لجريدة عمان:
2025-07-05@14:03:20 GMT

«المغيّب» في كتب التراث العمانية

تاريخ النشر: 8th, January 2024 GMT

كثيرة هي الحكايات المرتبطة بالمغيّبين، لا سيما التي دارت على ألسنة الناس في التعريف أو في سرد قصص المغيّب أو المسحور. ويُطلق لفظ «المَغايْبة» أو«المغيّب» على الإنسان الذي يعود حيًّا من رحلة الموت، وهو لفظٌ دَرَجَتْ عليه ألسنةُ الناس في المحكي الشفاهي.

وجاء ارتباط المغيّب بعالم السحر والسحرة الذين يقومون بأدوارهم في قتل الناس في إشارة إلى الخوارق العديدة التي تقام على أيدي السحرة، ومعها يمكن للمسحور بطريقة أو بأخرى بحسب الروايات الشفهية المتداولة العودة إلى عالم الحياة فارًّا من سطوة الساحر إلى عالم التغييب، وهنا دارت ألسنة الناس بكثير من الحكايات والقصص، جعلت من هذا العالم خياليا إلى حدود لا يقبلها العقل البشري، فإلى أي حد يمكن عودة الميت إلى الحياة في هيئة فاقد للإدراك أو متلبس بصكوك ونذور أقامها عليه السحرة.

لقد استطاع الأدب العودة إلى التراث الشفهي في بناء نصوصه من مرجعياته الحكائية، فكما تطرقنا إلى صورة الساحر في المرجعيات التراثية، فإن للكتابة الأدبية والتراثية مرجعيات تخبرنا عن صورة المغيّبين، وهي صورة تأخذ انطلاقتها من الذاكرة التراثية والمكانية في مجتمعاتنا.

قد نجد صورة المغيّب حاضرة في الأدب العماني، وهي صورة مستمدة من التراث وحكاياته، وهنا فإنّ المتلقي يقف حائرا في قراءة الواقع وارتباطه بالكتابة الإبداعية، لكن وعلى ما يبدو فإنّ الأدب يكوّن مرجعياته الرئيسة من مدوّنات التراث المكتوبة جاعلًا منها مرجعًا مهما لنقل الصورة المتخيّلة للكتابة الأدبية، فنجد محمود الرحبي يستفيد مما كتبه نورالدين السالمي عن فتاة نزوى في كتابه «تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان» في نسج الحكاية السردية منفتحًا على الحكاية الأصل، وكذلك فاطمة الشيدية في حفلة الموت، والروايتان كلتاهما تناولتا صورة الفتاة المغيّبة من مصادر مكتوبة سنعرض لها لاحقًا. وهنا تصبح الحكاية الشعبية أكثر رسوخًا على المدى الطويل؛ لأنها أُكّدت في هيئة نص تاريخي موثّق ومكتوب.

تظهر صورة المغيّب/ المغيّبة في كتاب (تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان: ج2/ ص112) للسالمي، وفيه يحاول إثبات وقوع هذه الحادثة من خلال ذكر المكان الذي وقعت فيه الحادثة وهو منطقة سمد وسط السويق بنزوى، والزمن في عام 1109هـ في زمن الإمام سيف بن سلطان (قيد الأرض)، واسم والد الفتاة، ثم يعرض لنا قصيدة شعريةً مجهول قائلها، يقول فيها مع تجاوز بعض أبياتها:

لقد ظهرت أعجوبة في زماننا بقرية نزوى وهي أم العجائبِ

فتاة أناس بنت ستٍ توفيت وقد قبروها في قبور الأصاحبِ

ولكنهم من بعد ظنوا بأنها أصيبت بسحرٍ قول أهل التجاربِ

فساروا لحفر القبر من بعد دفنها فما وجدوها فيه يا ذا المآربِ

فبعد سنين قد مضت وتكاملت حساب تولّى عدّه غير كاذبِ

رآها فتى ترعى شياها وعندها فتاة من الأعراب عنها بجانب

تقرّب منها ثم أمعن طرفه فما شك أنّ الشخص عين المطالبِ

فقال لها من أنتِ قالت فلانة فتاة فلانٍ من كرامٍ أطائبِ

فأيقنَ حقّا أنها بنت ماجدٍ سليلُ سليمانٍ حليف المواهبِ

وجد أبيه ماجد بن ربيعةٍ فتى أحمدٍ أهل الندى والرغائبِ

وذاك بنزوى وهي من آلِ كندةٍ وقد صحَّ هذا الأمرُ مع كل كاتبِ

ترسم الأبيات السابقة التي عرضها السالمي صورة الفتاة المغيبة التي عادت إلى الحياة، فتظهر على الفتاة علامات الإدراك حتى بعد عودتها من الموت إلى الحياة، فقد ذكرت نسب أهلها، وعندما جاؤوا بأهلها تعرّفت على أمها، وعندما سألوها عن حالها عندما وضعت في القبر أجابت بما فعله الساحر؛ إذ أخرجها من القبر ثم تركها عاريةً في الصحراء حتى مرّ عليها ناس من الأعراب فأخذوها معهم وجعلوها ترعى الأغنام لديهم.

ومع أن السالمي في عرضه للأبيات الشعرية دون نسبتها إلى قائلها، نجده يميل إلى رأي الشاعر على أن ذلك من فعل السحر، ويحاول تأكيد وقوع الحادثة بالاستدلال على المكان والزمان اللذين وقعت فيهما الحادثة، فإنّ الحادثة تظل مع ذلك نوعًا من الحكايات الشفهية التي تناقلها الناس وجمعها السالمي في كتابه وصارت نصًا كتابيًا يعبّر عن القيمة الموضوعية للحادثة.

كما تحيل القصيدة المذكورة على أسئلة عدة، عن طبيعة عودة الميت، ومستويات الإدراك لديه، وعن فعل الساحر وتركه للمسحور عائدا للحياة.

وتتقاطع القصيدة السابقة في مضمونها مع الحكاية التي أوردها سيف بن حمود بن حامد البطاشي في كتابه (إتحاف الأعيان في تاريخ بعض علماء عمان: ج2/ ص238) عن «رجل من وادي القريات مات، وشهد بموته ناس كثير من أهل البلد، واشتهر موته في وادي القريات جميعا، وغسلوه، وصلوا عليه، ودفنوه بمحضر أهل القرية، فأقام بعد ذلك ما شاء الله من السنين، ثم وُجد في قرية لوى من الباطنة. فلقيه رجل يعرفه، فقال له: ما أنت فلان بن فلان، الساكن وادي القريات؟ فقال له: نعم. وأبلغه أن زوجته اعتدت عدة الموتى، وتقاسم الورثة ماله. فطلب منه الرجوع إليهم ليأخذ ماله ويسترد زوجته. فقال: إنه مأخوذ عليه العهود والمواثيق أن لا يرجع إلى بلاده، وأبلغه بقصته أنه كان مريضا في بيته، والناس حوله، فنام، واستيقظ من نومه فما درى بنفسه إلا وهو في لوى. ثم علم أهل بلده فكذّب بعضهم بعضا وأتوا إلى القبر الذي قبر فيه فنبشوه فما وجدوا فيه شيئا. وكان ذلك في أيام الشيخ العالم محمد بن علي بن عبدالباقي، واستفتوه فيها، فأجابهم بأنه كالمفقود».

يحيلنا المرجع التراثي هنا على صورة مشابهة للمغيب عند السالمي، فإن الحكاية تؤكد على فعل الموت، ثم العودة إلى الحياة، والإقامة في مكان آخر ومختلف عن المكان الذي كان يسكنه. هنا تؤكد الروايات التراثية على فعل السحر ووجوده بكثرة في المجتمع، كما تؤكد على وجود المغيّب وهما شخصيتان تأخذان منحى عجائبيًا أسطوريًا في فعلهما.

وسواء آمنا بوقوع الحادثتين أو أنهما كانتا من نسج الرواة ونُقِلت إلينا عبر الزمن حتى رُصدت موثقة في مرجع؛ فإنّ صورة المغيّب تظهر لنا محمّلة بدلالات الضعف والخضوع في مواجهة قوة أخرى متمثلة في الشر يقودها الساحر كيفما أراد.

وفي ذلك يظهر دور الإنتاج الأدبي وتوليد الدلالات التي استغلها الكُتّاب في إنتاج نصوص أدبية قائمة على الصراع الفلسفي بين الشخصيات، وإيجاد دهشة وغرائبيّة في الفعل، إنه موضوع واسع يشتغل عليه الكُتّاب اليوم باللجوء إلى التراث واستعادة أحداثه وحكاياته مرة أخرى مولّدا قيما انغرست في المجتمع.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: إلى الحیاة

إقرأ أيضاً:

التراث تجارب ملهمة في ثالث أيام مهرجان الأراجوز المصري في بيت السحيمي «صور»

في ثالث أيام مهرجان الأراجوز المصري في دورته الرابعة، استضاف بيت السحيمي التابع لصندوق التنمية الثقافية فعاليات اليوم، وسط حضور لافت من المهتمين بالتراث والفنون الشعبية.

 

“التراث: تجارب ملهمة”

 

افتُتح اليوم بندوة فكرية حملت عنوان “التراث: تجارب ملهمة”، ناقشت سبل توظيف التراث في التنمية المستدامة، وتسليط الضوء على اقتصاديات التراث من خلال نماذج ناجحة في مصر.

 

 

استعرض الدكتور محمد مندور، المستشار الأسبق لوزير الثقافة، مجموعة من التجارب الملهمة التي جسدت كيفية تحويل التراث إلى مشروع اقتصادي وثقافي حي، وهم: ويصا واصف في مجال إحياء فن النسيج وتنمية الإبداع الفطري لدى الأطفال من خلال مركز الحرانية، أسعد نديم في الحفاظ على التراث المعماري وتوثيق المأثورات الشعبية عبر مشاريع مؤسسية رائدة،
 شهيرة محرز في توثيق وإحياء الأزياء التقليدية ودعم الحرف اليدوية بأسلوب معاصر، وعزة فهمي في تحويل الرموز التراثية إلى مجوهرات تحمل طابعًا عالميًا دون التفريط في الهوية.

 

الفولكلور التطبيقي

 

كما تحدث الدكتور عاطف نوار عن دور الفولكلور التطبيقي والاقتصاد الإبداعي أو ما يُعرف بـ”الاقتصاد البرتقالي”، مشيرًا إلى أهمية دمج التراث في خطط التنمية ودعم الجيل الجديد من المبدعين في مجالات الفنون والحرف التراثية.

 

وقد أشاد المتحدثون خلال الندوة بتجربة فرقة ومضة لفنون الأراجوز وخيال الظل، التي أسسها د. نبيل بهجت، واعتبروها نموذجًا ناجحًا لكيفية تحويل فن شعبي مهدد بالإندثار إلى مشروع ثقافي ومهني حيوي، يجمع بين العرض الفني والتدريب والحفاظ على الهوية، وعقب الندوة، قُدِّمت مجموعة من العروض المسرحية التي عكست روح المقاومة الكامنة في التراث.

الديك الهادر الغادر

 

جاء العرض الأول بعنوان “الديك الهادر الغادر”، تأليف الكاتب الفلسطيني غنام غنام وإخراج د. نبيل بهجت، حيث صوّر العرض، بأسلوب ساخر، ديكًا مخادعًا يرمز إلى المستعمر المتسلل الذي يستغل طيبة الناس ويبتزهم دون مقاومة.

 

وتلا ذلك العرض المسرحي “على الأبواب”، تأليف وإخراج د. نبيل بهجت، وبطولة كل من علي أبوزيد سليمان، مصطفى الصباغ، محمود سيد حنفي، ولاعب الأراجوز صابر شيكو. يدور العمل حول الخطر الكامن وراء الأبواب، متمثلًا في الأعداء المتربصين بالأمة منذ قرون، مشددًا على أن التوحد واليقظة هما السبيل الوحيد لمواجهة هذا المصير.

 

أكدت عروض اليوم الثالث أن التراث الشعبي لا يزال قادرًا على أداء دوره كمصدر للوعي والمقاومة والإلهام، حين يُعاد توظيفه بفكر معاصر وروح مسؤولة.

مقالات مشابهة

  • التراث تجارب ملهمة في ثالث أيام مهرجان الأراجوز المصري في بيت السحيمي «صور»
  • سلطنة عُمان وجهةٌ دوليّةٌ لممارسة أنشطة سياحة المغامرات
  • متحف شرم الشيخ يشارك في معرض قرية التراث
  • مجلة اليونسكو: العُلا «لؤلؤة الصحراء السعودية» تكشف أسرار آلاف السنين
  • أيمن سماوي، “تعالوا نُكمل الحكاية”. في حديث مع المدير التنفيذي لمهرجان جرش للثقافة والفنون
  • اختتام أعمال «مؤتمر التراث الثاني» بالشارقة
  • إطلاق النسخة العاشرة من مسابقة حسن عطية للتأليف المسرحي
  • جرائم التنقيب عن الآثار تهدد التراث المصري والداخلية تتصدى
  • الساعدي تبدع لوحات بصرية مستوحاة من التراث
  • «معهد الشارقة للتراث» يفتتح مؤتمر «التراث الشعبي بعيون الآخر»