أثير – الروائي الأردني جلال برجس

لم يكن للفن الروائي أن يولد، ويحتل مكانته لولا التحولات المجتمعية والفكرية التي شهدها الإنسان، وبالتالي باتت الرواية أكثر قدرة على استيعاب تلك التحولات من جهة، والتنظير لها من جهة أخرى. والحروب وما تؤدي إليه، واحدة من أكثر أدوات التحولات ليس على الصعيد الشكلي للمجتمع، بل أيضًا على صعيد التاريخ الجواني للإنسان، بوصفه منتجًا ومتلقيًا للتاريخ في الآن نفسه؛ إذ تترك الحروب في الذاكرة البشرية آثارًا لا يمكن محوها بسهولة، بل إنها ستؤسس انطلاقًا من الاختلال في ميزان العدالة البشرية إلى وعي مشروخ إما أن يؤدي إلى الموت المعنوي، أو يؤدي إلى النهوض إلى مستوى آخر يتجاوز الذاكرة بمعزل عن مفهوم النسيان الذي لا يتفق مع معاينة التجربة.

وللنهوض وسائل عديدة إحداها الفن باعتباره أداة تعبير ومعرفة. وهذا ما حدث لإحدى أهم شخصيات رواية (الرسام الإنجليزي: حكاية جدارية البراديا وطبرق) للروائية الليبية رزان المغربي. لكن المفارقة هنا أن هذه الشخصية جانية وضحية في الآن نفسه.

في هذه الرواية ترصد رزان المغربي خفية الطبقات السرية في وعي الإنسان ليتضح كيف يمكن أن يكون مُستعمِرًا، ومستعمَرًا، وذلك عبر حكاية (جون فريدريك بريل) وهو رسام إنجليزي التحق مصادفة بفيلق كتيبة تابعة لسلاح الإشارة الملكي البريطاني أثناء الحرب العالمية الثانية؛ إذ كان (جون) في إحدى الحانات التي أخذ عدد من الجنود يبحثون فيها عن متطوعين للقتال آنذاك؛ فأقنعه أحد المقامرين بالانضمام للجيش. كانت فرنسا هي الجبهة الأولى التي انضم جون إلى المعارك فيها خاصة معركة (دنكيرك) إحدى المعارك البارزة التي نشبت بين قوات الحلفاء وألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية، وقد اندلعت على الجبهة الغربية أثناء معركة فرنسا، وشهدت دفاع قوات الحملة البريطانية وبقايا القوات الفرنسية عن ميناء (دنكيرك) آخر الموانئ المتبقية في أيدي الجيش الفرنسي، وذلك خلال عملية إجلائها عن المدينة التي امتدَّت أسبوعًا من 26 مايو إلى 4 يونيو عام 1940 والتي انتهت بنقل ثلث مليون جندي.

لقد عاش جون تلك المرحلة وفي دواخله وعيان، وعي الرسام المتأصل فيه منذ الطفولة، ووعي الجندي الطارئ على مفردات القتال؛ أي أننا مقابل شخصية يجابه فيها الفن كل عناصر الموت. بعد (دنكرك) يتنقل جون بين المحطات ليصل طبرق الليبية مرورًا بالقاهرة. حيث إحدى القرى الليبية التي رسم على جدار إحدى بيوتها القديمة المطلة من علو شاهق على البحر المتوسط جدارية سميت (مباهج الحياة). تشير تلك الجدارية عبر مشاهدها المتقاطعة، إلى مشهد واسع يبدو رغم انفصالاته إلى مشهد كلي مبني على صور لفظائع الحروب، والجماجم البشرية، والأغنيات، وروح الأدب، والنساء الجميلات، والنبيذ، والحنين للوطن. لقد خضعت تلك الجدارية لعدة تأويلات ذهب بعضها إلى علاقة الحرب وبالسلام وانعكاسات هذا الهاجس في نفس الرسام. وهناك من ربطها بملذات الفن وشطحاته الكثيرة.
لقد عبر (جون) من خلال اشتغاله على هذه الجدارية -التي تتواجد الآن في ليبيا- عن شغفه بالفن، وبالحياة، ورؤيته الخاصة للحرب. ومن الجانب الآخر ظهرت ملامح بنيته النفسية؛ إذ بدت الجدارية كما لو أنها مرآة تعكس ما حل بذاكرته، ووعيه من أثر تلك التحولات التي تتوفر على متناقضات وتوافقات في الآن نفسه. من خلال الاشتغالات الروائية التي عملت عبرها رزان المغربي على إعادة إنتاج الواقع تبرز علاقة المستعمِر بالمستعمَر، وكل ما يتمخض عن هذه العلاقة من محاولات للخروج على دوافع الإنسان في السطو على أمكنة الإنسان بما فيه من تاريخ، وبنى ثقافية، واجتماعية.

الاستثنائي فيما فعله (جون فريدريك بريل) في الرواية أن كثيرون تعلقوا بتلك الجدارية، وأن هناك من أدعى مشاهدته لحظات رسمها، وأن جون قتل بعد شهور من إنجازها. من هنا تأخذ الرواية منحى يفكك ما وراء رغبة الإنسان وخاصة العربي في سرد الحكايات، وبالتالي كيف يمكن أن يصنع كل واحد حكايته المضافة للحكاية الأصلية، الأمر الذي يمكن الذهاب من خلاله عميقًا إلى أصول الرواية عربيًا وأبعادها في طبقات المجتمع العربي.

تسير الرواية بسلاسة، وبلغة ذات إيقاع خفي، نحو الرسام الإنجليزي وكل ما يحيطه من حب، وصداقات، وأزمات، ومن علاقات تتشكل مع السكان المحليين. هناك تعدد للأصوات التي تتكفل بسرد الرواية، لكن الراوي العليم لا يغيب عنها متكفلًا بدوره. ومن هنا تجدر الإشارة إلى أن رزان المغربي أعادت إنتاج الحدث بحيث ابتكرت أحداثًا ليس لها جذر في أرض الواقع، لتفتح مسارات تعلن من خلالها عن رؤيتها الخاصة نحو أزمة الإنسان في تلك المرحلة، مثل الوثائق، وأيضًا السعي للكشف عما وراء المرأة ذات الطباع الغريبة، ذلك الخط السردي الذي يذهب بالقارئ نحو نهاية مفتوحة على عدة تأويلات.

في رواية الرسام الإنجليزي سعي إلى إعادة بناء الحياة عبر الفن، وتحديدًا عبر جدارية ما تزال ماثلة للآن على جدار رُسمت عليه في ليبيا في زمن الحرب العالمية الثانية. وفيها ذهاب للتاريخ، وللطبقات الاجتماعية الليبية، بعد المرحلة الاستعمارية، من زاوية غير نمطية لم تستند إلى السودواية، والتمترس وراء حواجز الإحباط، في معاينة الأزمة؛ بل تعمقت في مستوياتها عبر تصعيد الدراما الروائية من جانب إنساني لصالح شعرية الحدث؛ إذ ترصد أثر الفساد في المجتمع الليبي منذ الاحتلال الإيطالي.

اختارت رزان المغربي أن تسرد روايتها عبر أكثر من صوت، تبدو في للوهلة الأولى منفصلة لكن المضي في القراءة يكشف مدى ارتباطها بجوهر الرواية؛ مثل الليبية (سلمى) المختصة بترميم الجداريات، والتي تقيم في إيطاليا وتراها في بعض الأحيان منفى. فتاة تميل للصمت، ولتدوين الكثير مما يحدث لها ومما تفكر فيه، وتحن إلى ليبيا كثيرًا ليبيا التي تعيش في ذاكرتها بعيدًا عن كل الاقتتالات والحروب وما تمخض عنها؛ خاصة تلك المرحلة التي عاشت الحب فيها مع خالد. كما تقوم الرواية أيضًا على صوت حكيم الذي تحول من دراسة الهندسة إلى دراسة الفن، والذي أقنع سلمى بأن تشرف على رسالة ماجستير عن جدارية البراديا في ليبيا، لكنه يختفي، تاركًا لها مخطوطة تروي حكاية اكتشافه لجدارية البردايا التي رممها الإيطاليان (فرانكو) و(ليديا) واللذان التقيا بحكيم أثناء ترميمها. تستعرض باقي الفصول عدة حكايات مرتبطة ببؤرة الحدث مثل شخصية المنصوري وحسن الأعرج ومقاربة مرحلة ما بعد الاستعمار الإيطالي لليبيا، والفساد الذي تشكل نتاج تلك التحولات.

الرسام الإنجليزي رواية أعلت فيها رزان المغربي من شعرية الحدث مقابل لغة هادئة كانت قادرة على أن تأخذ القارئ إلى المقولة الرئيسية في الرواية التي تم الاشتغال عليها من خلال وعي درامي عناصر تشويقه عالية، وعبر قدرة سردية كشفت الأثر الذي تخلفه الحرب على الجاني، والضحية، والمكان، وبالتالي تؤسس إلى تاريخ إنساني تتصارع فيه القيم في فضاء التحولات. إن أهم ما يمكن للقارىء أن يناله معرفيًا من خلال هذه الرواية، هو الدور اللانهائي للفن في مجابهة كل ما يبتكره الإنسان من أدوات للموت، بل كشفت عن ذلك الفصام الذي يعيشه الإنسان بين البراءة والوحشية بكل مستوياتها.

المصدر: صحيفة أثير

كلمات دلالية: من خلال

إقرأ أيضاً:

زيلكو كالاتش.. “العنكبوت” الذي صعد مع ميلان إلى قمة أوروبا يقود حراس العراق

18 مايو، 2025

بغداد/المسلة: أعلن مدرب منتخب العراق الأول، الأسترالي، غراهام أرنولد (61 عاماً)، تشكيل كادره الفني المساعد، استعداداً للاستحقاقات المقبلة مع “أسود الرافدين”، وشهد الطاقم الجديد انضمام الحارس الدولي الأسترالي السابق، زيلكو كالاتش (52 عاماً)، الذي سيتولى مهمة تدريب حراس المرمى.

ويحمل حارس مرمى نادي ميلان الإيطالي السابق، زيلكو كالاتش، خبرة طويلة بين الخشبات الثلاث، إذ أُوكلت إليه مهمة إعادة ترتيب صفوف حراسة المرمى في منتخب العراق، بعدما شهد هذا المركز تراجعاً في المستوى، خلال الفترات الأخيرة. ووُلِد كالاتش في سيدني عام 1972 لعائلة مهاجرة من يوغوسلافيا، وعاش طفولة هادئة وصعبة في آنٍ واحد، وسط تحديات لغوية وثقافية واجتماعية. وقد شكّلت الكرة نافذته الأولى نحو العالم. وبحسب تقرير سابق لمجلة فور فور تو الإنكليزية، فإنّ المدرب أرنولد نفسه أطلق عليه لقب “العنكبوت” عندما كان يبلغ 14 عاماً، نسبة إلى طوله الفارع وردات فعله السريعة.

ويُعد كالاتش أطول حارس مرمى مثّل المنتخب الأسترالي (2.02 متر)، وامتدت مسيرته عبر أندية أوروبية مرموقة في إيطاليا وإنكلترا، رغم أنه قضى سنوات عديدة في دكة البدلاء، ما جعله رمزاً للمثابرة والصبر. وحقق كالاش عدة إنجازات بارزة خلال مسيرته، أبرزها التتويج بكأس هولندا مع رودا عام 2000، وكأس إنترتوتو مع بيروجيا عام 2003، قبل أن يصنع التاريخ مع ميلان، إذ أصبح أول لاعب أسترالي يتوج بثلاثية قارية؛ دوري أبطال أوروبا، كأس السوبر الأوروبي، وكأس العالم للأندية عام 2007.

وبعد اعتزاله، اتجه كالاتش إلى التدريب والعمل الإعلامي، وسبق له الإشراف على تدريب حراس مرمى ناديي سيدني إف سي وويسترن سيدني واندررز في أستراليا. واليوم، يعود “العنكبوت” إلى الأضواء عبر بوابة منتخب العراق الأول في مهمة جديدة لإحياء مستوى حراس المرمى، ورفع جاهزيتهم للاستحقاقات المقبلة.

المسلة – متابعة – وكالات

النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.

About Post Author moh moh

See author's posts

مقالات مشابهة

  • مؤتمر الكنابي: انتهاكات ممنهجة وتهجير قسري في ولاية الجزيرة تحت غطاء “التعاون”
  • بلال قنديل يكتب: بين الماضي والحاضر
  • موقع أمريكي: التهديد الذي يشكّله “اليمنيون” على عمق إسرائيل حقيقي
  • أمسية شعرية استثنائية في القاهرة: “مؤانسة” بين يحيى فضل الله وقاسم أبو زيد
  • ما هو “مشروع إستير” الخطير الذي تبناه ترامب؟ وما علاقته بحماس؟
  • عمر حرقوص يكتب: فضل شاكر.. التقاء الخطَّين المتوازيين
  • معرض “معتقلون ومغيبون” في المتحف الوطني يوثّق الألم السوري من الاعتقال الأول إلى إسقاط الديكتاتور
  • “أطباء بلا حدود”: الجحيم الذي يُقاسيه أهالي غزة يتفاقم كل دقيقة
  • زيلكو كالاتش.. “العنكبوت” الذي صعد مع ميلان إلى قمة أوروبا يقود حراس العراق
  • إيفرتون يهزم ساوثهامبتون ويودع ملعب “جوديسون بارك” فى الدوري الإنجليزي