احترام العامل ليس تفضُّلًا
تاريخ النشر: 13th, October 2025 GMT
د. محمد بن إبراهيم الزدجالي **
نُشِر في عدد الأحد الماضي من الجريدة الرسمية القرار الصادر عن وزارة العمل رقم (574/ 2025) بشأن اللائحة التنظيمية لعمل عُمال المنازل ومن في حكمهم، وذلك في خطوة جديدة تعكس النظرة الإيجابية لتعامل سلطنة عُمان مع العمالة المنزلية واهتمامها بتطوير بيئة العمل بما يتوافق مع المبادئ الإنسانية والقانونية.
استهلت اللائحة الجديدة- التي دخلت حيِّز النفاذ اعتبارًا من اليوم التالي لتاريخ نشرها- بإلزام جميع الأطراف المعنية بتوفيق أوضاعهم خلال فترة 3 أشهر؛ مما يُدلّل على رغبة المُشرِّع في تحقيق انتقال سلس ومنظم إلى جانب تسوية أوضاع العمال.
وجاءت اللائحة واضعة حجر الأساس وموضحة الحد الأدنى من الحقوق والامتيازات التي يتمتع بها العامل وصاحب العمل على حد سواء، مراعية جوانب حقوق الإنسان وما يتعلق بمكافحة الاتجار بالبشر؛ حيث أكدت ضرورة أن يُوفِّر صاحب العمل للعامل بيئة أكثر أمنًا فنصَّت على شروط يجب توافرها في مكان الإقامة، وتوفير المأكل، وتحديد ساعات العمل والراحة الأسبوعية والأجر، وأوجبت كتابة عقد العمل، علاوة على ذلك اشترطت موافقة العامل كتابةً عند احتفاظ صاحب العمل بجواز سفره ووثائقه الخاصة. وتقليصًا لمساحات الاستغلال والانتهاك التي قد تنشأ في بيئات العمل غير المُنظَّمة، أوجبتْ اللائحة للحصول على ترخيص العمل، إتمام الفحص الطبي، ومتابعة الإجراءات لدى الجهات المختصة.
إنَّ صدور هذه اللائحة يُسهم في رفع مستوى التوعية لدى أصحاب الأعمال والأُسر حول أهمية التعامل العادل مع هذه الفئة، كما تؤكد أن سلطنة عُمان تمضي بخطى ثابتة نحو تطوير منظومتها التشريعية بما يتماشى و"رؤية 2040"، والقيم الوطنية والمبادئ الإنسانية، فضلًا عن أنها تبعث برسالة واضحة أن احترام العامل ليس تفضُّلًا؛ بل التزام قانوني وأخلاقي لا حياد عنه، وهو ليس بالجديد أو الغريب على بلدٍ يحترم المعاهدات والمواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان وبمكافحة الاتّجار بالبشر، ويُحدِّث تشريعاته كلما دعت الحاجة. فقد سبق صدور هذه اللائحة صدور قانون مكافحة الاتّجار بالبشر الجديد في سبتمبر الماضي؛ ما يعكس حرص المُشرِّع على احترام الكرامة الإنسانية ومنع أي مُمارسة يمكن أن تحمل طابعًا تعسفيًا.
ومع احترامنا وتقديرنا للكثير من الآراء المكتوبة والمنشورة التي اطلعنا عليها والتي ترى في هذه اللائحة أنَّ صاحب العمل هو الحلقة الأضعف في ظل غياب الضمانات لصالحه، إلّا أنَّنا نرى أن وجود اللائحة بحد ذاته سيعمل على ضبط هذا الجانب؛ سواءً كان بصورة مباشرة أو غير مباشرة، كما إن الممارسة العملية كفيلة بأن تُظهِر جوانب الضعف في اللائحة، ونحن على يقين بأنَّ وزارة العمل ستُعيد مراجعتها مستقبلًا، في ضوء الملاحظات التي ربما تصلها وواقع التطبيق العملي، ومع ذلك نرى جوانب إيجابية كثيرة في اللائحة ترسخ السمعة الطيبة لسلطنة عُمان والتزامها بالمواثيق والاتفاقيات الدولية.
** الرئيس السابق لجمعية المحامين العُمانية
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
«لِنَتَسِعْ بَعْضُنَا بَعْضًا… ونُعَلِّم قلوبنا فنّ احترام الرأي الآخر»
في كل مجتمع حيّ، يظل الاختلاف علامة صحة لا علامة خلاف، ودليل نضج لا دليل صدام. فالآراء المتعددة مثل الألوان، لا يكتمل الجمال إلا بتجاورها، ولا تكتمل الصورة إلا بتكاملها.
ومع ذلك، لا تزال بعض العقول – للأسف – تنظر إلى الرأي المخالف على أنه غزوٌ لفكرتها، أو تهديدٌ لهيبتها، أو مساسٌ بمكانتها، بينما الحقيقة أن الاختلاف لا يجرح إلا القلب الضيق، ولا يزعج إلا العقل المغلق، أما الصدور الواسعة فتتعامل مع التنوع باعتباره غنى للفكر ومساحة للتعلم.
إننا اليوم في حاجة إلى أن ننقل ثقافة احترام الاختلاف من كونها شعارات مثالية، إلى كونها ممارسة يومية في بيوتنا، ومساجدنا، ومؤسساتنا، ومدارسنا، ووسائل إعلامنا. لأن المجتمعات لا تُبنى بالاتفاق الكامل، وإنما تُبنى بإدارة الاختلاف إدارة راقية.
■ القرآن الكريم… مدرسة الاحترام قبل الحوار
حين نفتح كتاب الله تعالى، نجد قيمة احترام الرأي والحوار الحضاري راسخة منذ أول يوم.
يقول سبحانه وتعالى:
﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾.
لم يقل: "جادلهم بالعنف"، ولم يقل: "بالغلظة"، بل قال: بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ… أي بأفضل وأرقى ما يمكن.
وهذا دليل عظيم على أن الحوار لا بد أن يكون قائمًا على الأدب قبل الفكرة، وعلى الهدوء قبل الحدة، وعلى الفهم قبل الرد. فكيف إذا كان القرآن يأمرنا بذلك مع المخالف في العقيدة؟ فكيف بمن يخالفنا في الرأي داخل الوطن الواحد والبيت الواحد؟
والله سبحانه يعلّمنا كذلك أدب الاختلاف في قوله:
﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾،
وهذا إقرار صريح بحق الآخرين في عرض ما لديهم، وحقنا في مناقشته دون تسفيه أو تجريح.
■ السنّة النبوية… قمة الأخلاق في إدارة الاختلاف
لقد قدّم النبي ﷺ نموذجًا راقيًا في احترام الرأي حتى مع أصحابه وهم في قمة الخلاف.
ولنا في موقفه يوم غزوة بدر خير شاهد، حين قال للصحابة:
"أشيروا عليّ أيها الناس"،
فأخذ برأي الحباب بن المنذر، وهو رأيٌ عسكري يخالف رأي النبي الأول، ومع ذلك قبله النبي بكل صدر رحب.
هذا هو الأدب النبوي… وهذا هو احترام العقول.
وفي حديث آخر قال ﷺ:
«رحم الله رجلاً سمحًا إذا باع، سمحًا إذا اشترى، سمحًا إذا اقتضى»،
والسماحة خلق لا يولد إلا من صدر واسع يقبل الآخر ولا يتضايق من اختلافه.
بل إن النبي ﷺ علّمنا ألا نُقصي المخالف ما دام لا يخالف الثوابت، فقال:
«إنما بُعثتم مُيسرين ولم تُبعثوا مُعسرين».
■ أدب الاختلاف… مسؤولية مجتمع كامل
إن احترام الرأي الآخر ليس وظيفة المثقفين وحدهم، ولا واجب الدعاة وحدهم، بل هو مسؤولية مجتمع بأكمله.
فالأب في بيته حين يفرض رأيه بالقوة يخسر الحوار مع أبنائه، والمعلم حين يسخر من رأي تلميذه يخسر احترامه، والمسؤول حين يضيق بالنقد يخسر ثقة الناس.
والحقيقة أن قوتنا لا تُبنى من خلال الصوت الأعلى، بل من خلال القدرة على الاستماع، ولا من خلال الإقصاء، بل من خلال الاحتواء.
فنحن أمة جعلها الله أمة وسطًا، والوسطية ليست رأيًا واحدًا جامدًا، بل فضاء واسع يتسع للجميع.
■ لماذا نخاف من الاختلاف؟
نخاف لأننا لم نتربَّ على ثقافة السؤال.
نخاف لأننا نتصور أن اختلاف الآخر يعني ضعف موقفنا.
نخاف لأننا نخلط بين الرأي والفكرة… وبين الشخص والفكرة.
بينما الحقيقة أن الفكرة التي لا تتحمل النقد هي فكرة لم تُبنَ جيدًا من البداية.
إن المجتمعات التي تتسع قلوب أفرادها للآراء المختلفة هي المجتمعات التي تطور نفسها، وتتعلم من بعضها، وتبني جسورًا لا جدرانًا.
■ فلنتسع لبعضنا… ولنربِّي في قلوبنا أدب الاختلاف
علينا أن نؤمن بأن الاستماع للآخر لا يعني التراجع، وأن قبول اختلافه لا يعني التنازل، وأن احترام رأيه لا يعني الانسحاب.
بل يعني أننا نملك وعيًا وإيمانًا بأن الحقيقة أكبر منّا جميعًا.
وفي الختام…
إن احترام الرأي الآخر ليس مجرد خُلق، بل هو مشروع حضاري يعيد للمجتمع توازنه، وللإنسان قيمته، وللنقاش روحه.
فدعونا نتسع لبعضنا، ونسمع لبعضنا، ونقترب من بعضنا…
فالوطن لا يبنيه رأي واحد… وإنما تبنيه قلوب تتسع للجميع.