في ديسمبر/كانون الأول الماضي، شكَّلت الولايات المتحدة الأميركية تحالفا يضم أكثر من عشرين دولة أُطلق عليه اسم "حارس الازدهار" بدعوى الرد على هجمات الحوثيين على السفن في البحر الأحمر، أصدر التحالف تحذيرا لوقف العمليات، لكنَّ الحوثيين لم يتوقفوا عن استهداف السفن التابعة لدولة الاحتلال الإسرائيلي والمتجهة إليها، بل إنهم كثفوا هجماتهم مؤخرا، لتقرر القوات الأميركية والبريطانية في النهاية توجيه ضربات جوية وصاروخية على أهداف داخل الأراضي اليمنية.

 

ما طبيعة الضربة الأميركية البريطانية؟

 

في فجر الجمعة 12 يناير/كانون الثاني الجاري، ضربت القوات الأميركية والبريطانية أكثر من 60 هدفا في 16 موقعا للحوثيين، تلتها ضربة أصغر فجر اليوم السبت. وتقول وزارة الدفاع الأميركية (1) إن الأهداف تنوعت بين مستودعات الذخيرة، ومرافق الإنتاج، وأنظمة إطلاق الصواريخ والمسيرات، وأنظمة رادار الدفاع الجوي، ومراكز القيادة والسيطرة، التي عادة ما تدير العمليات القتالية وتتولى مهام التنسيق بين الوحدات.

 

تركزت الضربات على مناطق قريبة من مضيق باب المندب مثل الحديدة وتعز وصنعاء، وقامت بها مركبات بحرية مثل "يو إس إس فلوريدا"، الغواصة الأميركية من طراز "أوهايو" التي تحمل 154 من صواريخ كروز من طراز "توماهوك"، إلى جانب عدد من السفن السطحية الأميركية التي لم تحدد، مع طائرات "تايفون" النفاثة، وهي مقاتلات متعددة المهام تعمل بمحركين ويقودها طيار واحد، وتُعَدُّ الطائرات الأساسية لسلاح الجو البريطاني.

 

هذه ليست المرة الأولى التي يُستهدف فيها الحوثيون من قِبل قوات أميركية، ففي ديسمبر/كانون الأول الماضي، قامت طائرات هليكوبتر تابعة للبحرية الأميركية باستهداف زوارق حربية للجماعة اليمنية أثناء عملية لإيقاف سفينة الحاويات "ميرسك هانجتشو".

 

ما الصواريخ التي استهدفت المواقع الحوثية؟

 

لم تعلن الولايات المتحدة أو بريطانيا عن كل أنواع الصواريخ المستخدمة في الضربة، لكننا نعرف أن القوات البحرية الأميركية بشكل أساسي استخدمت صواريخ من طراز "توماهوك" للهجوم الأرضي (TLAM)، وهي صواريخ كروز بعيدة المدى، تُطلَق من السفن السطحية والغواصات، وتحمل رأسا حربيا متفجرا يزن 500 كيلوغرام تقريبا (2).

 

تتميز صواريخ "توماهوك" بأنها عالية الدقة، وهي تعمل على ارتفاعات منخفضة نسبيا، ويمكنها المناورة على طول خط سيرها نحو الهدف، وبذلك يمكنها تجاوز أنظمة الرادار، وتستخدم هذه النوعية من الصواريخ نظام تحديد المواقع العالمي، ما يُمكِّنها من تغيير مسارها بعد الإطلاق حسب تغير الأوامر من القيادة.

 

وإلى جانب ذلك، انطلقت من الطائرات البريطانية (3) صواريخ "بيفواي 4″، وهي نسخة بريطانية محسنة من صواريخ "بيفواي 2" التي تنتجها شركة "لوكهيد مارتن" الأميركية، وتعتمد في الأساس على قنبلة "إم كي 82" بوزن 227 كغم للأغراض العامة، ولكن مع إضافة باحث ليزر متقدم مثبت على رأس الصاروخ وزعانف للتوجيه، الأمر الذي يعطيها دقة شديدة. جُهِّز هذا الإصدار الأحدث من القنبلة بقدرات تحديد المواقع العالمية ونظام الملاحة بالقصور الذاتي، ما يرفع دقتها ويُمكِّنها من العمل في جميع الأحوال الجوية.

 

ما الذي يعنيه ذلك من الناحية الإستراتيجية؟

 

عموما، فإن مهام (4) كهذه تستخدم ذخائر موجهة بدقة (PGMs)، وهي أسلحة تُوجَّه لإصابة هدف محدد بدقة عالية وأضرار جانبية منخفضة، ولذا فهي تستخدم تقنيات مختلفة، مثل الليزر أو الرادار أو الأشعة تحت الحمراء أو نظام تحديد المواقع العالمي أو التوجيه بالقصور الذاتي لضبط مسار رحلتها وتصحيح أخطائها.

 

هذا يعني أن الولايات المتحدة وبريطانيا عمدتا -حتى الآن- إلى تقديم ضربة محدودة للحوثيين، تؤدي مهمة محددة هي الحد من قدرات الحوثيين على تنفيذ عملياتهم في باب المندب أو توسيعها مستقبلا، فضلا عن تقويض قدرات إطلاق الصواريخ الخاصة بهم، مع الحرص على خفض عدد الضحايا إلى الحد الأدنى من أجل تقليص فرص الرد الحوثي، هذه الضربة لا تشير بأي شكل إلى نية الانخراط في حرب أوسع.

 

وقد صرح الرئيس الأميركي بايدن نفسه في أكثر من مرة وبوضوح أن الولايات المتحدة الأميركية لا تريد أن تنخرط أو توسع الصراع في الشرق الأوسط (ويأتي ذلك في سياق أن شعبية الرجل تواجه مشكلة حاليا بعد الدعم غير المشروط لقصف الاحتلال الإسرائيلي لغزة، الذي تسبب في استشهاد عشرات الآلاف من الأبرياء).

 

ما الرد المتوقع من الحوثيين؟

 

أعلن الحوثيون بعد الضربة أن كل المصالح الأميركية والبريطانية في البحر الأحمر صارت "أهدافا مشروعة" بالنسبة لهم، وبناء على ذلك فربما يحاولون رفع معدلات العمليات في البحر الأحمر وتوسيعها لتشمل سفنا غير إسرائيلية، من المتوقع كذلك أن تزيد وتيرة إطلاق الصواريخ والمسيرات الحوثية ضد دولة الاحتلال الإسرائيلي شمالا خلال الفترة القادمة لإثبات أن الضربة الأميركية البريطانية لم تكن مؤثرة إلا بنزر يسير.

 

لن تكون هذه هي المرة الأولى التي يرد فيها الحوثيون مباشرة وبشكل عسكري على الجيش الأميركي، فخلال شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2023، أعلن الحوثيون عن تمكنهم من إسقاط مسيرة أميركية من طراز "إم كيو 9" في المياه الإقليمية لليمن. جاء ذلك بسبب قيام المدمرة الأميركية "يو إس إس كارني" بإسقاط صواريخ ومسيرات حوثية كانت متوجهة إلى إسرائيل.

 

يمتلك الحوثيون ترسانة ضخمة من الأسلحة لا يمكن لضربة كتلك أن تقضي عليها، وبشكل خاص فإن قدرات الحوثيين في نطاق مدى الصواريخ قد تطورت مؤخرا، تأمل مثلا صواريخ "طوفان" الباليستية التي يتراوح مداها بين 1350-1900 كيلومتر، التي استُخدمت مؤخرا لضرب أهداف في جنوب دولة الاحتلال، كل هذا وبالطبع لم نتحدث عن ترسانة الحوثيين من المسيرات الجديدة، مثل طائرات "صماد" بأنواعها التي تشبه مسيرات "شاهد" الإيرانية، ويتراوح مداها بين 1200-1700 كيلومتر.

 

إلى جانب ذلك، فإن القوات البحرية التابعة للحوثيين قد تطورت بشكل غير مسبوق، فباتت تمتلك زوارق قتال من أنواع مختلفة، بعضها يمتلك القدرة على حمل أسلحة متوسطة وخفيفة ويمكنها إطلاق صواريخ "كاتيوشا" عيار 107 ملم، ويمكن للبعض حمل أنظمة دفاع جوي، وقد طُوِّرت خصوصا لضرب السفن والسيطرة عليها.

 

يمتلك الحوثيون كذلك ألغاما بحرية لإتلاف أو تدمير السفن السطحية أو الغواصات، مع نسخ جديدة من الصواريخ الموجهة المضادة للسفن بمدى يتراوح بين 200-400 كيلومتر، وهي أخطر سلاح يمتلكه الحوثيون في هذا النطاق.

 

الصورة الكاملة: كيف يؤثر ذلك على الوضع في المنطقة؟

 

في أدنى الأحوال، سوف يحرص الحوثيون على إثبات فشل الضربة الأميركية البريطانية في تحقيق أهدافها من خلال تكثيف عملياتهم ضد الاحتلال، وهو ما يعني إمكانية تكرار الضربات الأميركية. لكن من غير المرجح أن تكون الضربات بعيدة المدى كافية لتحقيق أهدافها، فضلا عن أن تكرارها يخاطر بدفع الحوثيين إلى الرد.

 

يقود ذلك إلى إمكانية تطوير قوات التحالف عملياتها إلى وجود عسكري فعلي على الأرض لدفع الحوثيين نحو الداخل بعيدا عن خط الساحل لتقليص قدرتهم على تعطيل حركة السفن في البحر الأحمر، لكن هذا السيناريو يبقى غير مرجح حتى الآن بسبب تكلفته المرتفعة، خاصة أن ذلك كله يأتي في سياق العملية العسكرية البرية التي تشنها دولة الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، وهي معركة باتت تشارك فيها عدة أطراف منها مثلا حزب الله في الشمال والشرق، الذي يصعّد عملياته ضد دولة الاحتلال يوما بعد يوم، ناهيك بـ"المقاومة الإسلامية في العراق" التي استهدفت القواعد الأميركية في سوريا والعراق بأكثر من 120 هجوما حتى الآن.

 

هذه الجهات ربما تصعّد بالتبعية عملياتها ردا على العملية الأميركية البريطانية ضد الحوثيين، وكل ما سبق من شأنه أن يصعّد الصراع في المنطقة وقد ينقله إلى حرب إقليمية تدخل فيها العديد من الجهات والدول، وهو احتمال يقلق الأميركيين إلى حدٍّ كبير، خاصة مع زيادة الضغوط لإنهاء الحرب على غزة، ما يدفعنا للقول إن الضربات الأميركية تهدف في المقام الأول إلى الردع وإثبات قدرة واشنطن على التدخل لحماية الملاحة في البحر الأحمر، أكثر من كونها مُصمَّمة لتحقيق أهداف عسكرية حقيقية على الأرض.


المصدر: الموقع بوست

كلمات دلالية: اليمن أمريكا البحر الأحمر الحوثي الملاحة الدولية الأمیرکیة البریطانیة الاحتلال الإسرائیلی الولایات المتحدة فی البحر الأحمر دولة الاحتلال من طراز أکثر من

إقرأ أيضاً:

10 أسئلة لا بد منها لفهم تحولات نماذج العمل والأعمال

كتبت - رحمة بنت علي الكلبانية 

في الوقت الذي تحاول فيه تبني تقنية جديدة داخل مؤسستك، تكون مئات التقنيات والأنظمة الأخرى قد ظهرت وتقدمت بوتيرة أسرع، وهو ما يجعل نماذج الإنتاج والعمل حول العالم تتغير بشكل غير مسبوق، وفي خضم هذا التدفق المتسارع للابتكار اليوم تتولد لدينا الكثير من الأسئلة حول شكل العمل في المستقبل، وكيف ستعاد صياغة المصانع والمهارات والأدوار، وملامح العلاقة الجديدة بين الإنسان والتقنية.

وللإجابة عن هذه الأسئلة اعتمدنا في تقريرنا التالي على مجموعة من أهم المصادر الدولية وفي مقدمتها قاعدة بيانات لومينا (LUMINA) التابعة للمنتدى الاقتصادي العالمي، وهي أكبر قاعدة بيانات عالمية لتتبع التحول الصناعي وتشمل أكثر من ألف حالة واقعية في 32 دولة، كما استندنا إلى تحليلات شركة ماكينزي في تقريريها «إعادة تشكيل العمل في عصر الذكاء الاصطناعي التوليدي» و«حالة الذكاء الاصطناعي في عام 2025»، اللذين يقدمان رؤية معمقة حول تأثير الذكاء الاصطناعي التوليدي على المؤسسات وسير العمل والمهارات.

1. كيف تغيّر التحوّل الصناعي وأصبح أوسع من مجرد تجارب تقنية؟

وفقًا لبيانات المنتدى الاقتصادي العالمي ومنصة لومينا، لم يعد التحول الصناعي اليوم مجرد سلسلة تجارب صغيرة أو تطبيقات رقمية متفرقة، بل أصبح عملية شاملة تتحرك فيها التقنيات والعمليات والمهارات البشرية معًا وبالوتيرة نفسها. وتشير البيانات إلى أن الشركات التي تمزج بين الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء والأتمتة تحقق تأثيرًا إنتاجيًا أكبر بكثير مقارنة بتلك التي تعتمد على تقنية واحدة فقط، ما يؤكد أن عصر «الأداة الواحدة» قد انتهى، وأن القيمة الحقيقية باتت تولد من تفاعل الأنظمة وتكاملها داخل خطوط الإنتاج وسلاسل الإمداد.

2. من يقف وراء التحولات الكبيرة التي نشهدها في قطاع الأعمال اليوم؟

لا يبدأ التحوّل من رؤى استراتيجية بعيدة كما نتوقع، بل من المشكلات اليومية التي تسبّب الاحتكاك داخل العمليات، مثل توقف الآلات، أو ارتفاع الهدر، أو اختلال مواعيد التسليم، وهو ما أظهرته بيانات المنتدى، التي تقول إن ما يقرب من نصف التحوّلات الناجحة انطلقت من قضايا تتعلق بالتكلفة والجودة والسلامة، وأن هذا النوع من التحوّل يحقق أثرًا قابلًا للقياس أكبر بنحو مرة وثلث مقارنة بالبرامج التي تبدأ من أعلى الهرم الإداري. ويقدّم المنتدى مثالًا لمنتِج معادن كان يعاني من أعطال متكررة في الأفران، لكنه استخدم الصيانة التنبؤية بالذكاء الاصطناعي لتحويل الاضطراب إلى مصدر للمعرفة، فانخفضت فترات التوقف خلال ستة أشهر بنسبة تجاوزت 40%، وتقلّصت تكاليف التحويل بنسبة 20%، قبل أن يتوسع النهج ذاته ليشمل اللوجستيات وأنظمة الطاقة،

كما كشفت مراجعة 254 حالة مشابهة أن مرونة سلاسل الإمداد والإنتاجية ترتفعان معًا، وأن السيطرة على التقلبات تخلق ما يشبه حلقة أداء متصاعدة تتحسّن فيها مؤشرات الإنتاج والتكلفة والاستدامة في وقت واحد.  

وتورد البيانات مثالًا آخر لشركة إلكترونيات ربطت بيانات مخزون المورّدين بجدولة إنتاج مدعومة بالذكاء الاصطناعي، الأمر الذي خفّض تقلبات التوريد الواردة، ورفع استغلالية الخطوط من مستواها المتدني إلى مستوى أعلى بكثير، وساعدها على تحسين الالتزام بمواعيد التسليم بصورة لافتة.

3. ما الذي يجعل بعض نماذج الأعمال تنجح في توسيع التقنيات بينما تتعثر أخرى؟

«لا تنتشر التقنية ولا تتوسع ما لم تكن محاطة بعمليات ناضجة»، وذلك وفقًا لبيانات المنتدى، فالمواقع الصناعية التي تبلغ مستوى نضج في ثلاثة مجالات رئيسية وهي: الجودة والصيانة وتطوير القوى العاملة تتضاعف فرصها في نقل التقنيات من مرحلة التجربة إلى مرحلة التوسّع.

وتشير بيانات المنتدى كذلك إلى أن هذه المواقع تحقق مكاسب إنتاجية متوسطة تفوق 18%، مقارنة بنسبة أقل بكثير لدى المواقع التي تفتقر إلى هذا النضج، كما تسجّل تحسنًا أكبر في مؤشرات الاستدامة. ويؤكد التقرير أن المواقع التي تجمع بين نضج العمليات وتبنّي أكثر من تقنية واحدة تحقق إنتاجية أعلى بنحو 1.3 مرة، وأن البنية والانضباط في العمليات يختصران الزمن اللازم للانتقال من مرحلة التجربة إلى التوسعة بنحو 50%. ويقدم المنتدى مثالًا لمصنع إلكترونيات استهلاكية استطاع بعد توحيد أنظمة الجودة والصيانة أن يضيف أدوات رقمية لتدريب القوى العاملة خلال أسابيع قليلة، فشهد انخفاضًا كبيرًا في العيوب وتحسّنًا في مرونة الأداء. وتلفت البيانات إلى عامل مهم يتكرر في مواقع عديدة، وهو زمن تغيير الإعدادات داخل خطوط الإنتاج، حيث يظهر أن تقليص هذا الزمن يرتبط بوضوح بتحسّن زمن التسليم وانخفاض الأعطال الميدانية، إلى درجة تسجيل ارتباطات مرتفعة تفوق 0.7، بما يجعل هذه الممارسة البسيطة أكثر تأثيرًا من العديد من الأدوات الرقمية.

4. كيف أصبحت الاستدامة جزءًا من التنافسية وليس عبئًا على المصانع؟

الاستدامة لم تعد بندًا إضافيًا في المصانع، بل أصبحت محركًا تنافسيًا مباشرًا. فوفقًا لقاعدة البيانات فإن المبادرات التي تستهدف تقليل استهلاك الطاقة والمياه والمواد تحقق وفورات مالية تتراوح بين 25 و40%، إلى جانب تحسن ملحوظ في الالتزام بمواعيد التسليم. ويكشف تحليل 217 حالة أن الإنتاجية والاستدامة ترتفعان معًا بنسبة تفوق 21%، وأن التحكم الأفضل في الموارد يؤدي إلى تعزيز دقة التخطيط وتقليص التفاوت في العمليات، مما ينعكس على الأداء العام. كما تظهر أنماط إقليمية مختلفة؛ إذ تتقدم آسيا في كفاءة الطاقة، بينما تبرز أوروبا في الاقتصاد الدائري واستبدال المواد، وتتفوق أمريكا الشمالية في تتبع الانبعاثات واللوجستيات، وتورد البيانات أمثلة لمواقع هندسية وصناعية نجحت في خفض الهدر واستهلاك الطاقة والمياه، ورفع الإنتاجية بفضل أنظمة مراقبة دقيقة تربط البيانات بالتحكم اليومي في العمليات، مما يجعل الاستدامة عنصرًا مركزيًا في التصميم الصناعي وليس مجرد التزام بيئي.

5. أين يقف الإنسان في وسط هذه التحولات؟

على مستوى القوى العاملة، تؤكد البيانات أن الإنسان يبقى المنصة الأساسية التي تُبنى عليها التحوّلات، فالتقنيات تحدد ما يمكن فعله، لكن قدرة العاملين على التعلّم والتكيّف هي ما تحدد مدى التقدّم، وتظهر الأرقام أن نحو 75% من المواقع التي أولت اهتمامًا للسلامة والمهارات وتجربة العامل حققت أداءً يفوق المتوسط، كما أن المواقع التي استثمرت في برامج مهارات منظمة استطاعت توسيع مبادراتها بسرعة تفوق غيرها بنحو 2.5 مرة.

وتورد البيانات حالات عديدة تتعلم فيها الأنظمة الذكية والعاملون معًا، حيث تسهم أدوات مثل الواقع المعزز والتشخيص المدعوم بالذكاء الاصطناعي والتوائم الرقمية في تقليص منحنى التعلّم بنسبة تصل إلى 50%، بينما تواصل البيانات التشغيلية الجديدة تحسين الخوارزميات. وفي أحد مواقع مورّدي السيارات، أدى إشراك المشغّلين في تصميم لوحات قياس يومية إلى خفض الغياب وزيادة ملاحظات السلامة وتحسين throughput بصورة ملموسة، مما يعكس أن تحسّن القدرات الفردية ينتقل بسرعة إلى باقي المنظومة.

6. أيهما أفضل: التركيز على تقنية واحدة أم منظومة من التقنيات؟

تدخل الصناعة اليوم مرحلة جديدة عنوانها «التقارب»، ووفقًا لبيانات المنتدى لم تعد التقنيات تعمل منفردة، إذ تُظهر البيانات أن 94% من التحوّلات تستخدم أكثر من مجال تقني واحد. وتكشف الأرقام أن الذكاء الاصطناعي أصبح بمثابة «نسيج الربط» بين مختلف التقنيات، وأن أكثر من نصف تطبيقاته تُدمج مع إنترنت الأشياء أو السحابة أو التوائم الرقمية، في حين لم تصل سوى نسبة محدودة إلى التشغيل الذاتي الكامل.

وتشير البيانات إلى ارتفاع هائل في تبنّي الذكاء الاصطناعي التوليدي داخل المصانع وسلاسل الإمداد، بنسبة زيادة تبلغ 2400% خلال عامين فقط، وإلى دوره في التسريع من عمليات التوثيق، والتحسين، وإطلاق المنتجات. كما تُظهر أمثلة من مواقع دوائية وتغليف كيف أدى دمج التوائم الرقمية مع الذكاء الاصطناعي إلى خفض أزمنة الإطلاق بنسبة قاربت الأربعين في المائة، وتوفير آلاف الساعات الهندسية، إلى جانب تقليل استهلاك الطاقة والحد من الهدر.

7. كيف يغيّر الذكاء الاصطناعي التوليدي قواعد العمل داخل المؤسسات ؟

بات الذكاء الاصطناعي التوليدي يحضر بقوة في مكان العمل، غير أن أثره الحقيقي لا يزال غير مستقر، إذ تظهر بيانات شركة ماكينزي في تقريريها «إعادة تشكيل العمل في عصر الذكاء الاصطناعي التوليدي» أن ثلثي الشركات حول العالم تستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي، لكن القيمة الفعلية تظل محدودة ما لم تُعاد هيكلة طريقة العمل ذاتها. وتبيّن ماكينزي أن هذه التكنولوجيا تختلف عن برامج المؤسسات التقليدية، لأنها لا تُستخدم كأداة فقط، بل كقدرة تتطلب إشراك العاملين في التجربة والتطوير والتعلم المستمر. وتشير البيانات إلى أن الموظفين يستخدمون أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي بمعدل يفوق إدراك القادة بثلاث مرات، مما يعني أن التحول يجري بالفعل من القاعدة إلى القمة، لكن دون إطار تنظيمي واضح يستفيد منه الجميع.

8. لماذا تحتاج المؤسسات إلى الثقة والحوكمة قبل استخدام الذكاء الاصطناعي؟

تفسر ماكينزي هذا التحول بالقول: إن سهولة استخدام الواجهات القائمة على اللغة، وقدرة النماذج الجديدة على تفسير كميات ضخمة من البيانات أو كتابة الشيفرات أو تنفيذ خطوات معقّدة، تجعل الذكاء الاصطناعي جزءًا من المهام اليومية، وليس مجرّد مشروع تقني، لذلك ترى الشركة أنه لا يمكن للمديرين الاعتماد على نهج «تزويد الموظفين بأداة جديدة» وانتظار النتائج، بل ينبغي إعادة صياغة طريقة العمل بالكامل، بإنشاء ما تسميه المقالة بـ«نقطة شمالية» واضحة، تقوم على النتائج وليس الأدوات.

وتقول إن المؤسسات التي تعيد تصميم سير العمل من بدايته إلى نهايته، بحيث تتكامل فيه قدرات البشر مع قدرات الذكاء الاصطناعي، تكون أكثر قدرة على تحقيق تحوّل قابل للتوسع، كما توضح ماكينزي أن تغيير طريقة العمل يتطلب بناء الثقة أوّلًا، فالموظف لن يعتمد على الذكاء الاصطناعي ما لم يثق في مخرجاته.

وتظهر بيانات الشركة كذلك أن المؤسسات التي تستثمر في تطوير الحوكمة وبناء قواعد بيانات واضحة ونظم مراقبة للجودة تكون أكثر قدرة على تحويل الذكاء الاصطناعي إلى قيمة فعلية، كما أن الشركات التي تبني أساسًا قويًا للثقة تضاعف فرص تحقيق نمو مرتفع في الإيرادات. وتقدّم ماكينزي مثالًا عن بنك مورغان ستانلي الذي درّب مساعدًا ذكيًا على أكثر من مائة ألف تقرير بحثي، لكنه لم يطلقه للموظفين إلا بعد وضع إطار دقيق للتقييم والجودة، ما أدى إلى اعتماد واسع بلغ 98% من مستشاري الثروة خلال فترة قصيرة.

9. كيف ستبدو علاقة الإنسان والآلة مع انتشار ما يعرف بـ«الوكلاء الأذكياء»؟

إن إعادة تشكيل العمل تمر بثلاث مراحل أساسية: مرحلة استخدام الوكلاء الذكيين في تنفيذ مهام محددة داخل سير العمل، ثم مرحلة تشغيل مجموعات من هؤلاء الوكلاء لإنجاز عمليات كاملة بإشراف بشري، ثم مرحلة بناء «سرب عمل» (agentic swarm) قادر على تنفيذ العمليات بالكامل بصورة شبه مستقلة، بينما يركّز العاملون على مهام أعلى قيمة، وتوضح ماكينزي أنه رغم أن المؤسسات لم تصل بعد إلى المرحلة الأخيرة على نطاق واسع، فإن هذا هو الاتجاه الذي بدأت تتجه إليه الشركات التي تريد الاستفادة الكاملة من قدرات الذكاء الاصطناعي. وتخلص المقالة إلى أن نجاح هذا التحوّل يعتمد على إشراك العاملين، وليس على فرض التحوّل من أعلى إلى أسفل، إذ تشير بيانات ماكينزي إلى أن إشراك نسبة صغيرة من العاملين، لا تتجاوز 7%، في جهود التحوّل يمكن أن يضاعف فرص تحقيق نتائج مالية إيجابية، في حين تصل المؤسسات الأكثر نجاحًا إلى إشراك بين 21% و30% من الموظفين.

وتظهر البيانات أن «المستخدمين الخارقين» -وهم الموظفون الأكثر حماسة للتقنية- يؤدون دورًا أساسيًا في نشر ثقافة التغيير، وأن المديرين من الجيل الجديد، خصوصًا في الفئة العمرية بين 35 و44 عامًا، هم الأكثر إلمامًا بالذكاء الاصطناعي، ما يجعلهم قوة دافعة في هذه التحولات.

10. كيف كان مشهد الذكاء الاصطناعي في 2025، وما التحدي الأكبر أمام المؤسسات اليوم؟

وفقًا لتقرير آخر من ماكينزي بعنوان: «حالة الذكاء الاصطناعي في عام 2025»، تبين أن استخدام الذكاء الاصطناعي بات شبه عام إذ يوضح أنه نحو تسعة من كل عشرة مشاركين في الاستطلاع قالوا إن شركاتهم تستخدم الذكاء الاصطناعي بانتظام، سواء في تحليل البيانات أو الأتمتة أو تطوير المنتجات، ومع ذلك، يشير التقرير إلى أن معظم المؤسسات لا تزال في مرحلة التجربة أو التطبيق المحدود، وأن نسبة قليلة فقط بدأت بالفعل في توسيع مشاريع الذكاء الاصطناعي على مستوى المؤسسة.

وتوضح ماكينزي هنا أن وتيرة التبني تتفاوت بشكل كبير، فبينما توسّع بعض المؤسسات استخدام الوكلاء الذكيين في وظائف مثل إدارة مكاتب الخدمة أو البحث المعرفي، فإن قطاعات كاملة لا تزال في المراحل الأولى من الاختبار، وتشير البيانات إلى أن نحو 62% من المشاركين يقولون إن شركاتهم تجرب الوكلاء الذكيين، في حين أن حوالي 23% فقط وسّعوا هذه الاستخدامات في وظيفة واحدة أو وظيفتين ضمن المؤسسة. ويظهر التقرير أن الاستخدام الأعلى للوكلاء الذكيين يتركّز في قطاعات التكنولوجيا والإعلام والاتصالات والرعاية الصحية.

ويبين التقرير أن المؤسسات الأكثر نجاحًا تستفيد من الذكاء الاصطناعي ليس فقط لتحقيق الكفاءة، بل لتحقيق النمو والابتكار، فرغم أن معظم المؤسسات تحدد الكفاءة هدفًا رئيسيًا، فإن الشركات الأكثر استفادة هي التي تجمع بين الكفاءة والنمو وتطوير منتجات جديدة، كما تظهر البيانات أن 64% من المشاركين يرون أن الذكاء الاصطناعي يعزز الابتكار داخل مؤسساتهم، لكن أقل من 40% فقط يقولون إنهم لمسوا أثرًا مباشرًا على مستوى الأرباح التشغيلية.

ويرى التقرير أن مفتاح الاستفادة الحقيقية من الذكاء الاصطناعي يكمن في إعادة تصميم سير العمل، فالمؤسسات التي تكتفي بإضافة الذكاء الاصطناعي إلى عملياتها القائمة تحقّق نتائج محدودة، أما تلك التي تعيد تصميم العمليات بالكامل حول الأدوار الجديدة للإنسان والآلة فهي الأكثر قدرة على الحصول على فوائد ملموسة. ويشير التقرير إلى أن نصف المؤسسات الأكثر تقدمًا تخطط لاستخدام الذكاء الاصطناعي لتحويل أعمالها في العمق، وأن هذه المؤسسات تعيد بالفعل صياغة وظائفها ومسارات العمل بحيث يصبح الذكاء الاصطناعي جزءًا أساسيًا من كل خطوة إنتاجية أو تحليلية. ويعرض التقرير اختلافًا في توقعات الشركات تجاه أثر الذكاء الاصطناعي على حجم القوى العاملة، إذ يتوقع نحو ثلث المشاركين انخفاض عدد العاملين، بينما يرى 43% أنه سيبقى دون تغيير، ويعتقد 13% فقط أنه سيرتفع. وعلى الرغم من هذا التفاوت، إلا أن التقرير يؤكد أن الذكاء الاصطناعي أصبح جزءًا من البنية اليومية للعمل، وأن الانتقال من التجارب الصغيرة إلى مشاريع أكبر لا يزال التحدي الأكبر لمعظم المؤسسات.

مقالات مشابهة

  • هل تنجح سوريا في تنفيذ اشتراطات إلغاء قانون قيصر؟
  • قائد القوات البحرية يشرف على مراسم تفتيش الغراب قاذف الصواريخ “رايس حسان بربيار”
  • هل تتحرك واشنطن لإسقاط مادورو؟.. أسئلة حول استراتيجية ترامب المتصاعدة في فنزويلا
  • الدبيبة يجيب عن أسئلة المواطنين مباشرة!
  • شحنات لا تصل...كيف استغل الحوثيون المهرة لتهريب السلاح والخبراء
  • واشنطن: الحوثيون يلجؤون إلى الترهيب لإخفاء فشلهم في إدارة المناطق الخاضعة لهم
  • سوريا.. العثور على مستودع صواريخ في ريف درعا
  • التلفزيون السوري: ضبط مستودع صواريخ معدة للتهريب في ريف درعا الشرقي
  • 10 أسئلة لا بد منها لفهم تحولات نماذج العمل والأعمال
  • الاحتلال يزعم ضبط صواريخ وإحباط بنية تحتية مسلحة بالضفة