كوابيس الشعوب وكواليس السياسة
تاريخ النشر: 31st, January 2024 GMT
آخر تحديث: 31 يناير 2024 - 9:54 صبقلم:فاروق يوسف صار معروفا أن جزءا مما يقال علنا عن اللقاءات التي تجري في الخفاء لا يمت إلى الحقيقة بصلة. فما يقال داخل صالات مغلقة يظل حبيس تلك الصالات. وإن غضب رئيس حكومة على وزرائه فلا أحد يجرؤ على نقل الكلمات التي تفوه بها. أما التسريبات فلها شأن آخر. يسخر مسؤول من معارضيه بطريقة مشينة ليفاجأ بأن كل كلمة كان قد قالها وجدت طريقها إلى آذان الناس.
ولأن السياسيين هم من معدن مختلف عن معدن البشر فإنهم لا يضيقون ذرعا بما يحدث. لديهم قدرة استثنائية على التعايش مع الفضائح التي قد تسقطهم أو تجرهم إلى المحاكم بعض الأحيان. السياسة تعني بشكل أساس القيام بتصريف شؤون الشعب. ولكن الأمر مقلوب في العالم العربي. الشعب هو الذي يقوم بتصريف شؤونه بشكل روتيني. أما السياسيون فلهم مهمات أخرى لا تُرى، وليس من حق أحد أن يطلع عليها. وكل حديث عن الشفافية هو مقلب فيه الكثير من المزاح الثقيل. لا يجد السياسي العربي ضرورة في أن يعرف الشعب ما الذي يقوم به وما الذي يفعله كما لو أن حياته الشخصية قد استولت على كل المساحة التي يتحرك فيها. قليلة تلك الحالات التي قدم فيها سياسي عربي استقالته بسبب كارثة يقع جزء منها على مسؤوليته. تنهار بنايات وتتصادم قطارات وتقع حرائق في مبان عامة ويتم الإعلان عن عمليات سرقة للمال العام ولا يحمّل سياسي واحد نفسه المسؤولية. ما جرى عام 2020 في لبنان حين انفجر مرفأ بيروت ليدمر نصف المدينة التاريخي هو أكثر المواقف التي تدل على أن العلاقة بين السياسي ووظيفته إنما تقيم في مكان يقع خارج المسؤولية. يقول بول بريمر، إنه كان يهين أفراد الطبقة السياسية الذين اختارتهم الولايات المتحدة لحكم العراق أثناء سنته التي قضاها حاكما مدنيا في سلطة الاحتلال الأميركي. حين صدرت مذكرات بريمر لم يُكذب سياسي عراقي واحد ممن صاروا حكاما مطلقي السلطة سطرا واحدا من تلك المذكرات. كانوا يتلقون إهانات المندوب السامي الأميركي برضا ومن غير سخط. أولا لأنهم يدركون أن النعمة التي هبطت عليهم هي ثمن وضاعتهم وخيانتهم وتدني منسوب الإنسانية في نفوسهم. وثانيا لأنهم يعرفون أن بريمر ذاهب وهم باقون. لذلك قرروا أن يحنوا رؤوسهم للعاصفة في انتظار أن يقفوا يوما ما ليصرحوا من غير خجل بأنهم قاوموا المحتل الأميركي وأنهم هددوه بأن يزلزلوا الأرض تحت قدميه إن لم تغادر قواته. قال نوري المالكي ذلك في لقاء تلفزيوني. والمالكي هو الذي حكم العراق في ظل الحماية العسكرية الأميركية ولم يغادر الحكم إلا بعد هزيمة القوات العراقية في الموصل في معركة لم تقع ضد مئات من مقاتلي “داعش” الذين دخلوا من الحدود مع سوريا بأسلحة خفيفة وسيارات مدنية. غير أن الأهم أن المالكي نفسه هو الذي وقّع مع الأميركان اتفاقية الإطار الإستراتيجي التي تسمح لهم ببناء قواعد عسكرية على الأراضي العراقية. ما الذي قاله المالكي للرئيس الأميركي جورج بوش قبل أن يسعى إلى أن يبعد حذائي منتظر الزيدي عن وجهه ليقنعه بالإبقاء على جزء من قواته وذلك من أجل حماية النظام؟ في مقابل ذلك الحدث التاريخي الذي لم تُعرف تفاصيله تكون كل تصريحات المالكي عن المقاومة مجرد هراء رخيص لا يمكن النظر إليه بطريقة جادة. وفي مكان آخر وإن كان متصلا يمكننا تخيل الصدمات التي تحدثها إسرائيل لو أنها كشفت عما قدمته لحركة المقاومة الإسلامية “حماس” من خدمات لتتمكن تلك الحركة من فصل غزة عن فلسطين وإضعاف السلطة الفلسطينية. لن تقوم إسرائيل بذلك لأن الفضيحة ستضمها إلى جانب “حماس” طرفي تخادم ونزاع في الوقت نفسه. هناك أطراف عربية كانت لها يد في كل ما جرى تمهيدا للوصول إلى كابوس غزة الذي صار يُقلق العالم خوفا على حياة الأبرياء الذين صاروا ضحايا لما كان يجري في الكواليس.“ولكنه ضحك كالبكاء” قال المتنبي. ما جرى في كواليس السياسة وما يجري هو الأساس الذي تُقام عليه المعادلات السياسية في عالمنا العربي، وكلها معادلات كارثية. تضرب الفجائع فيها الشعوب فيما ينجو السياسيون كما لو أنهم لم يفعلوا شيئا. غير أن الأكثر مدعاة للضحك الذي يشبه البكاء أن تلك الشعوب المنكوبة لا يزال في إمكانها أن تصنع من سياسييها أبطالا. وليس لنا إلا العزاء.
المصدر: شبكة اخبار العراق
إقرأ أيضاً:
كاتب فرنسي: هكذا تؤثر الشعبوية على السياسة الخارجية
تساءل كاتب العمود جيرار آرو: كيف ستتطور موازين القوى على المستوى العالمي في ظل ازدياد عدد الدول الغربية التي يقودها شعبويون؟ وإلى أي مدى يمكن أن تعيد هذه الموجة تشكيل موازين القوى عالميا؟
وفي عموده بمجلة لوبوان، أوضح الكاتب أن الحكومات -سواء في الديمقراطيات أو الأنظمة السلطوية- لم تعد قادرة حتى في سياساتها الخارجية على تجاهل ضغوط شعوبها التي باتت تحركها العواطف والتاريخ والاعتبارات الأخلاقية.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2لوتان: الشرق الأوسط بين هدنة هشة وقمة سياسية محفوفة بالمخاطرlist 2 of 2على غرار الرومان والإغريق.. هل الحضارة الأميركية آيلة للسقوط؟end of listونبه الكاتب إلى أن الشعبوية التي باتت تزحف نحو الحكم عبر صناديق الاقتراع لا تقتصر على تغيير السياسات الداخلية فقط، بل تمتد إلى التأثير في العلاقات الدولية، لأنها تقوم على خطاب وطني متشدد يرفض المؤسسات متعددة الأطراف، ويعلي من شأن السيادة الوطنية ويعيد الاعتبار لدور الدولة الأمة.
وهذا التوجه -حسب الكاتب- يرفض التعاون الدولي إلا على قاعدة المصالح المتبادلة، ويشكك في شرعية كيانات مثل الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، وبالتالي قد يعيد النظر في التزامات اتخذت في محافل دولية، سواء في مواجهة التغير المناخي أو دعم العدالة الدولية أو في تطبيق حق اللجوء.
ولا شك أن صعود الشعبويين في أوروبا كان له أثر مباشر في إضعاف الوحدة الأوروبية -كما يرى الكاتب- وقد كشفت ذلك أزمة "بريكست" والانقسامات حول قضايا الهجرة ودعم أوكرانيا.
ورغم تخلي التيارات المتطرفة في فرنسا عن فكرة مغادرة الاتحاد الأوروبي، فإن برامجها الاقتصادية المقترحة تتعارض مع الاتفاقيات الأوروبية، مما ينذر بصدام محتمل مع الشركاء الأوروبيين، حسب رأي الكاتب.
غير أن أكثر ما يثير القلق -بالنسبة للكاتب- هو موقف الشعبويين من الحرب في أوكرانيا، حيث يظهر بعضهم تساهلا مع روسيا، ويوجه انتقادات متزايدة لكييف والدول الداعمة لها.
إعلانوهذا الموقف يعكس انقساما فرنسيا تاريخيا، بين من يوالي الخارج والذي يدافع عن المصالح الوطنية -حسب الكاتب- إذ يرى البعض في الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نموذجا للرجل القوي الذي يحتاجه الغرب، كما كان الحال في السابق مع قادة مثل الفاشي الإيطالي بينيتو موسوليني أو الزعيم السوفياتي الراحل جوزيف ستالين.
ومما زاد من المخاوف -حسب الكاتب- عودة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، لما يجمعه بالشعبويين الأوروبيين من رؤى مشتركة، كالعداء للاتحاد الأوروبي، والترويج "للقيم التقليدية" والتشكيك في الديمقراطية الليبرالية.
وخُتم المقال بالتساؤل كما بدأ: هل تجد هذه التيارات الشعبوية الأوروبية الصاعدة حلفاءها الجدد في موسكو وواشنطن بدلا من بروكسل وبرلين؟