمن في قدرتنا على تجاوز ثنائية المقاومة والاستسلام، نحو نموذجٍ ثالثٍ قائمٍ على التكامل والتوظيف الواعي لهذه التقنيات.
لقد شبه الخبراء الذكاء الاصطناعي في مجال التعليم بالنار التي يمكن أن تضيء الطريق أو تحرق البيت، اعتمادًا على طريقة استخدامها، فالتقنية ذاتها التي قد تعزز من ثقافة "الغش الذكي" وتيسر انتحال الأعمال العلمية، هي نفسها التي يمكن أن تفتح آفاقًا جديدةً للتعلم التكيفي الذي يراعي الفروق الفردية، وتتيح فرصًا استثنائيةً للمحاكاة والتجريب الافتراضي، وتوفر أدواتٍ متقدمةً للتحليل والاستنتاج. إنها كالسحاب الذي يحمل في طياته الماء العذب والصواعق المهلكة؛ فإن أحسنت استقباله نلت من خيره، وإن أسأت التعامل معه ذقت من ويله.
وفي هذا السياق، تأتي تقنيات الميتافيرس لتضيف معمارًا جديدًا في صرح التعليم الرقمي، يجمع بين متناقضاتٍ مذهلة: الواقع والخيال، الحضور والغياب، القرب والبعد، الأمان والمخاطرة. إن الميتافيرس يحول قاعة الدرس من مكانٍ ماديٍ محدودٍ إلى كونٍ افتراضيٍ مفتوح، يمكن للطالب فيه أن يشاهد تفاعلاتٍ كيميائيةً تفصيلية، أو يسبح في أعماق المحيطات، أو يستكشف أعماق الفضاء، أو يتجول في متاحف عالمية، أو يحضر محاضرةً لعالمٍ من الطرف الآخر من العالم، وكل ذلك دون أن يغادر موقعه.
وتتجلى الحكمة التربوية حين نتذكر أن المشكلة ليست في تطور الآلات، بل في جمود الإنسان، فالتحدي الحقيقي الذي يواجه منظومة التعليم العربية لا يكمن في سرعة تطور التكنولوجيا، بل في بطء تكيف المناهج والمعلمين والبنى التحتية مع هذا التطور. إن تربية العقل النقدي القادر على التمييز بين الغث والسمين أصبحت ضرورةً ملحةً في عصرٍ يغرق فيه المتعلم في بحرٍ من المعلومات التي تختلط فيها الحقائق بالأوهام، كمن يسير في صحراء يرى فيها السراب ماءً والماء سرابًا.
وتضيف الدراسات المعاصرة بُعدًا آخر للتحدي حين تطرح السؤال الفلسفي العميق: كيف نوازن بين الانغماس في العالم الافتراضي والارتباط بالواقع المعيش؟ كيف نضمن ألا يتحول التعليم في الميتافيرس إلى سرابٍ براقٍ يسلب الطالب القدرة على التفاعل المباشر مع الواقع الحقيقي، فيصبح كالطائر المحلق في سماء الخيال، العاجز عن الهبوط على أرض الواقع؟ إنها معضلةٌ تستدعي حكمة المربين وحصافة المفكرين، لوضع الضوابط التربوية والأخلاقية التي تضمن الاستفادة من هذه التقنيات دون الوقوع في براثن إدمانها.
تشير الدراسات الحديثة إلى أن 65% من طلاب المرحلة الابتدائية اليوم سيعملون في وظائف لم تُخلق بعد، وهذه الحقيقة الصادمة تضعنا أمام سؤال مصيري: كيف نعد أجيالًا لمستقبل لا نعرفه؟ إن المناهج التعليمية التي صممت لعصر المصانع أصبحت عاجزة عن مواكبة عصر البيانات الضخمة والواقع المعزز، وفي خضم هذه التحولات، يبرز الميتافيرس كعالم موازٍ يحمل في طياته وعودًا وأخطارًا، فهو من ناحية يفتح آفاقًا غير مسبوقة للتعلم التفاعلي، حيث يمكن للطالب أن يجول في أهرامات مصر أو يشهد انقسام الخلية حيًا، ولكن من ناحية أخرى، فإنه يهدد بفصم عرى التواصل الإنساني الذي ظل لقرون حجر الزاوية في العملية التعليمية.
أما الذكاء الاصطناعي، فقد أصبح كالسيف ذي الحدين، فهو من جهة يمثل أداة تعليمية فذة قادرة على توفير تعليم مخصص لكل طالب حسب قدراته، ومن جهة أخرى، فإنه يطرح تحديات أخلاقية وعملية جسيمة، بدءًا من قضايا الملكية الفكرية وانتهاءً بتهديد الوظائف التقليدية في القطاع التعليمي. وهكذا نجد أنفسنا أمام مشهدٍ تعليميٍ متجدد، يتطلب منا إعادة النظر في كل مسلماتنا التربوية، والبحث عن توازنٍ دقيقٍ بين الاستفادة من إمكانيات التكنولوجيا الهائلة والحفاظ على الجوهر الإنساني للتعليم.
إننا نقف اليوم عند مفترق طرق حضاري، حيث تتلاقى تحديات الحاضر مع إمكانيات المستقبل في لوحةٍ معقدةٍ من التناقضات والفرص. إن الميتافيرس والذكاء الاصطناعي ليسا مجرد أدوات تقنية نختار بين قبولها أو رفضها، بل هما واقعٌ جديدٌ يفرض نفسه على المشهد التعليمي بقوة الأمر الواقع، والسؤال الجوهري الذي يواجهنا الآن هو: كيف نُشكِّل هذا الواقع الجديد بحيث يخدم رؤيتنا التربوية ويحقق أهدافنا الحضارية، بدلًا من أن نكون مجرد ضحايا لتقلباته وتحولاته؟