لأننا نعيش في عالم الاختزال، أقول مختصرا قبل التوسع بالتحليل: لا يجب التفاؤل بتغير لهجة التصريحات الغربية تجاه العدوان على غزة، لأن المهم هو الأفعال لا الأقوال، ولأن الغرب لن يسمح بنتيجة لا تبدو انتصارا كاملا للاحتلال، ولأن التغير الأوروبي لا قيمة عملية له فهو مجرد صدى لتغيير اللهجة الأمريكية، ولأن واشنطن -إذا كانت تريد تغييرا حقيقيا في مسار الحرب- فإن ذلك يتطلب قدرة على إجبار نتنياهو على ذلك وحتى الآن هذه القدرة غير متوفرة.


لذلك، لا أمل لحماية الفلسطينيين من المؤامرة الكبرى التي يتعرضون لها، بعد الله، إلا بقدرتهم على الصمود، في ظل محيط عربي رسمي معاد للقضية الفلسطينية، ومحيط شعبي متعاطف ولكن غير قادر على الاستفادة من "لحظة غزة" لكسر قيود الاستبداد عنه.

تغيير في الموقف الغربي؟

ثمة تغير واضح في لهجة التصريحات الغربية تجاه المجزرة الإسرائيلية في غزة. يشمل هذا الولايات المتحدة وبريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك ألمانيا عضو الاتحاد الأشد دعما لجرائم الاحتلال.
تتركز التصريحات الأمريكية والغربية هذه الأيام على ضرورة منع المأساة الإنسانية في غزة، وكأن المأساة لم تقع أصلا!. وتحذر هذه التصريحات من كارثة ستحل ضد السكان المدنيين إذا اقتحمت القوات البرية لجيش الاحتلال مدينة رفح المكتظة بأكثر من مليون ونصف نازح، أجبروا على ترك بيوتهم في شمال ووسط وجنوب مدينة غزة. وتجاوزت التصريحات الأمريكية هذا السقف، لتصف الرد الإسرائيلي على عملية طوفان الأقصى بأنه "مبالغ فيه"، ووصف رد حماس على ورقة التفاوض حول الهدنة بأنها إيجابية ويمكن البناء عليها.
وعلى أهمية هذا التغير في اللهجة، هل يمكن القول إنه تغير حقيقي في الموقف؟ الجواب القصير والمباشر هو لا. هذا اختلاف في التكتيك بين حلفاء، واختلاف في التفاصيل بين فريق واحد متفق على الخطوط العامة لخطة القضاء على الشعب الفلسطيني في غزة والقضية برمتها، بل أكثر من ذلك، يمكن وصفه بمحاولة الدول الكبرى لتهدئة "ابنتها" الصغرى من التصرف كثور هائج، لا يعرف مصلحته عندما يتحرك وفق غريزة الانتقام والدم دون حسابات سياسية دقيقة. أمريكا والغرب يحاولون منع الثور الإسرائيلي الهائج من إيذاء نفسه وهو يمارس القتل ضد الفلسطينيين، ولهدا فإن تغير اللهجة لا يعكس تغيرا حقيقيا في الموقف يمكن التفاؤل بنتائجه.

أسباب تغير لهجة الغرب

يخطئ من يعتقد ولو للحظة واحدة أن تغير لهجة الغرب له علاقة "بالأخلاق"، أو الخوف على المدنيين. لقد أقيمت "حضارة" الغرب في القرنين الأخيرين على فائض القوة العسكرية، وأدت هذه القوة إلى انتصار أوروبا ومن بعدها الدول التي أقيمت على إبادة السكان الأصليين في أمريكا وأستراليا وغيرها بالدم وحده في بداية الأمر، ثم تبع ذلك محاولات صناعة صورة النصر العسكري على أساس أنه فرع من انتصار الأيدولوجيا "ليبرالية- ديمقراطية- رأسمالية- علمانية"، بينما الحقيقة هي أن "تفوق" الغرب قام أساسا على الدوم والقوة. ولذلك فإن أي موقف غربي رسمي تجاه مناطق العالم الأخرى وشعوبها لا يمكن أن يبنى على موقف أخلاقي، بل على الحسابات المصلحية المجردة من أي اعتبار لقيمة الإنسان.
إن تغير اللهجة الغربية في الأسبوعين الأخيرين تجاه العدوان على غزة ينطلق من الأسباب التالية:
أولا: أدركت الولايات المتحدة والدول الغربية أن الأهداف التي طرحها نتنياهو للحرب غير واقعية وغير ممكنة. يمكن لنتنياهو أن يقتل أكبر عدد من الفلسطينيين، ولكن بات واضحا أنه لن يستطيع -حتى الآن على الأقل- تحقيق هدف التهجير -وهو هدف حقيقي للحرب وإن كان غير معلن رسميا-، كما أن جيش الاحتلال لن يستطيع إنهاء حماس، ولن يعيد الأسرى من فصائل المقاومة إلا عبر التفاوض. والحال هذه، صارت المقاربة الأفضل للاحتلال هو وقف إطلاق النار واتفاق تبادل للأسرى. هذه المقاربة يرفضها مجلس الحرب لأسباب داخلية يطول شرحها، ولكن واشنطن تعلم أنها "شر لا بد منه"، ولذلك بدأت تغير لهجتها لحماية إسرائيل من نفسها ومن نتنياهو تحديدا.
ثانيا: أصبح العدوان الإسرائيلي وما يرافقه من جرائم يشكل حرجا لواشنطن وغيرها من العواصم الغربية، خصوصا بعد قرار محكمة العدل الدولية الذي يرقى عمليا لاتهام الاحتلال بوجود النية لارتكاب الإبادة الجماعية. وبالطبع نحن نتحدث هنا عن تداعيات "الحرج" السياسية وليس الأخلاقية، إذ أن لا وجود للأخلاق في المقاربة الغربية للسياسة كما ذكرنا.
ثالثا: تشهد أمريكا وبعض الدول الغربية وأهمها بريطانيا انتخابات مهمة خلال العام الجاري، وقد أدى الموقف الغربي السافر إلى قيام حراك بين نخب المجتمعات المسلمة والعربية في هذه الدول لصناعة مواقف انتخابية تصوت للسياسيين بناء على موقفهم من العدوان على غزة. هذا الأمر سيؤثر بشكل كبير على فرصة بايدن في أمريكا وفرص العمال والمحافظين في بريطانيا، حيث صنعت الحرب لأول مرة حملات مركزة وفاعلة لاستخدام الصوت المسلم والعربي للتأثير في سياسات الأحزاب، بدلا من اعتبارها أصوات "مضمونة" ولا قيمة لها.

لماذا لا يجب التفاؤل بتغير اللهجة؟
لا يمكن التفاؤل بتغير اللهجة أولا، لأن الأفعال هي من تؤثر في مسار الأحداث وليس الأقوال. حتى الآن لم تتجاوز المواقف الغربية ساحة الرطانة الخطابية.
وإذا أردنا فهم المعادلة على حقيقتها، فإن الانتقال من الأقوال للأفعال حتى الآن يبدو بعيد المنال، لأن واشنطن وحلفاءها الغربيين لا يمكن أن يقبلوا بانتهاء الحرب بطريقة لا تبدو فيها دولة الاحتلال منتصرة. إن ممارسة ضغط حقيقي وعملي من واشنطن على تل أبيب سيتطلب مثلا وقف التسليح بالذخائر ووقف المساعدات المالية والدعم الدبلوماسي، وهذا سيودي بالضرورة إلى خروج كارثي للاحتلال من الحرب، وهو ما لا يرضى به الغرب.
من جانب آخر، فإن التغير بلهجة الخطاب الأوروبية، لا قيمة عملية له. إن المواقف الأوروبية والكندية والأسترالية هي مجرد صدى صوت للمواقف الأمريكية، إذ يدرك الجميع أن منطقة الشرق الأوسط هي في مركز النفوذ الأمريكي، بينما تلعب أوروبا وغيرها من دول "الغرب" أدوارا هامشية متممة للدور الأمريكي وبموافقته ورعايته.
ثمة خيارات أخرى لواشنطن غير اتخاذ إجراءات "عقابية" ضد الاحتلال، ولكنها في الوقت الحالي غير مرجحة، وهو ما يدفعنا للأكيد أن التفاؤل بتغيير حقيقي بالموقف في غير مكانه.
أول هذه الخيارات هو إقناع نتنياهو بإنهاء الحرب ولكن هذا الأمر لا يبدو واقعيا في المرحلة الحالية، لأن نتنياهو يدرك أن "خضوعه" لمطالبات أمريكا بالتعقل سيعني نهاية تاريخه السياسي وانهيار حكومته.
الخيار الثاني هو دعم أمريكي غير مباشر لحراك سياسي يؤدي إلى حل حكومة نتنياهو وتشكيل حكومة أكثر قبولا وتفاهما مع واشنطن، ولكن هذا غير ممكن إلا بتخلي غانتس وحزبه إضافة إلى وزير الدفاع غالانت -الذي ينتمي لليكود- عن نتيناهو. إذا وافق غالانت على هذا الخيار قد يصبح التأثير الأمريكي قويا على حكومة الحرب، ولكننا نستبعد موافقة وزير الدفاع عليه لأنه سيظهره خائنا في عيون كثير من المجتمع الإسرائيلي وسط حرب تم حشد هذا المجتمع بشكل غير مسبوق لصالحها.
هذه الأسباب وغيرها تدفعنا للقول إن الرهان الوحيد للفلسطينيين الآن في قطاع غزة هو على صمودهم فقط، إذ لا يرتجى أي أمل من التغير السطحي للمواقف الغربية، ولا من الدول العربية التي تتباين أدوارها من الصمت إلى التواطؤ مع الاحتلال، ولا من شعوب المنطقة التي يبدو أن اهتمامها بالمجزرة المستمرة قتلته آفة التعود والألفة!


المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه غزة الفلسطينيين رفح بايدن السيسي فلسطين غزة بايدن رفح مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة

إقرأ أيضاً:

ترامب يصعد الحرب التجارية مع كندا عقب موقفها تجاه فلسطين

(رويترز) : صعد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اليوم حربه التجارية مع كندا قبل يوم من الموعد النهائي الذي حدده للتوصل إلى اتفاق بشأن الرسوم الجمركية قائلا إنه سيكون من "الصعب جدا" إبرام اتفاق معها بعد إعلانها دعم قيام دولة فلسطينية.

من المقرر أن يفرض ترامب رسوما بنسبة 35 %على جميع السلع الكندية غير المشمولة في اتفاقية التجارة بين الولايات المتحدة والمكسيك وكندا إذا لم يتوصل البلدان إلى اتفاق بحلول الموعد النهائي المقرر غدا الجمعة الموافق الأول من أغسطس .

وكتب ترامب عبر منصة (تروث سوشيال) "يا للعجب! أعلنت كندا للتو دعمها لقيام دولة فلسطينية. هذا سيجعل من الصعب جدا علينا إبرام اتفاق تجاري معها".

وقال كارني في وقت سابق إن المفاوضات مع واشنطن بشأن الرسوم كانت بناءة لكن المحادثات ربما لا تنتهي بحلول الموعد النهائي المحدد. وأضاف أن المحادثات بين البلدين وصلت إلى مرحلة متقدمة لكن من غير المرجح التوصل إلى اتفاق من شأنه رفع جميع الرسوم الجمركية الأمريكية.

وكندا هي ثاني أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة بعد المكسيك وأكبر مشترٍ للصادرات الأمريكية. وأظهرت بيانات مكتب الإحصاء الأمريكي أن كندا استودرت بضائع أمريكية بقيمة 349.4 مليار دولار العام الماضي وصدرت إلى الولايات المتحدة بقيمة 412.7 مليار دولار.

كما أن كندا هي أكبر مورد للصلب والألمنيوم للولايات المتحدة وتواجه رسوما جمركية على المعادن بالإضافة إلى صادرات السيارات.

وألغت حكومة كارني الشهر الماضي ضريبة خدمات رقمية كانت مقررة على شركات التكنولوجيا الأمريكية بعد إيقاف ترامب فجأة محادثات التجارة واصفا الضريبة بأنها "استهداف سافر".

ولحق كارني بفرنسا وبريطانيا إذ قال الأربعاء إن كندا تعتزم الاعتراف بدولة فلسطين في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر.

وتحدث كارني عند إعلانه القرار عن الواقع الميداني بما في ذلك المجاعة في غزة.

وقال "تستنكر كندا حقيقة أن الحكومة الإسرائيلية سمحت بحدوث كارثة في غزة".

ورفضت إسرائيل والولايات المتحدة، أقرب حلفاء إسرائيل، تعليقات كارني.

ولم يرد مكتب كارني بعد على طلب للتعليق على منشور ترامب.

مقالات مشابهة

  • مساعد بوتين: الغرب يطارد السفن الروسية.. ويعسكر بحر البلطيق
  • نائبة رئيس المفوضية تندد بـتواطؤ الصمت الأوروبي تجاه غزة.. التاريخ لن يرحمنا
  • ترامب يصعد الحرب التجارية مع كندا عقب موقفها تجاه فلسطين
  • كاتب بريطاني: الغرب شريكٌ في جريمة تجويع غزة
  • لماذا يريد الغرب تعميم نموذجه الفكري والسياسي؟
  • كاتب بريطاني: جريمة التجويع المتعمدة بغزة لم تنجح لولا تواطؤ الغرب
  • مستشار عسكري: إسرائيل تواجه ضغوطًا دولية.. واحتجاجات عارمة في الغرب |فيديو
  • تسارع وتيرة الاستيطان في الضفة الغربية بالتزامن مع الحرب على غزة
  • “إحنا مبنتغيرش”.. مصر تعلن التزامها التاريخي تجاه فلسطين
  • الاحتلال يشن حملة اعتقالات في الضفة الغربية