السنن والضغوط الحضارية وبناء مفهوم المقاومة.. قاموس المقاومة (10)
تاريخ النشر: 3rd, January 2024 GMT
إن من أهم النظريات التي تستدعي عملية الدفع الحضاري تكمن فيما يمكن أن تؤديه "نظريات الضغوط" في العلوم المختلفة؛ وذلك بالاعتبار الذي يجعل من تلك النظريات مظلة لكثير من العلوم الفيزيائية والحيوية والإنسانية والكيميائية والهندسية واكتشافات التحريك والدفع مثل طاقة البخار والكهرباء وغيرها؛ بل امتدت نظريات الضغوط الى مجالات الصحة خاصة فيما يتعلق بالصحة النفسية.
إلا أن التركيز على فكرة الضغوط على الفعل الحضاري والفعل الإنساني عامة يُعد من أهم الأفكار المهملة والمغفلة في النظر للضغوط من خلال التدبر السنني الواعي عقلا وفهما ومعرفة؛ والساعي عملا وتدبيرا؛ فاعلية وتأثيرا. ولعل هذا التوقف يشكل مع هذا الاستحضار السنني تدافعا وتغييرا؛ إصلاحا ونهوضا، وهو ما يستدعي النظر العميق إلى تعلق درس المقاومة بالسنن من ناحية، وكيف أنها تمثل أجهزة المناعة والفعالية في الأمة؛ وهي المقاومة بما تتمتع به من قدرة على التحمل. وطاقة المواجهة والاستنفار تحول تلك الضغوط الحضارية من حالة سلبية إلى طاقة إيجابية تشكل حالة استنفار فيها؛ مقترنة بالوعي بتحديات الأمة والسعي لمواجهتها بالعمل الواجب والاجتهاد المطلوب والسعي الفعال.
السنن ترتبط بالأفعال الحضارية سلبية كانت أم إيجابية، وقد يتصور البعض أن السنن حينما لا تؤتي أكلها بسبب التقصير الإنساني، فإن ذلك إنما يعود إلى السنن وعملية "الثبات والتغير"، لكن معرفة جهة الثبات في السنن مهمة، وكذلك معرفة جوانب التغيير، ومعرفة أهم العوامل الحاجبة للتفاعل مع السنن مثل تغييب السنن أو تزييف السنن أو التعويل على أشباه السنن، وغير ذلك من أمور قد لا تجعل الإنسان في تمام تفاعله مع السنة أو تمام إدراكه لأصول الوعي بها.. إن هذه الأطر الحاجبة يمكن أن نسميها آفات السنن، وهي غير الضغوط الحضارية التي من الممكن تحويلها من حالة سلبية إلى فعل وتفعيل إيجابي.
إن الظواهر التي تحكمها السنن يجب ألا تختلط بالسنن أو فعلها، وهذه من الأمور المنهجية التي نعتبرها غاية في الأهمية ضمن التعرف على السنن والفعل المتعلق بها ونتائجها وتأثيراتها وتجلياتها ومآلاتها، فـ"الظواهر السننية" غير السنن.
إن هذا النهج السنني يؤصل عناصر قدرات التحرير للإنسان من عناصر الضغوط الحضارية المتعددة، والضغوط الحضارية قد تختلط بالآفات الحضارية الحاجبة لوعي وسعي التفاعل الإنساني مع السنن. الضغوط الحضارية على أنواع متعددة، ووفقا لمعادلات الفعل والتفاعل الإنساني يمكن أن تؤثر هذه الضغوط ضمن مسارات سلبية: "ضغوط المانعية" و"الضغوط المفجرة" و"الضغوط المفرغة"، وجملة هذه الضغوط تشل الفعل الحضاري، أو تجعله شظايا متناثرة، أو تجعله خاويا من المغزى والمعنى، والفعل والفاعلية، والغرض، والمقصود، والمصلحة.
كما يمكن أن تؤثر هذه الضغوط ضمن مسارات إيجابية: "الضغوط الدافعة"، و"الضغوط الرافعة" و"الضغوط الجامعة"، وجملة الضغوط تلك تؤدي ضمن مساراتها إلى الدافعية والتجدد في الفعل الحضاري، أو رافعة للفعل الحضاري ضمن مدارج الترقي والبناء والعمارة الحضارية، أو تحرك أصول الضغط نحو التجميع لا التفجير، والتلاحم والتماسك لا التجزؤ المفضي إلى حركة التشرذم والتشتت.
هذا التلاحم هو حركة إيجابية إما تحرك المسار ضمن دفع الضغوط، أو مواجهة التحديات ضمن استجابات فاعلة. في هذا السياق ما الذي يحرك وجهة الضغوط إلى مساراتها السلبية وما الذي يدفعها إلى هذه المسارات الإيجابية؟! تساؤل يجد إجابة في حقيقة السنن والوعي بجوهرها، وعناصر فعلها، وإدراك حقائقها وتوابعها ومآلاتها ومجالاتها وتأثيراتها، ومسالك السعي على تنوعها والضرب في دروبها.
إن معادلة الوعي والسعي السنني هي التي توصل وتمكن من توجيه جملة الضغوط نحو الفعل الإيجابي، والفاعلية المبتغاة والمقاصد الأصلية والجوهرية. إن وجود الضغوط الحضارية هو أمر لا فكاك منه ضمن عناصر الساحة الحضارية وتفاعلاتها، وضمن المسيرة الحضارية بكل تنوعاتها وعلاقاتها وحالاتها، وضمن تأثيراتها على الفاعلين الحضاريين وتفاوت عملية التأثير.
إن الضغوط الحضارية لا زالت تفعل فعلها ضمن الظاهرة والقابلية لها (هذا القانون الأساسي) التي لفت النظر لها مالك بن نبي ضمن مقولته الشهيرة المفتاحية "الاستعمار والقابلية للاستعمار". القابليات إنما تكمن في عناصر طرائق التفكير وعمليات التغيير والتصور الإنساني لهذه العمليات، وهذه القابليات تولّد أنماطا سلوكية تشكل البيئة والوسط الملائم لعقليات متعددة تحرك الضغوط ضمن مساراتها التحريك الإيجابي والفاعلية: "لاّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورا". والضغوط الحضارية ضمن هذا المسار كثيرة الفئات ومتنوعة التأثيرات؛ منها ما يتعلق بالتاريخ والماضي، ومنها ما يتعلق بالحاضر والواقع، ومنها ما يتعلق بالتدبر والمستقبل.
ويمكن تسكين الضغوط الحضارية (المشتقة والفرعية والتابعة والمولدة، والضغوط البينية) ضمن منظومة الضغوط الحادثة على الإنسان المسلم (طرائق التفكير- مناهج التغيير)، وإن الضغط ضمن هذه العناصر وتلك الرؤية يعبر عن ثنائية التدافع بين السلبي والإيجابي على المستوى الفردي والجماعي، فترى الضغط ونقيضه (وفق تأثيره).
ويطول بنا المقام لو أردنا أن نعدد جملة الضغوط الحضارية، إلا أن هذه الضغوط في تعلقها بالواقع، ومع الإمكانات التي تجزّئ الواقع إلى مجالات رئيسية في مجمل الحياة الحضارية، فإن من الضغوط الحضارية من حيث تجلياتها ما يرتبط بمجال دون آخر.
بل ربما يتجلى ضغط "التاريخ والحاضر والمستقبل" ضمن تنويعات مختلفة في سياق المجال الحضاري المتعلق بجملة الأفعال والتعاملات ضمن مجال العلاقات الدولية والتعامل الدولي، وذلك في سياق النماذج والأمثلة التي يمكن الإشارة إليها في هذا المقام.
وربما نشير إلى هذه النقطة ضمن تعلق السنن بالتعامل الدولي وحركته، التي غالبا ما تتعلق بالضغوط الحضارية بفهم السنن وفعلها (الوعي والسعي)، وغالبا ما تقترن هذه الضغوط بالتنازع بين أحوال القوة والضعف، العزة والوهن، الغثائية والتمكين، وفي ظل هذه الضغوط قد يتحرك الإنسان إلى إعفاء نفسه من التقصير فيركن إلى هذه الضغوط التي تبرر عجزه عن الفعل وقعوده عن الحركة والفاعلية.
السنن بهذا تعبر عن نظرة شاملة كلية ممتدة تمتد عبر الزمن وعبر المكان وعبر عالم الأحداث المتنوع وتفاعلاته، وعبر العلاقات بأطرافها المختلفة ومستوياتها المتعددة. إن الوعي بالضغوط الحضارية يحرك عناصر حافزة لفهم السنن وتأثيراتها، وينفي كل العناصر التي تحجب فهم السنن والوعي بها والسعي من خلالها.
في ظل هذا التصور فإن السنن والوعي بها يتطلب الوعي بجملة العناصر التي تشير إلى القوانين الأساسية الدالة على السنن ومسيرتها، والشروط المؤدية إلى فعلها ضمن قضائها على الفعل الحضاري الإنساني، والموانع التي تشكل الآفات وهي أهمها، والحواجب كعنصر ثانٍ، والضغوط وفق قابليات معينة كعنصر ثالث.
والسنن كعملية منهجية تتعلق بعناصر تجريبية والنظر في التاريخ كمعمل تجارب يحقق مقصود الاعتبار والعبرة، فالسير سير غاية "التعرف على العاقبة" وبذل عناية "النظر والفحص"، جاعلة بوصلتها الهدف والمقصد والغاية. والنظر هنا عملية تجنب الفاعل الحضاري موقف الترقب والانتظار، فبين النظر كمنهج والانتظار كطريقة لمواجهة الأحداث بون واسع، فالوعي بالمحصلة أو العاقبة لا يعني انتظارها.
ماذا يعني كل الذي أوردناه ضمن نظريات الضغوط والضغوط الحضارية على وجه الخصوص على مفهوم المقاومة؟ هذا التساؤل يستكمل بقية الصورة التي أوردناها من قبل في التعريفات المختلفة للمقاومة واعتبار المقاومة رافعة حضارية.
وفي حقيقة الأمر فإن نظرية الضغوط تأتي بأربعة أركان غاية في الأهمية؛ ألا وهي التحمل، والتحريك، والتدافع، والإصلاح والتغيير. هذه الأركان تنطبق على كيان وفعل المقاومة وأدوارها الحضارية التي تقوم بها في الأمة، فهي تشكل في آن واحد جهاز تنبيه وإنذار، وجهاز طاقة واستنفار. وهي في هذا مرشحة لأن تكون منتدبة عن الأمة وتتحمل ما تتعرض له من صعوبات أو تحديات فتواجهها، وتستعد دائما لرد العدوان وفق القاعدة الأساسية والنداء الحركي القرآني "وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ"، فإذا كانت المقاومة منتدبة وفق قدرات تحملها للقيام بهذه الأدوار، فإنها تتدبر معنى الضغط الدافع، وتجعله استنفارا مستمرا في الأمة يؤكد على أن هذه الأمة حية لا تموت حتى وإن وصلت إلى حالة من الضعف والوهن، فتشكل المواجهة كيانا ناهضا ينهض بالأمة من خلال استدعاء الداعمين على امتداد الأمة شرقا وغربا، وتدفع المخذلين والمرجفين في الداخل لتشكل في هذا الشأن ميزان الأمة.
وكما أكدنا فإن عملية التحويل التي تحدثها المقاومة من ضغوط قد تنال من هذه الأمة (الضغوط المانعة، الضغوط المفجرة، والضغوط المفرغة)، وهي بذلك رمز وفاعلية تجتمع عليه الأمة صفتها الجامعة، حتى لو أن بعض القيادات الإقليمية والقُطرية تعمل ضد هذه المقاومة.
إن المقاومة تحيي مفهوم الأمة وتحول تلك الضغوط السلبية إلى حالة إيجابية فتصير فاعلة دافعة، بدلا من المانعية، وتؤكد على تماسك الأمة في شبكة علاقاتها الاجتماعية والحفاظ على لحمتها، بدلا من تشرذمها وتفرقها، وتحاول من كل طريق أن تملأ الفراغات التي تملّكها حال العجز والضعف للأمة فتذكر بالنهوض والإصلاح والتغيير.
ووفق هذه المعادلة فإنها تخوض هذا التدافع الممتد والواسع لتؤكد على قيمة المقاومة والجهاد للحفاظ على الأمة في استخلافها وعمرانها، وهي بذلك تشكل عملية تحريك منظمة لقواها وإمكاناتها لمواجهة الفساد والعدوان والاغتصاب والاستيطان، وهي بذلك تحقق أمل الأمة في النهوض وتؤكد عليه، وتشير إلى طريق الإصلاح والتغيير في الأمة. وسنوالي البيان حول هذا العنوان في مقال آخر.
twitter.com/Saif_abdelfatah
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الضغوط المقاومة الحضارة المقاوم ضغوط مفاهيم السنن مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة هذه الضغوط فی الأمة ما یتعلق یمکن أن فی هذا
إقرأ أيضاً:
خبير إسرائيلي: شعار النصر يخفي فشل نتنياهو في تحقيق أهداف الحرب
يواصل رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو طرح مفهوم "النصر"، رغم أنه لم يضع إعادة الأسرى الإسرائيليين من قطاع غزة كهدف أول، مع أن نسبة كبيرة من الجمهور الإسرائيلي تُؤمن بمفهوم "النصر" بمعناه السطحي والخاطئ والمُضلّل.
وقال مدير معهد "إمباكت" للاستراتيجية، والمخطط الاستراتيجي لحملات إسحاق رابين، ومستشاره للأمن القومي، ورئيس مختبر ألعاب الحرب الاستراتيجية بجامعة تل أبيب، حاييم آسا، أكد أن "ما يرفعه نتنياهو وفريقه حول شعارات النصر إنما هي خداعٌ ترسخت جذوره بين جمهور إسرائيلي واسع، لأنهم يُرددون هذه الكلمة بعاطفة رومانية مرتبطة بكلمة انتصار".
وأضاف آسا، في مقال نشره موقع "زمان إسرائيل"، وترجمته "عربي21" أنه "لعل الإسرائيليين مُدمنون على مفهوم النصر أساسًا بسبب غيابه عنهم، ولأنه قادر على تعزيز غرورهم، بل وتضخيمه أكثر، دون أي سند أو دليل".
وأوضح أن "لدينا رئيس وزراء يُصارع الموت، لكنه مع ذلك يردد شعار النصر، مع أن الانتصار يُملي شروط استسلام الطرف الخاسر، وهو ما لم يحدث في غزة بعد، لأن حماس في هذه الحالة تعتبر امتدادا لحروب العصابات التي تطورت تدريجيًا كمفهوم قتالي يناسبها على غرار حرب فيتنا الفيتكونغ، وحزب الله في لبنان".
وأكد أنه "من أجل ذلك، فلن تتوصل حماس أبدًا إلى اتفاق مع إسرائيل بشأن شروط استسلامها، حتى لو انهارت قوتها العسكرية، ولو قُتل أو اعتُقل معظم نشطائها، فلا يمكن لها أن تُعلن أو تُوقع وثيقة استسلام تُخفّض من شأن أيديولوجيتها أو معتقدها أو الأنشطة المرتبطة بها".
وأكد أن "القول بالنصر الكامل على حماس هو كلام فارغ، فلا صلة بين الحركة كمنظمة مسلحة دينية، وبين مفهوم النصر المطلق عليها، ووجودها بحدّ ذاته، لأن هذا المفهوم يخدع الاسرائيليين، ويُغرق جيشهم في وحل غزة، كما غرق الأمريكيون في وحل العراق وأفغانستان وفيتنام، وهذا الغرق له دلالة في خسارة أرواح الجنود والرهائن، وفي عملية تُجبر مئات آلاف جنود الاحتياط على التضحية بمئات أيام القتال عبثًا، ومعهم مستقبلهم المهني أو التجاري، وأحيانًا صحتهم وحياتهم".
وأشار إلى أن "السؤال الإسرائيلي المطروح هو: إلى متى سيستمر هذا العبث الذي يضرّ بهم كمجتمع ومواطنين، بعد أن تعلم الأمريكيون والروس الدرس، وهربوا من المناطق التي احتلّوها، ربما لأن مفهوم "النصر" على "المجاهدين" لم يكن الدافع الأيديولوجي لتلك الحروب، ولذلك يتزايد الاعتقاد الاسرائيلي بأن مفهوم النصر بحد ذاته يخلق حالة شبه كارثية، لكنها في الوقت ضرورة واعية للحكومة الحالية لمواصلة هذا العبث والغرق أكثر فأكثر في الوحل، وهذا أمر محزن".
وختم بالقول إن "ذلك يعود أساسًا إلى غياب العقل الإسرائيلي لوقف هذا الخطأ الواعي، وهذا الغياب يشمل المؤسسات العسكرية والمدنية والأكاديمية، حيث ينشغل الاسرائيليون بشكل كبير بالمعاشات التقاعدية التي وُعدوا بها، ولكن في يوم من الأيام، ستُكتب دراسات مطولة عن حالة العبث التي وقعت بها الدولة في قاع الوحل بسبب الحكومة الحالية، وغياب اعتراض الاسرائيليين عليها".