أمرت محكمة العدل الدولية، وهي أعلى هيئة قضائية في الأمم المتحدة، الجمعة الماضي، إسرائيل بمنع قواتها من ارتكاب الإبادة الجماعية في قطاع غزة، والسماح بدخول المزيد من المساعدات إلي الأراضي المحاصرة. ولكنها لم تأمر بوقف فوري لإطلاق النار، إلا أن قرارها يعد انتصارا للفلسطينيين، حيث خضعت إسرائيل للمساءلة عن أعمالها العسكرية لأول مرة، ومن قبل واحدة من أهم المحاكم في العالم، بحسب ما ذكرت صحيفة "الجارديان" البريطانية.

وأشارت الصحيفة إلي أن قرار المحكمة بالسماح للقضية التي رفعتها جنوب إفريقيا بالمضي قدما ودعوة إسرائيل إلى الامتثال لاتفاقية الإبادة الجماعية، وتقديم تقرير إلى المحكمة في غضون شهر، يجبر داعمي إسرائيل الغربيين للضغط على حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لكبح جماح العدوان المدمر علي غزة. والحكم يعتبر محرجا للرئيس الأمريكي جو بايدن وكبار مساعديه، وخاصة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، الذي وصف قضية جنوب إفريقيا بأنها "لا أساس لها" قبل بضعة أسابيع.

وفي حين أن الأمر قد يستغرق سنوات حتى تقرر المحكمة ما إذا كانت إسرائيل قد ارتكبت إبادة جماعية، فإن الإجراءات المؤقتة التي اتخذتها المحكمة تهدف إلى منع الظروف في غزة من التدهور بينما تشق القضية طريقها من خلال العملية القضائية. ومن المفترض أن الولايات المتحدة وبريطانيا والقوى الغربية الأخرى التي دعمت إسرائيل دون قيد أو شرط منذ أن شنت هجومها على غزة، بعد هجمات حماس في 7 أكتوبر الماضي، سترغب في تجنب التورط في دعم الإبادة الجماعية، وهذا حافز لهذه القوى العالمية للضغط أخيرا علي إسرائيل من أجل وقف إطلاق النار، وفقا للصحيفة.

ولفتت الصحيفة إلي أن إدارة بايدن معرضة بشكل خاص لتهم النفاق إذا قررت تجاهل نتائج المحكمة الملزمة للدول الأعضاء فيها. ولكن المحكمة ليس لديها آلية إنفاذ، بصرف النظر عن إحالة الأمور إلى مجلس الأمن الدولي، حيث استخدمت واشنطن بالفعل حق النقض (الفيتو) عدة مرات لحماية إسرائيل من مطالب وقف إطلاق النار. وعلى مدى السنوات القليلة الماضية، حثت الولايات المتحدة وبريطانيا، الخصوم، وخاصة روسيا وميانمار، على الالتزام بأحكام المحكمة الدولية.

وفي نوفمبر الماضي، أصدر الرئيس الأمريكي بيانا يدعم ترشيح أستاذة القانون الأمريكية، سارة كليفلاند، للانضمام إلى المحكمة الدولية، قائلا إن المحكمة: "لا تزال واحدة من أهم مؤسسات البشرية لدفع السلام في جميع أنحاء العالم". وبمثل هذا التأييد القوي، ستبدو الولايات المتحدة ذات معايير مزدوجة إذا استمرت في الإصرار على أن قضية جنوب إفريقيا لا أساس لها من الصحة، أو أن حكم المحكمة بالإجماع تقريبا، يوم الجمعة الماضي، لا ينبغي أن ينطبق بطريقة ما على إسرائيل.

ووفقا لمنظمة "أوكسفام" التي تتخذ من بريطانيا مقرا لها، فإن العدد اليومي للشهداء الفلسطينيين، بمتوسط 250 يوميا، قد تجاوز أي صراع كبير آخر في القرن الحادي والعشرين. كما دفع العدوان الإسرائيلي الفلسطينيين للجوع وشرد ما يقرب من 85٪ من سكان غزة، أي حوالي 1.9 مليون شخص. وعلى الرغم من عدد الشهداء الفلسطينيين والأزمة الإنسانية، لم تضغط الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى بشكل جاد على إسرائيل لإنهاء عدوانها وقبول وقف إطلاق النار.

ومنذ بدء الحرب الإسرائيلية علي غزة، انخرط حزب الله والقوات الإسرائيلية في تبادل يومي تقريبا لإطلاق النار عبر الحدود الإسرائيلية اللبنانية، بينما هاجم الحوثيين سفن الشحن التابعة لإسرائيل في البحر الأحمر، مما دفع الولايات المتحدة والمملكة المتحدة إلى مهاجمة عشرات الأهداف للحوثيين في اليمن خلال الأسبوعين الماضيين. ولكن حتى في ظل خطر توسع الصراع الذي تصر إدارة بايدن على أنها تريد تجنبه، رفض بايدن اتخاذ الطريق الأكثر وضوحا لخفض التصعيد في جميع أنحاء المنطقة، وهو إجبار نتنياهو على قبول هدنة في غزة، بحسب الصحيفة.

ونوهت الصحيفة إلي أن بايدن يتمتع بنفوذ كبير على الحكومة الإسرائيلية. وبعد هجمات 7 أكتوبر، طلبت الإدارة الأمريكية أكثر من 14 مليار دولار كتمويل من الكونجرس للأسلحة والمساعدات العسكرية الأخرى لإسرائيل. ولكن بدلا من استخدام هذه النفوذ لإنهاء الحرب، بذلت إدارة بايدن قصارى جهدها لحماية مبيعات وشحنات الأسلحة الأمريكية إلى إسرائيل من التدقيق العام وموافقة الكونجرس.

وقالت الصحيفة إن جهود بايدن لحماية إسرائيل من الانتقادات بشأن الخسائر الفادحة في صفوف المدنيين الفلسطينيين والطرق التي أدارت بها حربها علي غزة عرضت الولايات المتحدة ليس فقط للإدانة الدولية واتهامات النفاق، بل أيضا للتواطؤ المحتمل في جرائم الحرب. وفي ديسمبر الماضي، ذكرت شبكة "سي إن إن" الأمريكية، أن تقييما للمخابرات الأمريكية وجد أن ما يقرب من نصف القنابل التي ألقتها إسرائيل على غزة منذ 7 أكتوبر كانت قنابل غير موجهة، والتي لديها احتمالية أكبر لقتل المدنيين، خاصة في منطقة مكتظة بالسكان مثل غزة.

وخلال الأيام القليلة الماضية، وربما في توقع منها بقرار المحكمة الدولية والأضرار المحتملة لصورتها أمام العالم، سربت إدارة بايدن خططا لإرسال مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وليام بيرنز، إلى أوروبا للقاء مسؤولين إسرائيليين ومصريين وقطريين. ويأمل بيرنز في إحياء المفاوضات غير المباشرة بين حماس وإسرائيل، من أجل إطلاق سراح جميع الرهائن الإسرائيليين المتبقين في غزة ووقف محتمل لإطلاق النار. ولا تزال هناك عقبات كثيرة، لا سيما وأن إسرائيل قد اقترحت وقفا للقتال لمدة 60 يوما، بينما تصر حماس على وقف دائم لإطلاق النار والإفراج عن جميع السجناء الفلسطينيين تقريبا مقابل بقية الرهائن، وفقا للصحيفة.

وشددت الصحيفة علي أنه بالرغم من أن المحكمة الدولية لم توافق على طلب جنوب إفريقيا بوقف فوري لإطلاق النار، إلا أن حكمها قد يجبر أخيرا إدارة بايدن وأنصار إسرائيل الغربيين الآخرين على إنهاء إراقة الدماء في غزة.

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: محكمة العدل الدولية إسرائيل الإبادة الجماعية غزة الولايات المتحدة بايدن الولایات المتحدة المحکمة الدولیة لإطلاق النار جنوب إفریقیا إطلاق النار إدارة بایدن إسرائیل من فی غزة

إقرأ أيضاً:

متى تتراجع الولايات المتحدة؟

لم تُعرف الولايات المتحدة يوما بتقديم تنازلات سياسية أو إنسانية طوعية، لا تجاه الشعوب ولا حتى تجاه حلفائها. سياستها الخارجية قائمة على منطق الهيمنة، واستخدام كل أدوات الضغط: الحروب، والحصار، والانقلابات، والقواعد العسكرية، والإعلام، والابتزاز الاقتصادي، والاغتيالات. ومع ذلك، يعلّمنا التاريخ الحديث أن هذا الوحش الجبّار لا يعرف الانحناء إلا إذا كُسرت إحدى أذرعه، ولا يتراجع خطوة إلا إذا أُجبر على التراجع.

من فيتنام إلى العراق، ومن أفغانستان إلى غزة واليمن.. أمريكا لا تفاوض إلا تحت النار، ولا تعترف بالخصم إلا إذا فشلت في سحقه.

في غزة.. قنابل أمريكا لا تنتصر

منذ أكثر من عام ونصف، تشنّ إسرائيل حرب إبادة على قطاع غزة، بدعم مباشر من أمريكا عسكريا وسياسيا. مئات آلاف القنابل أُلقيت على السكان المدنيين، عشرات آلاف الشهداء، وتجويع وتدمير ممنهج، ومع ذلك لم تُحقق إسرائيل أيا من أهدافها العسكرية: لا القضاء على حماس، ولا تحرير الأسرى، ولا إعادة السيطرة على غزة.

صمود المقاومة مستمر، والقدرة القتالية لم تنهَر، بل أُعيد تنظيمها رغم شدة الضربات.

الدعم الأمريكي بلغ ذروته: حاملات طائرات، جسر جوي عسكري، فيتو سياسي، ومع ذلك.. الفشل واضح.

ثم جاءت لحظة الاعتراف: "أمريكا تفاوض حماس!" الصفعة الكبرى لهيبة أمريكا جاءت عندما بدأت واشنطن، عبر مدير "CIA" وغيره من الوسطاء، التفاوض غير المباشر مع حماس نفسها -من كانت تصفها بالإرهاب المطلق- بهدف تحرير أسير أمريكي لدى المقاومة.

هنا انكسر القناع: من تقصفه بالصواريخ وبالفيتو، تجلس إليه لتفاوضه من أجل رهينة أمريكية واحدة! وكأن أرواح آلاف الفلسطينيين لا تهم.

وفي اليمن.. من نار الحرب إلى موائد التفاوض

1- الدعم الأمريكي لحرب اليمن: منذ انطلاق "عاصفة الحزم" في 2015، دعمت الولايات المتحدة التحالف السعودي- الإماراتي سياسيا وعسكريا ولوجستيا، عبر صفقات سلاح ضخمة، وتزويد الطائرات بالوقود، وتوفير الغطاء الدولي في مجلس الأمن. الحرب أدّت إلى أكبر كارثة إنسانية في العصر الحديث، قُتل فيها عشرات الآلاف من المدنيين، ودُمرت البنية التحتية، وفُرض حصار خانق على الشعب اليمني. ورغم كل هذه الأدوات، لم تستطع أمريكا ولا حلفاؤها القضاء على أنصار الله (الحوثيين) ولا السيطرة على الشمال اليمني. بل على العكس، تطورت قدرات الحوثيين لتصل إلى ضرب العمق السعودي والإماراتي، واستهدفت حتى مواقع استراتيجية في أبو ظبي والرياض.
الحصيلة: القوة المفرطة والنتائج الهزيلة.

2- فشل الاستراتيجية الأمريكية وتحول الموقف: مع تراكم الفشل، والانقسام داخل التحالف، والضغوط الحقوقية والإعلامية العالمية، بدأت أمريكا تغير خطابها، وانتقلت من مربع "دعم الحرب" إلى مربع "الدعوة للسلام"، ومن تصنيف الحوثيين كـ"إرهابيين" إلى التفاوض معهم بشكل غير مباشر. تراجعت واشنطن، ودعمت اتفاقيات الهدنة، وبدأت تروج لخطاب "إنهاء الحرب" حفاظا على ماء وجهها، في وقتٍ لم تحقق فيه أية نتائج استراتيجية تبرر كل هذا الدمار والدماء.

3- التفاوض مع الحوثيين بعد التجاهل والتصنيف: من كانت أمريكا تنكر شرعيتهم وتدعو لعزلهم، باتت ترسل عبر وسطاء من سلطنة عمان رسائل تفاوضية مباشرة، بل وتضغط على السعودية للقبول باتفاقات طويلة المدى معهم، بعد أن فشلت في إخضاعهم بالقوة. هذا التراجع لا يعكس تغيرا في المبادئ، بل هو ترجمة عملية لفشل الخيارات العسكرية، وكأن أمريكا تقول: "نحن لا نتحدث معكم إلا إذا فشلنا في سحقكم"، وهذا ما حدث.

أفغانستان والعراق

في أفغانستان: بعد 20 عاما من الاحتلال، وإنفاق تريليونات الدولارات، انسحبت أمريكا ذليلة من كابل، ووقّعت اتفاقية مع "طالبان"، بعد أن فشلت في إنهائها رغم كل التفوق الجوي والتكنولوجي.

وفي العراق: رغم الاحتلال الشامل، ما زالت أمريكا غير قادرة على فرض إرادتها السياسية كاملة، واضطرت إلى الانسحاب جزئيا، بينما تتعرض قواعدها لضربات متواصلة حتى اليوم.

ما الذي نتوقعه؟

من المقاومة:

- الثبات والتطوير.

- عدم الاستسلام للضغوط الدولية.

- تطوير أدوات المقاومة، إعلاميا وعسكريا.

- فضح التناقض في المواقف الأمريكية أمام العالم.

- استخدام كل انتصار ميداني لفرض وقائع سياسية جديدة.

من الشعوب:

- كسر الوهم الأمريكي.

- فضح الهيمنة الأمريكية بوصفها مصدر الحروب والفقر في منطقتنا.

- دعم قضايا التحرر لا كـ"تضامن إنساني" بل كـ"صراع وجودي".

- الضغط على الحكومات المتواطئة، ورفض كل تطبيع أو اصطفاف مع واشنطن.

ومن الحكومات:

- عدم الثقة بالقاتل.

- من يتخلى عن عملائه في كابل وبغداد لن يدافع عنكم إن حانت لحظة الحقيقة.

- الاعتماد على القوة الذاتية والشراكات العادلة، لا على الوعود الأمريكية.

- دعم المقاومة لا يضعف الأمن، بل يُعزز التوازن ويمنع الانهيار الكلي أمام إسرائيل.

الخلاصة: ما جرى ويجري في فيتنام، والعراق، وأفغانستان، وغزة، واليمن؛ يؤكد نفس المعادلة: أمريكا لا تتراجع إلا إذا عجزت عن التقدم خطوة أخرى. فما تسميه "تفاوضا" هو غالبا نتيجة لهزيمة ميدانية أو مأزق سياسي لا مخرج منه إلا ببوابة من كانت تحاربه، بينما التوسل إلى "عدالة واشنطن" هو وهْم سقط في كل الميادين.

مقالات مشابهة

  • مسؤول بإدارة بايدن يقر بارتكاب إسرائيل جرائم حرب في غزة.. هكذا برر صمته
  • بايدن أم روبوت | من الذي حكم الولايات المتحدة لأربع سنوات قبل ترامب؟.. نخبرك القصة
  • البرلماني السيمو يمثل اليوم أمام محكمة جرائم الأموال رفقة 15 متابعا بتهمة تبديد أموال عمومية
  • القومى للمرأة ينظم اليوم التعريفي الأول لموظفي المحكمة حول مناهضة العنف ضد المرأة
  • وزير العدل يشارك في توقيع اتفاقية الوساطة الدولية لحل المنازعات بالصين
  • "فتح": حماس "دقت كل الأبواب وذهبت إلى الولايات المتحدة لكنها لم تتجه نحو منظمة التحرير الفلسطينية
  • أطباء بلا حدود: “إسرائيل” تستخدم المساعدات ضمن إستراتيجية للتطهير العرقي
  • متى تتراجع الولايات المتحدة؟
  • القومي للمرأة يُنظم يومًا تعريفيًا لموظفي محكمة القاهرة الجديدة حول مناهضة العنف
  • عبد العاطي: مستمرون مع الولايات المتحدة وقطر في جهود التسوية لوقف إطلاق النار بغزة