لماذا كان السودان فينا؟ الدولة الزعازع، الثورة الوتد
تاريخ النشر: 19th, December 2023 GMT
13 نوفمبر 2021
لا أعرف متى سمعت أول مرة أن السودان بلد آيل للشتات. وكانت صيغة الاشفاق عليه من التفرق شيعاً هي مخافة "اللبننة والصوملة". وهما حالتان حادتان من تبخر الدولة. فكانت اللبننة في ١٩٧٥ ببدء الحرب بينما وقعت الصوملة بعد سقوط سياد بري في ١٩٩١. وكنت أقول للمشفقين: "فأل لله ولا فألكم. فالسودان محروس".
فما مصدر تفاؤلي إذاً والظن المدجج أننا بلد يُنتقص من أطرافه؟ وأسارع للقول بأنه ثقتي في الثورة السودانية لا الدولة القائمة فينا وحكوماتها.
قرأت في "الفورين أفيرز" قبل أيام مقالة حسنة عن الشتات المنتظر لأثيوبيا كما خلال حرب التقراي. وجاء الكاتبان بمصطلحات في صمامة الدولة رغبت في استثمارهما في قناعتي أن بلدنا محروس إن شاء الله من مثل المصير الذي ينتظر أثيوبيا. وأقول، عرضاً، إن كثيراً من المشفقين كانوا يضربون، متى نعوا علينا انفراطنا المؤدي للهلاك، بوسامة أثيوبيا ذلك الجبل الذي لا يهزه ريح.
قال الكاتبان تتوقف صمامة كل دولة على أنها إما مُسْتَجمعة (centripetal) أو مُشَعَثة (centrifugal). فالمستجمعة هي التي تغلب فيها عناصر الوحدة دون المشعثة التي تغلب فيها عناصر الشتات. وبجانب خدمات الحكومة للأمة، تجد الناس في الدولة المستجمعة قد تواثقوا على عقيدة أنهم أهل في دولة واحدة. أما الدولة المشعثة فتخلو من مثل هذه العقيدة. فتغلب فيها عناصر الفرقة من تمكن الإثنيات والتقسيم الاجتماعي. وقال الكاتبان إن تحدي أبي أحمد هو تكاثر زعازع الشعث.
من الغلو بالطبع أن أنكر "تكاثر الزعازع وتناقص الأوتاد" وهي عبارة منصور خالد في أيلولة السودان للتفرق أيدي سبأ. وقولته وبيانه يغريان أن نرى السودان بلداً مشعثة لا مستجمعة. وهي شعوثة في الحكم لم تهدأ لنا ثائرة عليها. فنقضنا غزلها في ١٩٦٤ و١٩٨٥ و٢٠١٨. وكانت ثورات بوجه نظم عسكرية لم تتورع من تشعيث الوطن لضمان استمرار حكمها. فحلت في بيانها الأول النقابات، والأحزاب، وضيقت على الطوائف الدينية التي هي قاعدة تلك الأحزاب. وجميع ما ذكرت من عرى السودان الحديث الواحد. فالولاء لها عابر للقبيلة المشدودة إلى جغرافيا غاية في المحدودية. بل بلغ التشعيث بهذه الحكومات حد حل الهلال والمريخ اللذين هما أكثر انتماءات السودانيين طرافة ورحابة.
وترافق مع ذلك تبنيها لخطة أو أخرى من الحكم الإقليمي بمجالسه النيابية. فاصطرع المرشحون لمقاعدها بتحشيد هذه القبائل، بل وبطونها إن لم تكن فخاذها. وفاقمت الإنقاذ من هذه القبائلية فزعزعت الديكتاتوريات البلد زعزعة. فأصدرت مثل قانون الحكم المحلي لعام ١٩٩٨ في سياق حرب الجنوب لتعبئة الإدارة الأهلية لاستنفار المتطوعين للجهاد. واستدعت بتسميتهم "أمراء" تاريخ المهدية الذي جعل زعماء القبائل أمراء حرب عليها. وكان ذلك الترتيب في أكثر صوره ضراوة تجييشاً ل"العرب" ضد "الزرقة" الذي ردنا قرونا سحيقة في الماضي.
لو لم تكن فينا غير هذه الحكومات لرجح فينا التشعيث. فلم تترك حكومة مثل الإنقاذ طوبة فيه لم تقلبها لتطويل عمرها السدى في الحكم. بل بلغ السوء من خططها المشعثة أن ضاقت هي نفسها ذرعاً بالخصومات القبلية فقررت تعيين الولاة بدلاً عن انتخابهم بنص الدستور لفشو القبلية في انتخاباتهم فشواً مرضياً. وكان العزاء دائماً في الثورة منذ ١٩٦٤ التي هي طاقة استجماع الوطن حول رؤية مدنية ديمقراطية من فوق المنابر العابرة للولاءات القبلية الضيقة في النقابة والحزب وسائر المنظمات التي ينتمي الناس اليها مواطنين مستحقين بلا اشتراط مسبق في الدين والعرق والنوع والقبيلة. وظلت هذه الرؤية ميثاقاً بين أطراف شعبنا لدولة منتظرة في نهاية النفق. فهي العشم الذي عصمنا من الانزلاق في التشعيث على أن دولتنا تحت حكم الديكتاتوريين لم تترك فرضاً ناقصاً في ارتكابه ولا سنة ولا مندوباً. كانت هذه الرؤية الشجاعة هي التي تواثقت عندها أطراف الوطن بصور شتى وإن اختلفت مفرداتها وسبل تحقيقها.
قلت لنفسي "هذه عروة الوطن الوثقي" حين كنت أطالع مواكب ٢١ أكتوبر الأخيرة في ذكرى ثورة كنت من شبابها منذ نحو ستين عاماً. لم ينسوا شيئاً وتعلموا أشياء. لقد تكاثرت الزعازع، ولكن أوتاد الوطن موتدة في الثورة ما يزال. لم تقم الدولة بما يلم الشعث من تنمية وعمران فحسب، بل فتقتها فتقاً اتسع على الراقع. وبقيت الثورة هي فسحة الأمل: نالنا ما نالنا من الأذى وانكسرنا، ولكننا نستميت ( We are broken but not finished).
IbrahimA@missouri.edu
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
ما هي الدولة الأوروبية التي تعيد معظم المهاجرين غير الشرعيين؟
أشار سياسي برتغالي إلى أن لشبونة هي إحدى الدول التي تعيد أقل عدد من المهاجرين غير الشرعيين في الاتحاد الأوروبي. ولكن هل هذا صحيح؟ اعلان
تُعدّ الهجرة غير الشرعية موضوعًا ساخنًا للنقاش في السياسة الأوروبية في الوقت الحالي، وغالبًا ما تثير ادعاءات مشكوك فيها، وآخرها من البرتغال.
فقد صرح مؤخرًا وزير شؤون الرئاسة البرتغالي أنطونيو ليتاو أمارو، وهو من الحزب الاجتماعي الديمقراطي اليميني الحاكم، بأن الحزب الاشتراكي فشل في معالجة قضية الهجرة غير الشرعية خلال السنوات الثماني تقريبًا التي قضاها في الحكومة بين عامي 2015 و2024.
وقال إن البرتغال "واحدة من الدول التي تعيد أقل عدد من المهاجرين غير الشرعيين"، ولكن كيف يمكن مقارنة إحصائيات لشبونة مع بيانات دول أخرى في الاتحاد الأوروبي الأخرى في مجال إعادة المهاجرين غير النظاميين؟
لمعرفة ذلك، يمكننا إلقاء نظرة على إحصائيات يوروستات الرسمية، التي تسجل مواطني الدول الثالثة الذين تتم إعادتهم بعد صدور أمر بمغادرة كل دولة من دول التكتل.
بالفعل، تُصنّف البرتغال باستمرار كواحدة من الدول التي تسجل أدنى معدلات العودة.
على سبيل المثال، فإن أحدث مجموعة بيانات تشمل كل دولة عضو في الاتحاد الأوروبي في الربع الثالث من عام 2024، التي تُظهر أن سلوفاكيا هي الدولة الأقل في إعادة المهاجرين غير الشرعيين، حيث أعادت 55 شخصًا، تليها سلوفينيا بـ 80 شخصًا ثم البرتغال بـ 85 شخصًا.
على الجانب الآخر كانت فرنسا على الطرف النقيض، حيث أعادت ما يقرب من 4,000 شخص، تليها ألمانيا وإسبانيا بما يزيد قليلاً عن 3,000 شخص لكل منهما.
Relatedالبرتغال تُعلن عن طرد 18,000 مهاجر غير شرعي عشية الانتخابات البرلمانية المبكرةكيف تسعى إسبانيا لتسوية أوضاع 900 ألف مهاجر في ثلاث سنوات؟ قمة "ميد5" تدعو لتعزيز دور وكالة فرونتكس للهجرة وتوسيع اتفاقات العودة مع دول ثالثةو وفقًا ليوروستات، تظهر الأرقام أنه في الربع الأول من عام 2025، أعادت فرنسا وألمانيا وقبرص هذه المرة أكبر عدد من المهاجرين غير الشرعيين، وجاءت لوكسمبورغ وسلوفينيا وسلوفاكيا في المؤخرة.
ولا تزال الأرقام البرتغالية لهذا الربع غير متوفرة على يوروستات، لكن البلد كان بشكل عام ومنذ عام 2022، في ذيل القائمة في البيانات الصادرة كل ثلاثة أشهر.
الشيء نفسه ينطبق على عدد أوامر الخروج من الاتحاد الأوروبي التي أصدرتها كل دولة عضو في التكتل، دون أن تكون قد نفذتها بالضرورة حتى الآن.
تُظهر أرقام يوروستات أن سلوفاكيا أصدرت أقل عدد من أوامر المغادرة للمهاجرين غير الشرعيين في الربع الثالث من عام 2024 (80)، تليها البرتغال (120) وإستونيا (135).
وجاءت فرنسا في الصدارة بـ 30,800، لكن ألمانيا (13,660) وإسبانيا (13,645) احتلتا مجددا المركز الثالث.
تشير الأرقام إلى أن الاتحاد الأوروبي ككل يكثف جهوده لتضييق الخناق على الهجرة غير الشرعية.
وتكشف الأرقام الجديدة الصادرة الاثنين أنه في الربع الأول من عام 2025، تلقى أمر بمغادرة 123,905 مواطنين أمرا بضرورة مغادرة دولة من دول الاتحاد الأوروبي فيما أُعيد 28,475 شخصًا إلى دول ثالثة بعد صدور أمر بالمغادرة.
وبالمقارنة مع الربع الأول من عام 2024، ارتفع عدد المواطنين من خارج التكتل الذين صدرت بحقهم أوامرُ بالمغادرة بنسبة 18.4%، وشهد عدد الأشخاص الذين أعيدوا إلى دول ثالثة زيادة بنسبة 6.4%.
انتقل إلى اختصارات الوصولشارك هذا المقالمحادثة