في أصل متلازمة ستوكهولم ومتلازمة غزة وصلتهما
تاريخ النشر: 27th, November 2023 GMT
"أكاذيب حقيقة" اسم فيلم، لكن الحقيقة أن نصف الحقيقة أو ربعها كذبة كاملة، أحيانا هي طرفة.. تقول واحدة من هذه الأكاذيب الحقيقية إن مؤشرات السعادة تشير إلى أن أسعد البلدان هي السويد، مع أن شعبها أكثر الشعوب إقبالا على الانتحار يأسا من عسل السعادة! ليس كل الموازين والمعايير صحيحة، وليس كل ما يلمع ذهبا، فالقش يلمع في الشمس أيضا، وقد تراجع العلماء عن كثير مما أطلقوا عليها اسم حقائق، مثل نهيهم عن شرب الماء مع الطعام، أما كذبة كورونا، فلا تزال أسبابها ونتائجها مجهولة.
حرص الاحتلال الإسرائيلي على التنفير من المقاومة وحجب كل فضيلة عنها. إن الدفاع عن الأرض والعرض من الفضائل التي لا يختلف فيها اثنان ولا ينتطح فيها عنزان، لكنها تسربت رغما عنهم، وأظهرت الصور أول محتجزة إسرائيلية عجوز أطلقت في صفقة التبادل حرصت على مصافحة المقاتل القسامي الملثم، وحرصت محتجزة ثانية على التلويح لمحتجزيها مودعة من غير إكراه. أما مشهد الإفراج الثاني، فكأنه مشهد مأخوذ من فيلم من أفلام الحب والرومانسية، ومن أبلغ صوره صورة صاحبة العكازة التي تودع المقاتل القسامي بعينين عاشقتين، حتى أمسى اسمها ريتا، وريتا اسم زوجة محمود درويش الإسرائيلية الشيوعية.
وقد يتذكر المتذكر المتنطع متلازمة ستوكهولم ناسبا المرض إلى هؤلاء النسوة، والمتلازمة تعريفا هي مجموعة من العلامات والأعراض الطبية المرتبطة مع بعضها والمتعلقة غالبا بمرض أو اضطراب معين، وقد نشأت في العلوم النفسية نسبة إلى حادثة في ستوكهولم، عاصمة السويد، عندما سطا مجموعة من اللصوص على بنك كريديتبانكين هناك في عام 1973، واتخذوا بعضا من موظفي البنك رهائن لمدة ستة أيام، خلال تلك الفترة بدأ الرهائن يرتبطون عاطفيا مع الجناة، وقاموا بالدفاع عنهم بعد إطلاق سراحهم.
وقيل في تفسيرها، والنظريات النفسية آراء تصيب أو تخطئ، إنَّ الضحية تظنُّ عدم الإساءة من قبل المعتدي إحسانا ورحمة. وقد سجلت ملفات الشرطة وجود متلازمة ستوكهولم لدى 8 في المئة من حالات الرهائن. فهل ستنشأ متلازمة اسمها متلازمة غزة، وقد نفر لنصرتها الملايين في بقاع العالم، خاصة في البلدان التي عانت من الاحتلال والظلم مثل أيرلندا ونيوزلندا وكندا وأستراليا التي انقرضت شعوبها الأصلية؟ بل إن المظاهرات المناصرة لأهل غزة قامت حتى في أشد المدن عداء للمسلمين والعرب!
إن متلازمة ستوكهولم ليست اضطرابا، بل هي علامة من علامات الصحة النفسية، وسمة من سمات سلامة الفطرة البشرية، عبّر عنها الشعراء، أمثال المتبني في قوله:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإذا أنت أكرمت اللئيم تمردا
وفي قوله:
كلّ امرئٍ يُولي الجميلَ مُحبَّبٌ وكلُّ مكانٍ يُنبِت العزَّ طيّبُ،
ويعضده المثل العربي: صنائع المعروف تقي مصارع السوء.
عامل لصوص البنك رهائنهم في ستوكهولم برفق ولين، فملكوا الكرماء منهم أو أن الرهائن عطفوا عليهم بسبب ظلم الدولة وكثرة الضرائب والقوانين. من الجدير بالذكر أنَّ البطل النمطي في الغرب غالبا ما يكون مجرما كريما، أو مطلوبا محسنا، مثال ذلك روبين هود، وزورو المقنّع، وجان فالجان، وحتى يهودا الإسخريوطي، وجان باتسيت غرنوي؛ بطل رواية العطر القاتل الذي يتحول إلى قديس.. البطل الغربي هو المجرم الضحية، أو المجرم الثائر.
قُدّس البطل الضحية في الغرب، وأُلّه وعُبد، كما في حالة المسيح عليه السلام. وغالبا ما يجمع الضحية بين فضيلتي القوة والحلم، التمرد والإحسان، ومثاله الأشهر هو المسيح المصلوب، الذي جمع بين قوة الإله وضعف البشر، وقد جمع الأنبياء بين الحالين.
قد يكون أول المصابين بمتلازمة ستوكهولم هو قابيل، الذي قتل أخاه هابيل، فندم، ودفنه، وكان دفنه ضحيته هو اعتذاره لها واستغفاره لجرمه، وأشد معاناة في غزة بعد الحرمان من الماء والغداء والدواء هو منع الناس من دفن موتاهم، وقد صرّح قادة القسام أن سبب قبولهم الهدنة هو كثرة الجثث تحت الأنقاض، وواجب إكرامها.
قرأنا في أخبار النعمان بن المنذر مشهدا من متلازمة ستوكهولم، تقول المرويات: إنه كان له يومان؛ يوم بؤس ويوم نعيم، فصادف الملك طائيا في يوم بؤسه، فأراد قتله، فطلب الطائي مهلة يودع أولاده، ويوصي بهم أهل الحي، فأشفق عليه ورقَّ له، على أن يضمنه أحد، فضمنه نديم الملك شريك بن عدي بن شرحبيل، وعاد الطائي في آخر المدة، فعجب الملك من وفاء الطائي ومن كرم شريك بن عدي، وكان أن أبطل عادته تلك ودخل دين الطائي وهو النصرانية.
أما تجليات المتلازمة في الإسلام فكثيرة، وكان أبو سفيان يقول: نقطع محمدا ويصلنا، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يصل فقراء مكة، ودخل مشركون في الإسلام بمتلازمة ستوكهولم، منهم أبو عزيز بن عمير -وهو ممن أُسر في بدر، وهو أخو مصعب بن عمير- يقول: "كنت في نفر من الأنصار، فكانوا إذا قدَّموا غداءهم وعشاءهم، أكلوا التمر وأطعموني البُرَّ (الخبز) لوصية رسول الله إياهم بنا". وكان لهذا الأمر الأثر الكبير في نفسية أبي عزيز الذي ما إن أُطلق حتى أعلن إسلامه.
وكان أبو العاص بن الربيع أيضا في أسارى بدر، وأسلم بعد ذلك، وكان زوجا لبنت رسول الله السيدة زينب رضي الله عنها، يقول: "كنت في رهط من الأنصار، جزاهم الله خيرا، كنا إذا تعشَّينا أو تغدَّينا آثروني بالخبز وأكلوا التمر، والخبز معهم قليل والتمر زادهم، حتى إن الرجل لتقع في يده كسرة فيدفعها إليَّ". وكان الوليد بن الوليد بن المغيرة -وهو أخو خالد بن الوليد- من أسارى بدر، كان يقول مثل ذلك: "وكانوا يحملوننا -على دابة- ويمشون"، أي إذا رأوا منهم جريحا أو مريضا أو متعبا، حملوه رفقا به. وهو ما رأيناه في حمل المقاتل القسامي العجوز المحجوزة بيديه.
وشهيرة قصة مالك بن دينار، وكان دخل بيته لص فما وجَد شيئا، فجاء ليخرجَ، فناداه مالك: سلام عليكم، فقال: وعليكم السلام، قال: ما حصَل لكم شيء من الدنيا، فترغَب في شيءٍ من الآخرة، قال: نعم، قال: توضَّأ من هذا المِرْكَن وصَلِّ ركعتين، واستغفرِ الله، ففعَل، ثم قال: يا سيِّدي، أجْلس إلى الصبح؟ قال: فلمَّا خرَج مالك إلى المسجد، قال أصحابه: مَن هذا معك؟ قال: جاء يَسْرقنا فسرقناه.
أما في السينما، فمتلازمة ستوكهولم كثيرة في قصصها وحبكاتها، نجد حكاية منها في الفيلم المصري "الحدق يفهم"، تمثيل محمود عبد العزيز المقتبس من فيلم "مدافع سيباستيان"، تمثيل أنطوني كوين، أما فيلم "الإرهابي" لعادل إمام فهو قصة مقلوبة، وفي فيلم شهير لآل باتشينو اسمه "عصر يوم قائظ"، وفيلم "المفاوض" لكيفن سبايسي، وفيلم "الرقص مع الذئاب"، ويروي قصة أمريكي أبيض ينضم إلى الهنود الأسرى ويصير منهم.
العطف على الضحية ومناصرة المظلوم فطرة بشرية، وليست مرضا نفسيا، وهذا دأب الغرب حتى في علوم النفس، وعلوم الجريمة، إن قام أحدهم بقتل مجموعة من الناس نُسب إليه المرض النفسي والاختلال العقلي، أما إن همّ أحد الوافدين المسلمين أو العرب بدس يده في جيبه أو بتقبيل طفله؛ اتهم بمحاولة القتل أو الانحراف الجنسي.
أغلب الظن أن "طوفان الأقصى" طوفان كاشف، وإن كفاح شعب غزة خصوصا وفلسطين عموما فطرة إنسانية، وسيكشف أن القتلة قتلوا شعوبا وادَّارَأْوا فِيهَا، وإن اللَّه مُخْرِجٌ مَا كُانوا يكْتُمُونَ.
twitter.com/OmarImaromar
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه غزة اسرى حماس غزة طوفان الاقصي مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة متلازمة ستوکهولم
إقرأ أيضاً:
الحوقلة.. كنز من الجنة وحسن التوكل على الله
قال الدكتور علي جمعة عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، إن أساس العلاقة بين الإنسان وبين الله: لا حول ولا قوة إلا بالله، التي تفيد حسن التوكل على الله، وأن تؤمن أنه لا يكون في كونه إلا ما أراد، فيحدث لك التسليم بأمر الله، سواء أكان أمرًا كونيًّا، فلا تهتز أمام المصائب والبلايا، أو أمرًا شرعيًّا، فلا بد عليك أن تطيع ربك، وأن ترضيه، وأن تعود إليه.
وأشار في بيانه قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}، إلى أننا إذا ظللنا على ما نحن عليه من غير تغيير، فإن الله لا يغير ما بنا، بل إنه سبحانه وتعالى يقول {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}، فلا بد أن نستجيب لرسول الله ﷺ ، وأن نتخذ منهاجه في التغيير، من حالٍ إلى حال؛ حتى نصلح أحوالنا، فينظر الله إلينا بنظر الرحمة، ويعيننا على أن نبدل حالنا إلى أحسن حال، ولا بد على المسلم أن يدرك مناهج التغيير، وليس إلى منهج واحد، والنبي ﷺ في التغيير يقول: «ابدأ بنفسك ثم بِمَنْ تعول»، ومجمل ما في السنة: ابدأ بنفسك، ثم بِمَنْ يليك، فلا بد أن تبدأ بنفسك، ثم لا تَنْسَ عائلتك وأسرتك، وهذا يجعل التربية والتعليم أساس التغيير، لابد علينا من الاهتمام بالتربية والتعليم، فكل شيء في حياتنا لا يتم تغييره، إلا من خلال التربية والتعليم.
وأوضح: غَيِّر العلاقة بينك وبين الله، على أساس: لا حول ولا قوة إلا بالله، التي تؤدي بك إلى التوكل، فالتسليم، فالرضا عن الله سبحانه وتعالى، {رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}، فحينئذ ينظر إليك الله؛ بنظر التأييد، والمعونة، والعطاء، الله خلقك، وهو يحبك ويرحمك، وأرسل لك رحمة للعالمين، فالعلاقة بينك وبينه ليست مخيفة، بل هي مضيئة، منيرة، جميلة، الرهبة من الله من خلال حبه، وتعظيمه سبحانه وتعالى، فكن حيث ما أمرك الله.
وأكمل علي جمعة: العلاقة بينك وبين الله تحتاج إلى تغيير؛ لأن الإنسان ينسى، والذكر يجعلك قريبًا من الله، مستوعبًا لمعنى: لا حول ولا قوة إلا بالله، {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}، مردفا: نعم أمرنا بالذكر وبالتذكير، «لا يزال لسانك رطبًا بذكر الله»؛ حتى تتذكر أنه: لا حول ولا قوة إلا بالله، وأن الأمر ليس بيدك، ولا من علمك وقدرتك، افعل وتوكل على الله، سترى نفسك تنسى بعض هذا، فَذَكِّرها وتوكل على الله، ودائمًا قُلْ: لا حول ولا قوة إلا بالله، فإن رسول الله ﷺ يقول: «لا حول ولا قوة إلا بالله من كنوز العرش».
ولفت إلى معنى العرش قائلاً: أتدري ما العرش؟ إنه أكبر كائن خلقه الله، إن السماوات السبع على اتساعها، كحلقة في صحراء كبيرة، بالنسبة إلى العرش، العرش تخيل أنه أعظم مخلوق حجمًا وقيمةً، فيه كنز، فإذا فتحت هذا الكنز وجدته: لا حول ولا قوة إلا بالله.
وأوضح: بهذه الكلمة نستطيع أن نملك الدنيا، أن نملك حياتنا، أن نعرف كيف نسير؛ بلا متاهة، لا حول ولا قوة إلا بالله، ليست كلمات ترص بجوار بعضها البعض، بل هي منهج حياة، ومنهج تغيير، فهيا بنا نُغَيِّرُ، ما بيننا وبين الله، على حد: لا حول ولا قوة إلا بالله.
وتابع: هناك منهج بينك وبين الخلق، هذا المنهج مبني على العفو والصفح، {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}، أمر في غاية الصعوبة، يحتاج إلى صبر، وإلى تجرع مرارة، كيف تعفو عَمَنْ آذاك، وكيف تعفو عَمَنْ اعتدى عليك، وكيف تتجاوز مَنْ وقف بلا مبرر، يشتمك ويسبك، وكيف لو أنه كان على الباطل، وأنت على الحق، وعلى الرغم من ذلك، فإن العفو والصفح، هو منهج النبيين والصديقين، والعفو والصفح، هو الذي ينبغي أن نتقدم به بيننا وبين الناس، وهو أمر عظيم يوقعنا في نزاع مع أنفسنا، ولكن في النهاية: الأمر لله ولرسوله، وكلام الله ورسوله على أعناقنا، وفوق رءوسنا.
وأكد علي جمعة أن العلاقة بينك وبين الخلق، يجب أن تبنى على الصفح، والعفو، والمغفرة؛ لأننا نحب أن يعفو الله عنا، وأن يغفر الله لنا، وأن يوفقنا، وأن ندخل في محل نظره سبحانه وتعالى، والعلاقة بينك وبين نفسك، مبناها ذكر الله، والنبي ﷺ يقول: «لا يزال لسانك رطبًا بذكر الله».
وأبان لا حول ولا قوة إلا بالله، والعفو والصفح، والاشتغال بالذكر، إن لم تكن مشتغلًا به، وإن كنت مشتغلًا فَدُمْ عليه، واستمر فيه، فإن الناس قد نسيت ذكر الله، ونسيت العفو والصفح، ونسيت لا حول ولا قوة إلا بالله، إذا فعلنا ذلك، وشعرنا بأن الله يقف معنا، ازداد إيماننا به، وازداد تعلقنا به، جل جلاله، وإذا رأى الله منا ذلك ازداد في التوسعة علينا، في حل أزماتنا، في أن يقينا الفتن ما ظهر منها وما بطن، في أن يمر بنا بسلام، من كل ضيق.
وشدد عضو هيئة كبار العلماء أنه إذا فعلنا ذلك، سنشعر بأننا خرجنا من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن نزاعها ونكدها وقدرها، إلى وسيع رحمة الله سبحانه وتعالى، فعلقوا قلوبكم بربكم، وأخلصوا دينكم له، تجدوا الدنيا أهون من جناح بعوضة.