لماذا تعثرت 25 يناير؟
تضافرت خيبة الأمل والشعور بلوم الذات مع الواقع المتردي للأمة خاصة في غزة وعموم فلسطين.
انتبه الغرب لخطورة التحرر من سطوة رجال زرعهم في حكم هذه الدول لتحقيق مصالحه دون حاجة لاستمراره في احتلالها مباشرة.
قويت شوكة "الثورات المضادة"، وترنحت القوى الثورية في مصر وغيرها تحت أسر أولي كان لهواء شديد مباغت من فرص الحرية والعمل السياسي المنفتح الآفاق.
كان يفترض أن تشارك الجماعة في منع الأحداث المزلزلة التي تتعرض لها، بالإضافة لواقع مصر الداخلي الأكثر من سيئ بفعل انفرد الديكتاتور بحكمها على عين الغرب
واقع الحياة في مصر يزداد صعوبة على المواطن العادي الكادح ساعة بعد أخرى لا يوما بعد آخر، ويكفي أن المصريين لا يكادون يجدون الدواء للعلاج فضلا عن تعذر الغذاء.
سقطت الثورة المصرية في قلة الخبرة بمجالات ضرورية لإدارة الدولة؛ فظنت قوى الثورة إمكان عقد تحالفات مع الغرب باحترافية، وأنه يحترم "كلمته" ووعده معها.
جاء 2013 بمحنة عارمة للجماعة لم تقدها لمراجعة نفسها لمعرفة الخلل ومحاولة الخروج من تبعات عقد من الأزمة، أو تعديل النهج والمسار بما يفيدها وينمي انتماءاتها لمصر.
* * *
مرت في هدوء بالغ الذكرى السنوية الثالثة عشرة لمحاولة ثورة 25 يناير، بما لا يتناسب مع ما توقعه عشرات الملايين من مخلصي المصريين والعالم منها.
ففي حين انتظر شرفاء العالم في 2011م تغييرا مستداما في مصر قلب الأمة العربية والإسلامية يعيد إليها رونقها وثقلها، ويبث الأمل ويحوله لمجهودات لتغيير وجه الدول الأفريقية خاصة، والمستضعفة بفعل "الاحتلال المُبطن" أو الثقافي، فتضيء معاني التحول للإيجابية ونبذ التأخر والتخلف من مختلف دول العالم الثالث.
ويبذل شبابها الحالم بفرصة عمل وحياة في الغرب مجهودات متفانية لتغيير نمط حياة بلاده وجلب النهضة والتقدم إليها، خاصة أن محاولة الثورة المصرية جاءت في إطار منظومة سبقتها إليها تونس ولحقتها بلا ترتيب: ليبيا، سوريا، اليمن، كما وُئِدت محاولات أو انتفاضات بدولتين عربيتين أخريين على الأقل، إلا أن ما حدث بالنهاية كان مروعا ومريعا للأسف الشديد.
لقد انتبه الغرب لخطورة المحاولات المضنية للتحرر من سطوة رجال زرعهم في حكم هذه الدول لتحقيق مصالحه دون حاجة لاستمراره في احتلالها مباشرة، فقويت شوكة "الثورات المضادة"، ترنحت القوى الثورية في مصر وغيرها تحت أسر أولي كان لهواء شديد مباغت من فرص الحرية والعمل السياسي المنفتح الآفاق.
جاءت فرص التخطيط لمستقبل ملؤه التطلع لنخب لم تكن على مستوى الحدث أو حتى نحو مقارب، فالذين كان يجدر بهم الإلمام بالخطط المستقبلية كانوا -إلا القليل بل النادر- يعانون من إشكالية كبرى مع تخيل إدارة المفاصل الرئيسية للدول، عوضا عن أن الانفتاح الشديد بعد انغلاق مضنى أصاب كثيرين من المنتمين للعمل الثوري بأزمة صعب عليهم اجتيازها، إذ ظنوا أنهم أحاطوا بالأمور من جميع أبعادها الداخلية والخارجية خاصة في دولة مثل مصر.
فأزماتها الداخلية من المُحال التحكم فيها وإدارتها ولو بأقل قدر ممكن من المخاطر إلا لمُحنّكٍ في معرفة دهاليز وأضابير وخفاياها السياسية والإدارية والاجتماعية والاقتصادية من قبل. وكل هذه المجالات وغيرها تحتاج لفطنة وكياسة نادرين لفهم غير المعلن والخفي المستتر المتفق عليه؛ قبل الواضح الظاهر على أنه حقائق.
وكان أن سقطت الثورة المصرية في براثن قلة -وأحيانا انعدام- الخبرة في المجالات الأكثر من ضرورية لإدارة الدولة؛ خاصة الملف الخارجي، حيث ظنت أغلب القوى الثورية أنه يمكنها عقد التحالفات اللازمة مع الغرب باحترافية، وأن الأخير يحترم "كلمته" ووعده معها، متناسين أن صلاح نواياهم لا يعني -بالتبعية- تحول العدو لصديق.
ولعل من أبرز ما قيل في هذا الأمر ما صرح به الأكاديمي ومستشار المخلوع مبارك الأسبق، مصطفى الفقي، والكاتب الراحل محمد حسنين هيكل، بعد محاولة الثورة، فقال الأول إنه من المستحيل أن يحكم مصر رئيس لا ترضى عنه إسرائيل والولايات المتحدة، وكان الفقي يقصد بالطبع الحكم المستقر المستمر، أما الثاني فصرح في "الأهرام" قبل الانتخابات الرئاسية في 2012م بأيام: إن أمريكا لا يمكن أن تسمح لرئيس إسلامي أن يحكم دولة تطل على البحر المتوسط.
وقعت محاولة الثورة في إشكالية معقدة أخرى لا تقل عن النقطتين السابقتين، إذ واكبت ما ظنته جماعة الإخوان المسلمين استواء منظومة انتشارها والتمكين لها في مصر وفق رؤية مؤسسها الراحل الإمام حسن البنا، رغم إشكاليات الرؤية نفسها ووفاة صاحبها عام 1949م، واعترافه قبلها بأنه "تسرع" بالخروج بها من المسجد للحياة، خاصة السياسية، دون تربية كافية لأتباعه وأولهم الشباب، ورغم أن الرؤية نفسها قادت لأزمة عارمة للجماعة في 1954م وعصف الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بها بعد ما عدته الجماعة واحدا من أبرز أتباعها.
ثم كان عدم مراجعة الجماعة للسياق الفكري والمنظومة الحركية التي قادت للأزمة وتكرارها -لحد ما- في 1966م، وجاء عام 2013م بمحنة عارمة للجماعة للأسف لم تقدها هي الأخرى لمراجعة نفسها لمعرفة الخلل ومحاولة الخروج من تبعات قرابة 10 سنوات من الأزمة، فضلا عن تعديل المنهج والمسار بما يفيدها وينمي انتماءاتها لمصر وغيرها.
بقي أن التحديات الكبرى التي تواجه مصر الآن هي محصلة ديكتاتورية الجنرال ثم خيبات أمل خطيرة لصادق القوى الثورية، تزداد المحصلة خطورة لما ترتبط بندم على اختيارات أثبتت الأيام أنها أكثر من سيئة ومنها -للأسف المرير- تعيين عبد الفتاح السيسي وزيرا للدفاع في آب/ أغسطس 2012م، وترقيته ترقيتين استثنائيتين في سابقة بالغة الندرة، ومنحه ثقة مطلقة رغم علامات الاستفهام الكبرى التي كانت تدور حوله كمدير للمخابرات الحربية في عهد مبارك.
فقد تضافرت خيبة الأمل والشعور بلوم الذات مع الواقع المتردي للأمة خاصة في غزة وعموم فلسطين، حيث كان من المفترض أن تشارك الجماعة في منع الأحداث المزلزلة التي تتعرض لها، بالإضافة لواقع مصر الداخلي الأكثر من سيئ بفعل انفرد الديكتاتور بحكمها على عين الغرب؛ فمن تضاعف الدين الخارجي والداخلي لمرات والتهديد الذي تتعرض له حصتها من مياه النيل، إلى القبضة الأمنية الخانقة التي يتعرض لها الثوار، أو حتى مَنْ يشك في انتمائه للمسار النضالي.
فإذا نظرنا لواقع الأحوال الاقتصادية المترتب للاستجابة لمتطلبات صندوق النقد والتماهي في الوقوع في فخ الديوان لأقصى درجة؛ علمنا أن واقع الحياة في مصر يزداد صعوبة على المواطن العادي الكادح ساعة بعد أخرى لا يوما بعد آخر، ويكفي أن المصريين لا يكادون يجدون الدواء للعلاج فضلا عن تعذر الغذاء.
لقد كانت محاولة الثورة منذ 13 عاما فرصة كبرى لنهضة شاملة لمصر تم تأجيلها لحين آخر، كما كانت أحداث انتفاضة 16-17 كانون الثاني/ يناير 1977م مقدمة لـ25 يناير 2011م، فإن أعمار الشعوب والثورات تتقلص فيها السنوات وتتواصل المحاولات شريطة أن تستفيد القوى المناهضة المخلصة من أسباب تأجيل حصاد 25 يناير الإيجابي وتحسن إدارة المرحلة الراهنة، فتراجع نفسها وتنقي صفوفها من أصحاب المصالح والمنافع الذاتية، ليتواصل المسار الثوري الجاد الحقيقي قريبا وصولا لبداية نهضة مثمرة لمصر ومن ثم الأمة!
*محمد ثابت كاتب وناشط مصري
المصدر | عربي21المصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: مصر الغرب السيسي الإخوان الثورة 25 يناير الثورات المضادة فی مصر
إقرأ أيضاً:
العمالة للغرب وعواقبها الكارثية على العرب
إن كل هزيمة يتعرض لها العرب على أيدي الغرب لم تأتِ فجأة، بل سبقتها سنوات طويلة من التحالفات والعلاقات الحميمية، يُوهم خلالها الحلفاء بأن المودة والمصالح المشتركة ستدوم. لكن التاريخ يثبت أن الغربيين لا يحفظون الجميل لأحد، وأنهم خير من يستغل الحلفاء أيما استغلال، قبل أن يتخلصوا منهم بشكل مهين ومتعمد.
هذه القاعدة لم تختلف بين أفغانستان والعراق واليمن، ولا بين أي نظام أو حركة تظن أنها قادرة على الاعتماد على الغرب. فالثمن الذي يدفعه الحلفاء المحليون غالبًا ما يكون باهظًا، شاملًا الانهيار السياسي، والفوضى الأمنية، والتدخل المباشر، والوصاية المعلنة أو المخفية، بما يبرهن أن أي علاقة حقيقية أو موثوقة مع الغرب للعرب هي مجرد وهم، وأن الخيانة التاريخية هي القاعدة لا الاستثناء.
في الماضي، تحالفت الوهابية مع واشنطن لدحر السوفيات من أفغانستان، ظنًا منها أن التحالف سيضمن لها الحماية والنفوذ الدائم. لكن هذه المودة لم تدم، ففي غضون سنوات قليلة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، انقلبت إلى رعب، لتبدأ الولايات المتحدة في ضرب الوهابية في أفغانستان وبقية العالم تحت ذريعة مكافحة الإرهاب، مؤكدةً أن الغرب لا يعترف بالولاءات ولا يحفظ الجميل، وأن أي تحالف معه قائم على مصالحه الذاتية فقط، بغض النظر عن الثمن الذي يدفعه الحلفاء المحليون.
وفي السياق نفسه، تحالف صدام حسين مع واشنطن في الثمانينيات لضرب الثورة الإسلامية في إيران، في إطار الحرب العراقية–الإيرانية التي دامت ثماني سنوات. فصدام يعتقد أن الدعم الغربي، خصوصًا العسكري والاستخباراتي، سيضمن له التفوق على إيران، ويقوي موقفه الإقليمي داخليًا وخارجيًا. وقد حصل العراق على تمويل ضخم، وأسلحة متقدمة، ودعم سياسي من واشنطن وأوروبا، بينما كانت وسائل الإعلام الغربية تروج لصدام باعتباره خط الدفاع ضد «الخطر الشيعي الثوري».
لكن هذا التحالف لم يدم طويلاً، إذ أنه بعد نهاية الحرب، لم يلبِ الغرب أي مطالب لصدام، وبدأوا بشن العقوبات الاقتصادية عبر أدواتهم الخليجية قبل أن يستدرجوه إلى حرب الخليج في عام 1990م، لتستغل الولايات المتحدة هذا التصرف لتوجيه ضربات قاسية للعراق وفرض حصار اقتصادي صارم استمر أكثر من عقد، أدى إلى انهيار الاقتصاد وتفاقم الأوضاع الإنسانية، قبل التخلص منه نهائياً عام 2003م.
وفي اليمن، منذ عام 2004م، تحالفت واشنطن مع النظام الحاكم بشقيه الرسمي والإخواني ضد المشروع القرآني بقيادة السيد حسين بدرالدين الحوثي – رضوان الله عليه – جاء هذا التحالف في إطار سياسة أمريكية تهدف إلى حماية نفوذها في البلاد وضمان السيطرة على مفاصل القرار في اليمن، والتصدي لأي حركة ترى فيها تهديدًا للمشروع الصهيوني في المنطقة. وكانت النتيجة الأولى لهذا التدخل سقوط نظام علي عبدالله صالح، بعد أن ساعدت واشنطن حلفاءها من حزب الإصلاح في إسقاطه بثورة شعبية، وقد اعترف صالح لاحقاً أن تمكينه للإخوان من مفاصل الدولة كان بتوجيهاتٍ أمريكية، ليؤكد أنه والإخوان عملاء للبيت الأبيض، وأن واشنطن تضرب حلفاءها بحلفائها.
وبالنسبة لحزب الإصلاح، ورغم إعلانه البراءة من جماعة الإخوان، إلا أن حظر ترامب للجماعة شمل حزب الإصلاح باعتباره فرعها في اليمن، ولذلك عمدت واشنطن إلى إسقاط شرعيتهم المزعومة عبر المجلس الانتقالي بعد أن وجدت فيه الحليف الأرخص والأوفى من الإخوان وشرعيتهم المزعومة.
وحتى الشخصيات التي انسلخت من مواقفها ومبادئها سعيًا لضمان بقائها في السلطة، مثل العرادة واليدومي وغيرهما، لن تكون استثناءً من هذه القاعدة. فالتجربة تؤكد أن الارتهان لواشنطن لا يمنح حماية دائمة، بل يؤجل السقوط لا أكثر. فهؤلاء، كما غيرهم من الحلفاء المحليين، سيجدون أنفسهم في لحظة ما خارج الحسابات الأمريكية، لتكون نهايتهم السياسية إما العزل والإقصاء، أو التخلي الكامل، للأسباب ذاتها التي أطاحت بحلفاء سابقين جرى استهلاكهم ثم رُمي بهم عند تغير المصالح.
إن التاريخ يثبت أن كل تحالف عربي مع الغرب ينتهي بالخيانة والدمار، وأن أي وهم بالتعايش أو الاستقرار تحت مظلة القوة الغربية هو مجرد خدعة. ففي أفغانستان انقلبت المودة بين الوهابية وواشنطن إلى رعب، وفي العراق دفع صدام حسين ثمن تحالفه بالدمار والحصار ثم الموت، وفي اليمن أصبح الحلفاء المحليون رهينة للقرارات الأمريكية، ونهايتهم الحتمية هي العزل أو التخلي، تمامًا كما حدث مع سلفهم المرتبط بالمشروع الصهيوني العالمي.