يرى المفكر والأكاديمي التونسي أبو يعرب المرزوقي أن غالبية المثقفين العرب "أبعد الناس عن المقاومة" معتبرا أنهم "لو كانوا حقا يؤمنون بالمقاومة التي تحقق تحرير الأوطان وتحرر الإنسان لما كانوا أكثر المحاربين للربيع وأكثر المدافعين عن التبعية الحضارية".

واعتبر المرزوقي -الحاصل على إجازة الفلسفة من جامعة السوربون ودكتوراه الفلسفة العربية واليونانية 1991- أن "النظام الديمقراطي الغربي يجعل النجاح السياسي رهن المال الفاسد والإعلام المضلل.

وهم في ذلك لا يختلفون عن الأنظمة الاستبدادية العربية".

وعمل المرزوقي أستاذا للفلسفة العربية واليونانية بالجامعة التونسية، وكان عضو المجلس العلمي للمجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون-بيت الحكمة، الذي تولَّى إدارة قسم الترجمة فيه، وتحدث للجزيرة نت عن دلالات عملية طوفان الأقصى الثقافية والإستراتيجية، فإلى الحوار:

ما دلالات عملية طوفان الأقصى في ظل التحولات الجارية عربيا ودوليا؟

الجواب عن هذا السؤال حول دلالة عملية "طوفان الأقصى" قد يتعلق بالدلالة الحاصلة بعد الطوفان، فتكون ثمرته ودلالة على فاعليته العالمية، أو قبله فيكون من ثمراتها وناتجا عن الانفعال بها.

ففي الحالة الأولى الدلالة متعلقة بفعل في التحولات الجارية عربيا ودوليا. وفي الحالة الثانية تكون الدلالة متعلقة بانفعال بالتحولات فيه. فتكون العملية فاقدة للأبعاد المرجوة منه، لأنها في أقصى الحالات لن تتجاوز إضافة محمية عربية إلى الـ22 التي تتألف منها الجامعة العربية.

وهذا هو المعنى الثاني الذي يسعى إليه كل من يريد أن يحجم مفعول الطوفان لينهي مفعول الزلزال الذي نتج عن فاعليته والنصرين اللذين يراد إخفاؤهما بكل الوسائل التي تفسر خذلان العرب لغزة ولفلسطين وسعيهم المتسارع لقتل القضية واستكمال التطبيع، بل القضاء على كل أمل في تحرير الأوطان منعا لتحرر الإنسان في بلاد العرب من الماء إلى الماء.

إذا كان فعلا يستحق الوصف بكونه طوفان الأقصى تكون الدلالة تحرير الـ22 دولة من منزلة المحميات الخاضع نصف منها إلى إسرائيل والغرب حاميها وخاصة زعيمته أي أمريكا ونصف منها إلى إيران والشرق حاميها وخاصة زعيمته أي روسيا

وإذا كان انفعالا فهو لا يستحق الوصف بكونه طوفان الأقصى بل هو فرصة لإضافة محمية عربية أخرى إلى التي تتألف منها الجامعة العربية فتكون مثلها معزولة السلاح وتابعة مثلها إما للشرق أو للغرب ولن تقوم بعدها للعرب قائمة

في الحالة الأولى، أي إذا كان فعلا يستحق الوصف بكونه طوفان الأقصى تكون الدلالة تحرير الـ22 دولة من منزلة المحميات الخاضع نصف منها إلى إسرائيل والغرب حاميها وخاصة زعيمته أي أميركا ونصف منها إلى إيران والشرق حاميها وخاصة زعيمته أي روسيا.

أما في الحالة الثانية فالدلالة الأقصى، أي إذا كان انفعالا فهو لا يستحق الوصف بكونه طوفان الأقصى، بل هو فرصة لإضافة محمية عربية أخرى إلى التي تتألف منها الجامعة العربية، فتكون مثلها معزولة السلاح وتابعة مثلها إما للشرق أو للغرب، ولن تقوم بعدها للعرب قائمة. فتكون الأنظمة التي تعمل جاهدة مع إسرائيل وأميركا لتصفية القضية وإنهاء مقاومة حماس قد أنهت القضية، وثبتت تبعيتها لإسرائيل وحماتها ولإيران وحماتها.

والأخطر في هذه الحالة هو استكمال ما يسعى إليه الغرب من بناء الحلف بين الهند وإسرائيل للإحاطة بالعرب ومنعهم من التنمية المادية والعلمية شرطي السيادة وما يسعى إليه الشرق وإيران للإحاطة بالعرب للغاية نفسها، فيكون العرب ومعهم كل المسلمين قد أخرجوا مرة ثانية من التاريخ كما حصل في حروب الاسترداد عندما أحاط الغرب -وقد كان القطب الوحيد-بجغرافية الإسلام تفتيتا وبتاريخه تشقيقا وبحضارته تشويها وبنخبه مسخا ومن بجعله أشبه بالهنود الحمر ينتظر غيرهم ليحدد مصيرهم، فيفنيهم بالتدريج مرتعا لسلطانه على العالم، وجل ثرواته ممراته وكلها تمر بأرض الإسلام.

هل تمثل هذه العملية نقطة تحول من جمود وتراجع إلى مرحلة نمو طبيعي للشعب الفلسطيني خاصة والعالمي عامة؟

ما القصد بالمقابلة بين الجمود والتراجع والنمو الطبيعي؟ وما علة الوصل بين حدوثه واجتماعه عند الشعب الفلسطيني خاصة والعالمي عامة؟ ذلك أن جل المتحالفين ضد حماس والناكرين لشرعية الطوفان يرون ما حصل دالا على الجمود والتراجع بدليل وصف حماس بـ"الإرهاب وداعش الثانية".

وهو توصيف هدفه تعليل الخذلان العربي الرسمي ومحاولة إقناع الشعوب بأن تقبل هذا الموقف الرسمي، فيكون القصد جمعا بين محاولة القضاء ثورة تحرر المواطن في الربيع ومحاولة تحرير الوطن في فلسطين. لذلك فالهم الرئيس للأنظمة العربية هو انتظار حسم إسرائيل بأسرع ما يمكن حتى يرتاحوا من تحرير ثورة تحرير الأوطان في فلسطين بعد أن ظنوا أنهم قد ارتاحوا من تحرير المواطنين في الربيع.

في الحقيقة ما يرعب الأنظمة العربية بصنفيها التي تستعبدها إسرائيل وأميركا، والتي تستعبدها إيران وروسيا هو بعدا النصر في معركة طوفان الأقصى -وهي معركة وليست حربا- ويمكن اعتبارها رابعة المعارك المتقطعة في غزة والمتواصلة في الضفة بأساليب مختلفة:

طوفان الأقصى بيّن هشاشة قوة إسرائيل بدليل لجوئها من اليوم الثاني إلى المدد الأميركي والغربي.

البعد الأول إنهاء أسطورة الجيش الذي لا يقهر وإنهاء أسطورة حلف الممانعة الذي تقوده المليشيات التي لا تقهر في آن. فطوفان الأقصى بيّن هشاشة قوة إسرائيل بدليل لجوئها من اليوم الثاني إلى المدد الأميركي والغربي. وطوفان الأقصى بيّن أكاذيب عنتريات إيران ومليشياتها، إذ أكدت أنها أوهى من إسرائيل بدليل هزيمتها السباقة في سوريا، ولجوئها إلى بوتين الذي حماها بتمويل عربي.

فما حققه الطوفان عسكريا، في يوم واحد عرّى التبعيتين العربيتين لمستعبديهم من الغرب والشرق وهو مخيف للأنظمة، لأنه قد يشجع الشعوب لاستئناف ثورة التحرر بعد تبين هشاشة حماة من يسعون لإفشاله فيجمع تحرير الأوطان وتحرر الإنسان، ويعود العرب والمسلمون لدورهم في التاريخ العالمي.

لا أحد اليوم في الغرب -إذا ما استثنينا الرسميين سياسيين ونخبا- ما زال يصدق سرديات إسرائيل والتظاهر بكون إسرائيل رمز الحضارة والتقدم والديموقراطية محاصرة بشعوب بدائية تهددها بهولوكوست ثان بعد أن نجاهم الغرب من الأول في حين أنه هو مصدر كل الهولوكوستات التي مر بها اليهود.

لكن البعد الثاني، رغم كونه ليس عسكريا أهم من البعد الأول: إنه إسقاط السرديتين الإسرائيلة والإيرانية. فلا أحد اليوم في الغرب -إذا ما استثنينا الرسميين سياسيين نخبا- ما زال يصدق سرديات إسرائيل والتظاهر بكون إسرائيل رمز الحضارة والتقدم والديمقراطية محاصرة بشعوب بدائية تهددها بهولوكوست ثان بعد أن نجاهم الغرب من الأول، في حين أنه هو مصدر كل الهولوكوست التي مر بها اليهود بعد السبي البابلي والحماية الفارسية والتشتيت الروماني إلى الكاثوليكي فالروسي فالهتلري.

الطوفان حرر شباب الغرب ونخبه الحرة من الابتزاز الصهيوني بصنفيه اليهودي والمسيحي في الولايات المتحدة خاصة وهي سر قوتهم. ذلك هو الغنم الاكبر لفاعلية الطوفان: إنه تسونامي خلقي بطيء الأثر لكنه أكثر من زلزال كوني سيغير وجه الأرض كلها.

وبهذا المعنى فالطوفان حرر شباب الغرب، ونخبه الحرة من الابتزاز الصهيوني بصنفيه اليهودي والمسيحي في الولايات المتحدة خاصة وهي سر قوتهم. ذلك هو المغنم الأكبر لفاعلية الطوفان: إنه تسونامي خلقي بطيء الأثر، لكنه أكثر من زلزال كوني سيغير وجه الأرض كلها.

أما المغنم الثاني، فإنه قد حرر السذج من توهم إيران تسعى لتحرير فلسطين بشعارات فيلق القدس الذي يستعمل هذا الشعار للتغطية على الخطة التي يحققها بالتدريج بأيد عربية مكنته من احتلال العراق وسوريا ولبنان واليمن، ويستعد لاحتلال الخليج كله وخاصة مكة والمدينة، حتى تحقق شروط استرداد إمبراطورية فارس: وقد أعلنوا عن ذلك لما قال كبارهم ها نحن قد استرددنا 4 عواصم عربية من أرض فارس.

لذلك فكل مليشيات إيران العربية تستعد لتحقيق هذا الهدف بحيث إنها منذ حرب العراق وإيران إلى الآن لم تنل منهم إسرائيل إلى الوعيد بالرد في الوقت المناسب والزمان المناسب؛ لأنهم متفرغون لاحتلال الهلال واليمن والإحاطة بالهدف الأساسي أي الخليج والمعالم المقدسة، حتى تصبح إيران محكمة في أقدس الأقداس في الإسلام والعبث به كما تعبث بتاريخه انتقاما لآل بيت كسرى، وليس لآل بيت الرسول.

أعرب بعض المفكرين والمثقفين وعلماء الدين العرب عن استعدادهم للمشاركة في طوفان الأقصى وقتال الاحتلال الإسرائيلي، هل يشير ذلك إلى تفضيلهم لخيار المقاومة العسكرية وفقدان الأمل في المشاريع الفكرية والسياسية القائمة بالعالم العربي؟

لا تكلمني على ما يقول المثقفون. فغالبيتهم الساحقة أبعد الناس عن المقاومة لا العسكرية ولا الفكرية، وإنما هم "عياشة". لذلك فلا أريد أن أعلق على هذه الكذبة. ولو كانوا حقا يؤمنون بالمقاومة التي تحقق تحرير الأوطان، وتحرر الإنسان لما كانوا أكثر المحاربين للربيع وأكثر المدافعين عن التبعية الحضارية وخاصة في المغرب العربي، فالمسيطر منهم على الساحة هم أحباب الأنظمة وعملاؤها وعملاء الاستعمار الفرنسي خاصة، لأنهم يستمدون منه الشهرة والنجومية.

أظهر طوفان الأقصى تحيز علماء ومثقفين غربين كبار ضد حق الشعب الفلسطيني في العيش في وطنه ومقاومة الاحتلال، رغم أنهم كانوا يدافعون عن ضرورة تمتع جميع الشعوب بحقوق الإنسان، كيف تقرؤون ذلك؟

هذا حكم لا يطابق الواقع. فقلة من العلماء والمثقفين الغربيين وقفوا هذا الموقف. في الحقيقة غالبية العلماء والمثقفين الغربيين كانوا أقرب إلى العدل والتاريخ، ولولاهم لما حصل التغير الكيفي في الرأي العام الغربي إلى حد جعل 70% من شباب الغرب يساند فلسطين ويعري السرديات الغربية والصهيونية ضد فلسطين. وهذا بين في الحركات الطلابية والجامعية.

النظام الديمقراطي الغربي يجعل النجاح السياسي رهن المال الفاسد والإعلام المضلل. وهم في ذلك لا يختلفون عن الأنظمة الاستبدادية العربية. ومن ثم فالدولة العميقة التي تتحكم في النخبة السياسية الغربية من جنس التي تتحكم في النخبة السياسية العربية.

كيف تنظر إلى إصرار الدول الغربية على إنقاذ ومساعدة الاحتلال الإسرائيلي، رغم الرفض الشعبي الغربي المتواصل للحرب على غزة؟

لذلك علاقة بأمرين، الأول هو أن النظام الديمقراطي الغربي يجعل النجاح السياسي رهن المال الفاسد والإعلام المضلل. وهم في ذلك لا يختلفون عن الأنظمة الاستبدادية العربية. ومن ثم فالدولة العميقة التي تتحكم في النخبة السياسية الغربية من جنس التي تتحكم في النخبة السياسية العربية.

والثاني وهو تابع للتاريخ المديد، تغير الرأي العام الشعبي مؤثر، ولكن على المدى الطويل لما يصبح النجاح السياسي في الانتخابات مرتهنا بثمرة هذا التغير. والمعلوم أن ذلك بطيء، ولهذه العلة فقد نصحت الفلسطينيين بأن يساعدوا في تنمية تأثير هذا التغير بدبلوماسية شديدة التيسير في مطالبهم. من ذلك أن كثرة الكلام على فلسطين من النهر إلى البحر ليس إلا خدمة لسردية إسرائيل فضلا عن كونه مستحيل التحقيق حاليا. في حين المطالبة بتطبيق القانون الدولي والرضا بالتقسيم، وليس بما بعد 67، كاف لتحقيق هذا المطلب دون حاجة لذكره.

فالإسرائيليون لن يقبلوا به فيكونوا محجوجين، لأنهم يقطعون الغمس الذي يجلسون عليه، فيساعدون في إسقاط كل سردياتهم، ويتبين للعالم أن الإرهابي هو المحتل والعنصري الذي لا يريد التعايش من الفلسطينيين.

وإذن، فالقبول بالتقسيم طعم دبلوماسين لأن إسرائيل لا تستطيع الرد عليه ردا مقنعا، ووضعه هدفا لعدم خسران الرأي العام الدولي بمواقف متشددة لا حاجة إليها، لأن وضعها يعني تأييد السردية الإسرائيلية بأن الفلسطينيين يريدون رمي اليهود في البحر بالعقلية نفسها التي كانت من شعارات صوت العرب، وقد رأينا أنه كان قولا بلا فعل والمستفيد منه هو سرديات إسرائيل وليس الحقوق الفلسطينية.

ما التأثيرات القريبة والبعيدة المدى لطوفان الأقصى على ميادين الحياة بالعالم العربي عامة، وعلى مجال العلم والفكر خاصة؟، وقبل طوفان الأقصى، كان العالم العربي محاصرا بتحولات في مفاهيم الكثير من القيم، هل اتضحت الرؤية للجميع عربيا وعالميا؟

هذان السؤالان من توقع الممكن بمجرد التخمين. فالمستقبل من الغيب، ولا أريد أن أرجم بالغيب، وكل ما ليس من الغيب فيهما -أي طبيعة الإستراتيجية الإسرائيلية والإيرانية وحماتهما والإستراتيجية الفلسطينية والشعوب العربية- ليس عندي بخصوصها ما يكفي من المعطيات حتى أقضي في الأمر قضاء له سند يؤيده التحليل العقلي الرصين. ثم إني لا أستطيع الحكم جزافا على حرب معاركها الكثيرة لم تحصل بعد وكأنها قد حسمت لصالح أحد الطرفين حتى في فلسطين ناهيك عنها في العالم.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: فی الحالة منها إلى إذا کان

إقرأ أيضاً:

هكذا تواجه روسيا الغرب المنقسم

تنشغل مراكز البحث في الولايات المتحدة الأميركية، وفي العديد من الدول الغربية في البحث عن مكامن روسيا، خاصة أن الحرب الروسية الأوكرانية كشفت عن ثغرات كثيرة على الضفتين؛ الروسية والغربية.

فروسيا استطاعت الصمود في وجه العقوبات الغربية بصورة لم يتوقعها الغرب نفسه، في الوقت الذي تطارد فيه روسيا الآخر في كل مكان، خاصة في أفريقيا، فهل روسيا لديها تصورات وخطط لمواجهة الهيمنة الغربية والأميركية على العالم وتهديدها للمصالح الروسيّة .

لكي ننطلق في هذا الموضوع، لا بدّ من قراءة التفكير الإستراتيجي لروسيا، فتصورها لذاتها هي أنها قوة عظمى استثنائية على الساحة الدولية، مدعومة بالأساطير الوطنية للتراث الأرثوذكسي مع عالَم روسي فريد من نوعه، فالسردية الروسية تذهب إلى أن مشاعر القوة العظمى لها جذور تعود إلى قرون سحيقة، جرحت الولايات المتحدة وأوروبا الغربية كرامةَ هذه القوة، وامتد ذلك إلى المجال الحيوي الإستراتيجي لهذه القوة، وهو ما مسّ كبرياءها، فكان التماسّ مع الجغرافيا الروسية يهدد شعور هذه القوة بالأمن.

روسيا مع الحرب الأوكرانية تمهّد إلى عالم متعدد الأقطاب قادم، لذا فهي تعتمد سياسات لتقويض الهيمنة الغربية على العالم، بعض هذه السياسات آتى أُكله، والبعض الآخر أخفق، لذا ذهبت روسيا لعدد من السياسات ترتكز على ما يلي:

إعلان

سعت روسيا خلال السنوات الماضية إلى الحفاظ على هيمنتها على دول الاتحاد السوفياتي السابق، فهي من وجهة نظرها مجالها الحيوي، خاصة مع وجود جاليات روسية بها تدعم النفوذ الروسي، فربطتها روسيا عبر منظمات إقليمية تربطها أمنيًا واقتصاديًا، فاستفادت روسيا من هذا في تقويض العقوبات الغربية ضدها.

فدول الاتحاد الاقتصادي الأوراسي باتت الباب الخلفي لتقويض هذه العقوبات، ولذا نرى تركيزًا روسيًا على منظمة شنغهاي، ومجموعة البريكس؛ لتقويض الهيمنة الغربية على الاقتصاد العالمي، مع إنهاء هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي.

يرى العديد من الخبراء الروس أن تقويض الهيمنة الأميركية على العالم، يأتي من خلال أخطاء الغرب ذاته، مثلما حدث من أخطاء قاتلة في حرب الولايات المتحدة في أفغانستان وانسحابها، وحرب غزة الأخيرة، وهو ما أدّى إلى عدم استقرار الأمن العالمي، وانعدام التعاون الدولي، وهذا ما عزّز الدعوة لمأسسة نظام عالمي جديد، والتمهيد لمرحلة ما بعد الغرب.

التدخل الروسي المباشر لدعم ومساندة الموالين لها والمتوافقين معها سياسيًا، مثلما حدث في الانتخابات الرومانية الأخيرة، فضلًا عن تعزيز البعد الجيوسياسي للحملات المناهضة لتعزيز الديمقراطية والقيم الليبرالية، من هنا نرى دورًا لروسيا في دعم النخب السياسية والأحزاب المعارضة للناتو والاتحاد الأوروبي، كما تسعى روسيا إلى مفاقمة الاستقطاب السياسي والحركات الانفصالية في الدول الغربية عبر حملات التضليل.

هذا ما جعل النخب الروسية تصرّح علنًا بأنّ الولايات المتحدة في حالة تراجع كقوة مهيمنة عالميًا، وأن النظام الدولي غير مستقر، ويخضع لتحول عميق، لذا هنا نرى زاوية رؤية تعتمد على أن الغرب مجزأ، وهذا ما أثبته ترامب حين وضع مصالح الولايات المتحدة أولًا حتى ولو جاء ذلك على حساب حلفاء أوروبا التقليديين مثل أوروبا الغربية واليابان، فصارت صناعة السيّارات في ألمانيا واليابان مهددة، وعلى رغم التنسيق المفرط، وتوسيع عضوية الناتو ليضم السويد وفنلندا؛ بسبب حرب أوكرانيا، فإن الغرب ذاته منقسم حول هذه الحرب.

إعلان

يذهب الروس إلى أن أجندة نشر الديمقراطية والليبرالية الأميركية لطالما كانت غطاء لتغييرات جذرية في العديد من الدول، فالثورات الملونة في جورجيا (2003)، وفي أوكرانيا (2004)، وفي قرغيزستان (2005)، قامت على يد شخصيات ذات ميول غربية تحركها يد غربية، وليست نتاجًا لسخط عام، وجاء دعمها عبر منظمات غير حكومية وجهات مانحة إقليمية، وهذا ما حدث في رأيهم في ليبيا التي أوجد التدخل الغربي بها حالة من حالات الفوضى، وعدم الاستقرار.

وكان بوتين جادل في عام 2019 بأن الأفكار الليبرالية "عفا عليها الزمن"، وأن القيم التقليدية أكثر استقرارًا وأهمية كمعيار عالمي مضاد لليبرالية، لذا فروسيا تركز في هذا الإطار على الأُسرة وليس الفرد والدين، وهذه رؤية كانت جذابة بالنسبة للحركات اليمينية والمحافظة في أوروبا.

تدعم الولايات المتحدة بعض الأنظمة الدكتاتورية أو غيرها، وهذا ما يعتبره الروس نفاقًا مفرطًا لتحسينهم صورة هذه الأنظمة، ويبرز ذلك عند استخدام الولايات المتحدة القواعد والأعراف والقوانين الدولية فقط عند اللزوم، فانتقدت روسيا الغرب وأميركا عند اعترافهما بكوسوفو كدولة مستقلة، بحجة أن هذا لن يشكّل سابقة، واعتبر الروس هذا مثالًا واضحًا على عدم التزام أميركا وحلفائها بالقانون الدولي، وهذا ما وفّر في ذات الوقت سابقة لروسيا لتبرير اعترافها باستقلال إقليمَي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية عن جورجيا.

على الجانب الآخر كان رفض روسيا التدخل لصالح أرمينيا في حرب أذربيجان لاستعادة إقليم ناغورني قره باغ، مقوضًا لمنظمة الأمن الدفاعي الجماعي التي أنشأتها، ففقدت أرمينيا ضمانات الأمن الروسية، ونتيجة لذلك تحول الرأي العام الأرميني تجاه روسيا.

لكن على الجانب الآخر ساندت روسيا حليفها قاسم جومارت توكاييف رئيس كازاخستان في التمرّد الذي واجهه، وهو ما يجعل روسيا حليفًا يعتمد عليه في رأي عدد من دول آسيا الوسطى، لكن أيضًا شكّل فشل روسيا في تسويق لقاح سبوتنيك أثناء جائحة كورونا، مثلًا، روّجه الغرب على محدودية القدرات الروسية، بالرغم من سبقها في إنتاج لقاح لوباء كورونا، وهذا يعود لأسباب إنتاجية، ثم تسويقية، ففازت الصين ومعها الغرب على حساب روسيا.

إعلان

على الطرف الآخر، تستخدم روسيا بمهارة فائقة حرب المعلومات لتعزيز التضليل على مستويات متعددة محليًا وإقليميًا ودوليًا، من خلال أنظمة معقدة، وهذا ما وضح بتدخلها في عددٍ من الاستحقاقات الانتخابية الغربية، لمساندة حلفائها، وهذه الوسيلة اعتبرت في روسيا أداة لتقويض القوة الناعمة الأميركية.

تقوم السياسة الروسية على التعاون مع الصين في مناهضة الولايات المتحدة، حتى إن الرئيس الصيني ذكر أن التعاون بينهما هو "شراكة بلا حدود"، فقدمت الصين الكثير لروسيا، لكن في الوقت ذاته تدرك روسيا أن الصين لن تعوضها عن السوق الغربي، خاصة في الغاز والنفط، وفي حقيقة الأمر، الفائز في الصراع الروسي الغربي هي الصين التي شُغل الغرب عنها بمواجهة روسيا، وهذا ما يدركه الرئيس الأميركي ترامب.

لكنْ هناك جانب غير مشاهد الآن في المنافسة الأميركية الروسية، وهو السيطرة على القطب الشمالي، وهذا ما يفسر اهتمام ترامب المتزايد بغرينلاند، فروسيا وضعت إستراتيجياتها للقطب الشمالي على أهمية تعزيز الاستعداد القتالي والتعبئة، فبنت قاعدة تريفل العسكرية به.

وفي جانب آخر، سعت إلى سياسات واقعية فوقّعت على اتفاقية مع النرويج في عام 2010 التي شهدت نزاعًا حدوديًا دام 40 عامًا من خلال اتفاق خط تعيين الحدود في بحر بارنتس، وهذا ما قوّض مقولات متعلقة بعدائية روسيا تجاه جيرانها، وفي ذات الوقت تسعى روسيا إلى الترويج لطريق الحرير القطبي عبر القطب الشمالي، وهو الذي سيقلل من تكلفة نقل السلع الصينية إلى أوروبا وغيرها.

يقرع القطب الشمالي آذان الروس ليس بالثروة المتعددة فحسب- فهو على سبيل المثال به 30 % من احتياطات الغاز غير المكتشفة في العالم- بل أيضًا بوصفه امتدادًا لحدود الإمبراطورية الروسية، حيث إن روسيا جسديًا لديها نصف ساحل القطب الشمالي، ومن هنا فإن الولايات المتحدة التي لديها ألاسكا في القطب الشمالي، ترى أن لها استحقاقات في هذا القطب، من هنا فإن غرينلاند هي نقطة تماسّ بينهما.

إعلان

إن كلّ ما سبق يلخّص كيف تقوّض روسيا الهيمنة الأميركية، ومعها الغرب الأوروبي، على العالم، فروسيا تسعى لتعزيز عمقها الإستراتيجي من أجل البقاء الوطني، وبالتالي تسعى لتحجيم دور الناتو، وخلخلة الغرب من الداخل، وتقويض نفوذ الغرب في أفريقيا عبر طرد فرنسا من مناطق نفوذها التقليدية، وبناء تحالف راسخ مع الصين، وبناء سردية قائمة على منظومة القيم التقليدية في مواجهة تصاعد الفردانية والحرية المطلقة للفرد في الغرب، وتأكيد أن مجالها الحيوي غير قابل للاختراق، وملء الفراغ، مثل دورها مع الصين في أفغانستان، أو لعب دور في ليبيا، وظهورها كمورد لاغنى عنه في منظومة الغذاء العالمي (القمح).

ثم في النهاية التأكيد على عالم متعدد الأقطاب تقوده عبر تحالفات ومنظمات تقوض المنظومة الغربية، وفي المحصلة لن تكون روسيا هي الفائزة في كل ما سبق ولا أميركا ومعها أوروبا الغربية، بل الصين هي الفائز الأكبر الذي استفاد من هذا الصراع، وتوسّع في مساحات من التحالف والتعاون عبر آسيا، وأفريقيا، وأميركا اللاتينية ببرامج متعددة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • هكذا تفاعل الفلسطينيون مع بيان الغرب ضد إسرائيل
  • قبائل الحديدة تحتشد خلف طوفان الأقصى.. وقفة مسلّحة ومسيرات راجلة تجسّد الوفاء لفلسطين
  • تعرف على أشهر شركات الطيران التي ألغت رحلاتها إلى إسرائيل
  • هذه الشركات التي ألغت رحلاتها إلى "إسرائيل" خشية صواريخ الحوثيين
  • ترامب يعرب عن حزنه إزاء إصابة بايدن بالسرطان
  • تقرير أمريكي: طوفان الأقصى استُخدم لنسف تطبيع الرياض وتل أبيب
  • قبائل كحلان عفار في حجة تؤكد الجاهزية لمواجهة تصعيد العدو الصهيوني
  • هكذا تواجه روسيا الغرب المنقسم
  • مناورة وتطبيق قتالي ومسير في السخنة بالحديدة لخريجي دورات طوفان الأقصى
  • منصور بن زايد يشارك في القمة العربية التي بدأت أعمالها في بغداد