العلماء يوثقون أكبر العواصف المغناطيسية المنسية في التاريخ
تاريخ النشر: 8th, December 2023 GMT
في أوائل نوفمبر/تشرين الثاني من هذا العام، رُصد الشفق القطبي عند خطوط عرض منخفضة بشكل مدهش جنوبا حتى إيطاليا وتكساس. وتشير مثل هذه الظواهر إلى تأثيرات قذف الكتلة الإكليلية الشمسية على المجال المغناطيسي للأرض والغلاف الجوي.
ولكن ما كان أكثر دراماتيكية بكثير من هذا العرض الضوئي الأخير، هو ذلك العرض الضوئي الناتج عن عاصفة شمسية ضخمة ضربت الأرض في فبراير/شباط 1872.
ونشر فريق دولي يتكون من علماء من تسع دول دراسة مفصلة عن هذا الحدث المهم تاريخيا، متتبعا أصله الشمسي وتأثيراته الأرضية واسعة النطاق، وحينها تعطلت اتصالات التلغراف على نطاق واسع بسبب هذه العاصفة.
ولكن في مجتمع اليوم الذي يعتمد على التكنولوجيا، فإن مثل هذه العاصفة من شأنها أن تعطل شبكات الطاقة والاتصالات عبر الأقمار الصناعية. وتؤكد النتائج التي توصلوا إليها أن مثل هذه العواصف الشديدة أكثر شيوعا مما كان يعتقد سابقا.
وفي العالم الحديث، نعتمد بشكل متزايد على البنية التحتية التكنولوجية مثل شبكات الطاقة وأنظمة الاتصالات والأقمار الصناعية، وهذا الاعتماد يجعلنا عرضة بشكل متزايد لتأثيرات العواصف الجيومغناطيسية الكبيرة.
ويوضح هاياكاوا البروفيسور المساعد في جامعة ناغويا اليابانية المعد الرئيسي للدراسة التي نشرت في "ذا أستروفيزيكال جورنال"، أنه "كلما طالت فترة انقطاع إمدادات الطاقة زاد عدد المجتمعات، خاصة تلك التي تعيش في المناطق الحضرية وتعاني من أجل التأقلم". ومن الممكن أن تكون مثل هذه العواصف كبيرة بما يكفي لتدمير شبكة الكهرباء وأنظمة الاتصالات والطائرات والأقمار الصناعية في أسوأ الحالات. فهل يمكننا الحفاظ على حياتنا دون هذه البنية التحتية؟
مثل هذه العواصف الشديدة نادرة الحدوث، وفي الدراسات الحديثة تبرز عاصفتان من هذا القبيل: عاصفة كارينغتون في سبتمبر/أيلول من عام 1859، وعاصفة نيويورك للسكك الحديد في مايو/أيار من عام 1921. وتشير الدراسة الجديدة إلى أن عاصفة أخرى، وهي عاصفة تشابمان سيلفرمان في فبراير/شباط من عام 1872، ينبغي أيضا اعتبارها واحدة من أقوى العواصف.
وفي ذلك الوقت، كانت العاصفة كبيرة بما يكفي للتأثير على البنية التحتية التكنولوجية حتى في المناطق الاستوائية، حيث انقطعت اتصالات التلغراف على الكابل البحري في المحيط الهندي بين بومباي (مومباي) وعدن لساعات. ووردت أنباء عن اضطرابات مماثلة على الخط الأرضي بين القاهرة والخرطوم.
ترأس علماء من جامعة ناغويا الفريق متعدد التخصصات المكون من 22 عالما، والذي ضم علماء من المرصد الوطني للطاقة الشمسية في الولايات المتحدة والمرصد الملكي البلجيكي.
واستخدم الباحثون الـ22 السجلات التاريخية والتقنيات الحديثة لتقييم عاصفة تشابمان سيلفرمان بدءا من أصلها الشمسي وحتى تأثيراتها الأرضية.
وبالنسبة للأصل الشمسي، لجأت المجموعة إلى سجلات البقع الشمسية المنسية إلى حد كبير من الأرشيفات التاريخية، وخاصة السجلات البلجيكية والإيطالية.
أما التأثيرات الأرضية، فاستخدموا قياسات المجال المغناطيسي الأرضي المسجلة في أماكن متنوعة مثل بومباي (مومباي) وتفليس (تبليسي) وغرينتش؛ لتقييم التطور الزمني وشدة العواصف، كما قاموا بفحص مئات الروايات عن الشفق البصري بلغات مختلفة سببتها العاصفة.
وأحد الجوانب الأكثر إثارة للاهتمام في عاصفة 1872 هو أنها نشأت على الأرجح في مجموعة بقع شمسية متوسطة الحجم ولكنها معقدة، بالقرب من مركز القرص الشمسي، كما أكدت ذلك تحليلات سجلات الطاقة الشمسية من بلجيكا وإيطاليا. وتشير هذه النتائج إلى أنه حتى مجموعة البقع الشمسية متوسطة الحجم تسببت بواحدة من أكثر العواصف المغناطيسية تطرفا في التاريخ.
ووفقا لما جاء في البيان الصحفي المنشور على موقع الجامعة فقد قام هاياكاوا وزملاؤه بتوسيع أبحاثهم عن الشفق القطبي التاريخي من خلال البحث في السجلات الموجودة في المكتبات ودور المحفوظات والمراصد حول العالم، وحددوا أكثر من 700 سجل شفقي يشير إلى أن السماء ليلاً كانت مضاءة بعروض شفقية رائعة من المناطق القطبية إلى المناطق الاستوائية.
يقول هاياكاوا: "تؤكد النتائج التي توصلنا إليها أن عاصفة تشابمان سيلفرمان في فبراير 1872 هي واحدة من أكثر العواصف الجيومغناطيسية تطرفًا في التاريخ الحديث. إن حجمها ينافس إعصار كارينغتون في سبتمبر 1859 وعاصفة نيويورك للسكك الحديدية في مايو 1921، وهذا يعني أننا نعلم الآن أن العالم قد شهد على الأقل ثلاث عواصف مغناطيسية أرضية في القرنين الماضيين. وإن أحداث الطقس الفضائي التي يمكن أن تسبب مثل هذا التأثير الكبير تمثل خطرا لا يمكن استبعاده".
وأضاف: “نحن محظوظون لأننا لم نشهد مثل هذه العواصف الهائلة في العصر الحديث. ومن ناحية أخرى فإن حدوث ثلاث عواصف عظمى من هذا القبيل خلال ستة عقود يدل على أن التهديد الذي يواجه المجتمع الحديث حقيقي، ولذلك فإن الحفاظ على السجلات التاريخية وتحليلها أمر مهم لتقييم وفهم وتخفيف تأثير مثل هذه الأحداث".
وقد لوحظت عروض شفقية حديثة في شمال اليونان وشمال الولايات المتحدة. وحاليا تقترب الشمس من الحد الأقصى للدورة الشمسية 25 المتوقع حدوثها في عام 2025، وقد نتوقع نشاطا شفقيا معززا في السنوات القادمة.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: من هذا
إقرأ أيضاً:
الأمة.. إشكالية هوية ما بعد التاريخ (4)
طرحنا في الجزء الثالث من سلسلة مقالات "الأمة.. إشكالية هوية ما بعد التاريخ" سؤال هو إشكالية البحث، وهدف هذه السلسلة من المقالات التي نريد منها، وهو إيقاظ العقل الجمعي للأمة، فإن كنا أثبتنا أننا بالفعل أمة، لا يمكن تجزئتها أو تفريقها، فإن السؤال بعد من نحن، وهو الأهم: ماذا نريد؟
هوية الأمة الإسلامية ليست مجرد شعارات دينية أو مظاهر ثقافية، بل هي بناء متكامل يشمل العقيدة، والقيم، واللغة، وإن تنوعت، تظل العربية رابطا بقوة القرآن، والتاريخ، والنهج الحضاري. لكن بعد ما استعرضناه في المقالات الثلاثة السابقة، ومقدمتها "تسريبات عبد الناصر وتساؤلات الهوية والقضية"، من مفهوم الأمة وإشكالياتها وتردداتها بين الصعود والهبوط والتحولات، وصولا إلى ما يجمع هذه الكتلة البشرية الكبيرة في البقعة الجغرافية المتصلة، حتى مع احتلال أجزاء منها، فإن فكرة الأمة باقية في ضمير هذه المجموعة البشرية لما يجمعه من عناصر ذكرناها، إلا أن هذه الهوية تواجه اليوم تحديات متعددة تعيق وضوح تصور حقيقي لها، وتدفع بالأمة نحو مزيد من التيه والانقسام.
والسؤال الآن هو: كيف يمكن للأمة الإسلامية أن تتجاوز هذه الإشكاليات؟ ولكي نجيب عن هذا السؤال فإننا أمام سؤال أولي، وهو: ما هي هذه الإشكاليات بالأساس؟ لننتقل فيما بعد الإجابة عنه إلى وضع الخطوات التي ينبغي أن تتخذ لعبور هذه الإشكاليات، وصولا إلى استعادة الأمة مكانتها الحقيقية في هذا العالم الذي يسود فيه الظلم، وتسيطر عليه الأطماع، مع تراجع المبادئ والقيم أمام النزعة الفردانية وتقديس الجسد والمادة، ونهم الاستحواذ من غير ضوابط أخلاقية، والإشكالية الأكبر هي أن هذه النزعة بدأت تتحول من حالة المجموعات المسكونة بها، إلى حالة الدعوة إليها ونشرها، حتى إذا ما أصيب بها الضعيف تقبلها على أنها هي القواعد التي تحكم العالم، ومع تقبله لها فإذا ما حاول أن يخرج من مصاف المستضعفين لينافس مع الأقوياء يجد أن هذه المجموعات المسكونة تحاربه، ليبقى في مربع الاستغلال والاستعباد، ويبتعد عن مصاف الكبار.
ولكي تتجاوز الأمة الإشكاليات التي تقف عقبة في طريقها، عليها أولا أن تعرف الإشكاليات وتقف عندها لتفكيكها، وبالتالي البحث عن حلول لها لتخطيها. ولعلي في هذه السطور، وإن كنت مقصرا، سأضع بعضا مما فتح الله علي؛ مما تلمست من الإشكاليات التي تقف عائقا أمام الأمة.
ولعل أول هذه الإشكاليات هي إشكالية الهوية، وهذه قد تطرقنا لها في مقالاتنا السابقة، وهي محسومة شعبيا وإن اختُلف فيها على المستوى السياسي. وهذا الاختلاف يدفعنا للبحث في شكل نظام الحكم، لا سيما بعد سقوط الخلافة، وهل يجب أن يكون النظام الحاكم لهذه المجموعة البشرية على منهاج الخلافة في العصور الأولى، أم أن العالم بنظمه الجديدة تجاوز ذلك إلى أشكال أخرى، كما هو الحال في الاتحاد الأوروبي، أو يمكن الأخذ بفكرة الدولة الفيدرالية، كما هو الحال في أمريكا مثلا، أو أن الأمة يتفتق ذهنها عن نظام جديد بالكلية لا يناظر ولا يتبع النظم الغربية؟
إن شكل الحكم يجرنا إلى نظام وفكرة تطبيق الشريعة، وأي طريقة تتبع لتطبيقها، بعد أن بدأ يتنشر الفكر المقاصدي في مقابل الفكر التقليدي. هذه الإشكالية تفتح الباب أمام مناقشة فكرة الديمقراطية التي باتت الشعوب تنادي بها وتسعى إليها وتندلع الثورات من أجلها، وهل تصلح هذه الديمقراطية بحالتها الغربية للتطبيق على نظم إسلامية تحكم بالشريعة الإسلامية، أم أن الأمة لها أن تتخذ من الشكل إطارا، وتنحت لها في المضامين قواعد لا تخالف الشريعة التي ارتضتها نظاما للحكم.
وتتوازى مع شكل الحكم ونظامه، وإشكالية تطبيق الديمقراطية؛ فكرة الأحزاب وما تتبناه من أفكار، وتواؤمها مع ما سيطبق من نظام سياسي في هذه الأمة، ومن ثم تقف فكرة البرامج التي ستعمل تحت أشكال الحكم ونظمه، كواحدة من ضمن الإشكاليات التي تواجه الأمة. فالأمة تحتاج إلى برنامج اجتماعي محدد المعالم، يزيل عنها الغموض، ويوحد المفاهيم، مع تقدير الاختلافات البينية جغرافيا، ومع مراعاة الأعراف والتقاليد، في مساحات يمكن من خلالها لكل قُطر أن ينفذ برامجه؛ وفق أطر عامة حاكمة. ومن جملة هذه البرامج الاجتماعية، تأتي البرامج التوعوية، والتنويرية، التي تفتح عيون الخاصة قبل العامة بالمخاطر التي تتهددهم، وتحديد أولويات مواجهتها. ومن أولويات هذه المهام، إشكالية الغزو الثقافي والتغريب، ما يجعل من الإعلام أهمية قصوى في تنفيذ هذه البرامج ورفع الوعي والتوجيه للمشروع الجامع، وبالتوازي مع ذلك توحيد الخطاب الدعوي والديني بما يلائم سواد الأمة، مع فتح المجال للاختلافات التي لا تؤثر لا على صلب العقيدة، ولا تحيد عن نهج الشريعة في عموم أحكامها في التعاملات المدنية والمالية.
تتعدد الحلول التي قدمها المفكرون الإسلاميون، وتتنوع بين العودة إلى المنهج النبوي، وتطوير الفكر الإسلامي، وتعزيز الوحدة الإسلامية، والتفاعل الإيجابي مع الحضارة الغربية، والاهتمام بالأقليات المسلمة، ومواجهة الفكر المتطرف الذي أصبح ورما خبيثا ينخر في جسد الأمة، وتنعكس تبعاته عليها أولا قبل انعكاسها على العالم. مع ذلك، فإن فكرة الحلول الفردية للأقطار المسلمة هي حلول وقتية سرعان ما تبوء بالفشل، ولقد تم تجريبها أكثر من مرة وفي أكثر من فترة. لذا فإن العلاج الناجع لأمراض الأمة يكمن في توحيدها وإعادة لُحمتها، من خلال رؤية استراتيجية واعية بالمخاطر والتحديات، وتضع الحلول الجمعية، مع تمايز الأقطار واحترام خصوصيتها. وهذه الحلول لا تحتاج إلى دول، بقدر ما تحتاج إلى جهود مجموعات عمل تتواصل وتتشابك وتنسق.
ولعل من جميل ما أهداه لنا العلم في هذا الزمان؛ وسائل الاتصال المتاحة، وطرق المواصلات السهلة، ويبقى بعد ذلك حسن النية والإخلاص في العمل، ووضع المعايير العلمية ومعايير قياس الأداء محل الاعتبار في هذا العمل، مستفيدين في ذلك بعلم وجهد وأبناء هذه الأمة وهم كثر، مع ضرورة إنكار الذات، وتراجع من لا يرى في نفسه الكفاءة، ليقدم أصحاب الخبرة والهمة والكفاءة. وتبقى هذه الأمة حية ما بقي فيها المخلصون، وهم كثر، فقد أبقاها صلى الله عليه وسلم خالدة حين قال: "الخير في وفي أمتي إلى يوم الدين".