لماذا تبدو السماء مظلمة ليلا رغم عدد النجوم الهائل؟
تاريخ النشر: 31st, December 2023 GMT
مع تلاشي ضوء النهار عند الغسق، تنكشف لوحة داكنة مرصعة بالنجوم فوق رؤوسنا. لكن هذا التحول الليلي المألوف من السماء الزرقاء الساطعة إلى السماء السوداء المخملية يثير فضول علماء الفلك والفلاسفة؛ فإذا كان الكون يحتوي على بحر من النجوم الممتدة على عدد لا نهائي من السنوات الضوئية، فلماذا لا تكون سماء الليل مشرقة مثل النهار؟!
الإجابة على هذا السؤال قد يبدو بسيطا لكنه حيّر العلماء.
إذا سرت في بستان صغير من الأشجار ونظرت بعيدا، فيمكنك رؤية أجزاء من الأفق بين جذوع الأشجار من حولك. أما إذا وقفت وسط غابة كبيرة، فإن الرؤية ستكون بالنسبة لك محجوبة تماما في جميع الاتجاهات بواسطة العدد الهائل من جذوع الأشجار الذي يحيط بك من كل جانب وعلى مسافات متفاوتة.
وبالمثل، إذا كان الكون كبيرا بما فيه الكفاية، فيجب أن يكون خط رؤيتك محجوبا في كل اتجاه بواسطة جدار سميك من النجوم التي تجعل الليل مضيئا مثل النهار.
تعود بنا قصة مفارقة أولبر إلى أوائل القرن التاسع عشر، إلى عالم فلك ألماني يُدعى هاينريش أولبر الذي كان أول من أذاع هذه المفارقة في الوسط العلمي رغم أن علماء سبقوه في تناولها مثل يوهانس كيبلر وإدموند هالي. وكان تساؤل أولبر يدور حول التناقض الظاهري لسماء الليل المليئة بالنجوم اللانهائية والظلام الذي نلاحظه، فإذا كان الكون لا نهاية له ومليئا بعدد لا نهائي من النجوم، فإن كل خط رؤية يجب أن ينتهي في النهاية عند نجم، مما يجعل السماء ليلا مشرقة بشكل موحد.
ومع ذلك، فإن سماء الليل ليست نسيجا مشرقا من النجوم اللانهائية، وتغلب عليها الظلمة الحالّة ولا يتخللها سوى الضوء للنجوم والمجرات البعيدة. ولفهم ذلك، علينا التعمق في مفاهيم عمر الكون وتوسعه.
كيف حلّ العلماء الإشكال؟اعتقد أولبر أن الكون لانهائي، ولكن تبين فيما بعد أنه ليس كذلك، فهو محدود من حيث عمره الذي يبلغ نحو 13.8 مليار سنة. وبالتالي فإننا لا نرى الأشياء إلا على مسافة بعيدة بقدر المسافة التي تمكّن الضوء من قطعها خلال هذا الوقت، مما يحد من عدد النجوم التي يمكن رؤيتها، وبالتالي كمية ضوء النجوم التي تصل إلينا.
يكمن جزء من حل مفارقة أولبر أيضا في توسع الكون، ففي أوائل القرن العشرين، قام علماء الفلك -بما في ذلك إدوين هابل- بإجراء عمليات رصد رائدة أظهرت أن المجرات الأخرى تبتعد بسرعة عن مجرتنا. ويشير هذا إلى أن فضاء الزمكان نفسه يتوسع. وبسبب هذا الاتساع، تتمدد موجات الضوء القادم من النجوم البعيدة أثناء انتقاله عبر الفضاء، وكلما زادت رحلة الضوء زاد طول موجته، وهي ظاهرة فيزيائية تُعرف باسم "الانزياح الأحمر". ويعني هذا الانزياح الأحمر أن الكثير من ضوء النجوم خارج المجرة يتحول من الطيف المرئي إلى أطوال موجية للأشعة تحت الحمراء لا يمكن إبصارها بالعين البشرية.
وظهرت أدلة أخرى على سبب الظلام الذي يلف الأرض ليلا في إشعاع الخلفية الكونية الميكروي الذي اكتُشف في عام 1964 ويمثل توهج الحرارة المتبقية من المراحل الأولى لولادة الكون من الانفجار الكبير. فبعد التوسع الانفجاري الأولي بَرد الكون مع استمرار تمدده، مما أدى في نهاية المطاف إلى انفصال الضوء عن المادة، وأصبحت الفوتونات قادرة على التدفق بحرية عبر الفضاء مثل إشعاع الخلفية الكونية الميكروي الذي نلاحظه اليوم. وإذا نظرنا إلى الفضاء في جزء الموجات الدقيقة من الطيف، فسنجده في الواقع مضاء في جميع الاتجاهات.
الظلام في الكون ليس فراغاهناك مشكلة أخرى في تفسير سماء الليل المظلمة، تتضمن التمييز بين الكون المرئي والكون بأكمله، فالكون المرئي لا يمثل سوى المنطقة الكروية الصغيرة من الفضاء التي تمكّن الضوء من الوصول إلينا خلال حياة الكون.
ومن المثير للاهتمام أن الاكتشافات الحديثة في الفيزياء وعلم الفلك أدت إلى تعميق فهم أسباب الظلام في الكون من حولنا أكثر مما كان متوقعا. فقد كشفت عمليات رصد المجرات والمستعرات العظمى عن وجود المادة المظلمة والطاقة المظلمة التي تشكل أكثر من 95٪ من الكون.
ويعرّف العلماء المادة المظلمة بكونها كتلة غير مرئية يتم اكتشافها فقط من خلال الجاذبية التي تربط المجرات معا، أما الطاقة المظلمة فهي طاقة غامضة تسرّع التوسع الكوني، وكلاهما يخفي مصادر الضوء داخل الكون.
وعلى الرغم من أن سواد سماء الليل يبدو فارغا، فإنه في الحقيقة يروي تفاصيل دقيقة عن تاريخ الكون المتدثر بالظلمة من انفجارٍ إلى تبريدٍ وتوسع. وعندما ننظر إلى السماء ليلا، فإننا نلمح مسارات التطور الكوني الممتدة عبر الفراغ في الفضاء السحيق.
________________________________________
مصادر:
Why Is Space Black? Olber’s Paradox and the Cosmic Night Sky Why does it get dark at night؟ Why is space so dark even though the universe is filled with stars؟ Olbers’ Paradoxالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: سماء اللیل من النجوم
إقرأ أيضاً:
اكتشاف مجرة ميتة بعد الانفجار العظيم بـ700 مليون سنة
باستخدام مرصد جيمس ويب الفضائي، اكتشف علماء الفلك مجرة ضخمة توقفت عن تكوين النجوم قبل أن يبلغ عمر الكون نحو 700 مليون سنة فقط.
وحسب الدراسة، التي نشرها العلماء في دورية "ذا أستروفيزكال جورنال"، فقد توصل الفريق إلى تلك النتائج عبر دراسة طيف المجرة بالأشعة تحت الحمراء، فوجدوا أثر نجوم عجوز فقط (حمراء وباردة)، في حين لم توجد نجوم زرقاء ساخنة.
في بدايات الكون، نمت المجرات عن طريق سحب الغاز من الوسط بين المجرات المحيط بها، وتحويله إلى نجوم جديدة، والتي عادة ما تكون زرقاء وساخنة، لكن هذا النمو لا يستمر إلى الأبد، ففي النهاية، تخضع المجرات لعملية تُسمى "الإخماد"، حيث تتوقف عن تكوين النجوم، ومن ثم لا يتبقى بها إلا النجوم الحمراء الضخمة، والتي تمثل حالة الشيخوخة في مراحل تطور النجوم، ومن ثم فإن هذه المجرات تعد "ميتة" بمعايير الفيزياء الفلكية.
يرى علماء الفلك اليوم أن حوالي نصف المجرات في الكون القريب (المحيط بمجرتنا) لم تعد تُشكل نجوما جديدة، وبالتالي فإنها تظهر حمراء اللون بسبب نفاد النجوم الشابة الساخنة والزرقاء، تاركة وراءها نجوما أكبر سنا وأكثر برودة وأكثر احمرارا.
إعلانوقد تميّزت هذه المجرة الجديدة، التي سُميت "روبيز-يو دي إس-كيو جي-زد7" بحجمها الصغير، فقطرها يبلغ حوالي 650 سنة ضوئية فقط، مقارنة بالمجرات المحلية مثل درب التبانة التي يبلغ قطرها عشرات آلاف من السنين الضوئية.
ورغم صغر حجمها، وجد الباحثون أن هذه المجرة تحوي كمية كتلية ضخمة، تقدر بنحو أكثر من 10 مليارات كتلة شمسية.
والمشكلة التي يواجهها العلماء حاليا، هي أن كل نماذج تشكّل المجرات، التي يبنيها العلماء بناء على الفيزياء المتاحة، توقّعت أن المجرّات في تلك الحقبة كانت نشطة جدا في إنتاج النجوم، لكن هذه المجرة توقفت فجأة.
وقد توقّع العلماء أن توقف التكوين النجمي قد حصل قبل حوالي 10-20 مليون سنة فقط من الوقت الذي نرى هذه المجرة فيه.
حتى الآن لا يوجد تفسير واضح، لكن توجد عدة فرضيات، منها نشاط الثقب الأسود المركزي، حيث يفترض الباحثون أن الطاقة المنبعثة منه قد دفعت أو سخنت الغاز الذي كان من المفترض أن يستهلك في تكوين نجوم جديدة.
من جانب آخر، يفترض فريق من الباحثين أن استهلاك الغاز بسرعة كان واحدا من الأسباب، فهذا الغاز هو الذي يستخدم لبناء النجوم الجديدة على مدى زمني كبير، لكن ربما استُهلك الغاز بسرعة فائقة في فترة قصيرة، أو ربما لم يستهلك ولكن دفع إلى خارج المجرة بسبب انفجارات نجمية هائلة كثيفة العدد حصلت في تلك المجرة.