تبدي دولة الإمارات اهتماماً خاصاً بالحفاظ على السلاحف البحرية وحمايتها، حيث وضعت خطة عمل وطنية لحمايتها وموائلها في مياه الدولة، إذ تلعب السلاحف البحرية دوراً بيئياً مهماً وضرورياً في الأنظمة البيئية البحرية، لارتباطها الوثيق باستقرار قاع البحار والثروات السمكية، وهو ما يجعلها تضطلع بدور المؤشر على الصحة النسبية للموائل المائية.

وتتميز دولة الإمارات ببيئة بحرية تطل على الخليج العربي وبحر عمان وتحتوي على تنوع بيولوجي فريد يشمل الشعاب المرجانية والحشائش البحرية وغابات أشجار القرم والعديد من الأنواع المهددة بالانقراض عالمياً مثل أبقار البحر والحيتان والدلافين وأسماك القرش، والسلاحف البحرية وغيرها.

وتُعد السلاحف البحرية رمزاً للتنوع البيولوجي وهي تلعب دوراً رئيسياً في الحفاظ على صحة النظم البيئية البحرية في العالم. ومع ذلك، فهي تتعرض – إلى جانب أكثر من 800 نوع مائي وساحلي آخر – للتهديد جراء التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة البحار والمحيطات، والتلوث البحري الذي يدمر موائلها الطبيعية؛ حيث تعتبر النفايات البلاستيكية، على سبيل المثال، قضية خطيرة في ظل إحصاءات صادمة تظهر أن 19 إلى 23 مليون طن من البلاستيك – أي ما يعادل وزن برج إيفل نحو 2200 مرة – تجد طريقها إلى المحيطات وغيرها من المسطحات المائية كل عام.

ويروج محور “أبطال البحار” ضمن حملة “استدامة وطنية” التي تم إطلاقها مؤخراً تزامناً مع الاستعدادات لمؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ “COP28” الذي يُعقد حاليا في مدينة إكسبو دبي، لمبادرات دولة الإمارات المستدامة لحماية الكائنات والبيئة البحرية.

وتهدف حملة “استدامة وطنية” إلى نشر الوعي حول قضايا الاستدامة البيئية، وتشجيع المشاركة المجتمعية، ودعم الاستراتيجيات الوطنية ذات الصلة بالعمل المناخي، بما يحقق التأثير الإيجابي على سلوك الأفراد ومسؤولياتهم، وصولاً لمجتمع واعٍ بيئياً.

 

دور رئيسي

وتلعب المحميات البحرية في دولة الإمارات دوراً رئيسياً في المحافظة على هذه الأنواع المهددة بالانقراض، حيث يبلغ عدد المحميات البحرية في الدولة 16 محمية بحرية وقد تم تسجيل 5 أنواع من السلاحف البحرية في مياه الدولة وهي سلحفاة منقار الصقر، السلحفاة الخضراء، السلحفاة ضخمة الرأس، والسلحفاة جلدية الظهر، وسلحفاة ريدلي الزيتونية، وتعتبر الأنواع الثلاثة الأولى الأكثر انتشاراً في مياه الدولة.

وسعياً للحفاظ على البيئة البحرية وتنمية الثروات المائية الحية، وضعت دولة الإمارات الإطار التشريعي الذي ينظم استغلال الثروات المائية الحية ومنها القانون الاتحادي رقم 23 لسنة 1999 بشأن استغلال وحماية وتنمية الثروات المائية الحية في الدولة والقانون الاتحادي رقم 24 لسنة 1999 بشأن حماية البيئة وتنميتها والقانون الاتحادي رقم 11 لسنة 2002 بشأن تنظيم الاتجار الدولي بالأنواع الحيوانية والنباتية المهددة بالانقراض.

وانضمت دولة الإمارات إلى المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي تهدف إلى حماية الأنواع البحرية وموائلها ومن ضمنها اتفاقية التنوع البيولوجي (CBD) واتفاقية الاتجار الدولي بالأنواع المهددة بالانقراض (CITES) واتفاقية الأنواع المهاجرة (CMS) كما أن الدولة طرف في مذكرة التفاهم بشأن الحفاظ على السلاحف البحرية وموائلها الطبيعية في منطقة المحيط الهندي وجنوب آسيا.

وطورت دولة الإمارات العديد من الاستراتيجيات والبرامج لحماية مختلف أشكال الحياة البحرية المعرضة للمخاطر التزاماً بحماية التنوع البيولوجي، ومن أهمها الاستراتيجية الوطنية للتنوع البيولوجي.

 

خطة وطنية

وعززت وزارة التغير المناخي والبيئة، خطط الدولة لحماية السلاحف البحرية بإطلاق الخطة الوطنية للمحافظة على السلاحف البحرية والتي تهدف إلى حمايتها وموائلها الطبيعية بشكل فعال لضمان تحقيق استدامتها في مياه الدولة وذلك ضمن استراتيجيتها للحفاظ على التنوع البيولوجي في الدولة وتحقيق استدامته والايفاء بالتزامات الدولية تجاهه.

وتستهدف الخطة الحد من الأسباب المباشرة وغير المباشرة لنفوق السلاحف البحرية، وتحسين فهم حركتها وسلوكها في مياه الدولة من خلال إجراء البحوث وعمليات الرصد وتبادل المعلومات والمعرفة مع جهات المختصة، وتعزيز تنفيذ التشريعات الوطنية ووضع الإطار الوطني لحماية السلاحف البحرية على المستويات الوطنية والإقليمية والدولية، وحماية وصون وتأهيل موائلها الطبيعية، ورفع المستوى الوعي العام وتشجيع المشاركة العامة في أنشطة المحافظة عليها، وتطوير آليات ومبادرات الحفاظ الفعال من خلال بناء القدرات وتوفير الإمكانات والتكنولوجيا اللازمة.

وتبذل دولة الإمارات جهوداً حثيثة في الحفاظ على التنوع البيولوجي بشكل عام، والسلاحف البحرية بشكل خاص، مثل إعلان 16 محمية بحرية بالدولة والتي تمثل أكثر من 12% من المساحة الإجمالية للدولة والتي اتخذت السلاحف البحرية من شواطئها مركزاً للتعشيش، كما تم إعلان موقعين هامين دولياً للسلاحف البحرية وهي محمية صير بونعير بإمارة الشارقة وجزيرة مروح بإمارة أبوظبي، وتم إعلان 5 مواقع بحرية هامة بيولوجيا وايكولوجيا بالدولة، مما ساهم بشكل فعال في حمايتها.

ويواجه الحفاظ على السلاحف البحرية وتحقيق استدامتها مجموعة من التهديدات تشمل تدهور حالة موائلها الطبيعية، وتعرضها للصيد العرضي، وزيادة تواجد الحطام ومعدلات التلوث في البيئة البحرية، والضغوط المتزايدة التي يسببها التغير المناخي، لذا تركز الخطة الوطنية للمحافظة على السلاحف البحرية على إدارة موائل السلاحف البحرية بمياه الدولة لضمان تحقيق استدامة هذا النوع من الأحياء البحرية الهامة مستقبلاً.

ويعتمد تنفيذ الخطة وتحقيقها لأهدافها على مجموعة من المؤشرات الرئيسية ومنها إصدار نظام لتبادل المعلومات حول حركة وسلوك السلاحف البحرية ومجتمعاتها، وزيادة الوعي المجتمعي بأهمية الحفاظ عليها، والتقليل من خطر الانقراض والانخفاض الذي تواجه هذه الكائنات البحرية، وزيادة نسبة حماية مواقع تعشيش السلاحف.

وتسعى الخطة الوطنية للمحافظة على السلاحف البحرية إلى الحد والتخفيف من العوامل المباشرة وغير المباشرة التي تهدد السلاحف البحرية، وحماية وصون موائل السلاحف البحرية، وتقوية القاعدة المعرفية وبناء القدرات من أجل صون مجتمعات السلاحف البحرية من خلال البحوث وعمليات الرصد وتبادل المعلومات، وتعزيز التعاون الوطني والإقليمي والدولي للحفاظ على السلاحف البحرية وموائلها، ورفع مستوى الوعي وبناء القدرات في مجال حماية السلاحف البحرية وموائلها.

 

اعتراف عالمي

وأدرجت أمانة شبكة سكرتارية مذكرة التفاهم الخاصة بحماية وإدارة السلاحف البحرية وموائلها في المحيط الهندي وجنوب شرق آسيا، جزيرتي صير بونعير, بوطينة ضمن شبكتها كأحد المواقع الهامة للسلاحف البحرية لتنضما بذلك للمواقع الشهيرة الأخرى المعترف بها عالمياً من مختلف أنحاء العالم.

وتم إدراج جزيرة بوطينة ضمن شبكة سكرتارية مذكرة التفاهم الخاصة بحماية وإدارة السلاحف البحرية وموائلها في المحيط الهندي وجنوب شرق آسيا كأحد المواقع المهمة عالمياً للسلاحف البحرية لتنضم بذلك إلى المواقع الشهيرة الأخرى المعترف بها عالمياً من مختلف أنحاء العالم حيث السلاحف البحرية تضع بيضها على ما لا يقل عن 17 جزيرة بالدولة، وتشير نتائج مسح جوي وميداني لهيئة البيئة أبوظبي إلى أن حوالي 6,458 من السلاحف البحرية تستقر في مياه الإمارة.

كما تم إدراج جزيرة صير بونعير كذلك ضمن الشبكة كأحد أهم المواقع الثقافية والطبيعية في دولة الإمارات العربية المتحدة بالإضافة إلى إدراجها على قائمة رامسار العالمية للأراضي الرطبة وما يميز جزيرة صير بونعير، هو نظامها البيئي الغني بالتنوع البيولوجي، حيث تشكل ملجأ للسلاحف البحرية والطيور والمجتمعات المرجانية وأسماك الشعاب المرجانية، كما تتميز الجزيرة بطبيعتها الخلابة وشواطئها الرملية التي اتخذت منها السلاحف البحرية موقعاً للتكاثر.

 

برنامج بحثي

وأطلقت الجهات المختصة في الدولة برامج بحثية طويلة المدى لمسح ورصد السلاحف البحرية في مختلف إمارات الدولة. حيث قامت هيئة البيئة – أبوظبي بإطلاق برنامج بحثي طويل المدى يهدف إلى تقييم تفاوت التعشيش بواسطة ترقيم السلاحف والرصد المستمر للأعشاش وبيئات التعشيش ووضع بروتوكول لتطبيق خطة لإدارة السلاحف البحرية والمحافظة عليها.

وأظهر مشروع مراقبة مواطن تعشيش السلاحف البحرية الذي نفذته هيئة البيئة في أبوظبي عن تعشيش سلاحف منقار الصقر في 11 جزيرة في أبوظبي الى جانب تسجيل حوالي 247 عشاً خلال موسم التعشيش الذي استمر لمدة 10 اسابيع كما تم توثيق التعشيش للمرة الأولى في الساحل الشمالي من جزيرة السعديات.

وتعمل الهيئة منذ عام 2001 على الحفاظ على السلاحف البحرية في مياه إمارة أبوظبي، حيث نجحت جهودها في الحفاظ على استقرار أعداد السلاحف في الإمارة على مدار السنوات الماضية بما يشمل سلاحف منقار الصقر والسلاحف الخضراء التي يقدر مجموعها حالياً وفقاً لبيانات المسوحات الجوية بأكثر من 5,000 سلحفاة.

ووقعت هيئة البيئة أبوظبي وذا ناشونال أكواريوم اتفاقية تعاون جديدة لتعزيز جهود الحفاظ على الحياة الفطرية في إمارة أبوظبي تم خلالها إطلاق أكبر مركز في المنطقة مخصص لإعادة تأهيل السلاحف البحرية ضمن مشروع القناة وذلك بهدف تعزيز الجهود المبذولة للحفـاظ علـى التنوع البيولوجـي في أبوظبي.

وسيوفر المركز دعماً كاملاً لإعادة تأهيل السلاحف البحرية من خلال تقديم المعالجة البيطرية الكاملة والرعاية البيطرية الداخلية والرعاية الحيوانية بشكل عام حتى تمام الشفاء ثم إعادتها إلى الطبيعة.

كما وقعت هيئة البيئة – أبوظبي وميرال مذكرة تفاهم للتعاون من خلال “ياس سي وورلد للبحوث والإنقاذ” في عدد من المجالات التي تشمل الاستجابة للحوادث التي تتعرض لها الأحياء البحرية وعمليات الإنقاذ وإعادة تأهيل الحيوانات البحرية وإعادتها إلى بيئتها الطبيعية.

 

ركيزة حيوية

وعززت إمارة دبي جهود الحفاظ على السلاحف البحرية بإطلاق مشروع “إعادة وتأهيل السلاحــف البحرية” في العام 2004، والذي يعد الأول من نوعه في المنطقة، وهدفه الحفاظ على السلاحف البحرية التي تعد ركيزة حيوية في عملية التوازن البيئـــي، في بادرة تبرز مدى التزام دبي بدعم الجهود الدولية والوطنية في إعادة تأهيل ودعم الحياة الفطرية، وجاء المشروع بالتعاون بين مجموعة جميرا، ومكتـــــب دبـــــــــي لحماية الحياة البريـــــــة ومستشفى دبي للصقور والمختبر المركزي للأبـــــــحاث البيطرية في الإمارة.

ويسعى مكتــــب حماية الحياة البرية في دبي عبر مشروع “إعادة وتأهيل السلاحــف البحرية” إلى دعم مبادرات وزارة التغيـــر المناخي والبيئة لحماية الموارد الطبيعية والحفاظ عليها، والمساهمة في إيجاد توازنٍ بيئي من خلال الاهتمام بهذه المخلوقات التي تلعب دوراً أساسياً في البيئة البحرية من خلال إجراء الأبحاث وتتبع حركتها ووضع نظام بيطري متكامل لتأهيلها للعيش مرة أخرى في موائلها الطبيعية.

وفي فندق “برج العرب جميرا”، يقوم علماء ومختصون في علوم الأحياء المائية بالإضافة إلى بيطريين من مستشفى دبي للصقـــــور والمختبر المركزي للأبحاث البيطرية، بإطلاق السلاحف إلى صفحة مياه الخليج العربي.

ومنذ تأسيس المشروع، نجحت “مجموعة جميرا” في رعاية أعداد كبيرة من السلاحف البحرية المريضة أو المصابة بالتعاون مع مكتب دبي لحماية الحياة البرية؛ ومستشفى دبي للصقور؛ والمختبر المركزي للأبحاث البيطرية. وتُظهر الإحصائيات أن معدل السلاحف التي تم إنقاذها قد بلغ أكثر من 100 سلحفاة سنوياً؛ حيث تم حتى الآن إعادة أكثر من 2100 سلحفاة إلى مياه الخليج العربي.

وتعد سلاحف اللجأة صقرية المنقار والسلاحف الخضراء من أبرز فصائل السلاحف التي يحرص “مشروع دبي لإعادة تأهيل السلاحف” على رعايتها ضمن مرافقه، في حين يعنى المركز أيضاً بالسلاحف ضخمة الرأس وسلاحف اللجأة ردلي الزيتونية.

 

فهم سلوك السلاحف

يعتبر برنامج جمعية الإمارات للطبيعة (EN-WWF) وهيئة البيئة أبوظبي لمراقبة السلاحف البحرية، المبادرة الأكبر في المنطقة لفهم سلوك السلاحف البحرية واحتياجات المحافظة عليها في الخليج العربي. وتم ذلك من خلال مشروعين لجمع بيانات 75 سلحفاة من نوع منقار الصقر و45 سلحفاة خضراء من خلال أجهزة إرسال عبر الأقمار الصناعية تقوم بإرسال إشارة في كل مرة تصعد فيها السلاحف إلى سطح البحر للتنفس.

ونظراً لقلة المعلومات حول مسارات وهجرة السلاحف البحرية، فقد تم إطلاق مشروعين لتحديد مسارات هجرة السلاحف البحرية والمناطق الهامة بالنسبة لها مثل موائلها ومواقع تغذيتها كمناطق محتملة للمحافظة عليها في الخليج العربي. ومن أحدى أهم أهداف المشروع العمل على رفع الوعي حول المحافظة على السلاحف البحرية على المستوى الإقليمي.

 

حياة جديدة

وفي يوم السلاحف العالمي 2021 الذي يصادف 23 مايو من كل عام، أطلقت هيئة البيئة والمحميات الطبيعية بالشارقة برنامج الشارقة للاستجابة لجنوح الحياة البحرية الذي يأتي كأحد العناوين المهمة في خطط و أجندة الهيئة، فمن خلال التحقيق والاستجابة لجنوح الحياة البحرية في إمارة الشارقة، يعمل البرنامج كبرنامج مسح، وبرنامج بحث، وبرنامج إنقاذ للحياة البحرية، وبرنامج للتوعية البيئية.

وتسعى الهيئة إلى تحقيق عدة أهداف من وراء هذا البرنامج، من خلال التحقيق والاستجابة للزواحف البحرية والثدييات البحرية والطيور البحرية الجانحة، بما يسهم في توسيع المعرفة الحالية بشأن التنوع البيولوجي والبيئة وتهديدات الحيوانات البحرية، حيث ستدعم هذه المعلومات تطوير إجراءات وسياسات الحفاظ على البيئة إضافة إلى تثقيف أوسع للجمهور حول أهمية الحفاظ على الأنواع والمشاكل الناشئة الأخرى خصوصاً أن البرنامج يعمل كأداة مهمة للاستجابة وإنقاذ الحياة البحرية الجانحة.

وتواظب هيئة البيئة والمحميات الطبيعية بالشارقة على إطلاق السلاحف الخضراء المهددة بالانقراض في المياه، لتوفير حياة جديدة لها في محمية صير بونعير، وذلك بعد خضوعها لفترة من العلاج تحت إشراف عدد من اختصاصي الأحياء المائية.وام


المصدر: جريدة الوطن

إقرأ أيضاً:

ليبيا بمعادلة شرق المتوسط: أثر الاتفاقية البحرية التركية الليبية على موازين القوة والسيادة

تُعدّ مذكرة التفاهم البحرية الموقعة بين ليبيا وتركيا في عام 2019 إحدى أهم الوثائق القانونية التي أثرت في مسار النزاع الجيوسياسي في شرق المتوسط، لأنها لم تعد مجرد اتفاق لترسيم الحدود البحرية، بل أصبحت اختبارا مباشرا لقدرة الدولة الليبية -رغم انقسام مؤسساتها- على ممارسة قرارها السيادي وحماية مصالحها الحيوية في منطقة تتنافس فيها الإرادات الإقليمية على الطاقة والنفوذ. فقد جاءت هذه الاتفاقية في مرحلة كان يُراد فيها تهميش ليبيا من خرائط الغاز وخطوط الأنابيب، فأعادتها إلى موقع الفاعل بعد سنوات كانت تُعامَل فيها كفراغ جغرافي في مشاريع الطاقة والتحالفات.

من الزاوية القانونية الصرفة، تستند المذكرة إلى قواعد اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، وإلى السوابق القضائية لمحكمة العدل الدولية ومحكمة البحار، والتي تُرسخ قاعدة أن مبدأ الخط الأوسط هو الأساس العادل لترسيم المناطق البحرية بين الدول المتقابلة، وأن الجزر لا تمنح حقوقا بحرية كاملة إذا أدى ذلك إلى إلحاق ضرر فادح بدولة ساحلية مقابلة أو إلى تهميش امتدادها الطبيعي. تبقى الحقيقة الأساسية أن مذكرة 2019 أعادت ليبيا إلى قلب الجغرافيا السياسية للمتوسط. فقد منحتها امتدادا بحريا يتفق مع موقعها الطبيعي، وحررتها من مبدأ "العزل البحري" الذي كان يُمارس بحقهاوقد التزمت المذكرة بهذه المرجعية عندما اعتمدت خطا وسطيا يمنح ليبيا امتدادا بحريا مشروعا شرقا، ويحول دون حرمانها من مجالها الطبيعي لصالح خرائط كانت اليونان ومصر تعملان على تثبيتها دوليا.

ومع دخول ليبيا في الممر البحري الذي أنشأته الاتفاقية، أصبحت جزءا من معادلة الغاز في شرق المتوسط. ففي ظل مشروع خط الغاز "إيست ميد" الذي كان يُخطط لربط دول المنطقة بأوروبا مع تجاوز ليبيا بالكامل، مثّل الاتفاق تحولا هيكليا، إذ لم يعد بالإمكان استبعاد ليبيا من أي ترتيبات بحرية أو اقتصادية تخص شرق المتوسط. وهذا يمثل لأول مرة منذ 2011 نقطة القوة الاستراتيجية التي عادت بها ليبيا إلى طاولة التفاوض الكبرى.

غير أن هذا المكسب الخارجي اصطدم بفجوة الشرعية الداخلية الناجمة عن عدم مصادقة مجلس النواب على الاتفاقية، ما جعلها في وضع فريد: نافذة دوليا ومعلّقة داخليا. وقد أتاح هذا الوضع للقوى السياسية توظيف الاتفاقية في صراعاتها الداخلية، إذ أصبح كل طرف يعيد تأويلها وفق مصلحته، رغم أن القاعدة الدستورية واضحة في أن البرلمان هو الجهة المختصة بالتصديق. غير أن الانقسام المؤسسي جعل هذا الاختصاص غير قابل للممارسة، وخلق فراغا استغلته أطراف إقليمية.

هذا الفراغ بالتحديد هو ما حاولت اليونان استثماره. فالاعتراض اليوناني ليس اعتراضا قانونيا، بل اعتراض استراتيجي؛ إذ ترى أثينا أن الاتفاقية تُضعف امتدادها البحري المستند إلى الجزر، وتهدد مشاريعها المرتبطة بخطوط الغاز، وتعزز نفوذ تركيا الذي تعتبره تحديا استراتيجيا تاريخيا. لذلك سعت اليونان إلى الضغط لإسقاط الاتفاقية أو تجميدها عبر بوابة الانقسام الليبي، باعتبار أن ذلك يخدم مصالحها الحيوية في المتوسط.
قوة الوثيقة وحدها لا تكفي؛ فالمعيار الحقيقي يكمن في قدرة الدولة على تحويل الاتفاقية إلى سياسة بحرية وطنية مستقرة، عبر توحيد المؤسسات، وصياغة رؤية واضحة للترسيم، وإيداع خرائط دقيقة لدى الأمم المتحدة

وفي هذا الإطار جاء موقف رئيس مجلس النواب الليبي الذي حافظ على مسافة تفاوضية دقيقة: لم يصادق ولم يُلغِ. فقد أكد أن الاتفاقية غير نافذة داخليا لعدم المصادقة، لكنه امتنع عن إلغائها، وهو ما يعكس رغبة في إبقاء المذكرة ورقة ضغط سياسية تتيح لليبيا التحرك بين أنقرة وأثينا دون اصطفاف نهائي. غير أن هذا التكتيك -رغم منطقه السياسي-يحمل مخاطره؛ فترك الحقوق البحرية دون تثبيت رسمي قد يسمح لدول أخرى بإيداع خرائط منافسة، ويُضعف من موقف ليبيا حين يبدأ الترسيم الدولي الشامل للمتوسط.

وعلى الرغم من الجدل، تبقى الحقيقة الأساسية أن مذكرة 2019 أعادت ليبيا إلى قلب الجغرافيا السياسية للمتوسط. فقد منحتها امتدادا بحريا يتفق مع موقعها الطبيعي، وحررتها من مبدأ "العزل البحري" الذي كان يُمارس بحقها، وأعطتها دورا لا يمكن تجاوزه. لكن قوة الوثيقة وحدها لا تكفي؛ فالمعيار الحقيقي يكمن في قدرة الدولة على تحويل الاتفاقية إلى سياسة بحرية وطنية مستقرة، عبر توحيد المؤسسات، وصياغة رؤية واضحة للترسيم، وإيداع خرائط دقيقة لدى الأمم المتحدة، وتفعيل شراكات إقليمية متوازنة.

وعليه، فإن مستقبل السيادة البحرية لليبيا مرهون بإرادة الدولة لا بنص الاتفاق. فالسؤال اليوم ليس: هل ستستمر مذكرة 2019؟ بل: هل ستبني ليبيا القدرة المؤسسية التي تجعل من البحر جزءا من أمنها القومي لا مسرحا لصراعات الداخل؟ هذا السؤال وحده هو ما سيحدد شكل الحدود وشكل الدولة معا خلال العقد القادم.

مقالات مشابهة

  • ليبيا بمعادلة شرق المتوسط: أثر الاتفاقية البحرية التركية الليبية على موازين القوة والسيادة
  • خطوة لافتة.. الإمارات تعدل قانون الحضانة لتعزيز حماية الطفل
  • أخنوش: جهود الحكومة ماضية لتقليص الفوارق المجالية وتعزيز كرامة المواطن
  • اليمن: ندعم جهود السعودية والإمارات من أجل الحفاظ على وحدة الصف
  • عاجل.. مصدر في الرئاسة يكشف المهمة التي جاء من أجلها الفريق السعودي الإماراتي العسكري إلى عدن.. إخراج قوات الانتقالي من حضرموت والمهرة
  • التصدى للشائعات حماية لأمن واستقرار مصر
  • مختصون: حماية الطفل في البيئة الرقمية مسؤولية تكاملية بين الأسرة والمدرسة
  • مذكرة تفاهم بين زغرتا–إهدن وRentokil لتعزيز الغطاء الأخضر ودعم البيئة
  • جامعة أبوظبي تختتم «المؤتمر الدولي لمستقبل أكثر استدامة»
  • بلدية بلعما تطلق حملة لزراعة 10 آلاف شجرة لتعزيز الغطاء النباتي وتحسين البيئة