انقلابا النيجر والغابون.. قراءة في الدلالات المحلية والتفاعل الدولي
تاريخ النشر: 17th, December 2023 GMT
رغم أن منطقة غرب أفريقيا شهدت عددا من الانقلابات، الناجح منها والفاشل، منذ عام 2020، فإن انقلابي النيجر والغابون جعل كتلة كبيرة من الزعماء يتحسسون مواضعهم لتأثيراتهما الكبيرة، التي تجاوزت المنطقة المحلية إلى الإقليمية، وربما هزت القارة بأكملها، فضلا عن التأثيرات الجيوسياسية المرتبطة بالتموضعات الدولية.
فهم السياقات الداخلية
بعد 36 يوما من انقلاب النيجر، وقع انقلاب الغابون -الواقعة وسط القارة السمراء- من داخل جغرافيا غرب أفريقيا، وقد ذهبت تحليلات عديدة في النيجر إلى وصف ما جرى باعتباره استجابة لإنهاء مرحلة تاريخية كبرى بنهاية الاستعمار الفرنسي، لدرجة وصفوها بأنها أكثر أهمية من ثورات الربيع العربي.
ويصف محللون انقلاب الغابون بأنه محاولة الانفصال عن نظام الحكم المرتبط لفترة تجاوزت نصف قرن بأسرة واحدة. ويشترك الانقلابان في الترحيب والتأييد الشعبي الكاسح الذي وجداه، وبالمجمل فإن الذي جرى يفسره الخبراء بأنه تعبير عن ضياع الأمل في التغيير الديمقراطي في أفريقيا.
انقلاب النيجر وتأزيم الإيكواسعلى غير سياقات تعامل المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) مع أزمات الإقليم، فإن انقلاب النيجر بدا وكأنه يحمل بذور نهاية المنظومة بسبب الأزمة العميقة التي تسبب فيها، وذهب محللون إلى أن الإيكواس لم تبدأ في التعاطي مع الأزمة بالتدرج الذي يقتضيه الواقع والضرورة، ربما بسبب حالة الهلع والاضطراب الذي واجهته المنطقة خوفا من عدوى الانقلابات.
إذ حدثت أزمة عميقة قسمت المجموعة إلى معسكرين، أحدهما يؤيد النيجر وعلى استعداد لخوض الحرب لصالحها، والآخر يصر على التدخل العسكري لإعادة الرئيس المحتجز محمد بازوم.
تشابه واختلافبقراءة متعمقة ودراسة لانقلابي النيجر والغابون، يمكن تلخيصهما في عدد من نقاط التشابه والاختلاف:
وقع الانقلابان في مستعمرات فرنسية. قادة الحرس الرئاسي كانوا وراء الانقلابين في البلدين. جاء انقلاب النيجر ضد المصالح الغربية، في حين ضمن انقلاب الغابون استمرار المصالح الغربية، وفقا لمحللين. فرضت الإيكواس عقوبات قاسية على النيجر، في وقت لم تفرض فيه مجموعة وسط أفريقيا (سيماك) أي عقوبات على الغابون. بينما أحدث انقلاب النيجر هزة عميقة في المنطقة، لم يكن لانقلاب الغابون التأثير ذاته على دول السيماك. انقلاب النيجر تمّ ضد أول رئيس يتسلم السلطة سلميا من رئيس سابق، في حين تمّ انقلاب الغابون ضد حكم أسرة "بونغو" التي حكمت لما يزيد على نصف قرن من الزمان. الدول الغربية أصرت على عودة الرئيس النيجري محمد بازوم إلى السلطة، بينما لم تفعل ذلك في التعامل مع حالة الغابون. اختلفت سياسة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في التعامل مع النيجر، فبينما تشدد الاتحاد الأوروبي في التعامل مع الانقلاب، لم تصنف الولايات المتحدة ما جرى بأنه انقلاب إلا بعد مضي شهور عديدة. صدى الانقلابأحدث انقلابا النيجر والغابون هزة عنيفة في المنطقة وعلى مستوى الإقليم، ووضع جميع الدول في حالة من عدم اليقين والخوف من العدوى السريعة، مما دفع بعض القادة لتحسس رؤوسهم، وفتح الاحتمالات على مصراعيها لتدحرج كرة النار نحو الدول المتبقية. ولتدارك الأمر سرعان ما تحرك عدد من القادة بإجراءات سريعة لحماية أنظمتهم.
الكاميرونبعد يوم واحد من استيلاء الجيش على السلطة في الغابون، قام الرئيس بول بيا الذي يحكم الكاميرون منذ 1982، بإجراء تعديلات عاجلة وسريعة في وزارة الدفاع من خلال إقالة عدد من كبار الجنرالات، كما عيّن ضباطا آخرين، في محاولة لسد أي ثغرة يمكن أن تتسبب في الانقلاب عليه.
رواندااتخذ الرئيس الرواندي بول كاغامي في اليوم نفسه الذي تم فيه انقلاب الغابون عددا من الإجراءات، أقال بموجبها 950 جنرالا وضابطا كبيرا، فضلا عن 930 ضابط صف وجنديا، إلى جانب رئيس أركان الجيش الجنرال جميس كابا.
وسرت شائعات مصاحبة لهذه الإجراءات حول الأسباب التي تقف وراءها، فالبعض تحدث عن محاولة انقلابية فاشلة، والبعض الآخر ربط الإجراءات بالخلافات بين رواندا والكونغو الديمقراطية.
سيراليونبعد أسبوع من انقلاب النيجر، تم إلقاء القبض على مجموعة من ضباط الجيش بتهمة التخطيط للإطاحة بالحكومة بينهم رتب عليا، وذلك باستغلال مظاهرات كان يتم الترتيب لها في تلك الفترة، وأكدت السلطات السيراليونية لاحقا أنهم فعلاً كانوا يخططون للانقلاب على السلطة.
ليبيريامخاوف الانقلاب في سيراليون والأخبار التي انتشرت، وضعت ليبيريا في حالة استعداد خوفا من حدوث انقلاب، في ظل استعدادات كانت تُجرى لإجراء الانتخابات الرئاسية.
قلق جيوسياسيأثار انقلاب النيجر قلقا جيوسياسيا على المستوى الدولي بعد أن عرّض منطقة الساحل لبعثرة في أجندتها وخلطا لأوراقها، وأصبح استمرار مجموعة دول الساحل الخمس على المحك بعد هذا الانقلاب، كما أصبح استمرار الإيكواس متماسكة محل شك كبير بسبب الاصطفافات بين أعضائها، وضعف إدارة ملف الانقلابات وكيفية التعاطي معها.
أما على المستوى الدولي، فسنجد أن انقلاب النيجر ضرب كل الاتفاقيات المبرمة مع الاتحاد الأوروبي وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية في مقتل، وذلك عبر إلغاء النيجر امتيازات فرنسا في اليورانيوم، وإلغاء الاتفاقيات العسكرية مع الاتحاد الأوروبي، وإلغاء قانون مكافحة تهريب البشر عبر الصحراء الكبرى.
بالنسبة للولايات المتحدة، لم توقف مساعداتها في البداية وتعاملت ببرغماتية واضحة، ولم تصنف ما جرى في النيجر على أنه انقلاب، ولم يطلب المجلس العسكري خروج قواعدها كما فعل مع فرنسا، والقلق هنا مبعثه خشية تمدد روسيا التي تترقب اللحظة المناسبة في كل من مالي وبوركينا فاسو المجاورة، مما يثير قلقا كبيرا لدى الغرب، فضلاً عن مخاوف تمدد الجماعات المسلحة التي تتوالد بشكل مخيف في منطقة غرب أفريقيا خاصة.
نهاية مرحلة وبداية أخرىوصف الكاتب ريتشارد بوبلاك في صحيفة "غلوبال آند ميل" ما يجري في أفريقيا بأنه "نهاية لمرحلة كبرى وبداية لمرحلة جديدة، خاصة فيما يخص فرنسا ووجودها التاريخي في أفريقيا"، في حين ذهب آخرون لوصف ما جرى في البلدين بأنه يسلط الأضواء على القضية المتعلقة بالسيادة الوطنية والحق في تقرير المصير في أفريقيا.
ما بين الرغبة في الاستقلال الحقيقي، والاستجابة لضرورات ودواعي الأمن الجماعي، وتداخلات مصالح الفاعلين الدوليين، تظل تطلعات الشعوب الأفريقية في الاستقرار والتنمية والازدهار على المحك، بين ما قد تشهده من مزيد من التداعي، وما قد يُعد مخاض ميلاد جديد.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: النیجر والغابون انقلاب الغابون انقلاب النیجر غرب أفریقیا فی أفریقیا ما جرى
إقرأ أيضاً:
إيران .. قراءة في صعود مشروع جيوسياسي بديل
«عمان»: منذ الثورة الإسلامية عام 1979، لم تكفّ إيران عن إثارة الحيرة في أروقة السياسة الدولية. دولة بقيت محاضرة بالعقوبات، لكنّها مع ذلك تمدّ ظلّها من شواطئ المتوسط إلى مضيق باب المندب. في كتابه الجديد، «صعود إيران ومنافستها مع الولايات المتحدة في الشرق الأوسط»، يقدم محسن ملاني قراءة دقيقة لما يمكن اعتباره أحد أكثر التحولات الجيوسياسية استعصاء على التفسير في العقود الأربعة الماضية: كيف نجحت إيران، رغم كل القيود، في إعادة رسم خرائط القوة في الشرق الأوسط؟
ينطلق ملاني من افتراض بسيط لكن إشكالي: أن إيران ليست مجرّد دولة، بل مشروع. ويقترح أن فهم هذا المشروع يتطلب تتبّع جذور القطيعة التي نشأت مع الولايات المتحدة، والتي لم تكن نتيجة تصادم لحظي، بل نتاج صراع سرديتين: سردية إمبراطورية عابرة للقارات، وسردية ثورية ترى في الهيمنة الغربية امتدادا للاستعمار. وبذلك، يتحوّل ملاني من تحليل الوقائع إلى تحليل البنية التي تنتجها، من تفسير السلوك إلى تفكيك الأسطورة.
قبل عام 1979، كانت طهران تُعتبر حليفًا نموذجيًا لواشنطن في مواجهة التمدد السوفييتي. لكن الثورة، كما يقول ملاني، لم تكتف بإسقاط النظام، بل أسقطت الرؤية الكونية المصاحبة له. وقد استبدلت إيران الشاهنية بالهوية «المستضعَفة»، وأعادت تعريف الجغرافيا السياسية للمنطقة من خلال بناء شبكات عابرة للدولة، تنظيمات مقاومة، وشبكات دعم أيديولوجي واقتصادي. وهكذا، برز مفهوم «محور المقاومة» ليس بوصفه خطابا تعبويا، ولكن كعقيدة إستراتيجية تتجاوز منطق الدولة التقليدية.
من أبرز ملامح الكتاب أن ملاني لا يسقط في الثنائية الأخلاقية المألوفة: إيران كدولة مارقة، أو كضحية. بل يسرد، بحذر شديد، كيف أن هذا الصعود لم يكن حتميًا، بل جاء نتيجة فراغات صنعتها الولايات المتحدة نفسها. فغزو العراق عام 2003، كما يبيّن المؤلف، لم يفتح المجال فقط لإزاحة نظام معادٍ لطهران، بل مهّد الأرضية لسيطرة إيرانية ناعمة على القرار السياسي الشيعي في بغداد. ومن هناك، بدأت إيران تُمسك بخيوط خارطة إقليمية جديدة، تصل إلى دمشق وبيروت وغزة وصنعاء.
غير أن هذا التمدد لم يكن بلا كلفة. يشير ملاني إلى أن إيران، رغم نجاحها في بناء نفوذ غير متماثل، تواجه تحديات وجودية متزايدة: اقتصاد منهك تحت وطأة العقوبات، احتجاجات اجتماعية متكررة، ومناخ إقليمي معادٍ بشكل متصاعد. وهو يذهب أبعد من ذلك حين يطرح سؤالًا محوريًا: هل تملك إيران القدرة على الاستمرار في هذه اللعبة، أم أن طبيعة استراتيجيتها ـ القائمة على شبكات غير رسمية ـ تحمل بذور انهيارها الذاتي؟
يتميز تحليل ملاني بقدرته على ربط المسارات المتوازية: كيف تتفاعل العقوبات مع الداخل الإيراني؟ كيف تقرأ إسرائيل دعم إيران لحماس وحزب الله؟ لماذا تشكل اتفاقيات التطبيع بين إسرائيل ودول عربية تهديدا غير مباشر لهذا المشروع؟ وما هي حدود الدور الصيني والروسي في دعم طهران، دون تبنّي مشروعها بالكامل؟
الأهم ربما هو أن الكتاب لا يروّج لفكرة أن إيران تُهدِّد النظام الدولي، بل يطرح احتمالًا مقلقًا أكثر: أن إيران، على عكس ما يُقال، نجحت في صياغة «نظامها الدولي الصغير»، الذي ينافس على الشرعية والامتداد، دون أن يعلن حربًا صريحة. هذا ما يجعل الولايات المتحدة عاجزة عن الحسم، فلا الحرب الشاملة مجدية، ولا التهدئة ممكنة. إنها، بتعبير ملاني، «حرب باردة هجينة»، تخوضها إيران بعقلية الحصار والاختراق، وتردّ عليها واشنطن بالأدوات التقليدية ذاتها التي فشلت في كوبا وكوريا الشمالية.
في الفصل الأخير، يتطرق ملاني إلى البُعد الأخلاقي باعتباره معضلة لصنّاع القرار في الغرب. فالتعامل مع إيران كعدو أبدي يُنتج قصر نظر استراتيجي، لكنه أيضًا يُعمي عن تطورات داخلية في بنية النظام الإيراني: جيل جديد أكثر وعيًا، وصراع صامت بين دوائر الحكم، ومحاولات لتحديث الخطاب من الداخل. هل هذا كافٍ لإحداث تغيير؟ لا يجيب ملاني بوضوح، لكنه يلمّح إلى أن الجمود الحالي يحمل في طياته إمّا الانفجار أو إعادة التموضع.
ختامًا، يقدم «صعود إيران ومنافستها مع الولايات المتحدة في الشرق الأوسط» قراءة ضرورية لفهم عالم يُعاد ترتيبه على وقع التوازنات الهجينة واللاعبين غير الرسميين. لا يسعى محسن ملاني إلى تبرئة إيران ولا إلى إدانتها، بل إلى فهمها، وهو ما يجعل كتابه عملًا نادرًا في زمن الاصطفافات الجاهزة. إنه ليس كتابًا عن إيران فحسب، بل عن أمريكا أيضًا، عن كيف ترى ذاتها من خلال مرآة العدو.
ولا ينقص من هذا الكتاب قراءته في وقت شهدت فيه الأحداث الأخيرة من المواجهة بين إيران والغرب، بل على العكس يبدو الكتاب أكثر أهمية الآن لأنه يساعدنا في فهم إيران من الداخل.