لقد عظم الله سبحانه وتعالى من نجدة المسلم للمسلم، وفزعته لأخيه المؤمن في عموم الأحوال، وخصوصاً في أوقات البلاء والمحن والأزمات، وقد قال سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “المُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كالْبُنْيانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا” وقال صلى الله عليه وسلم: “من نفَّسَ عن مسلمٍ كُربةً مِن كُربِ الدُّنيا نفَّسَ اللَّهُ عنهُ كربةً مِن كُرَبِ يومِ القيامةِ”.

ولقد تجلى هذا المعنى العظيم بين المهاجرين والأنصار في أمثلة رائعة، وصور مذهلة، لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، فكان أهل المدينة من الأنصار، نِعْم معين، وخير نصير، إذ فتحت بيوت الأنصار أبوابها، وقلوب أصحابها لوفود المهاجرين، واستعدَّت لاحتضانهم رجالاً، ونساءً؛ إذ أصبح المسكن الواحد يضمُّ المهاجر، والأنصاريَّ، والمهاجرة، والأنصاريَّة، يتقاسمون المال، والمكان، والطَّعام والمسؤوليَّة الإسلاميَّة؛ فمن هذه البيوتات الحاضنة:

1 – دار مبشِّر بن عبد المنذر بن زَنْبَر بقُباء: ونزل بها مجموعةٌ من المهاجرين، نساءً، ورجالاً، وقد ضمَّت هذه الدُّور، عمر بن الخطاب، ومن لحق به من أهله وقومه، وابنته حفصة، وزوجها، وعيَّاش بن أبي ربيعة.

2 – دار خُبَيب بن إساف أخي بَلْحارث بن الخزرج بالسُّنْح: نزل بها طلحة بن عبيد الله بن عثمان، وأمُّه، وصهيب بن سنان. (المرأة في العهد النَّبويِّ ، ص 116)

3 – دار أسعد بن زُرارةَ من بني النَّجار، قيل: نزل بها حمزة بن عبد المطَّلب.

4 – دار سعد بن خيثمة أخي بني النَّجار، وكان يسمَّى: بيت العزاب، ونزل بها العُزَّاب من المهاجرين.

5 – دار عبد الله بن سلمة أخي بَلْعجلان بقُباء، ونزل بها عُبيدة بن الحارث، وأمُّه سُخيلة، ومِسْطَح بن أُثاثة بن عبَّاد بن المطلب، والطُّفيل بن الحارث، وطُليب بـن عُمير، والحُصَيْن بـن الحارث؛ نزلوا جميعاً على عبد الله بـن سلمة بقُبـاء.

6 – دار بني جَحْجَبَى، والْمُحتَضِن هو منذر بن محمَّد بن عُقبة، نزل عنده الزُّبير بن العوَّام، وزوجه أسماء بنت أبي بكر، وأبو سَبْرة بن أبي رُهْم، وزوجته أمُّ كلثوم بنت سُهيل.

7 – دار بني عبد الأشهل، والمُحْتَضِن هو سعد بن معاذ بن النُّعمان من بني عبد الأشهل، نزل بها مصعب بن عمير، وزوجته حَمْنة بنت جحش.

8 – دار بني النَّجار، والمُحتضن هو أوس بن ثابت بن المنذر، نزل بها عثمان بن عفان، وزوجته رقيَّة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. (السِّيرة النَّبويَّة في ضوء القران والسُّنَّة، لأبي شهبة، 1/468 ، 469).

فهذه المقاسمة، وهذا التَّكافل الاجتماعيُّ كان من أهمِّ العناصر الَّتي مهَّدت لإقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته المهاجرين معه، وبعده، إقامةً طيِّبةً، تنبض بالإيثار على النَّفس، وبودِّ الأخوَّة الصَّادقة المؤمنة. (المرأة في العهد النَّبويِّ ، ص 118).

بهذه الروح العالية، والإيمان الوثيق، والصِّدق في المعاملة تمَّت المؤاخاة، وتمَّ الوفاق بين المهاجرين، والأنصار، وقد يحدث تساؤلٌ، فيقال: لماذا لم نسمع، ولم تسجِّل المصادر، ولم تكتب المراجع: أنَّ خلافاتٍ وقعت في هذه البيوت؟ وأين النِّساءُ وما اشتهرن به من مشاكسات؟.

إنَّه الدِّين الحقُّ؛ الَّذي جعل تقوى الله أساساً لتصرُّف كلِّ نفسٍ، والأخلاق السَّامية الَّتي فرضت الأخوة بين المسلمين، ونصرة الدَّعوة، إنَّها المبايعة، وأثرها في النُّفوس، إنَّه الصِّدق، والعمل من أجل الجماعة، خوفاً من العقاب، ورهبةً من اليوم الآخر، ورغبةً في الثواب، وطمعاً في الجنة، إنَّه دفء حضانة الإيمان، واستقامة النَّفس والسُّلوك، وصدق الطَّويَّة، فكلُّ مَنْ أسلم، وكلُّ من بايع، وكلُّ من أسلمت، وبايعت، يعملون جميعهم ما يؤمرون به، ويخلصون فيما يقولون، يخافون الله في السِّر، والعلن، آمنت نفوسهم فاحتضنت المناصرةُ المهاجرةَ، فالكلُّ يعمل من أجل مصلحة الكلِّ، فهذا هو التَّكافل الاجتماعيُّ في أجلى صورةٍ، وأقدس واقعةٍ، رغب الكلُّ في الثَّواب؛ حتَّى إنَّ الواحد منهم يخاف ذهاب المناصر بالأجر كلِّه.

إنَّ جانب البذل، والعطاء ظاهرةٌ، نحن بحاجة إلى الإشارة إليها في كلِّ وقتٍ؛ إنَّنا في عالمنا المعاصر، وفي الصَّفِّ الإسلاميِّ، وفي رحلةٍ لبضعة أيام تتكشَّف النُّفوس والعيوب، والحزازات والظُّنون، وهذا مجتمعٌ يبنى؛ ولـمَّا يصلْ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد، ومع ذلـك تفتح البيوت للوافديـن الجُدُد، ليس على مستوى فـردٍ فقط؛ بل على مستوى جماعيٍّ كذلك، ويقيم المهاجرون في بيوت الأنصار شهوراً عدَّةً، والمعايشة اليوميَّة مستمرةٌ، والأنصار يبذلون المال، والحبَّ، والخدمات لإخوانهم القادمين إليهم، نحن أمام مجتمعٍ إسلاميٍّ، بلغ الذِّروة في لُحْمَتِهِ، وانصهاره، ولم يكن المهاجرون إلا القدوة للأنصار بالبذل، والعطاء، فلم يكونوا أصلاً فقراء؛ بل كانوا يملكون المال، ويملكون الدَّار، وتركوا ذلك كلَّه ابتغاء مرضاة الله، وبذلوه كلَّه لطاعته جلَّ وعلا، فكانوا كما وصفهم القرآن الكريم: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ۝ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 8 – 9] .كان هذا المجتمع المدنيُّ الجديد يتربَّى على معاني الإيمان، والتَّقوى، ولم يصل النَّبيُّ (ﷺ) بعد، ولكن تحت إشراف النُّقباء الاثنى عشر، الَّذين كانوا في كفالتهم لقومهم، ككفالة الحواريِّين لعيسى ابن مريم، وبإشراف قيادات المهاجرين الكبرى، الَّتي وصلت المدينة، والذين استقوا جميعاً من النَّبع النَّبويِّ الثَّري، واقتبسوا من هديه. (التَّربية القياديَّة،2/172)

ومن معالم هذا المجتمع الجديد ذوبان العصبية؛ فقد كان إمامُ المسلمين، سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنه؛ لأنه كان أكثرهم قرآناً، فهذا المجتمع الَّذي يوجد فيه عِلْيَةُ أصحاب محمَّد صلى الله عليه وسلم ؛ من المهاجرين، والأنصار، وسادة العرب من قريش، والأوس والخزرج، يقوده ويؤمُّه حامل القرآن، فالكرامة العليا فيه لقارئ كتاب الله وحامله، وحامل القرآن في المجتمع الإسلاميِّ هو نفسه حامل اللِّواء في الحرب، فليس بينهما ذلك الانفصام الَّذي نشهده اليوم، بين حملـة القرآن من الحفَّـاظ، وبين المجاهدين في سبيل الله، فقد كان حامل لواء المهاجرين في معركة اليمامة سالم مولى أبي حذيفة، وكان شعاره: (بئس حامل القرآن) – يعني: إن فررت -، فقطعت يمينه، فأخذ اللواء بيساره، فقطعت، فاعتنقه إلى أن صُرع، واستُشهد في سبيل الله.

ومن معالم المجتمع الإسلاميِّ الجديد حرِّيَّة الدَّعوة إلى الله علانيةً، فقد أصبح واضحاً عند الجميع: أنَّ معظم قيادات يثرب دخلت في هذا الدِّين، ونشط الشَّباب، والنِّساء، والرِّجال في الدَّعوة إلى الله، والتبشير بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قدمٍ وساقٍ. ولابدَّ من المقارنة بين المجتمع الَّذي قام بالحبشة من المسلمين، وبين المجتمع الإسلاميِّ في يثرب؛ فلقد كانت الحبشة تحمل طابع اللُّجوء السِّياسيِّ، والجالية الأجنبيَّة أكثر ممَّا كانت تحمل طابع المجتمع الإسلاميِّ الكامل؛ صحيحٌ: أن المسلمين ملكوا حرِّيَّة العبادة هناك؛ لكنَّهم معزولون عن المجتمع النَّصرانيِّ، لم يستطيعوا أن يؤثِّروا فيه التَّأثير المنشود، وإن كانت هجرة الحبشة خطوةً متقدِّمةً على جو مكَّة؛ حيث لا تتوفر حرِّيَّة الدَّعوة، وحرِّيَّة العبادة، ولكنَّه دون المجتمع الإسلاميِّ في المدينة بكثير، ولذلك شرع مهاجرو الحبشة بمجرَّد سماع خبر هجرة المدينة، بالتوجُّـه نحوها مباشرة، أو عن طريق مكَّة؛ إلا من طلبت منه القيادة العليا البقاء هناك، لقد أصبحت المدينة مسلمةً بعد أن عاشت قروناً وثنيَّـةً مشركةً.

لقد أصبح المجتمع المدنيُّ مسلماً، وبدأ نموُّه، وتكوينه الفعليُّ بعد عودة الاثني عشر صحابيّاً من البيعة الأولى، والَّتي كان على رأسها، الصحابيُّ الجليل أسعد بن زُرَارةَ والَّتي حملت المسؤوليَّة الدَّعويَّة فقط، دون الوجود السِّياسيِّ، وبلغ أوج توسُّعه، وبنائه بعد عودة السَّبعين، الَّذين ملكوا الشَّارع السِّياسيَّ والاجتماعيَّ، وقرَّروا أن تكون بلدهم عاصمة المسلمين الأولى في الأرض، وهم على استعدادٍ أن يواجهوا كلَّ عدوٍّ خارجيٍّ، يمكن أن ينال من هذه السِّيادة، حتَّى قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم في المدينة.

إنَّ القاعدة الصُّلبة، الَّتي بذل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتاً وجهداً في تربيتها، بدأت تعطي ثمارها أكثر، بعد أن التحمت بالمجتمع المدنيِّ الجديد، وانصهر كلاهما في معاني العقيدة، وأخوَّة الدين.

لقد أعدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الأفراد، وصقلهم في بوتقة الجماعة، وكوَّن بهم القاعدة الصُّلبة، ولم يقم المجتمع الإسلاميُّ الَّذي تقوم عليه الدَّولة إلا بعد بيعة الحرب وبذلك نقول: إنَّ المجتمع الإسلاميَّ قام بعدما تهيَّأت القوَّة المناسبة لحمايته في الأرض. (التَّربية القياديَّة، 1/147)

وهكذا انتقلت الجماعة المسلمة المنظَّمة القويَّة إلى المدينة، والتحمت مع إخوانها الأنصار، وتشكَّل المجتمع المسلم؛ الَّذي أصبح ينتظر قائده الأعلى صلى الله عليه وسلم ؛ ليعلن ولادة دولة الإسلام، الَّتي صنعت – فيما بعد – حضارةً؛ لم يعرفِ التَّاريخ مثلها حتَّى يومنا هذا.

ملاحظة هامة: استفاد المقال مادته من كتاب: ” السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث” للدكتور علي محمد الصلابي.

المراجع:

·      المرأة في العهد النَّبويِّ ، د. عصمة الدِّين كركر، ص 116.

·      السِّيرة النَّبويَّة في ضوء القران والسُّنَّة ، لأبي شهبة، (1/468 ، 469).

·      التَّربية القياديَّة لمنير الغضبان، دار الوفاء – المنصورة، الطَّبعة الأولى، 1418 هـ  1998 م، (2/171 ، 172).

·      السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2005م.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

المصدر: عين ليبيا

كلمات دلالية: رسول الله صلى الله علیه وسلم المجتمع الإسلامی المجتمع ال

إقرأ أيضاً:

الطاهر بن عاشور.. تأصيل مقاصدي لقيمة الحرية والمساواة في الفكر الإسلامي (4)

في سياق سلسلة المقالات التي يكتبها الباحث المغربي في شؤون الفكر الإسلامي، محمد يتيم، خصيصاً لـ"عربي21"، والتي تسلط الضوء على مساهمات رموز وقادة الفكر الإسلامي المغاربة في تطوير وتجديد تجربة العمل الإسلامي الحركي في العالم العربي، يأتي هذا الجزء الرابع ليكمل ما بدأه في الحلقات السابقة.

فبعد أن تناول في الجزء الثالث معالم التجديد السياسي والفكري لدى الشيخ راشد الغنوشي، يتوقف يتيم في هذه الحلقة عند أحد كبار أعلام الفكر الإصلاحي المغاربي، العالم التونسي الشيخ محمد الطاهر بن عاشور (1879–1973)، صاحب مشروع فكري عميق ومؤسس لرؤية مقاصدية تحررية في تفسير الشريعة.

ويكشف محمد يتيم في هذا المقال عن جملة من المبادئ والنظريات التي أصّل لها الشيخ ابن عاشور، وخصوصاً في باب الحرية والمساواة، حيث يعتبر أن الإسلام في جوهره "ينزع نحو الحرية"، وأن الحرية مقصدٌ أصيل من مقاصد الشريعة، لا يمكن فصله عن أصل المساواة وفطرة الإنسان.

كما يستعرض المقال كيف وظّف ابن عاشور أدواته الفقهية والأصولية والتفسيرية لبناء تصور متماسك يؤسس للعدالة، والمواطنة، وحقوق الإنسان، في إطار المرجعية الإسلامية، مبيناً أن التشريع الإسلامي لا يُفرّق في أصل الخلق والفطرة بين البشر، وأن القيود على الحرية ليست أصيلة بل طارئة ومشروطة بمقاصد معتبرة شرعاً.

يقدم هذا النص إسهاماً نوعياً في فهم البعد التحرري في فكر الطاهر بن عاشور، من خلال قراءة مغربية حركية ترى في هذا التراث الفقهي المقاصدي أرضية للتجديد الإسلامي المعاصر، وتثبيتاً لجسور التلاقي بين مدارس الإصلاح في المغرب الكبير.

الإسلام ينزع نحو الحرية

من العلماء المغارب الذين أصلوا لفكرة الحرية نجد العلامة التونسي الشيخ الطاهربن عاشور رحمه الله (1).. وكان مما قرره عدد من المبادئ التي تؤكد ما سماه بـ "نزوع الإسلام نحو الحرية"، حيث يقرر عددا من المعطيات منها:

ـ أن الحرية من الفطرة، وإن دليل ذلك تمكين رب العالمين للخلق من مخالفة أوامره. إنه إذا كانت أوامر الله تبارك وتعالى، وهي واجبة الطاعة قطعاً، تجد من لا يطيعها معانداً غير مخطئ، فلا شك في حرية الإنسان، وحرية الإرادة الإنسانية .

ـ حرية تترتب عنها عدالة المسؤولية وعدالة الجزاء؛ لأنه كما يقول رجال القانون ورجال السياسة: لا حرية بغير مسؤولية، ومقتضى المسئولية إثابة المصيب ومعاقبة المخطئ؛ وهي فكرة معروفة في القانون باسم فكرة الجزاء، فبمقتضى العدالة الربانية التي أنشأت خلقاً قادراً على السمع والطاعة، أو السمع والمعصية، كانت المسئولية، وكان تحمل التبعة أو كان الجزاء.

الحرية وصف فطري نشأ عليه البشر، وبه تصرفوا في أول وجودهم على الأرض حتى حدثت بينهم المزاحمة فحدث التحجير، أي كثر الناس فقلت عليهم الموارد، أو كثر الجشع والطمع، فأراد أصحاب النفوس الضعيفة أن يستحوذوا على الثروة ويحرموا منها الآخرين، فحدثت المزاحمة فحدث التحجير.ـ أن الحق سبحانه حين أمر آدم وزوجه أن يهبطا إلى الأرض بعد أن حدث منهما في الجنة ما حدث، قال ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى.. وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى" وذلك جزاء على عمل مسئول قام به هذا الإنسان مخالفاً إرادة رب العالمين أو قانون رب العالمين، أمراً كان أو نهياً.

ـ أن الحرية وصف فطري نشأ عليه البشر، وبه تصرفوا في أول وجودهم على الأرض حتى حدثت بينهم المزاحمة فحدث التحجير، أي كثر الناس فقلت عليهم الموارد، أو كثر الجشع والطمع، فأراد أصحاب النفوس الضعيفة أن يستحوذوا على الثروة ويحرموا منها الآخرين، فحدثت المزاحمة فحدث التحجير.

ـ الأصل في الحرية أنها فطرية مطلقة، والاستثناء -الذي أحدثناه نحن بأنواع الفساد التي ابتكرناها عندما تكاثرنا في الأرض - هو أن تقيد هذه الحرية وتوضع عليها الصعاب والعقبات التي تمنع من الاستئثار بالثروات والاستئثار بالخيرات.

ـ يعتبر الشيخ محمد الطاهر بن عاشور  الحرية ، خاطر غريزي في النفوس البشرية، فيها نماء القوى الإنسانية من تفكير وقول وعمل، وبها تنطلق المواهب العقلية متسابقة في ميادين الابتكار والتدقيق حيث لا يستطيع الإنسان أن يكفر إلا وهو حر.

ـ لا يحق تقييد الحرية  إلا بقيد  يُدفع به عن صاحبها ضرر ثابت محقق أو يجلب به نفع ، حيث لا يقبل  رضى المضرور أو المنتفع بإلغاء فائدة دفع الضرر وجلب النفع.

ـ إذا وجدنا رجلاً يريد أن يُلقي بنفسه في النهر، بقول الشيخ الطاهر بن عاشور ،وهو عالي المياه، مضطرب الأمواج، فإن حريته في قتل نفسه ليست مكفولة له بل هي ممنوعة مقيدة، وإذا رأينا رجلاً ينتحر بقطع شرايين يده، حريته في قطع هذه الشرايين ليست ممنوحة له بل هي حرية مقيدة.

ـ إذا رأينا رجلاً يريد أن يستولي على المال العام في غفلة أو تحت سمع الناس وبصرهم، حريته في الاستيلاء على المال ليست مكفولة له.

ـ يجوز أن تقيد الحرية بقيد يجلب نفعاً، فقد رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما دخل على سعد بن أبي وقاص فسأله سعد – وهو مريض يعوده في مرضه – قال: يا رسول الله، إن لي مالاً، ولا ترثني إلا ابنة لي، أفأتصدق6 بكل مالي؟ قال: لا. قال: فبنصف مالي؟ قال: لا. قال: فبثلث مالي؟ قال: الثلث والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس.

فهذه يقول الشيخ هي حرية التصرف في المال، فهو حر يفعل في ماله ما يشاء، لكن هناك حقوق ستأتي لم تستحق بعد، فليس للورثة حق في مال المورث وهو على قيد الحياة، وليس لهم فيه حق يفعل به ما يشاء،.

 وعقب ابن عاشور على ذلك بقوله: لا يُقبل في الشرع رضاء المضرور أو رضاء المنتفع بإلغاء الضرر أو إلغاء النفع.

ـ تلازم قيمة الحرية مع قيمة المساواة : فالحرية حسب الشيخ الطاهر بن عاشور  فرع مترتب على مبدأ المساواة، حيث يترتب على تقرير المساواة أن يكون هؤلاء المتساوون أحراراً، ولا يجوز أن يكون بعضهم أكثر حرية من بعض ولا أن يكون بعضهم أقل حرية من بعض(2).

ـ إن عموم الشريعة يقتضى المساواة، والمساواة تقتضي الحرية. فكل المقيمين في أرض الإسلام، أو في ظل الحكومة الإسلامية، يُحكمون بقانون واحد، هو عموم الشريعة، وإذا كانوا يُحكمون بقانون واحد، فهم متساوون في أداء الواجبات والحصول على الحقوق، وإذا تساووا وجب أن تُكفل لهم الحرية حتى يستطيعوا أن يحصلوا المنافع ويدفعوا المضار. وينطبق هذا على  غير المؤمنين بحكم المشاركة في الدار، فما دمنا متشاركين في الدار فنحن متساوون في الحقوق والواجبات، وهذا يجعل الجميع سواء في الحقوق ويؤكد وبناءً على هذا الأصل الأصيل، وهو أن الإسلام دين الفطرة،   فالتشريع يفرض  التساوي بينهم ، والفطرة هي فطرة الله التي فطر الناس عليها ، الفطرة هي أصل خلق الله الذي خلق عليه الكون والمخلوقات كلهم، إنسان وغير إنسان، فهذه الفطرة اقتضت المساواة في أشياء، واقتضت عدم المساواة في أشياء. كل ما ساوت فيه الفطرة بين الناس فهم فيه سواء، وكل ما فرقت فيه الفطرة بين الناس فهم ليسوا فيه سواء، ولا يُخل هذا بأصل المبدأ؛ لأن المساواة بين من  تتساوى أحوالهم (هذا عند الشرعيين. (3)

أما عند القانونيين فإن المساواة حالة يجب توفيرها لمن تساوت مراكزهم القانونية، فمن كان في مركز قانوني واحد؛ مثل طلاب الجامعة فكلهم متساوون، ولكن طلاب السنة الرابعة لا يتساوون مع طلاب السنة الأولى؛ لأنهم يدرسون  مواد مختلفة، وطلاب كلية الحقوق لا يتساوون مع طلاب كلية الهندسة؛ لأن كلية الهندسة خمس سنوات وكلية الحقوق أربع سنوات، إنما يتساوى طلاب الهندسة فيما بينهم، وطلاب الطب فيما بينهم، وطلاب الحقوق فيما بينهم لتساوي مراكزهم القانونية، وتختلف كل مجموعة من هؤلاء مع المجموعات الأخرى لاختلاف المراكز القانونية.

فهذا هو الذي يقرره الطاهر بن عاشور بقوله: إن كل ما شهدت الفطرة يتفاوت البشرية فيه فالتشريع بمعزل عن فرض أحكام متساوية فيه؛ لأن المساواة في الشريعة ناظرة إلى أصل خلقة الله سبحانه وتعالى للإنسان.

لا يحق تقييد الحرية إلا بقيد يُدفع به عن صاحبها ضرر ثابت محقق أو يجلب به نفع ، حيث لا يقبل رضى المضرور أو المنتفع بإلغاء فائدة دفع الضرر وجلب النفع.ويقرر تأكيد ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور كلكم لآدم وآد من تراب، وقد قال هنا: كلكم ولم يقل: المسلمين، لم يقل: المؤمنين، لم يقل: أهل الجزيرة، لم يقل: أهل المدينة، بل قال: كلكم، كل البشر؛ لأن أول الحديث: لا فضل لعربي على أعجمي، ولا أعجمي على عربي، ولا أبيض على أسود حتى قال: كلكم لآدم وآدم من تراب.

وقد قال: إن هناك أحكاماً مع ذلك لا يتساوى فيها المسلم مع غير المسلم، كالميراث بين المسلم وغير المسلم من أقرباء وهنا  تحضر قاعدة تساوي المراكز القانونية، فالمركز القانوني لغير المسلمينه واحد،.  والمركز القانوني للمسلمين واحد، لا نستطيع أن نحمل صاحب المركز القانوني غير الإسلامي على منافع ومصالح صاحب المركز القانوني الإسلامي، والعكس بالعكس؛ لأن المراكز القانونية مختلفة  والمثال:  الميراث والقصاص وقبول الشهادة على اختلاف بين العلماء.

وترجع هذه الأمور كلها ـ التي بها خلاف في المساواة ـ حسب الشيخ بن عاشور كلها إلى نظر الفقيه في التقنين.   وهذه الفكرة مرجعها إلى فكرة الحرية نفسها، فالفقيه حر بحسب عقله الذي تكون على مر السنين أن ينظر في مصادر التشريع وموارده ويقرر أن الحكم الذي اقتنع به هو (أ)، وفقيه ثان يقول (ب)، وفقيه ثالث يقول (ج)، هذا كله على قدر المساواة بين الفقهاء. ويضيف الشيخ بن عاشور: جميع هذه الفروع الذي تتقرر فيها أحكام تنافي مبدأ المساواة لأسباب يقررها الفقهاء ترجع إلى نظر الفقيه في الفروع. أي لا يرجعها إلى أصل من أصول الإسلامي يقرر عدم المساواة، إنما هو أصل من أصولالفطرة التي تقرر المساواة بين المتماثلين، والتفرقة بين غير المتماثلين، وهذا ما توصلنا إليه في العلوم القانونية والسياسية في القرن العشرين ونسير عليه حتى الآن.

ويقرر أيضا: "أما معرفة عدم مساواة غير المسلم للمسلم في بعض الأحكام في المعاملات كلها فقول النبي صلى الله عليه وسلم: لهم ما لنا وعليهم ما علينا. (..)، ولكن له أصل ثابت: سُنوا بالمجوس سنة أهل الكتاب (4) ومنه استنبط العلماء هذه القاعدة لهم ما لنا وعليهم ما علينا، ولسيدنا علي رضي الله عنه له قول في هذا المعنى حيث يقول: "من كانت له ذمتنا، فدمه كدمنا، وديته كديتنا" ومن هذا الكلام الذي قاله سيدنا علي رضي الله عنه ومن حديث: سُنوا بالمجوس سنة أهل الكتاب أخذ العلماء قاعدة "لهم ما لنا وعليهم ما علينا."

المساواة بين المسلم وغير المسلم

يذهب ابن عاشور للقول بأن هذه المساواة بين المسلم وغير المسلم حاصلة من العلم بأصل المساواة بين الخاضعين لحكومة واحدة "وهنا بدأ الحديث عن السياسة بعد أن كنا نتحدث عن الفقه والأصول وأصل الخلقة وأصل الفطرة.

ويضيف قائلا: "إن المساواة لا تلاحظ، ولا يمكن إدراكها، ولا يتوقف العمل بها إلا على وجود حكومة واحدة في المجتمع، لأنه إذا تعددت الحكومات فسوف تتصارع وتحدث فتنة، أو تكون هناك فئة باغية وفئة مبغيِّ عليها، لكن إذا وجدت حكومة يصلح بها المجتمع، هي التي تستطيع أن تقرر قاعدة يحكم بمقتضى المساواة، حينما تأتي قضية أمام العميد يحكم بمقتضى المساواة، حينما تأتي قضية في اتحاد الطلبة يحكم المشرف على اتحاد الطلبة بمقتضى المساواة، فالإسلام قرر القاعدة ونفذها، نفذها عن طريق الحكام أو القضاة على مر التاريخ الإسلامي.

يقرر ابن عاشورأيضا ما يلي: "إذا ثبت أن الأصل في الخلقة هو المساواة، فإنه يترتب عن ذلك أن تكون المساواة مقصداً من مقاصد الشريعة الكلية الثابتة، وإذا كان المتساوون أحراراً، فالحرية مقصد كالمساواة". (5)

لقد رتب  الشبخ الطاهر بن عاشور على أصل المساواة أصل الحرية،  إن الحرية عنده  مبدأ متفرع عن مبدأ المساواة، فتقرير الشريعة المساواة يترتب عليه تقرير المساواة أن يكون الناس المتساوون أحراراً، ولا يجوز أن يكون في الخلقة، أو أصل وجودنا من فطرة واحدة فطر الله الناس عليها، يترتب  عليه أصل الحرية الذي هو مقصد من مقاصد الشريعة الكبرى الكلية، بعضهم أكثر حرية من بعض ولا أن يكون بعضهم أقل حرية من بعض7. حيث إن كل واحد يستطيع أن يتصرف في نفسه مثلما يريد، لكن لا يقتلها، يتصرف في نفسه كما يريد، لكن لا يفضل الجهل على العلم، إذا كان بيده أن يتعلم، ويتصرف في نفسه كما يريد، ولكن لا يجلس عاطلاً لا يستطيع أن يقوت نفسه وعياله ومن يجب أن يقوتهم، هذا كله لا يجوز، وهذا كله ليس من طبيعة المساواة، من طبيعة المساواة ومن طبيعة الحرية.

الحرية مقصد كالمساواة، مستشهدا بما قرره الإمام أبو حنيفة من أن لا حجر على أحد، باستثناء ثلاثة أشخاص لأسباب متعلقة بغيرهم لا بهم، وسفيه المال الذي قرر كل الناس أن تحجر عليه وكل القوانين أن تحجر عليه، يقول أبو حنيفة: لا نحجر عليه.ويرى ابن عاشور أن الحرية في اللسان العربي جاءت بمعنيين، أولهما ضد العبودية أي ضد الرق. وأقول: إن هذا المعنى أصبح والحمد لله تاريخياً، لم يعد في أي بلد من بلاد المسلمين إلا بلد واحدة مسكينة، بقية البلاد كلها خلت من الرق  والاسترقاق ومن أسواق الرقيق وكل ذلك.
الشارع متشوف للحرية

من القواعد الإسلامية التي قررها ابن عاشور في التعامل مع الرقيق، وهي قواعد كثيرة هناك "قاعدة: الشارع متشوف إلى الحرية"، فإذا ثبت أن الأصل في الخلقة هو المساواة، فإنه يترتب على ذلك حسي الطاهر بن عاشور "أن تكون المساواة مقصداً من مقاصد الشريعة الكلية الثابتة، وإذا كان المتساوون أحراراً، فالحرية مقصد كالمساواة، مستشهدا بما قرره الإمام أبو حنيفة من أن لا حجر على أحد، باستثناء ثلاثة أشخاص لأسباب متعلقة بغيرهم لا بهم، وسفيه المال الذي قرر كل الناس أن تحجر عليه وكل القوانين أن تحجر عليه، يقول أبو حنيفة: لا نحجر عليه.

يقول: لأن حريته في التصرف في ماله أعلى من حق غيره المحتمل، لأنه من  الممكن عندما يأتيه الموت ألا يكون عنده ورثة ويكونوا قد ماتوا قبله، فحريته وهو حي في التصرف في ماله أعلى من حق الغير المحتمل في المال الذي يُمنع من التصرف فيه. وأيضاً السفر، الإقامة، البقاء، الخروج، كل ذلك عند أبي حنيفة لا يجوز منع الناس منه، لكن عند الفقهاء الآخرين يوجد استثناءات.

المراجع

1 ـ محمد الطاهر بن عاشور هو أب محمد الفاضل بن عاشورهو أحد أبرز علماء الدين التونسيين في القرن 20)، ولقد ترك مكتبة غنية بالكتب والمراجع لا زالت موجودة إلى الآن ومتاحة لجميع الباحثين، وحفيده محمد العزيز بن عاشور  من أهم ما كتب : تفسير التحريروالتنوير.

2 ـ محمد الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، ، ص 391. لناشر: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر 2004 
3 ـ المرجع السابق، ص 163

4 ـ مقاصد الشريعة الإسلامية، ، ص 390

5 ـ محمد الطاهر بن عاشور، أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، الدار التونسية للتوزيع، تونس، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، ط2، (د.ت) ص 162. وا

6 ـ محمد الطاهر بن عاشور، أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، الدار التونسية للتوزيع، تونس.في سياق سلسلة المقالات التي يكتبها الباحث المغربي في شؤون الفكر الإسلامي، محمد يتيم، خصيصاً لـ"عربي21"، والتي تسلط الضوء على مساهمات رموز وقادة الفكر الإسلامي المغاربة في تطوير وتجديد تجربة العمل الإسلامي الحركي في العالم العربي، يأتي هذا الجزء الرابع ليكمل ما بدأه في الحلقات السابقة.

فبعد أن تناول في الجزء الثالث معالم التجديد السياسي والفكري لدى الشيخ راشد الغنوشي، يتوقف يتيم في هذه الحلقة عند أحد كبار أعلام الفكر الإصلاحي المغاربي، العالم التونسي الشيخ محمد الطاهر بن عاشور (1879–1973)، صاحب مشروع فكري عميق ومؤسس لرؤية مقاصدية تحررية في تفسير الشريعة.

ويكشف محمد يتيم في هذا المقال عن جملة من المبادئ والنظريات التي أصّل لها الشيخ ابن عاشور، وخصوصاً في باب الحرية والمساواة، حيث يعتبر أن الإسلام في جوهره "ينزع نحو الحرية"، وأن الحرية مقصدٌ أصيل من مقاصد الشريعة، لا يمكن فصله عن أصل المساواة وفطرة الإنسان.

كما يستعرض المقال كيف وظّف ابن عاشور أدواته الفقهية والأصولية والتفسيرية لبناء تصور متماسك يؤسس للعدالة، والمواطنة، وحقوق الإنسان، في إطار المرجعية الإسلامية، مبيناً أن التشريع الإسلامي لا يُفرّق في أصل الخلق والفطرة بين البشر، وأن القيود على الحرية ليست أصيلة بل طارئة ومشروطة بمقاصد معتبرة شرعاً.

يقدم هذا النص إسهاماً نوعياً في فهم البعد التحرري في فكر الطاهر بن عاشور، من خلال قراءة مغربية حركية ترى في هذا التراث الفقهي المقاصدي أرضية للتجديد الإسلامي المعاصر، وتثبيتاً لجسور التلاقي بين مدارس الإصلاح في المغرب الكبير.

الإسلام ينزع نحو الحرية

من العلماء المغارب الذي أصلوا لفكرة الحرية نجد العلامة التونسي الشيخ الطاهربن عاشور رحمه الله (1).. وكان مما قرره عدد من المبادئ التي تؤكد ما سماه بـ "نزوع الإسلام نحو الحرية"، حيث يقرر عددا من المعطيات منها:

ـ أن الحرية من الفطرة، وإن دليل ذلك تمكين رب العالمين للخلق من مخالفة أوامره. ,انه إذا كانت أوامر الله تبارك وتعالى، وهي واجبة الطاعة قطعاً، تجد من لا يطيعها معانداً غير مخطئ، فلا شك في حرية الإنسان، وحرية الإرادة الإنسانية.

ـ حرية تترتب عنها عدالة المسؤولية وعدالة الجزاء؛ لأنه كما يقول رجال القانون ورجال السياسة: لا حرية بغير مسؤولية، ومقتضى المسئولية إثابة المصيب ومعاقبة المخطئ؛ وهي فكرة معروفة في القانون باسم فكرة الجزاء، فبمقتضى العدالة الربانية التي أنشأت خلقاً قادراً على السمع والطاعة، أو السمع والمعصية، كانت المسئولية، وكان تحمل التبعة أو كان الجزاء.

ـ أن الحق سبحانه حين أمر آدم وزوجه أن يهبطا إلى الأرض بعد أن حدث منهما في الجنة ما حدث ، قال ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى.. وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى" وذلك جزاء على عمل مسئول قام به هذا الإنسان مخالفاً إرادة رب العالمين أو قانون رب العالمين، أمراً كان أو نهياً.

ـ أن الحرية وصف فطري نشأ عليه البشر، وبه تصرفوا في أول وجودهم على الأرض حتى حدثت بينهم المزاحمة فحدث التحجير، أي كثر الناس فقلت عليهم الموارد، أو كثر الجشع والطمع، فأراد أصحاب النفوس الضعيفة أن يستحوذوا على الثروة ويحرموا منها الآخرين، فحدثت المزاحمة فحدث التحجير.
ـ الأصل في الحرية أنها فطرية مطلقة، والاستثناء -الذي أحدثناه نحن بأنواع الفساد التي ابتكرناها عندما تكاثرنا في الأرض - هو أن تقيد هذه الحرية وتوضع عليها الصعاب والعقبات التي تمنع من الاستئثار بالثروات والاستئثار بالخيرات.

ـ يعتبر الشيخ محمد الطاهر بن عاشور  الحرية ، خاطر غريزي في النفوس البشرية، فيها نماء القوى الإنسانية من تفكير وقول وعمل، وبها تنطلق المواهب العقلية متسابقة في ميادين الابتكار والتدقيق حيث لا يستطيع الإنسان أن يكفر إلا وهو حر.

ـ لا يحق تقييد الحرية  إلا بقيد  يُدفع به عن صاحبها ضر ثابت محقق أو يجلب به نفع  ، حيث لا يقبل  رضى المضرور أو المنتفع بإلغاء فائدة دفع الضرر وجلب النفع.

- إذا وجدنا رجلاً يريد أن يُلقي بنفسه في النهر، بقول الشيخ الطاهر بن عاشور ،وهو عالي المياه، مضطرب الأمواج، فإن حريته في قتل نفسه ليست مكفولة له بل هي ممنوعة مقيدة، وإذا رأينا رجلاً ينتحر بقطع شرايين يده، حريته في قطع هذه الشرايين ليست ممنوحة له بل هي حرية مقيدة.

ـ إذا رأينا رجلاً يريد أن يستولي على المال العام في غفلة أو تحت سمع الناس وبصرهم، حريته في الاستيلاء على المال ليست مكفولة له،.

ـ يجوز أن تقيد الحرية بقيد يجلب نفعاً، فقد رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما دخل على سعد بن أبي وقاص فسأله سعد ـ وهو مريض يعوده في مرضه – قال: يا رسول الله، إن لي مالاً، ولا ترثني إلا ابنة لي، أفأتصدق6 بكل مالي؟ قال: لا. قال: فبنصف مالي؟ قال: لا. قال: فبثلث مالي؟ قال: الثلث والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس.

فهذه يقول الشيخ هي حرية التصرف في المال، فهو حر يفعل في ماله ما يشاء، لكن هناك حقوق ستأتي لم تستحق بعد، فليس للورثة حق في مال المورث وهو على قيد الحياة، وليس لهم فيه حق يفعل به ما يشاء.

 وعقب ابن عاشور على ذلك بقوله: لا يُقبل في الشرع رضاء المضرور أو رضاء المنتفع بإلغاء الضرر أو إلغاء النفع.

ـ تلازم قيمة الحرية مع قيمة المساواة : فالحرية حسب الشيخ الطاهر بن عاشور  فرع مترتب على مبدأ المساواة، حيث يترتب على تقرير المساواة أن يكون هؤلاء المتساوون أحراراً، ولا يجوز أن يكون بعضهم أكثر حرية من بعض ولا أن يكون بعضهم أقل حرية من بعض(2)

ـ إن عموم الشريعة يقتضى المساواة، والمساواة تقتضي الحرية. فكل المقيمين في أرض الإسلام، أو في ظل الحكومة الإسلامية، يُحكمون بقانون واحد، هو عموم الشريعة، وإذا كانوا يُحكمون بقانون واحد، فهم متساوون في أداء الواجبات والحصول على الحقوق، وإذا تساووا وجب أن تُكفل لهم الحرية حتى يستطيعوا أن يحصلوا المنافع ويدفعوا المضار. وينطبق هذا على  غير المؤمنين بحكم المشاركة في الدار، فما دمنا متشاركين في الدار فنحن متساوون في الحقوق والواجبات، وهذا يجعل الجميع سواء في الحقوق ويؤكد وبناءً على هذا الأصل الأصيل، وهو أن الإسلام دين الفطرة،   فالتشريع يفرض  التساوي بينهم، والفطرة هي فطرة الله التي فطر الناس عليها ، الفطرة هي أصل خلق الله الذي خلق عليه الكون والمخلوقات كلهم، إنسان وغير إنسان، فهذه الفطرة اقتضت المساواة في أشياء، واقتضت عدم المساواة في أشياء. كل ما ساوت فيه الفطرة بين الناس فهم فيه سواء، وكل ما فرقت فيه الفطرة بين الناس فهم ليسوا فيه سواء، ولا يُخل هذا بأصل المبدأ؛ لأن المساواة بين من  تتساوى أحوالهم (هذا عند الشرعيين(.3)

 أما عند القانونيين فإن المساواة حالة يجب توفيرها لمن تساوت مراكزهم القانونية، فمن كان في مركز قانوني واحد؛ مثل طلاب الجامعة فكلهم متساوون، ولكن طلاب السنة الرابعة لا يتساوون مع طلاب السنة الأولى؛ لأنهم يدرسون مواد مختلفة، وطلاب كلية الحقوق لا يتساوون مع طلاب كلية الهندسة؛ لأن كلية الهندسة خمس سنوات وكلية الحقوق أربع سنوات، إنما يتساوى طلاب الهندسة
فيما بينهم، وطلاب الطب فيما بينهم، وطلاب الحقوق فيما بينهم لتساوي مراكزهم القانونية، وتختلف كل مجموعة من هؤلاء مع المجموعات الأخرى لاختلاف المراكز القانونية.

فهذا هو الذي يقرره الطاهر بن عاشور بقوله: إن كل ما شهدت الفطرة يتفاوت البشرية فيه فالتشريع بمعزل عن فرض أحكام متساوية فيه؛ لأن المساواة في الشريعة ناظرة إلى أصل خلقة الله سبحانه وتعالى للإنسان.

ويقرر تأكيد ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور كلكم لآدم وآد من تراب، وقد قال هنا: كلكم ولم يقل: المسلمين، لم يقل: المؤمنين، لم يقل: أهل الجزيرة، لم يقل: أهل المدينة، بل قال: كلكم، كل البشر؛ لأن أول الحديث: لا فضل لعربي على أعجمي، ولا أعجمي على عربي، ولا أبيض على أسود حتى قال: كلكم لآدم وآدم من تراب.

وقد قال: إن هناك أحكاماً مع ذلك لا يتساوى فيها المسلم مع غير المسلم، كالميراث بين المسلم وغير المسلم من أقرباء وهنا  تحضر قاعدة تساوي المراكز القانونية، فالمركز القانوني لغير المسلمينه واحد،.  والمركز القانوني للمسلمين واحد، لا نستطيع أن نحمل صاحب المركز القانوني غير الإسلامي على منافع ومصالح صاحب المركز القانوني الإسلامي، والعكس بالعكس؛ لأن المراكز القانونية مختلفة  والمثال:  الميراث والقصاص وقبول الشهادة على اختلاف بين العلماء
وترجع هذه الأمور كلها ـ التي بها خلاف في المساواة ـ حسب الشيخ بن عاشور كلها إلى نظر الفقيه في التقنين.   وهذه الفكرة مرجعها إلى فكرة الحرية نفسها، فالفقيه حر بحسب عقله الذي تكون على مر السنين أن ينظر في مصادر التشريع وموارده ويقرر أن الحكم الذي اقتنع به هو (أ)، وفقيه ثان يقول (ب)، وفقيه ثالث يقول (ج)، هذا كله على قدر المساواة بين الفقهاء. ويضيف الشيخ بن عاشور: جميع هذه الفروع الذي تتقرر فيها أحكام تنافي مبدأ المساواة لأسباب يقررها الفقهاء ترجع إلى نظر الفقيه في الفروع. أي لا يرجعها إلى أصل من أصول الإسلامي يقرر عدم المساواة، إنما هو أصل من أصولالفطرة التي تقرر المساواة بين المتماثلين، والتفرقة بين غير المتماثلين، وهذا ما توصلنا إليه في العلوم القانونية والسياسية في القرن العشرين ونسير عليه حتى الآن.

ويقرر أيضا: "أما معرفة عدم مساواة غير المسلم للمسلم في بعض الأحكام في المعاملات كلها فقول النبي صلى الله عليه وسلم: لهم ما لنا وعليهم ما علينا. (..)، ولكن له أصل ثابت: سُنوا بالمجوس سنة أهل الكتاب (4) ومنه استنبط العلماء هذه القاعدة لهم ما لنا وعليهم ما علينا، ولسيدنا علي رضي الله عنه له قول في هذا المعنى حيث يقول: "من كانت له ذمتنا، فدمه كدمنا، وديته كديتنا" ومن هذا الكلام الذي قاله سيدنا علي رضي الله عنه ومن حديث: سُنوا بالمجوس سنة أهل الكتاب أخذ العلماء قاعدة "لهم ما لنا وعليهم ما علينا."

المساواة بين المسلم وغير المسلم

يذهب ابن عاشور للقول بأن هذه المساواة بين المسلم وغير المسلم حاصلة من العلم بأصل المساواة بين الخاضعين لحكومة واحدة "وهنا بدأ الحديث عن السياسة بعد أن كنا نتحدث عن الفقه والأصول وأصل الخلقة وأصل الفطرة.

ويضيف قائلا: "إن المساواة لا تلاحظ، ولا يمكن إدراكها، ولا يتوقف العمل بها إلا على وجود حكومة واحدة في المجتمع، لأنه إذا تعددت الحكومات فسوف تتصارع وتحدث فتنة، أو تكون هناك فئة باغية وفئة مبغيِّ عليها، لكن إذا وجدت حكومة يصلح بها المجتمع، هي التي تستطيع أن تقرر قاعدة يحكم بمقتضى المساواة، حينما تأتي قضية أمام العميد يحكم بمقتضى المساواة، حينما تأتي قضية في اتحاد الطلبة يحكم المشرف على اتحاد الطلبة بمقتضى المساواة، فالإسلام قرر القاعدة ونفذها، نفذها عن طريق الحكام أو القضاة على مر التاريخ الإسلامي.

يقرر  ابن عاشورأيضا ما يلي: "إذا ثبت أن الأصل في الخلقة هو المساواة، فإنهيترتب عن ذلك أن تكون المساواة مقصداً من مقاصد الشريعة الكلية الثابتة، وإذا كان المتساوون أحراراً، فالحرية مقصد كالمساواة".  (5)

لقد رتب الشبخ الطاهر بن عاشور على أصل المساواة أصل الحرية، إن الحرية عنده مبدأ متفرع عن مبدأ المساواة، فتقرير الشريعة المساواة يترتب عليه تقرير المساواة أن يكون الناس المتساوون أحراراً، ولا يجوز أن يكون في الخلقة، أو أصل وجودنا من فطرة واحدة فطر الله الناس عليها، يترتب عليه أصل الحرية الذي هو مقصد من مقاصد الشريعة الكبرى الكلية، بعضهم أكثر حرية من بعض ولا أن يكون بعضهم أقل حرية من بعض، حيث أن كل واحد يستطيع أن يتصرف في نفسه مثلما يريد، لكن لا يقتلها، يتصرف في نفسه كما يريد، لكن لا يفضل الجهل على العلم، إذا كان بيده أن يتعلم، ويتصرف في نفسه كما يريد، ولكن لا يجلس عاطلاً لا يستطيع أن يقوت نفسه وعياله ومن يجب أن يقوتهم، هذا كله لا يجوز، وهذا كله ليس من طبيعة المساواة، من طبيعة المساواة ومن طبيعة الحرية
ويرى ابن عاشور أن الحرية في اللسان العربي جاءت بمعنيين، أولهما ضد العبودية أي ضد الرق. وأقول: إن هذا المعنى أصبح والحمد لله تاريخياً، لم يعد في أي بلد من بلاد المسلمين إلا بلد واحدة مسكينة، بقية البلاد كلها خلت من الرق  والاسترقاق ومن أسواق الرقيق وكل ذلك                                                                             
الشارع متشوف للحرية

من القواعد الإسلامية التي قررها ابن عاشور في التعامل مع الرقيق، وهي قواعد كثيرة هناك " قاعدة: الشارع متشوف إلى الحرية"، فإذا ثبت أن الأصل في الخلقة هو المساواة، فإنه يترتب على ذلك حسي الطاهر بن عاشور "أن تكون المساواة مقصداً من مقاصد الشريعة الكلية الثابتة، وإذا كان المتساوون أحراراً، فالحرية مقصد كالمساواة، مستشهدا بما قرره الإمام أبو حنيفة من أن لا حجر على أحد، باستثناء ثلاثة أشخاص لأسباب متعلقة بغيرهم لا بهم، وسفيه المال الذي قرر كل الناس أن تحجر عليه وكل القوانين أن تحجر عليه، يقول أبو حنيفة: لا نحجر عليه.

يقول: لأن حريته في التصرف في ماله أعلى من حق غيره المحتمل، لأنه من  الممكن عندما يأتيه الموت ألا يكون عنده ورثة ويكونوا قد ماتوا قبله، فحريته وهو حي في التصرف في ماله أعلى من حق الغير المحتمل في المال الذي يُمنع من التصرف فيه.وأيضاً السفر، الإقامة، البقاء، الخروج، كل ذلك عند أبي حنيفة لا يجوز منع الناس منه، لكن عند الفقهاء الآخرين يوجد استثناءات.

المراجع

1 ـ محمد الطاهر بن عاشور هو أب محمد الفاضل بن عاشورهو أحد أبرز علماء الدين التونسيين في القرن 20)، ولقد ترك مكتبة غنية بالكتب والمراجع لا زالت موجودة إلى الآن ومتاحة لجميع الباحثين، وحفيده محمد العزيز بن عاشور  من أهم ما كتب : تفسير التحريروالتنوير.

2 ـ محمد الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، ، ص 391. لناشر: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر 2004  
3 ـ المرجع السابق، ص 163

4 ـ مقاصد الشريعة الإسلامية، ، ص 390

5 ـ محمد الطاهر بن عاشور، أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، الدار التونسية للتوزيع، تونس، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، ط2، (د.ت) ص 162. وا

6 ـ محمد الطاهر بن عاشور، أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، الدار التونسية للتوزيع، تونس.

مقالات مشابهة

  • عجائب الصلاة على النبي فى أول جمعة فى العشر من ذي الحجة.. لا حصر لها
  • الطلحي: النبي ﷺ نهانا عن هذه الأفعال المحرمة في أرض المدينة المنورة
  • هل صام النبي العشر الأوائل من ذي الحجة؟.. الإفتاء تجيب
  • أحمد كريمة: المؤمنون بالتوقعات المستقبلية يخالفون الشريعة
  • الأذكار في العشر الأوائل من ذي الحجة كما أوصى بها النبي.. اغتنم أجرها
  • صيام العشر من ذي الحجة.. متى تبدأ وهل صامها النبي؟
  • أفضل دعاء في العشر الأوائل من ذي الحجة.. داوم عليه من مغرب اليوم
  • المفتي: المملكة هيأت العلماء لبيان أداء الحج وفق منهج النبي
  • المفتي العام للمملكة يوصي الحجاج بإخلاص الحج لله واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم
  • الطاهر بن عاشور.. تأصيل مقاصدي لقيمة الحرية والمساواة في الفكر الإسلامي (4)