البلابسة يبحثون عن استراحة محاربين!
تاريخ النشر: 31st, January 2024 GMT
كان الخطاب البلبوسي (الجماعة الكيزانية التي ترفع شعار بل بس بمعنى استمرار الحرب حتى القضاء على الدعم السريع) المسنود من المثقفين النافعين مسرفا جدا في تضخيم المسافة الاخلاقية بين الجيش والدعم السريع في اتجاه ان الوطنية تقتضي القتال مع الجيش لماذا ؟ لدحر المليشيا واستئصالها من جذورها واي حديث يرفع شعار لا للحرب نعم للتفاوض هو خيانة وطنية وتأييد مستتر للمليشيا!
بعد الهزائم العسكرية المتلاحقة وبعد تدمير البلاد وتعذيب المواطنين بالحرب لعشرة أشهر عاد البلابسة إلى أرض الواقع ، ورغم كل شيء ومن باب الحرص على إيقاف الحرب نقول لهم عودا حميدا ووحد الله كلمتكم حول السلام وانار الله بصيرتكم لنبذ الحرب نهائيا والتعاون في تحقيق سلام مستدام لا مجرد استراحة محاربين .
المشكلة ان النغمة الجديدة في خطاب البلابسة (جناح المنامة وشمس الدين الكباشي) خففت مدفعيتها ضد الدعم السريع إلى الحد الادني (متلازمة البجاحة وقوة العين والفجور الفاضح تساعدهم على فعل ذلك بارتياح) ، وصوبت هجومها الكثيف إلى عدوها الحقيقي ممثلا في القوى المدنية الديمقراطية المناهضة للحرب والداعية إلى استعادة مسار ثورة ديسمبر المجيدة وهذا هو مربط الفرس!
انهم يريدون سلام تقاسم سلطة بين العسكر بغطاء مدني مصنوع على أعين العسكر ، غطاء مدني مطيع ومدجن تماما لا يتحدث مطلقا عن إصلاح أمني وعسكري ولا عن ولاية وزارة المالية على المال العام ولا عن عدالة انتقالية ولا عن اعادة بناء للدولة السودانية على اسس جديدة تعصمها من الانزلاق للحروب مجددا !
إيقاف الحرب هو خطوة إلى السلام ولكن مجرد إيقاف الحرب دون دفع استحقاقات السلام المستدام ممثلة في خروج العسكر من السياسة وانهاء الوضعية الشاذة ممثلة في تعدد الجيوش عبر تأسيس جيش جديد ، جيش ليس هو الدعم السريع وليس هو الجيش الحالي الذي يسيطر عليه الكيزان بل جيش وطني جديد بعقيدة جديدة وقانون جديد وهيكلة جديدة ، ومنظومة أمنية وشرطية جديدة .
،ان بناء سلام مستدام في السودان لن يتحقق بدون تحول ديمقراطي وهذا ماتشهد به تجربتنا العملية الحافلة باتفاقيات السلام التي انتهت جميعها وبلا استثناء إلى عودة الحروب بصورة أعنف وأوسع! استنادا إلى تجربتنا المريرة هذه نحتاج لمنظور جديد يربط السلام عضويا بمشروع تأسيسي للدولة السودانية يجعلها غير قابلة لاشتعال حرب أهلية جديدة ، وهذه عملية تاريخية معقدة وطويلة لن تتحقق ضربة لازب ، ولكن يجب عدم التنازل عن ضبط البوصلة الوطنية باحكام وبعزيمة صادقة باتجاهها ، اي باتجاه السلام والديمقراطية والتنمية كحزمة واحدة ترجمة لقيم الثورة الخالدة: حرية سلام وعدالة.
بعد هذه التطورات في خطاب البلابسة ارجو ان يكون كل مغفل او مخموم او مخدوع ( غير شريك في المؤامرة) ان البلابسة الذين ظلوا يرجموننا بالحجارة تخوينا وتجريما طيلة هذه الحرب لم يفعلوا ذلك عقابا لنا لاننا حلفاء للدعم السريع وغطاء سياسي له حسب اكاذيبهم الفاجرة! فهم الان يجرجرون اذيال هزيمتهم النكراء لاهثين خلف عبد الرحيم دقلو يستجدونه سلاما منزوع الديمقراطية، وفي المستقبل القريب لا نستبعد اعادة تشغيل قصائد المدح في الدعم السريع التي سبق ان سمعناها من قيادات الجيش ومن اخوات نسيبة ومن عتاة الكيزان! ولو قبل الدعم السريع بخارطة طريقهم للسلام ممثلة في نبذ أجندة التحول الديمقراطي وتجريمها، والتخلص من قحت وتقدم ولجان المقاومة وكل القوى الديمقراطية بمن فيها بعض المثقفين النافعين، التخلص منها جميعا باستئصال عنيف قتلا او اعتقالا او نفيا سوف يتغنى ويتراقص الكيزان على أنغام " شال البلا وزقلو محمد حمدان دقلو" نعم سيتراقصون لانهم منزوعي الحياء ولا يشعرون بوجود الشعب السوداني اصلا ناهيك عن ان يخجلوا منه ! ولانهم مدججين بآلة إعلامية فاجرة وماهرة في ترويج الفجور ! سيؤيدون ما اسموه بالمليشيا المتمردة في العلن ويعدون العدة في السر للتآمر مجددا واستئصال الدعم السريع الذي يسبحون بحمده في العلن ! لانهم لا يقبلون الشراكة ولا يعرفون سوى احتكار السلطة والثروة بشكل مطلق! سيواصلون معركتهم ضد الدعم السريع لازاحته والانتقام منه ومعاقبته على افشال انقلابهم وندخل مجددا في دوامة الحرب! فالغدر ليس جديدا عليهم ، فهم في سبيل معبودتهم السلطة ادخلو شيخهم الترابي إلى السجن وجعلوه يفترش كرتونة على الأرض!
ما هو الحل اذن؟
الحل لطي صفحة هذه الحرب وجعلها اخر حروب السودان هو فتح صفحة حقيقية للسلام المستدام وضبط البوصلة الوطنية باحكام في اتجاه سودان يتساوى فيه الجميع في ظل نظام ديمقراطي حقيقي وعدم المكابرة في قبول حقيقة استحالة الحكم العسكري في السودان.
أين موقع الكيزان من هذا السودان الديمقراطي ؟
مواطنون عاديون لا استئصال لهم على اساس انتمائهم السياسي والفكري مهما بلغت درجة الاختلاف معه ولكن بشرط التخلي عن استخدام العنف ، وفي هذا الإطار يجب تجريد تنظيمهم الأمني العسكري من أداة قهره للشعب السوداني واحتكاره للسلطة بالقوة ، فمن شروط الديمقراطية تحرير جيش البلاد من هيمنة الكيزان ، ومن شروطها عمليات دمج وتسريح للتخلص نهائيا من كتائب الظل وإغلاق حنفية المال المناسبة في كرش التنظيم الأمني العسكري الكيزاني ثلاثين عاما عبر معالجة الخلل البنيوي في جهاز الدولة الذي يسمح بتجنيب الإيرادات ووجود امبراطوريات اقتصادية متحكمة في ثروة البلاد القومية على رأسها الذهب لصالح تنظيم الكيزان او لصالح الدعم السريع.
هذه الحرب من نتائجها انها فككت جزء كبيرا من تمكين الكيزان العسكري والمالي، وكبدت الدعم السريع خسائر كبيرة في قواته وعتاده ، والخسارة الاعظم دفعها الشعب السوداني تقتيلا وتشريدا ونهبا للممتلكات وانتهاكا للاعراض وتدميرا للمنشآت المدنية والعسكرية المدفوع ثمنها من مال الشعب السوداني وإدخال البلاد في هذا النفق المظلم.
هذا الجرح الوطني الغائر الكبير والمؤلم يجب تضميده بعناية فائقة كي يلتئم ولا ينفتق مجددا ! وهذا لن يتم باي حلول استهبالية واحتيالية! بل يتطلب من الجميع دفع استحقاقات السلام المستدام من جميع الاطراف: الكيزان يجب أن يقبلوا بتفكيك ما تبقى من مركزهم الأمني العسكري ومليشياتهم ولا يعرقلوا بناء منظومة عسكرية وأمنية مهنية ووطنية لتحمي الوطن ولا تحكمه، لان طريق الحكم هو الانتخابات الحرة النزيهة التي تخوضها قوى سياسية على اساس تكافؤ الفرص، اما الانتخابات التي تجري بين قوى سياسية تعتمد على قدراتها الذاتية وقوى أخرى مدججة بسلاح الدولة ومخابرات الدولة ومال الدولة ومتحكمة في القضاء والنيابة العامة وفي مفوضية الانتخابات نفسها فهذه مسخرة ومهزلة مكتملة الأركان.
الدعم السريع يجب أن يقبل جديا بفكرة تأسيس جيش جديد مهني يأتمر بأمر قائده العام وقائده العام يأتمر بأمر القائد الأعلى ممثلا في رأس السلطة المدنية المنتخبة، بمعنى التخلي عمليا وليس بالاقوال فقط عن فكرة الجيش الموازي او فكرة وجود كتلة عسكرية تابعة للجيش اسميا ولكن ولاءها وتمويلها وقيادتها الفعلية خارج الجيش، وعليه ان يلتزم بمبدأ ولاية وزارة المالية على شركاته .
القوى المدنية الديمقراطية لم تشعل حربا ولم تسفك دم المواطن ولكنها مطالبة بتنظيم نفسها ورفع كفاءتها السياسية لخدمة الوطن المنكوب وعزل الانتهازيين والفاسدين في صفوفها والانفتاح على القوى الحية في المجتمع والتخلي عن منهج الشلليات ونزعات الاحتكار ومن ثم دفع استحقاقات الالتحام العضوي بالجماهير لان هذه الضمانة الوحيدة لابقاء جذوة قيم ومبادئ الثورة مشتعلة وطريق الديمقراطية مفتوحا والتقدم فيه مطردا.
وعلى القوى السياسية المدنية الساعية فعلا للسلام والديمقراطية ان تدرك أهمية وحدتها وان تعرف عدوها الحقيقي ممثلا في مشعلي الحرب من أجل استعادة الاستبداد ، وأن لا تستهلك طاقتها في الاطاحة ببعضها البعض على اساس اختلافات ايدولوجية او برامجية، فتكون مثل من يتصارعون على الوان الطلاء لمنزل لا يملكون قطعة الأرض التي سيبنى عليها! لان قطعة الأرض مغصوبة ومحاطة باسلاك شائكة ودوشكات ومدافع!
الحرب إعدام للحياة الطبيعية وضمنا المدنية الديمقراطية فهل من سبب أقوى من ذلك لتوحيد القوى المدنية الديمقراطية؟
وغياب الوجود الفاعل والمؤثر للقوى المدنية الديمقراطية معناه سلام " استراحة المحاربين" الذي يحبس الشعب السوداني في خانة تجدد الحروب وتبديد طاقات وثروات الوطن في الاستعداد لاقتتال قواه العسكرية الطامعة في السلطة!
فهل تتخلف القوى المدنية الديمقراطية والقوى المناصرة للديمقراطية حتى داخل التكوينات العسكرية عن التعاون في سبيل إنقاذ الوطن من هذا المصير المظلم؟
ان مصلحة الشعب السوداني في السلام المستدام وليست في استراحة محاربين يستغلها كل طرف في التآمر على الاخر وهو مطمئن وواثق من تفوق قدراته في الفهلوة التي ستمكنه من ان يتغدى بخصمه قبل أن يتعشى خصمه به!
هذا الوطن الجريح المأزوم المهدد في وجوده، الوطن الذي تشرد مواطنوه وتجرعوا مرارة المذلة والهوان ما عاد يحتمل المساومات الرخيصة والابتذال الارعن لقضاياه المصيرية.
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: القوى المدنیة الدیمقراطیة الشعب السودانی الدعم السریع
إقرأ أيضاً:
الجيش والمليشيات: لكن الدعم السريع وحش آخر
ملخص
(لا تستقيم المقارنة التي تنعقد في ذهن الناس بين ميليشيات مثل “أولاد قمري” و”الدعم السريع”. فآخرة كل ميليشيا عند مثلهم هي “الدعم السريع”. وهذا إبعاد في النجعة. فالدعم وحش مختلف. فلم يعد الدعم ميليشيا بعد صدور قانون تأسيسه من المجلس الوطني لدولة الإنقاذ خلال عام 2017. فجعله القانون جيشاً ثانياً أو “حرساً جمهورياً” في عبارة لمحمد حمدان دقلو، حميدتي، نفسه. فليس للجيش سلطان عليه إلا في حالات الطوارئ، في حين جعلوا قيادته لرئيس الجمهورية وهو الوحيد الذي يقرر دمجه في الجيش متى اتفق له. وانتهز حميدتي سانحة حلفه مع الجيش على الثورة وحكومتها (2019-2021) ليمسح من القانون حتى “شعرة المعاوية” التي ربطته بالجيش. فألغى المجلس العسكري المادة التي تخضعه للجيش في زمان الطوارئ، بل وسلطة رئيس الجمهورية في دمجه فيه. وعليه صار الدعم سيد نفسه. وصدقت كلمة للأكاديمي سلمان محمد سلمان قال فيها أن حميدي لم يسهر على أمر مثل سهره أن يعتزل الجيش وأن يعتزله الجيش).
تمكنت القوات المسلحة السودانية في الولاية الشمالية وخلال الأسبوع الأخير من نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي من القضاء على حليفتها كتيبة “أولاد قمري” التي روعت سكان منطقة دنقلا، عاصمة الولاية، ومدينة الدبة التي تواتر ذكرها في أخبار السودان أخيراً. وفي إثر ذلك، أصدر الجيش قراراً لكتيبة حليفة أخرى هي “أولاد الشاذلي” (أو الأسود الحرة) في نفس المنطقة لتسليم السلاح والعربات التي بعهدتها لتفاقم شكوى المواطنين منها، وأن تختار بين الدخول في الجيش أو التسريح. فاختارت الدخول في الجيش.
وتثير هذه الشدة من القوات المسلحة مع جماعات مسلحة حليفة لها شبهات حامت حول سلامة خطتها في الاستعانة بقوات صديقة ذات مناشئ جهوية أو قبلية أو سياسية. فتساءل كثر، ومن خصوم الجيش بالذات، إن كان بوسعه السيطرة عليها خلال وقت قد تقلب له ظهر المجن. ولم يكن من هذا التساؤل بد بالطبع، ورأى الناس لا خروج “الدعم السريع” التي رعرعها من يده فحسب، بل حربها الضروس له في يومنا أيضاً.
سنعود لهذه القضايا السياسية العالقة التي أثارها قضاء الجيش على كتيبتي “أولاد قمري” و”أولاد الشاذلي” بعد التعريف بهذه الجماعات.
“أولاد قمري”
كان أول ما أثار الانتباه في غير الولاية الشمالية لكتيبة “أولاد قمري” هو الهجوم الذي نفذته مجموعة مسلحة منها قبل أشهر قليلة على سجن دنقلا، وإخراج أحد المساجين المدانين بتجارة المخدرات.
يتزعم جماعة “أولاد قمري” شقيقان توأمان هما حسن وحسين يحيى محمد جمعة قمري. وهم من عرب البادية الذين أقاموا عند النيل مع الجماعات النوبية التاريخية في المنطقة. وتقوت الجماعة في تنظيمها وملكاتها العسكرية بانضمام مفصولين من الجيش والشرطة لها خلال “عهد الإنقاذ”، ولها سجل حافل في الجريمة منذ نشأتها خلال منتصف العقد الثاني من القرن الحالي، وكانت بدأت بتجارة الممنوعات والمخدرات ونشطت في التعدين الأهلي. وأشار تحقيق في مجلة “التغيير” (الـ26 من أكتوبر/تشرين الأول 2024) أن علي رزق الله (سافنا)، القائد الحالي بقوات “الدعم السريع”، انضم إليها قبل حرب أبريل (نيسان) 2023.
اتصلت الجماعة بالجهات الرسمية في الولاية الشمالية فتبنتها ورعتها وعرفت عندهم باسم “كتيبة الإصلاح الاستراتيجية”. وزودتهم بالعدة العتاد لتمشيط الصحراء ونقاط الارتكاز الخلوية شمال منطقة دنقلا. وكان ذلك استثماراً في معرفتهم بشعاب الصحراء لسد الثغور للقرى. وتعاونوا في هذه المهمة مع “الدعم السريع” قبل الحرب حين كانت لتلك القوات وظيفة تعقب الهجرة غير الشرعية بتكليف من الاتحاد الأوروبي وتمويله.
وشكا الناس من أن الكتيبة تعطل حركة التجارة عند ارتكازاتها، وأنها ارتكبت بحق الناس ما عرضها لبلاغات جنائية. فاصطدمت عام 2016 بجماعة من المعدنين في خلاء المنطقة من غير أبنائها صداماً خلف ضحايا، واحتج الناس عليها لخروقها حتى إنهم سيروا تظاهرة لوالي الولاية الشمالية يطلبون كف يدها عنهم.
بعد انضمام الكتيبة للقوات المسلحة في حربها ضد قوات “الدعم السريع” خلال الـ15 من أبريل 2023 واصلت حراسة المناطق الصحراوية الحدودية وصار اسمها “كتيبة الاستطلاع”، بل وشاركت فرقة منها في المعارك ضد “الدعم السريع” في ولاية كردفان. ومنحهم الجيش أرقاماً عسكرية رسمية ورواتب جعلتهم مؤسسياً خاضعين لقانون القوات المسلحة. ولم تمنعهم هذه المؤسسية من مواصلة انتهاكاتهم بحق المدنيين في مناطق نفوذهم مما حدا بالمواطنين للمطالبة للمرة الثانية أن تضع الحكومة حداً لنشاطهم.
تحت إمرة القيادة
وبلغ صيت الكتيبة السيئ الزبى مما وتر العلاقة بينها وبين الجيش. فطلبت لجنة أمن الولاية منها خلال أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي الاندماج في هيكل اللواء 75 مشاة في مدينة دنقلا، حاضرة الولاية. واستخدمت في ذلك أمراً صادراً من الفريق أول عبدالفتاح البرهان القائد العام للقوات المسلحة، في منتصف هذا العام بوضع جميع القوات المساندة للجيش تحت إمرة القيادة العسكرية المباشرة، بهدف تعزيز الضبط والسيطرة على تلك التشكيلات شبه النظامية.
فتمردت الكتيبة ورفضت الانصياع للأمر، بل وضع حسين قمري رتبة عسكرية رفيعة ليست له على كتفه لاستفزاز الجيش، وتوعد بالتصدي بالقوة لمن أراد فرض أوامره عليهم. فالتحمت القوتان وتمكنت القوات المسلحة من السيطرة على القوة المتمردة، وأمهلت بقية أفرادها للتسليم خلال يومين انتهيا الإثنين الـ24 من نوفمبر الماضي. ولما لم يسلموا أنفسهم مشط الجيش المدينة وفتشها منزلاً منزلاً وضبط العناصر المتمردة ليعلن سيطرته الكاملة على الوضع.
وكان الأكاديمي أحمد أبو شوك فضل عرض واقعة “أولاد قمري” في مقالة مميزة على الوسائط من زاوية الدروس المستفادة منها، في ما اتصل باحتكار الدولة للسلاح. فحذر أبو شوك، على ضوء التجربة مع “أولاد قمري”، من سياسية الحكومة في توظيف الميليشيات لتحقيق هدف آني فتكبر الميليشيات مع الوقت وتتحول إلى خطر يهدد بقاء الدولة نفسها. ولم يكن من بد أن ينصرف ذهن أبو شوك إلى تجربة الدولة المميتة مع ميليشيات الجنجويد التي صارت قوات “الدعم السريع”. فالسلاح خارج الدولة، في قوله، متحول لا يمكن الركون إليه، وطالب بدمج هذه الميليشيات “في منظومة عسكرية وأمنية واحدة خاضعة لقيادة مركزية، أو بنزع سلاحها وتسريح أفرادها ضمن برامج رسمية. أما إبقاء تلك التشكيلات في حالة ’نصف شرعية‘ وكأنها قوات رديفة للجيش دون ضبط محكم فهو وصفة مؤكدة لإعادة إنتاج سيناريو ’الدعم السريع‘ بصيغ جديدة في المستقبل”.
وبدا لنا أن لواقعة “أولاد قمري” دلالات غير ما رشح لأبو شوك الذي يريد للجيش أن يرفع يده عن استخدام مثلهم، إلا أن يكونوا جنوداً مسميين فيه. وربما صحت دلالة الواقعة في ما وصفه أبو شوك بـ”ضبط التحكم” في علاقة الجيش مع الميليشيات، لا اشتراط أن تدخله فرادى مما يجعل ذلك الدخول تجنيداً معتاداً مما درجت عليه الجيوش المهنية. فمتى حرمنا على الجيش استخدام الميليشيات ضيقنا واسع الممكنات العسكرية واللوجيستية التي بوسعه استثمارها في حربه. فسنهدر هذه الإمكانات المبذولة إذا ما اشترطنا على الجيش ألا يتعامل مع أي كيان لا يقبل الحل فيه. فوجود هذه الكيانات خارج الجيش حقيقة كما نرى مما يستحق درس علم اجتماعها وسياساتها لا صرفها كمباءة خطر منتظر لا محالة. فالجيش مهما استكمل نصابه عدة وعتاداً وجنداً احتاج لإسعاف من قوى خارجه. فالجيش الأميركي في يومنا يتعاقد مع الشركات العسكرية لأداء 30 في المئة من المهام العسكرية التي يريد تنفيذها وبخاصة في المجال اللوجيستي والصيانة والخدمات. فرأينا الجيش يوظف “أولاد قمري” في حيز معرفتهم الفطرية كعرب بادية بأرضهم التي ينتظر منها عدواناً. وكانت نفس هذه الخبرة ما التمسه الجيش الأميركي من ميليشيات الولايات في حرب الاستقلال عن بريطانيا. ونقول في السودان “البلد بشقوها (أي تمشي في جنباتها) بولدها”.
الوضعية القانونية لـ”الدعم السريع”
ومن جهة أخرى، لا تستقيم المقارنة التي تنعقد في ذهن الناس بين ميليشيات مثل “أولاد قمري” و”الدعم السريع”. فآخرة كل ميليشيات عند مثلهم هي “الدعم السريع”. وهذا إبعاد في النجعة. فلم تعد “الدعم السريع” ميليشيات بعد صدور قانون تأسيسها من المجلس الوطني لدولة الإنقاذ خلال عام 2017.
بدأ مبدأ الدعم بالفعل على صورة ميليشيات استعانت بها الدولة السودانية لملاحقة وقمع خصومها تاريخياً ومع قيام جيشها الحديث. فاستعان الجيش في نظام الفريق عبود (1958 – 1964) بميليشيات من شعب المورلي الجنوبي لقتال حركة “أنيانيا” القومية الجنوبية التي خرجت عليه. ووظف نظام جعفر نميري (1969 – 1985) “أنيانيا 2” التي أعقبت الأولى لحرب “الحركة الشعبية لتحرير السودان” وأول ظهورها عام 1983. واستعان نظام الإمام الصادق المهدي (1986 – 1989) بقوات عرفت بـ”المراحيل” من شعب المسيرية جنوب كردفان لمواصلة الحرب ضد “الحركة الشعبية”.
أما “الدعم السريع” فوحش مختلف، فقانون تأسيسه جعله جيشاً ثانياً أو “حرساً جمهورياً” في عبارة لمحمد حمدان دقلو نفسه. فليس للجيش سلطان عليه إلا في حالات الطوارئ، فجعلوا قيادته لرئيس الجمهورية وهو الوحيد الذي يقرر دمجه في الجيش متى اتفق له. وكل الدلائل تشير إلى أن تمتع “الدعم السريع” بالاستقلال عن الجيش، كما رأينا، هو ما أراده “حميدتي” له في مناقشات مع الرئيس السابق البشير قيل إنها امتدت عاماً كانت “الدعم السريع” فيها سيدة الميدان العسكري. وليس أدل على ذلك من إجابته عن أسئلة طرحها عليه الطاهر حسن التوم من القناة س 24 بعد صدور القانون.
الطاهر: ما مصير “الدعم السريع” بعد انتهاء مهمتها هل تكون جزءاً من الجيش؟
حميدتي: يكون وضعها قوات دعم سريع، تتدرب وتتأهل، هي قوات الآن.
الطاهر: يعني تظل موجودة؟
حميدتي: يعني انتهت المهمة يشيلوها يجدعوها واللا كيف؟
الطاهر: تنضم إلى الجيش.
حميدتي: هي جيش.
الطاهر: تدمج.
حميدتي: هي ليست ميليشيات كي تدمج، هي أصلها قوات.
ولم تقتصر عملية تحول “الدعم السريع” إلى جيش ثانٍ على فترة “الإنقاذ”. فحرص حميدتي خلال الفترة الانتقالية الثورية أن يستكمل استقلال جيشه بتعديلين للقانون. أولهما رفع عنه ما تبقى للجيش عليه من سلطان وهو خضوعه له في أزمنة الطوارئ. أما التعديل الثاني فنزع من رئيس الجمهورية، قائده، سلطة أن يدمجه في الجيش. فاكتملت “الدعم السريع” جيشاً في حد ذاته. وصدق سلمان محمد سلمان في كتاب نادر عن “الدعم السريع” في قوله إن “حميدتي لم يسهر على شيء مثل سهره على استقلال جيشه عن القوات المسلحة”.
وبعبارة، فإن “الدعم السريع” التي انقلبت على الجيش ليست بميليشيات. إنها وحش آخر. فإذا خشينا من أن تتحول مثل ميليشيات “أولاد قمري” إلى “دعم سريع”، فالأهدى ألا نجعلها جيشاً ثانياً، لا أن نحرم قيامها البتة في حين أن مثلها من حقائق مجتمع في وعثاء بناء الأمة الدولة. وواقعة الجيش مع “أولاد قمري” من “ضبط التحكم” الذي زكاه أبو شوك للجيش للجم الميليشيات التي وظفها لغرضه. ربما تلكَّأ الجيش في هذا الضبط والناس تجأر من الميليشيات. جاء متأخراً نوعاً ما، ونعم أن جاء.
عبد الله علي ابراهيم
عبد الله علي إبراهيم
Promotion Content
أعشاب ونباتات رجيم وأنظمة غذائية لحوم وأسماك
2025/12/10 فيسبوك X لينكدإن واتساب تيلقرام مشاركة عبر البريد طباعة مقالات ذات صلة آلهة “تقدم” تعاقبنا بحمل صخرة الكيزان صعوداً وهبوطاً إلى قيام الساعة2025/12/10 كانت الحلويات المتاحة في الدكاكين كلها تعود الى العصر الحجري2025/12/10 (المعلومة والجيوسياسية)2025/12/10 هجليج بين حدثين2025/12/10 جيران السودان ما عدا دولتين هما أسوا جيران جٌبلوا على الغدر ونقض المواثيق2025/12/10 كوزنة المقاومة تكنيك ناجح في خدمة الغزاة2025/12/09شاهد أيضاً إغلاق رأي ومقالات السودان واستراتيجية ترمب للأمن القومي 2025/12/09الحقوق محفوظة النيلين 2025بنود الاستخدامسياسة الخصوصيةروابطة مهمة فيسبوك X ماسنجر ماسنجر واتساب إغلاق البحث عن: فيسبوك إغلاق بحث عن