لجريدة عمان:
2025-12-14@16:36:40 GMT

التحالف بين الوجداني والتحليلي

تاريخ النشر: 20th, February 2024 GMT

التحالف بين الوجداني والتحليلي

منذ أيام الإغريق (على الأقل)، عرفنا هذا «الخلاف» القديم بين الشعر والفلسفة؛ إذ تسبر كلّ من هاتين «الشقيقتين الفكريتين» (*) الأولى قديمة والأخرى مشهورة بأنها أكثر رصانة أغوار افتراضيات اللغة على أمل استهداف الواقع والغوص فيه. من هنا، ليس من المستغرب أن يكون الانتقال من لغة إلى أخرى عبر الترجمة محفوفا بالمخاطر، ما يشكل أصل المواجهة والتنافس على الحدود المشتركة بينهما.

وتزداد الأمور تعقيدا عندما نتعامل، كما هو الحال عند نيتشه وفاليري، مع فلاسفة شعراء، حيث يتحقق فيما بينهم، بحسب تعبير الأخير، «التحالف الحميم بين الوجداني والتحليلي».

أعود إلى هذا الكلام، وأنا أقرأ كتاب الشاعر الفرنسي بول فاليري «حول نيتشه» (الصادر مؤخرا عن منشورات «لاكوبراتيف»، باريس، 93 صفحة)، الذي يعيد تذكيرنا بأن فاليري، كان مفكرا أيضا، ولم يقتصر عمله الإبداعي على الشعر فقط، بل تخطاه إلى أنواع أخرى من الكتابة، ولا سيّما الفلسفة. فمثله مثل كلّ المثقفين من أبناء جيله، اكتشف بول فاليري نيتشه حوالي عام 1900، وذلك بفضل الترجمات التي بدأت تظهر في مجلة «ميركور دو فرانس».

الكتاب الذي عمل على إعداده وترتيبه ميشيل جاريتي، (سبق له أن كتب سيرة الشاعر الفرنسي)، يبدو أشبه بملف خاص بنيتشه بقلم فاليري، من هنا، ثمة عناصر غير متجانسة، بعضها معروف جزئيًا؛ لكن، على الرغم من إيجازه، يقدم رؤية كاملة لقراءة فاليري لنيتشه التي تعد من القراءات المهمة في تاريخ الفكر الفرنسي. إذ لم تكن قراءته مجرد خطوة مهمة في انتشار نيتشه النقدي السريع في فرنسا (بدأ ذلك مع ترجمة كتاب «قضية فاجنر» عام 1893) ولكنها أيضًا بداية حوار بين الشاعرين المفكرين اللذين اشتركا في العديد من الموضوعات.

من الطبيعي، في هذه المواجهة، أن تكون الترجمة قضية حاسمة وشرطا أساسيا. إذ إن ملف «نيتشه» هذا يأخذ شكل تكريم لأعمال الترجمة (المتنازع عليها أحيانًا) التي قام بها هنري ألبير (أول من ترجم الفيلسوف الألماني إلى الفرنسية) الذي التقاه فاليري في أحد الصالونات الأدبية الباريسية؛ كان ألبير كاتبا متعاونا في مجلة «ميركور دو فرانس» ومؤسس مجلة «لو سنتور» (لم تدم طويلا) التي نشر فيها فاليري نصه الفكري الشهير «مدخل إلى أسلوب ليوناردو دا فينشي». وفي عام 1927 نشر فاليري في «دفاتر لا كانزان» أربع رسائل إلى هنري ألبير كان أرسلها بين الأعوام 1901-1907، مسبوقة بــ «إشعار». وقد كشفت هذه الرسائل، على الرغم من إيجازها، قراءة ثاقبة لمؤلف كتاب «هكذا تكلم زرادشت» كذلك أشادت بأننا «في عصر، أفضل ما يُطبع فيه هي الترجمة»، وكان يشير بذلك إلى «عمل ألبير الرائع الجدير بالتقدير».

خلال شتاء 1908-1909، وبناءً على طلب أندريه جيد، الذي كان منتبهًا لأعمال نيتشه منذ فترة طويلة (الرسالة إلى أنجيل التي أهداها له يعود تاريخها إلى عام 1899) الذي كان يستعد لإطلاق «المجلة الفرنسية الجديدة»، قام بول فاليري بتدوين ملاحظات (غير مدرجة في «الدفاتر») عن نيتشه (كان فاليري قد جمع في نهاية حياته مقالاته في عدة كتب أسماها «دفاتر»). ولم يكتب الشاعر المقال الذي وعد به جيد، لأي سبب؟ لا نعرف، لكن من الواضح أن قراءة نيتشه هذه، ذات تناقض كبير.

هذه «الملاحظات حول نيتشه»، التي تعد تحضيرًا لمقال ولد ميتًا، تعطي صوتًا لـ «خطاب متصلب إلى حد ما» حول الفيلسوف، الذي يُحكم عليه للوهلة الأولى بأنه «متغطرس، وعميق، وساذج، وغير كاف، ورائع». هكذا يسخر فاليري من «هذا الشيء الرائع»، «البطل الخارق»؛ كذلك يعيد إلى نيتشه اتهامات الأخير لفاغنر «الدجال»، «الفخور»، ويضيف اتهامات أخرى مثل «السلافي المجنون»، «المتناقض»، «البربري» لا يريد أن يرى في العمل سوى «إيديولوجية تتغذى من الموسيقى»، خاضعة جدًا (رغم كل شيء) لفاجنر. في المجمل، سيكون «من السخافة أن تفكر مثل بورجيا وتعيش مثل ليتري». الخلاصة مفاجئة: «إن نيتشه ليس غذاء للروح، بل هو منبّه».

تشكل هذه الملاحظات غير المنشورة، التي لا نجدها في «الدفاتر»، العنصر الرئيسي للملف الذي جمعه جاريتي. ولإكمالها وتنويرها، تسبق هذه المجموعة سلسلة من الرسائل (إلى أندريه جيد، وإلى جي دي بورتاليس، وإلى هنري ألبير).

وتبقى الحقيقة أن نيتشه مارس إغواءً حقيقيًا على فاليري: «لقد جذبني بالدوار الفكري للوعي الزائد «...» بمقاطع معينة عند الحد الأقصى، وبوجود إرادة عليا تتدخل لإيجاد العقبات والمطالب التي من دونها الفكر لا يمكن إلا أن يهرب». حتى الشغف الفاجنري يجد صداه عند فاليري. قبل كل شيء، من الناحية الفلسفية، أثار نيتشه إعجاب فاليري، على وجه الخصوص، كما يشير جاريتي، بسبب انتقادهما المشترك للغة «كل كلمة هي تحيز» وبالتالي، استجوابهما المشترك لـ «أنا»، التي تشكل وهم القواعد النحوية. إن نهج المفكرين حديث بشكل ملحوظ، على غرار فيتجنشتاين: «إذا تم طرح المشكلات بوضوح، فإنها ستبدد الصعوبات التي تتعلق بنظام اللغة»؛ «إن أي مشروع فلسفي حقيقي كما يلخص جاريتي يجب أن يقوم أولا على الوعي الواضح بهذا اللعب بين الفكر والكلمة، ومقاومته ومحاولة الحدّ من قوته».

الرسالة التي يشكر بها فاليري، غي دي بورتاليس على التفاني الطويل الذي أولاه الأخير لنيتشه في إيطاليا، تؤكد على عدم ثقة الشاعر الفرنسي تجاه فلسفة الألماني و«عالمه الخلفي» القائم على التجريدات التي لا يمكن التحقق منها مثل «إرادة القوة»، يحتوي على هذا الاعتراف: «انتهى بي الأمر إلى حبّ نيتشه»، لأنه «حل بشكل رائع المشكلة الصعبة التي يطرحها وجود الموسيقى العظيمة «...» لجميع الكتاب الذين يفكرون».

ولا يُستبعد على وجه الخصوص أن يكون شاعر الفكر الخالص مضطربا ومهتزًا ومتحديًا من قبل الفيلسوف الديونيسي الذي يعاني المرض: «يريد نيتشه كما يكتب فاليري بشكل أساسي العودة إلى التقليد، وإعادة الاتصال بالبربري»...

في مواجهة فكرية قوية كانت تعكس فكرته في عدة نقاط، يعبر فاليري في هذه الصفحات عن تردده، ويمارس قدرته النقدية بحدته المعتادة، ويقدم لنا هنا أكثر من أي وقت مضى مثال هذا «القارئ المتطلب» الذي دعا لعمله الخاص.

هامش

(*) استعملهما هنا بصيغة المؤنث، لأن الشعر والفلسفة كلمتان مؤنثتان باللغة الفرنسية، وفق ما يقتضي الكتاب الذي أنا بطور الحديث عنه.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

الجامعة الأمريكية بالقاهرة تقود تحالف لتطوير قطاع الإلكترونيات

أعلنت الجامعة الأمريكية بالقاهرة اختيارها لتولي قيادة تأسيس تحالف "استثمر بثقة - لتخفيف المخاطر عن الشركات التكنولوجية الناشئة (DTS)" كجزء من مبادرة "تحالف وتنمية" الرئاسية التابعة لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي. 

مناقشة رسالة دكتوراة بكلية إعلام القاهرة عن مستقبل الصحافة في الثورة الصناعية الرابعة انطلاق مؤتمر وحدة العناية المركزة في قصر العيني (صور) جامعة العاصمة تستعد لإطلاق أول منظومة تواصل موحدة بين الطلاب والإدارة جامعة القاهرة تناقش ملف العدالة التاريخية لدعم القضايا الإفريقية غدًا قصر العيني يعتزم تصنيع أول جهاز إيكمو مصري جامعة عين شمس تكشف حقيقة انتماء ضياء العوضي لها المجلس الأعلى للجامعات يناقش الابتكار وريادة الأعمال في التعليم العالي عميد قصر العيني: نسعى لبناء شبكة شراكات دولية رائدة ندوة بآداب عين شمس تناقش "ظاهرة أطفال الشوارع" المجلس الأعلى للأمناء: منهج البرمجة والذكاء الاصطناعي يجهز "جيل المستقبل"

يقود هذه المبادرة الاستراتيجية مركز ريادة الأعمال والابتكار بكلية أنسي ساويرس لإدارة الأعمال ومركز الإلكترونيات النانوية والأجهزة بكلية العلوم والهندسة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة. 

تهدف المبادرة إلى تسريع الابتكار وتعزيز تنافسية مصر في قطاع التصميم والتصنيع الإلكتروني. وقد وقَّع الدكتور أحمد دلّال، رئيس الجامعة الأمريكية بالقاهرة، بروتوكول التعاون مع الوزارة مؤخراً للبدء رسميًا في تأسيس التحالف.

شهد النظام البيئي للشركات الناشئة في مصر نموًا ملحوظًا خلال العقد الماضي، مدعوماً باستراتيجيات وطنية مثل رؤية مصر 2030 والنمو السكاني الديناميكي وتزايد استثمارات رأس المال المخاطر. ومع ذلك، تواجه الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا العميقة تحديات كبيرة مرتبطة بارتفاع مستوى المخاطر، بما في ذلك الحاجة إلى استثمارات ضخمة ومعدات متخصصة وكوادر متميزة ودعم الخبراء. تم تصميم هذا التحالف لسد هذه الفجوات عبر توحيد الأطراف الفاعلة لإنشاء منظومة متكاملة تعالج هذه التحديات وتُرسخ مكانة مصر كقائد إقليمي في مجال الابتكار في الإلكترونيات.

يجمع تحالف "استثمر بثقة - لتخفيف المخاطر عن الشركات التكنولوجية الناشئة “DTS بين تسع شركاء محليين يمثلون الأوساط الأكاديمية والقطاع الخاص والقطاع العام والمستثمرين وجهات التمكين وهي مركز ريادة الأعمال والابتكار بكلية أنسي ساويرس لإدارة الأعمال ومركز الإلكترونيات النانوية والأجهزة بكلية العلوم والهندسة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة وجامعة الزقازيق ومجموعة العربي والشركة الناشئة EMASS وجهاز تنمية المشروعات المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر ومن المستثمرين Flat6Labs و DEN VC ومن جهات التمكين Startup Factory Venture Studio وMeska AI.

تشمل أهداف التحالف تعزيز إحلال الواردات من خلال توطين تصميم وتصنيع الإلكترونيات، ودعم الصادرات، وبناء القدرات لتلبية متطلبات الصناعة، وتشجيع الابتكار من خلال الهاكاثونات، وتطوير مناهج تعليمية متوافقة مع متطلبات الصناعة، والنهوض بتطبيقات الذكاء الاصطناعي في مجال الإلكترونيات، وتسهيل تطوير حقوق الملكية الفكرية، ودعم دمج الشركات الناشئة في الأسواق الجديدة والقائمة، وتشجيع إنتاج شركات منبثقة عن البحث العلمي، وجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة.

يشير الدكتور يحيى إسماعيل، مدير مركز الإلكترونيات النانوية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، إلى أن هذا التحالف يلبي حاجة ملحة في المشهد التكنولوجي المحلي مشيراً إلى أن المشروع لا يركز على تطوير البرمجيات فحسب، بل يعزز أيضاً إمكانيات مصر في تصميم وتطوير تكنولوجيا الأجهزة الإلكترونية. "لقد عملنا مع شركاء إقليميين في هذا المجال تحديدًا، وحان الوقت الآن لتطبيقه على نطاق واسع في وطننا الحبيب، وكذلك دعم القطاع الخاص ليمتلك القدرة على المنافسة عالميًا وجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة."

وأكدت الدكتورة هالة بركات، مدير مركز ريادة الأعمال والابتكار بالجامعة، أهمية هذا التحالف مشيرة إلى أنه عند اطلاعهما لأول مرة على مبادرة تحالف وتنمية "أدركنا على الفور أنها فرصة مثالية لاستقطاب مختلف الجهات الفاعلة من شبكتنا نحو هذا الهدف الوطني الواعد والاستراتيجي. قمنا ببناء شراكات داخلية وخارجية بهدف دعم الابتكار في منظومة ريادة الأعمال في مصر وإطلاق العنان لإمكانات الأوساط الأكاديمية في تسويق نتائج البحث العلمي."

وقال الدكتور أيمن عاشور، وزير التعليم العالي والبحث العلمي، إن المبادرة الرئاسية "تحالف وتنمية" تعكس التزام الدولة بالابتكار القائم على التعاون بين مؤسسات التعليم العالي والصناعة. 

وأوضح أن المبادرة تسعى إلى استثمار القدرات البحثية وريادة الأعمال لبناء قطاعات اقتصادية ذات قدرة تنافسية، مؤكدًا أن التحالفات الفائزة تعكس قوة الشراكات متعددة القطاعات القادرة على دفع التنمية المستدامة.

مقالات مشابهة

  • الأردن يدين الهجوم الذي وقع في أستراليا
  • سوريا.. توقيف 11 عنصراً من الأمن العام بعد هجوم تدمر
  • من رجل القسام الثاني الذي اغتالته إسرائيل؟
  • طارق الشناوي: التقمص الوجداني هو الفيصل في تجسيد الشخصيات التاريخية وليس الشبه الشكلي
  • فلنغير العيون التي ترى الواقع
  • الجامعة الأمريكية بالقاهرة تقود تحالف لتطوير قطاع الإلكترونيات
  • فريق عسكري سعودي إماراتي يصل عدن
  • تحالف أسطول الحرية يعلن خططًا لتوسيع رحلات كسر حصار غزة عام 2026
  • جامعة القاهرة توقع اتفاقية تحالف "الجامعة الريادية"
  • أسطول الحرية يعلن أكبر توسّع في حملات كسر حصار غزة منذ تأسيسه