قراءة في أحكام المسؤولية الجزائية لجريمة الاتجار بالبشر في التشريع العُماني
تاريخ النشر: 19th, November 2023 GMT
مسقط-أثير
إعداد: بدرية بنت عبدالله الهنائية، باحثة ماجستير، القانون الجزائي، كلية الحقوق بجامعة السلطان قابوس.
إن ظاهرة الاتجار بالبشر ظاهرة قديمة، وموجودة منذ العصور الأزلية القديمة، حيث كانت تعرف في تلك العصور بما يسمى بــ” الرق” وكانت تشمل العمل الجبري ورق الديون والزواج القسري وغيرها، ثم جاء الدين الإسلامي الحنيف وأوجد لها حلولا، وذلك عن طريق كفارة الذنوب، وفي الوقت الحالي فقد أطلقت عليها التشريعات الحديثة بـ” جريمة الاتجار بالبشر”، وقد سارعت الدول إلى سن التشريعات والقوانين التي تكافح هذه الظاهرة، وتقي المجتمعات من خطرها، وبخاصة مع كثرة انتشارها في الآونة الأخيرة باستغلال الأطفال والنساء والأشخاص العاجزين عن حماية أنفسهم مثل العمالة الوافدة على اعتبار أنهم من أكثر فئات المجتمع ضعفا، وذلك لبيع أعضائهم البشرية، واستغلالهم في الأعمال القسرية، والممارسات الجنسية كالدعارة، وغيرها من التصرفات المحظورة.
وتعد سلطنة عمان من أوائل الدول التي أصدرت تشريعا خاصا لمكافحة جريمة الاتجار بالبشر، فقد جاء المرسوم السلطاني رقم (126/2008) بإصدار قانون مكافحة الاتجار بالبشر، والذي جاء تأكيدا على جهود سلطنة عمان في التصدي لهذه الجريمة، وذلك لكفالة حقوق الأفراد والمساواة بين جميع فئات المجتمع تماشيا مع ما نصت عليه المادة (22) من النظام الأساسي للدولة، والتي جاء في مضمونها المساواة بين جميع فئات المجتمع، وتوفير كافة وسائل الأمن والطمأنينة المطلوبة لكل من المواطنين والمقيمين، كما جاء تماشيا مع مواكبة سلطنة عمان لباقي دول العالم في مكافحة هذه الجريمة، لما لها من خطر يمس أمن واستقرار المجتمع.
وواصلت سلطنة عمان جهودها الحثيثة في تأهيل وتدريب الكوادر الوطنية من أفراد شرطة عمان السلطانية عن طريق البرامج التدريبية الخاصة لتمكينهم من سرعة التعرف على أفراد المجتمع الهشة والمعرضة بشكل كبير للاستغلال، والذين تقع عليهم جريمة الاتجار بالبشر، وتمكينهم من قراءة مؤشرات الاشتباه، ومعاقبة الجناة، وذلك بعدما أكدت عليه المؤشرات العالمية المنتشرة أن نسبة (41%) فقط من الضحايا يقومون بالإبلاغ، ونسبة تفوق الـ(50%) لا يقومون بذلك، فضلا على ذلك فإن سلطنة عمان من الدول التي تحرص على مشاركة دول العالم بالاحتفال باليوم العالمي لمكافحة الاتجار بالبشر، والذي يصادف يوم الـ30 من يوليو من كل عام تحت شعار ” لنصل لكل ضحايا الاتجار بالبشر، ولا نترك أحدا خلف الركب”، الأمر الذي يؤكد اهتمام وحرص سلطنة عمان بمكافحة هذه الظاهرة. كما استمرت سلطنة عمان في مواصلة جهودها الحثيثة لمكافحة هذه الظاهرة بانضمامها إلى العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والذي اهتم بمنح الأفراد بمن فيهم العمالة الوافدة حقوقهم، ومنع تعرضهم لأي انتهاك، وذلك وفق المرسوم السلطاني رقم (46/2020)، وسعى قانون العمل الجديد الصادر بالمرسوم السلطاني رقم (53/2023) بتاريخ (25/7/2023)، في مضمونه إلى توفير بيئة عمل تضمن حقوق العامل من حيث السلامة والصحة المهنية والقانونية، ويتضح ذلك فيما نصت عليه المادة (5) من القانون حيث جاء فيها: ” يحظر على صاحب العمل فرض أي شكل من اشكال العمل الجبري أو القسري على العامل”.
وبالنسبة لقيام جريمة الاتجار بالبشر فإنها تتحقق بتحقق أركانها القانونية وهي الركن المادي والركن المعنوي، أما بالنسبة للركن المادي فيتحقق بارتكاب أحد الأفعال التي تشكلها، والتي نصت عليها المادة (2) من قانون مكافحة الاتجار بالبشر، فقد حددت المواد القانونية الأفعال التي تشكل جريمة الاتجار بالبشر، وحددت العقوبات المفروضة على ارتكابها، حيث عرفت المادة (1) جريمة الاتجار بالبشر على أنها: “القيام بأي فعل من الأفعال الواردة في المادة (2) من هذا القانون”، ويستفاد من المادة (2/أ) انه يعد مرتكبا لجريمة الاتجار بالبشر كل من اقترف أحد الأفعال الآتية: ” استخدام شخصا، أو نقله ، أو آواه”؛ إلا أن القيام بأحد من هذه الأفعال لا يكفي لقيام جريمة الاتجار بالبشر كونها أفعالا غير مجرمة لوحدها، بل لابد أن تقترن بوسيلة من الوسائل التي أوردها المشرع في ذات المادة القانونية على سبيل المثال لا الحصر، وهي: ” استخدام الإكراه، والتهديد، والحيلة، واستغلال الوظيفة، أو النفوذ، واستغلال حالة استضعاف، وباستعمال سلطة على ذلك الشخص”، وإن الركن المعنوي للجريمة يتمثل في توافر عناصر القصد الجنائي من علم وإرادة، وينصرف القصد الجنائي في جريمة الاتجار بالبشر إلى الاستغلال.
وقد وضح المشرع العماني معنى الاستغلال في المادة (1) من القانون، على أنه الاستخدام غير المشروع للشخص، ويشمل هذا الاستخدام أفعالا مثل الدعارة والاستغلال الجنسي، العمل القسري أو الجبري، والذي يتم ممارسته على العمالة الوافدة بشكل أكبر، والنزع غير المشروع للأعضاء، واستغلال الأطفال في التسول، وغيرها.
ومما ذكر يتضح لدينا أن ركن الاستغلال من الأركان الخاصة بجريمة الاتجار بالبشر، والتي يجب توافرها لقيام الجريمة، ولتوضيح ذلك بشكل يسير سوف نتطرق لمثال يبسط المعنى، وهو أنه في حالة قيام شخص ما بنزع عضو (من أعضاء جسم الإنسان) بغية الحصول على مقابل مادي، فهنا تقوم جريمة الاتجار بالبشر كونه تحقق ركن الاستغلال؛ إلا أنه إذا تضح من خلال التحقيقات أن ذلك الشخص تبرع بالعضو برضاه ومن تلقاء نفسه، فهنا لا تقوم جريمة الاتجار بالبشر، كونه لم يتحقق ركن الاستغلال، وتوافر عنصر الرضا من قبل الشخص المتبرع، فهنا يعد النشاط القائم هو التبرع لا النزع.
وفي تحديد المسؤولية الجزائية لجريمة الاتجار بالبشر، فقد نص المشرع العماني في المادة (8) من قانون مكافحة الاتجار بالبشر على أنه: ” يعاقب كل من ارتكب جريمة الاتجار بالبشر بالسجن مدة لا تقل عن ثلاث سنوات ولا تزيد على سبع سنوات وبغرامة لا تقل عن خمسة آلاف ريال عماني ولا تزيد على مائة ألف ريال عماني”، وتشدد العقوبة إلى أن تصل عقوبة السجن فيها إلى (15 سنة) في حالات معينة ذكرها المشرع في المادة (9) من القانون، ومن بينها ” إذا كان المجني عليه حدثا أو من ذوي الاحتياجات الخاصة، وإذا كان الجاني يحمل سلاحا، وإذا ارتكبت الجريمة من أكثر من شخص… وغيرها”، ومن هنا يتضح حرص المشرع على تشديد العقوبة على الجناة الذين يستغلون ضعف المجني عليه أو عدم قدرته على المقاومة والدفاع عن نفسه، كما أن جريمة الاتجار بالبشر تعد ” جريمة عبر الوطنية” أي إنها كما عرفتها المادة (1) من القانون يمكن ترتكب في أكثر من دولة، أو ترتكب في دولة واحدة، ولكن تم الإعداد والتخطيط والتوجيه والإشراف عليها من دولة أخرى، أو من الممكن ان ترتكب في دولة واحدة ولكن عن طريق جماعة إجرامية تمارس أنشطة إجرامية في أكثر من دولة، وكذلك من الممكن أن ترتكب في دولة واحدة فقط، لكن تمتد آثارها إلى دول أخرى.
وختاما وجب إعطاء مثل هذه الظواهر الأهمية الكبيرة لمكافحتها والحد من خطرها، لما تشكله من خطر على أمن واستقرار المجتمعات، وسلامة الإنسان الحي والحفاظ على كرامته، وهذا فعلا ما تسعى إليه سلطنة عمان متمثلة في جهودها المستمرة للحد من هذه الظاهرة، لذا وجب إعطاء اللجنة الوطنية لمكافحة الاتجار بالبشر التي أنشئت بموجب قانون عام (2008) الدور الأهم، وتعزيز مهامها بشكل مستمر في تثقيف المجتمع ونشر الوعي اللازم بين أفراده، واقتراح تعديل قانون مكافحة الاتجار بالبشر وغيره من القوانين ذات الصلة لتحقيق مزيد من الدعم لمكافحة الاتجار بالبشر. كما وجب التنسيق مع الجهات المختصة بالسلطنة والهيئات والمنظمات الدولية المختصة لوضع الضوابط اللازمة، والإجراءات التي تكفل مكافحة جريمة الاتجار بالبشر عبر الوطنية (العابرة للحدود).
المصدر: صحيفة أثير
كلمات دلالية: جریمة الاتجار بالبشر هذه الظاهرة سلطنة عمان من القانون فی المادة ترتکب فی
إقرأ أيضاً:
تأسيس شركة وطنية لتنظيم وتسويق صادرات المعادن في سلطنة عمان
العُمانية: أصدرت وزارة الطاقة والمعادن، اليوم قرارًا بتأسيس شركة وطنية تحت اسم "الشركة العمانية لتجارة المعادن" بهدف تنظيم تسويق وتصدير المعادن في سلطنة عُمان وتعزيز القيمة المحلية المضافة من الموارد الطبيعية، وتأتي هذه المبادرة ضمن مسار إصلاحي شامل منظومة إدارة المعادن وتحقيق التكامل بين جوانب الاستغلال الاقتصادي والاستدامة البيئية والاجتماعية.
كما نص القرار تقنين تصدير خامي الجبس والكروم مع منح أولوية تلبية احتياجات السوق المحلي قبل النظر في أي عمليات تصدير، إضافة إلى اشتراط ألا تقل نسبة تركيز خام الكروم المُصدّر عن 36 بالمائة، مع السماح بتصدير الكروم المعالج بجميع نسب التركيز شريطة الحصول على موافقة الوزارة، ويهدف القرار إلى إحكام الرقابة على عمليات التسويق، ورفع قدرة سلطنة عُمان التفاوضية في الأسواق العالمية، وتعزيز الشفافية في تسعير الخامات العُمانية.
وجاء هذا التوجه استجابة لتحديات هيكلية يعاني منها سوق المعادن، أبرزها تعدد الوسطاء وغياب آليات التسويق المتخصصة، مما أدى إلى تراجع الأسعار رغم ارتفاع حجم الإنتاج حيث يبلغ عدد التراخيص التعدينية السارية لخام الجبس 15 ترخيصًا، وبلغ إنتاجه في عام 2024 نحو 14 مليون طن، فيما يبلغ عدد التراخيص السارية لخام الكروم 29 ترخيصًا، وبلغ إنتاجه خلال الفترة نفسها نحو 300 ألف طن، وتعكس هذه الأرقام وفرة الموارد المعدنية والحاجة إلى إدارة مؤسسية موحدة تضمن الاستفادة المثلى منها وتسويقها بما يعزز العائد الوطني
وتتولى "الشركة العمانية لتجارة المعادن" – التابعة لشركة تنمية معادن عُمان – مسؤولية إدارة الصادرات بشكل مركزي ، وتوحيد العقود والمواصفات، والتفاوض مع المشترين الدوليين وفق معايير مهنية، بما يرفع متوسط أسعار الخامات المُصدرة ويزيد من العوائد الوطنية.
من المنتظر أن يُسهم هذا التنظيم الجديد في تقليل التلاعب في الأسعار، وتحسين كفاءة عمليات النقل والتصدير، ورفع مستوى الشفافية في السوق، وتمكين الحكومة من مراقبة الريع والعوائد بشكل أفضل، كما يُعزز القرار من فرص التصنيع المحلي والتوظيف، ويدعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة المرتبطة بسلاسل الإمداد، ويُوفر بيئة أعمال قائمة على الكفاءة والتكامل.
وتتماشى هذه الخطوة مع جهود وزارة الطاقة والمعادن لتعزيز القيمة المحلية المضافة، من خلال إلزام الشركات بتبني خطط واضحة لتعميق المحتوى المحلي، وتشجيع توطين سلاسل الإمداد والخدمات في كافة مراحل العمليات المعدنية، ودعم الصناعات التحويلية التي تضيف قيمة للمعادن الخام داخل سلطنة عُمان قبل التصدير، كما يأتي ذلك ضمن مظلة مبادرة "مجد" التي أطلقتها الوزارة لتجميع وتقييم جهود القيمة المحلية المضافة في قطاع الطاقة والمعادن.
ومنحت الوزارة فترة انتقالية مدتها عامًا كاملًا تتيح للشركات إنهاء عقودها الحالية، واستيعاب آلية التسويق الجديدة، كما تعتزم الوزارة تنظيم جلسات تعريفية وتدريبية للمعنيين، إلى جانب تأهيل كوادر متخصصة لإدارة عمليات البيع والتفاوض ضمن الأطر الجديدة.
وبين أن الشركة ستطلق برنامج تسجيل للموردين والمشترين ابتداءً من الربع الثالث لعام 2025، استعدادًا لتفعيل النظام رسميًا في مايو 2026، مؤكدًا على أهمية التواصل المبكر مع مختلف الفاعلين في السوق. داعيًا كافة المنتجين، والمستثمرين، والشركاء التجاريين إلى التواصل مع الشركة لاستكشاف فرص التعاون ضمن هذا الإطار الجديد، سواء في مجال التصدير، أو من خلال شراكات صناعية لتحويل الخام محليًا وتوفير فرص استثمارية واعدة.
وأكد على أن هذا التوجه يُمثل خطوة نوعية نحو تمكين سلطنة عُمان من تحقيق أقصى استفادة من قطاع المعادن، وتعزيز موقعها التنافسي في الأسواق العالمية.