قدّم الفيلم الوثائقي -الذي بثته قناة الجزيرة ليل الجمعة- تحليلا عميقا لمعاهدة لوزان الثانية في الذكرى الـ100 لتوقيعها، مبرزا علاقتها بنشأة جمهورية تركيا الحديثة، وخصوصيتها وآثارها على المنطقة ككل لا سيما العربية.

ووضعت معاهدة لوزان -التي وُقعت في 24 يوليو/تموز 1923- حدًّا للحرب العالمية الأولى، وفرضت تسوية نهائيةً بين الأتراك والحلفاء المنتصرين في الحرب، وهي من أهم المعالم التاريخية للقرن العشرين، بل يذهب المؤرخون لوصفها أهمَّ معاهدة سلام في التاريخ الحديث، ونهايةَ الطريق الطويل لخطة المعسكر الغربي بفرض حل نهائي للمسألة الشرقية.

وبحسب أدهم ألديم، وهو مؤرخ متخصص في التاريخ العثماني والتركي بجامعة البوسفور، فإن معاهدة لوزان تعد المعلم الأهم في إعادة تشكيل الشرق الأوسط.

ويستعرض الفيلم الوثائقي السياق التاريخي الذي أبرمت فيه المعاهدة، حيث يؤكد رئيس مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة أكسفورد، يوجين روغان أنه منذ اللحظة التي اتّخذَ فيها العثمانيون في صيف 1914 القرار المصيري بالتحالف مع ألمانيا خلال الحرب العالمية الأولى؛ قرّرت القوى المتحالفة ولأوّل مرّة خوض الحرب ضدَّ الإمبراطورية العثمانية.

ويتابع روغان في شهادته أن القوى المتحالفة قامت بالاستيلاء على الإمبراطورية العثمانية وتفكيكها عبر سلسلة من الاتفاقيات المصيرية التي تطوّرت على مدار الحرب، وكان أهمها اتفاق "سايكس بيكو" بين فرنسا وبريطانيا، وبمصادقة كل من روسيا وإيطاليا.

وبموجب الاتفاقية تمَّ تقسيم الدولة العثمانية إلى مناطق نفوذ بين الحلفاء، تسيطر فرنسا على معظم بلاد الشام ومنطقة الموصل شمال العراق وجنوب شرق الأناضول، في حين كانت حصة بريطانيا بالسيطرة على جنوب بلاد الشام التي تشمل بغداد والبصرة وكافة الأراضي الواقعة بين الخليج العربي حتى حدود النفوذ الفرنسي.

أما روسيا فحظيت بعاصمة الدولة العثمانية إسطنبول ومضيقي البوسفور والدردنيل، وكان نصيب إيطاليا جنوب غرب الأناضول.

تقسيمات "سايكس بيكو"

ويرى وجيه كوثراني، وهو مؤرخ ومؤلف كتاب "الذاكرة والتاريخ في القرن العشرين الطويل" أن سايكس بيكو كانت سيناريو أساسيا بين 3 أطراف كولونيالية استعمارية، ودخلت في الذاكرة التاريخية كمؤامرة تمثل العقل الاستعماري الخبيث.

وتطرق الفيلم الوثائقي إلى النصر الذي حققه الجيش التركي في معركة الدردنيل عام 1915، وهي المعركة التي شكّلت حلقة الوصل بين الدولة العثمانية والجمهورية التركية، كما يقول المؤرخ أدهم ألديم.

ومستعينا بشهادات مؤرخين وأساتذة ومختصين، استعرض الفيلم الوثائقي تفاصيل الأحداث التي توالت ومنها استسلام العثمانيين وتوقيعهم هدنة مودروس في أكتوبر/تشرين الأول 1918، وسقوط قلب العاصمة إسطنبول في يد الحلفاء، ثم رفض القادة العسكريين الاستسلام لشروط مودروس، ودور الجنرال مصطفى كمال أتاتورك في حرب الاستقلال.

وتحدثت أوديل مورو، وهي مؤرخة متخصصة في التاريخ التركي بجامعة بول فاليري مونبلييه عن حرب الاستقلال التي انطلقت في تلك الفترة في تركيا، مشيرة إلى أن حالة غليان عمت كامل أراضي الأناضول مع حركات المقاومة.

كما كشف المتحدثون عن تفاصيل "معاهدة سيفر" التي أبرمتها الدول المتحالفة في 10 أغسطس/آب 1920 وتضمنت 433 بندا، وتقاسمت بموجبها أراضي الدولة العثمانية. واعتمدت المعاهدة في مبدئها الأساسي على تقسيمات "سايكس بيكو" للأقاليم وفق مناطق نفوذ فرنسي وبريطاني وإيطالي، فضلًا عن مناطق يضمها حليفهم الجديد اليونان. واحتوت على منطقة حكم ذاتي مستقل للأكراد في البند 62، وعلى وطن قومي لليهود بفلسطين في البند 95.

غير أن معاهدة "سيفر" أشعلتْ الحركة الوطنية التركية، وبدأت بخوض المعارك ضد الجيش اليوناني الذي خوّله الحلفاء لاحتلال غربي الأناضول.

وفي خضم هذه التطورات جاءت معاهدة لوزان، حيث توجه عصمت إينونو على رأس وفد تركي مفاوض في نوفمبر/تشرين الثاني 1922 إلى مدينة لوزان في سويسرا لبدء المفاوضات مع الحلفاء.

ووفق شهادة جوكان ستينسايا، وهو أستاذ فخري في العلاقات الدولية بجامعة "إسطنبول شهير"، فقد وضعت 3 خطوط حمراء أمام الوفد التركي في لوزان وهي: أولا: الوطن الأرمني غير مقبول على الإطلاق. ثانيا: الامتيازات التجارية غير مقبولة. ثالثا: يجب أن تبسط تركيا سيادتها على إسطنبول والمضائق.

وأظهر الفيلم الوثائقي -الذي بثته قناة الجزيرة وحمل عنوان "لوزان 1923"- وثائق حصلت عليها تتضمن بعضًا من رسائل رئيس الوفد الإنجليزي اللورد كورزون إلى العاصمة لندن أثناء الأسبوع الأول من الاجتماعات يشرح فيها سير المفاوضات.

وانتهت المفاوضات الطويلة في لوزان، بعد تسوية معظم المسائل المتنازع عليها، وتخلّي تركيا عن جميع الحقوق والملكية التي تخص الأراضي الواقعة خارج حدودها الجديدة، وتمَّ توقيع المعاهدة في 24 يوليو/تموز 1923، وأُلغِيَت بموجبها اتفاقية "سيفر" وأنهت حالة الحرب الدائرة في الشرق.

احتوت المعاهدة على 143 بندًا كان أهمها الاعتراف باستقلال الجمهورية التركية وبالسيادة على أراضيها التي حدّدتها طاولة المفاوضات، ورسم الحدود مع البلاد المجاورة لها مع كل من اليونان وبلغاريا وسوريا والعراق.

التنازل عن الامتيازات

وأعلنت الجمهورية التركية استقلالها في 29 أكتوبر/تشرين الأول 1923؛ مدشنة بداية جديدة كدولة قومية، مُنهيةً بذلك علاقتها بالدولة العثمانية بكافة ارتباطاتها، وخاصة بالعالم العربي، بعد قرونٍ من الحكم العثماني.

وتنازلت تركيا حتى عن الامتيازات في الدول العربية، كما جاء في البند 17 حول تنازل تركيا عن جميع الامتيازات والحقوق في كل من مصر والسودان، وتنازلت أيضًا عن الامتيازات في ليبيا بموجب المادة 22. ومن ثمَّ تنازلت تركيا عن الموصل بعد حسم النزاع عبر عصبة الأمم، ووقّعت على اتفاق أنقرة مع المملكة العراقية وبريطانيا في يونيو/حزيران 1926.

ويقول حميد بوزرسلان، وهو أستاذ التاريخ والعلوم السياسية في "كلية الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية بباريس": "بالنسبة للعرب كان هناك نوعٌ من الخيانة لكنّ الشعورَ بأنّ الخيانة حدثت بالفعل جاء عندما دفّعتْ أوروبا العرب مصاريفَ تسوية حساباتهم مع الإمبراطورية العثمانية في نهاية المطاف، ويمكننا القول إنّ بريطانيا العظمى وفرنسا اعتبرتا العالم العربي والأقاليم العربية غنائم الحرب الوحيدة".

كما نشر موقع مشروع لوزان على الإنترنت مقالًا بعنوان "الأنانية المقدسة"؛ ويصفُ فيه كيف تم إقصاء العرب بشكل كامل عن المفاوضات في لوزان.

يذكر أنه بعد مرور قرن على معاهدة لوزان، لا تزال هذه المعاهدة محطة إثارة للجدل في تركيا وخارجها؛ إذ نشرت صحف ومواقع بعضا من هذا الجدل؛ مثل احتوائها على بنود سرية تتعلق بالبترول والغاز، وجدل آخر حول انتهاء صلاحيتها بعد مرور 100 عام، وهو أمر لا يمت إلى المعاهدة بأي صلة، وفق المصادر.

المصدر: الجزيرة

إقرأ أيضاً:

 بقدرة 650 ميغاوات.. مصر تُشغّل أكبر محطة لطاقة الرياح في الشرق الأوسط

دخلت أكبر محطة لتوليد الكهرباء من طاقة الرياح في منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا حيز التشغيل التجاري الكامل، بعد ربطها بالشبكة القومية في مصر بقدرة إنتاجية تبلغ 650 ميغاوات، في خطوة تُعد مفصلية في مساعي البلاد نحو تنويع مصادر الطاقة وتعزيز أمنها بعيدًا عن الاعتماد التقليدي على الوقود الأحفوري.

وتقع المحطة الجديدة قرب مدينة رأس غارب على ساحل البحر الأحمر، وهي ثمرة شراكة دولية ضمن تحالف “البحر الأحمر لطاقة الرياح”، الذي يضم شركات عالمية وإقليمية رائدة، أبرزها شركة “إنجي” الفرنسية بحصة 35%، تليها “أوراسكوم للإنشاءات” المصرية بنسبة 25%، فيما تمتلك كل من “تويوتا تسوشو” اليابانية و”يوروس إنرجي” حصة 20% لكل منهما. وقد نُفذ المشروع وفق نظام البناء والتملك والتشغيل (BOO) لمدة 25 عامًا.

توُمثل المحطة خطوة نوعية ضمن “الاستراتيجية الوطنية للطاقة المستدامة 2035” التي وضعتها الحكومة المصرية، والتي تهدف إلى رفع مساهمة مصادر الطاقة المتجددة إلى 42% من إجمالي مزيج الطاقة بحلول عام 2035. ويُتوقع أن تسهم محطة رياح رأس غارب في خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنحو 1.5 مليون طن سنويًا، مع توفير طاقة نظيفة تكفي لتغطية احتياجات أكثر من مليون منزل.

وشكلت البيئة الجغرافية للموقع عاملًا حاسمًا في اختيار رأس غارب لتنفيذ هذا المشروع العملاق، إذ يتميز ساحل البحر الأحمر وخليج السويس برياح قوية ومستقرة تُصنّف من بين الأفضل عالميًا لإنتاج الكهرباء من طاقة الرياح، هذا ما يمنح مصر فرصة استراتيجية للتحول إلى مركز إقليمي للطاقة المتجددة، وفتح آفاق جديدة للاستثمار في هذا القطاع الحيوي.

ويرى مراقبون أن التشغيل الكامل لهذه المحطة الضخمة يؤكد التزام مصر المتزايد بتقنيات الطاقة النظيفة، ويعزز موقعها التنافسي في سوق الطاقة العالمي، في ظل التوجه الدولي نحو تقليل الانبعاثات وتعزيز التحول الأخضر، كما يعكس المشروع قدرة مصر على استقطاب استثمارات ضخمة وتنفيذ مشاريع كبرى بالشراكة مع كيانات عالمية في وقت تشهد فيه المنطقة تزايدًا في الطلب على الطاقة واستراتيجيات التنويع الاقتصادي.

مقالات مشابهة

  • هل تكتب المنطقة مصيرها أم تبقى تقرأ من دفاتر الآخرين؟!
  • إيران تُفـْشِلُ محاولات ترامب ونتنياهو في إعادة تشكيل الشرق الأوسط بالقوّة
  • لعنة "الشرق الأوسط الجديد"
  • "حدود الدم".. مشروع بيتزر للشرق الأوسط الجديد والحرب الأخيرة
  • إيكونوميست: لماذا لم تغير الحرب الإسرائيلية- الإيرانية الشرق الأوسط
  • الشرق الأوسط يترقب قرار “أبو صهيب” .. من هو؟
  • «تريندز» يشارك في ندوة حول سياسة كوريا الجنوبية تجاه الشرق الأوسط
  •  بقدرة 650 ميغاوات.. مصر تُشغّل أكبر محطة لطاقة الرياح في الشرق الأوسط
  • المستشار الألماني يزور بريطانيا في 17 يوليو لتوقيع معاهدة مع رئيس الوزراء
  • تقرير ألماني يسلط الضوء على مخاطر حروب الشرق الأوسط وتهديدها لكنوز التاريخ