آذن الليل بالرحيل، لكنه قبل أن يغادر أبى إلا أن يهجم بظلامه على قطاع غزة، وأشد الظلمة هي التي تحتل الأفق قبيل انسلاخ الفجر. البيوت متلاصقة وكأن جدرانها تداخلت وأسسها تمددت في باطنو الأرض كجذور الأشجار العملاقة المعمرة. في بيت منها ند أنين مكتوم من أم رؤوم اشتدت عليها آلام المخاض فمكثت تتلوى وتتأوه في انتظار الفرج، والفلسطيني كجينوم لا يصرخ أبدا إلا للضرورة القصوى ولهذا لما صدرت عن الأم صرخة عالية جعلت زوجها يهرول خارجا دون أن يشغل نفسه بسبب الصرخة، لانتظاره مولوده في جزء من اللحظة كان يدق باب جيرانه بعنف ولهفة وقلبه في يده وروحه خلفه تركها عند حبيبة قلبه التي قاسمته ليالي الشهد وشاطرته الدموع.
لم يعد إلا وأم ليث القابلة خلفه تضع خطواتها المتسارعة فوق خطواته وأنفاسهما اللاهثة موحدة وكأنها تخرج من صدر واحد لا اثنين.
تركها تدلف لامرأته وذهب لتفقد أطفاله ووضع الأغطية على أبدانهم الرقيقة وفي لمح البصر كان يعد الماء الساخن، الذي تحتاجه القابلة عند الشروع في التوليد واستخلاص روح من روح.
اندهشت القابلة وهتفت ذاكرة ورفعت عقيرتها شاكرة، فقد فوجئت بأسهل ولادة في تاريخها العملي الطويل،
فقد نزل المولود ساجدا ولما أخذته لتنظف جسمه وتلقي عليه بعض المناشف وتطيبه رأته يرفع سبابته كأنه يرمز بها إلى توحيد ربه.
اقترحت إضافة الوصف الذي رأته بعينه إلى اسمه المختار الذي لم تتدخل فيه، ومن هنا توافقت الأسرة على تسميته محمدا فكان محمد الساجد.
ما لبث المولود إلا أن أخذ في نمو لافت خارق للمعتاد عند نظرائه وكأن يد العناية تشير إلى مستقبله المشهود
حيث يتم حصاد الثمار في ذات النهار الذي زرع فيه النبات كرمز لثواب الشهادة المضاعف.
محمد الساجد كان السجود مفتاح شخصيته.. سجد بروحه بقلبه بل طوع الله نفسه فانقادت له ساجدة، سجدت جوارحه سجدت خلاياه.. سجدت دماؤه في عروقه تجاوب الكون معه فرآه ساجدا، أينما يمم وجهه رأي كل ما تقع عليه عيناه في حال السجود مثلما تجاوبت الجبال مع داوود عليه السلام فأوبت معه ومثلما سبح الحصى في يد محمد صلى الله عليه وسلم، سجدت المخلوقات كلها تأييدا للحال الذي ميز محمدا الساجد: سجد الشجر والحجر والليل والقمر والطير والوحش وحيتان البحر.
كان محمد الساجد كأنه درويش جلال الدين الرومي اختزل الله العالم كله له عند جبهته.
أعطي محمد قوة خارقة فكان يواجه جنود الاحتلال بسجدته لا بحجارته زمن انتفاضة الحجارة، فأعياهم وهزمهم وأخافهم، فكانوا يفرون من طريقه كالجرذان المذعورة.
لم يجمعه بهم طريق واحد ولا شارع مشترك.. كان حضوره يلغى وجودهم، وطلته تحذف انتشارهم حتى سبب لهم فزعا دائما، وأصابهم برهاب السجود.
اجتمع مجلس الحرب وقرر مواجهة الساجد من وضع الطيران لاستحالة المواجهة على الأرض ولا من خلف الجدر كعادتهم.
فرد واحد تطارده طائرة!.. الساجد فى حال سجود روحي أثناء المطاردة الشوارع خالية من البشر والحيوانات، فسجد الهواء وسجدت الرياح وسجد النور والنهار والليل.
ضبط الوغد الجبان بوصلة المدفع على ظهر البطل وأطلق ذخيرته فهبط إلى الأرض صاعدا للسماء كان وقتها على قوة الملأ الأعلى بعدما انقطعت صلته بعالم المحو وسجل اسمه في قائمة الإثبات على رأس قائمة الخلود.
تلقى الطلقة كوخزة إبرة يكره الموت وربه يكره مساءته هبط جالسا اعتدل نحو القبلة سجد بتمكن واقتدار وهدوء السجدة الأخيرة والمسك يفوح من جرحه، فكان العمر سجدة.
المصدر: الأسبوع
كلمات دلالية: فلسطين الاحتلال القضية الفلسطينية مقالات الاحتلال الاسرائيلي اخبار فلسطين غزه محمد صلاح عبده الشهيد الساجد
إقرأ أيضاً:
محمد أنور عشري.. فارس الطب الذي نزل عن صهوة جواده
سادت حالة من الحزن الشديد بين الأوساط الطبية والشعبية بمحافظة قنا، عقب الإعلان عن وفاة الدكتور محمد أنور عشري، أخصائي القلب والباطنة والقسطرة القلبية بمستشفى قنا العام ومستشفى قفط التعليمي، والذي وافته المنية بشكل مفاجئ، في خبر وقع كالصاعقة على كل من عرفه أو تعامل معه.
وعُرف الدكتور محمد أنور بين زملائه ومرضاه بدماثة خلقه وتواضعه الشديد، إلى جانب كفاءته الطبية وإخلاصه في أداء عمله، حيث قضى سنوات عمره في خدمة المرضى، وشارك في علاج وإنقاذ العشرات دون كلل أو ملل.
ونعت المستشفيات التي عمل بها، وعدد كبير من الأطباء وطواقم التمريض في قنا وخارجها، الطبيب الراحل بكلمات مؤثرة، مشيدين بحسن أخلاقه وتفانيه في العمل، ومؤكدين أن وفاته خسارة فادحة للقطاع الصحي في المحافظة.
جدير بالذكر أن الدكتور محمد أنور عشري كان يتمتع بسيرة طيبة وسجل مشرف في عمله، وظل حتى أيامه الأخيرة يخدم مرضاه بكل إخلاص، قبل أن يغادر الحياة فجأة، تاركًا خلفه إرثًا من المحبة والاحترام في قلوب الجميع.