منذ اكثر من 150 يومًا والحرب تحصد أرواح المدنيين الفلسطينيين كل دقيقة، لقد نهشت الحرب ملامحنا واعمارنا وسلبت كل ما هو جميل، لم تترك هذه الحرب شيئًا دون ان تشوه صورته، لقد طالت حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي الذي يمارسه الإحتلال الإسرائيلي كل شيء البشر والحجر والشجر..

كانت الساعة السابعة صباحًا عندما قررت وصديقتى الذهاب الي أقصى شرق مدينة رفح في المنطقة المحاذية لمدينة خان يونس التى تتعرض لاجتياح بري منذ أكثر من ثلاث أشهر، لم يكن قرار الذهاب سهلًا بالمطلق في ظل انعدام وسائل المواصلات واستبدالها بعربات النقل التى تجرها الحيوانات، استغرقت الطريق ساعات عدة حتى وصلنا الى مستشفي غزة الأوروبي، الكثير من الباعه المتجولين يصطفون يمينًا ويسارًا في كل شبر من البوابة الخارجية للمستشفي، كنت قد زرت المستشفى قبل سنوات عديدة لكن كل شيء تغير في ظل إستمرار الحرب، دخلنا قسم الإستقبال والطوارئ، كان مكتظا بالمصابين الذين يُنقلون عبر سيارات الإسعاف والدفاع المدني من مدينة خان يونس المتاخمة للمستشفى.

استفسرت من موظف الطواريء عن وجود الأطباء الزوار من البلدان العربية فأرسلني الى مكتب العلاقات العامة والإعلام، هناك قمت بإبراز بطاقتى الصحفية، فقام الموظف بتسهيل مهمة دخولي لقسم العمليات حيث قصدت زيارة الدكتور أيمن السالمي الذي حضر الى غزة من سلطنة عمان قبل أيام وقد أشعل وجوده وسائل التواصل الاجتماعي كونه الطبيب الأول الذي وصل لغزة من هناك، دخلت قسم العمليات، كان رئيس القسم الدكتور هيثم ابوسلطان مشغولًا يجري بعض العمليات للجرحي، شعرت بالحزن بعدما علمت بمغادرة الدكتور أيمن لقطاع غزة بعد إنتهاء مدة زيارته المقررة والتى كانت اسبوعين حسب المدة التى حُددت من قبل الفريق الطبي التابع لمؤسسة باما الأمريكية وبالتنسيق مع منظمة الصحة العالمية التي تُشرف على وجود الزوار الأطباء داخل مستشفيات غزة.

استقبلنى الطبيب حمزة ابودقة وهو طبيب كان يعمل ضمن الفريق الطبي الخاص بجراحة التجميل برفقة الدكتور أيمن، كان يتحدث بكثير من الفخر والاعتزاز كونه كان ملازمًا للدكتور ايمن طوال فترة وجوده داخل المستشفى قائلًا " لقد كان من دواعي سروري واعتزازي أنني تعرفت على الطبيب العُماني دكتور أيمن السالمي، الذي وصل للمستشفى لنجدة جرحى قطاع غزة، لقد أصر الدكتور الدخول داخل غرفة العمليات للمشاركة في اول عملية جراحية لطفلة تبلغ من العمر أربع سنوات بعد ساعات بسيطة من وصوله، كانت الطفلة تعانى من إصابات حادة في الأطراف العلوية والسفلية، أثناء العملية تم اجراء بتر لأحد الاطراف العلوية للطفلة ما اصاب الدكتور أيمن بالحزن الشديد ".

أخبرنى دكتور حمزة عن حسن حظه كونه كان برفقة الدكتور أيمن طوال الوقت فقد كان هذا حافزًا له لنهل المزيد من الخبرة العلمية والعملية التى يتمتع بها ذلك الطبيب الذي أتى الى قطاع غزة رغم المخاطر التي يمكن ان تواجه اي إنسان متواجد في منطقة تتعرض لحرب ضروس.

" لم يتوانى الدكتورأيمن عن تقديم الخدمات اللازمة للمرضى فقد كان يُقسم يومه ما بين العمليات الجراحية التى تبدأ منذ الساعة العاشرة صباحًا حتى الواحدة ليلًا اي حوالي 16 ساعة يومياً، رغم أن هناك بعض العمليات التى تستغرق اكثر من خمس ساعات متواصلة، لقد كانت لديه الخبرة الواسعة جدًا والمتقدمة في عمليات التجميل وخصوصًا التى تتعلق بتصحيح الإصابات والرقعة الجلدية وزراعة الأنسجة، أي ان الخدمة التى كان يقدمها دكتور أيمن تعتبر خدمة نوعية واسثتنائية، أما عن الاوقات التى كان يقضيها بعد اجراء العمليات الجراحية اي وقت الاستراحة فقد كانت مخصصة للإشراف والمتابعة والتقييم ومتابعة الفحوصات الطبية وصور الأشعة الخاصة بالجرجى، والمرور لرؤية وتفقد الحالات داخل الأقسام المختلفة، كنا نطلب منه ان يأخذ قسطًا من الراحه لكنه كان يرفض لدرجة انه في احدى العمليات وجدته قد غفى على الكرسي مباشرة بعد الانتهاء من إجراء احدى العمليات الجراحية المعقدة "

‏ نُشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة العديد من الصور للدكتور أيمن الذي عرف عنه شعفه وحبه للأطفال، إضافة الي امتلاكه لطاقة إيجابية عالية والروح القوية لتقديم الخدمة الانسانية والدعم النفسي لهم وزرع الابتسامه علي شفاههم الصغيرة، كان هذا الأمر جليًا وواضحًا خلال تفقده لأوضاع النازحين المتواجدين داخل أروقة المستشفى والبالغ عددهم حسب ما ورد عن قسم العلاقات العامة والإعلام بأكثر من 50 الف نازح منتشرين داخل وخارج اسوار المستشفى.

انتهت مدة لقائي بالدكتور حمزة وبعدها تجولت برفقته داخل اروقة المستشفى المليء بالنازحين من كل حدب وصوب من شمال قطاع غزة حتي جنوبه، نساء ورجال وأطفال وشيوخ لم يتركوا مكانًا دون المكوث فيه، بعضهم مصاب، والاخر يتجول بكرسيه المتحرك، نساء يقمن بإعداد الطعام والخبز، واخريات يتحدثن لبعض وسائل الإعلام المختلفة، أم تُبدل ملابس طفلها وآخرى تغسل المواعين الخاصة بالطعام وكأن هناك مدينة داخل مستشفى.

تنقلت والطبيب ما بين الأقسام لأشاهد حجم المأساة الإنسانية التى ألمت بشعب اعزل دون اكتراث من العالم لوقف هذه الحرب.

زرت بعض الحالات التى أجرى لها دكتور أيمن العمليات الجراحية كان منها الشابة علا ابورزق التى تبلغ من العمر 18 عامًا، كانت علا على مشارف الدخول للجامعة لتلقي تعليمها الجامعي لكن هذه الحرب التى اشتعلت أوقفت كل شيء جميل وكان لها رأي آخر، علا فقدت والدتها وخالها وخالتها بعد قصف عنيف اصاب منطقة سكنهم ما أدى الى اصابتها إصابة بليغة في وجهها الجميل، تسآلت بحزن بيني وبين نفسي كيف ستقضي هذه الشابة الجميلة بقية عمرها وهى تعاني من تشوه اصاب وجهها سيلازمها طوال عمرها الذي لم يبدأ بعد ؟ " لقد أصبت في وجهى وقام الدكتور أيمن بإجراء ثلاث عمليات جراحية لى منذ ان وطأت قدماه ارض غزة، أنني ممتنة له بالشكر والتقدير والعرفان، لقد كان دائم الحديث معي، استطاع أن ينتزع البسمه مني أكثر من مرة، كنت اتمنى لو بقي معنا هنا حتى استكمل بقية علاجي الذي ربما سيطول كثيرًا كما اخبرني الأطباء، حزنت كثيرًا عندما علمت بسفره لكننى فرحت لأنه وصل الي بلده سالمًا معافى".

غادرنا قسم جراحة النساء إلى قسم الأطفال لقد كانت الطفلة التى بترت يدها نائمة كالملاك ربما كانت تحلم أنها تلعب في ذات الألعاب التى كانت تستطيع حملها قبل الحرب، تحمل عروسها الصغيرة تطبب عليها كالأمهات، لكنها اليوم بيد واحدة ستكبر معها معاناتها مع مرور السنوات الممتدة لعمرها، معظم أطفال غزة كانوا ضحايا لهذه الحرب فقد اوضحت وزارة الصحة الفلسطينية ان الضحايا من الأطفال والنساء اكثر من 72 % معظمهم تحت الأنقاض، بينما هناك اكثر من 30.000 شهيد ومفقود وأكثر من 72.000 جريح.

قصدنا قسم الرجال حيث وجود الحالة الأصعب علي الإطلاق رجل فقد بصره وأصيب وجهه بتشوه كبير، كان السيد احمد عبدالله وهو من مدينة خان يونس يتحدث بكثير من الحسرة والألم عن التجربة التى تعرض لها بسبب الحرب قائلًا " كنت اسكن في احد أزقة مخيم خان يونس وبالتحديد في منطقة بلوك 112، هذا المكان لم يكن ضمن المربعات التى طلب جيش الإحتلال الإسرائيلي إخلائها، لكننا كمدنيين فؤجئنا بالاقتحام البري من قبل جيش الإحتلال للمخيم الساعة السابعة مساءً، كانت طائرات الاحتلال تقصف المربعات السكنية دون سابق انذار، هَربت من هول القصف الى بيت جيرانى بحثًا عن الأمان لكنني وجدث نفسي اخرج من تحت ركام البيت بعد ان قضيت 8 أيام، دخلت المستشفى وبعد إجراء عملية معقدة استغرقت ساعات طويلة دخلت الى غرفة العناية المركزة لمدة أربع أيام وبعد ان تحسنت حالتى كنت قد سمعت صوت الدكتور أيمن لأول مرة، كان يريد التأكد بأنني لم أفقد الذاكرة، علمت انه بذل كل ما بوسعه من أجل ترميم جروحي والخروج بأفضل النتائج الطبية بعد التشوه الكبير الذي اصاب وجهي، لقد كان دائم التواجد بجواري، كنت أتمنى لو أنني لم افقد بصري حتى أرى هذا الملاك الطاهر الذي أرسله الله تعالي لى لكي ابقى على قيد الحياة، انه من أنبل وانقى الأطباء الذين عرفتهم، لقد بكيت عندما جائنى الدكتور حمزة واخبرنى بأن الدكتور أيمن قد عاد الى بلاده وانه أوصى الأطباء بالاهتمام بحالتى واخباره بالتطورات التى سأتعرض لها مستقبلًا ".

‏كان واضحًا ان وجود الأطباء العرب قد ترك أثرًا ايجابيًا كبيرًا ودافعًا لمساعدة أطباء غزة على مواصلة عملهم فقد أُنهك الأطباء بسبب زيادة عدد المصابين بإستمرار في ظل انعدام الكثير من الإمكانيات والمستلزمات الطبية ودخول الحرب لشهرها السادس دون توقف.

" إن وجود الفرق الطبية خصوصًا العربية والإسلامية منها يساهم في رفع معنوياتنا ويشعرنا بالاهتمام، معظم الطواقم الطبية منهكة، نحن نتعرض للعديد من الضغوطات علي الصعيد العملي والأُسري، هناك أطباء استقبلوا الشهداء والجرحى من أسرهم بينما كانوا يتابعون أعمالهم داخل المستشفيات، كما تعرض العديد من الأطباء للاغتيال والاعتقال، لذا فنحن نرحب بكافة الأطباء القادمين إلينا من الوطن العربي والإسلامي، نحن بأنتظار الاستزادة من خبراتهم ".

هذا كان رد الدكتور حمزة عن سؤال يتعلق بنظرتهم لوصول الأطباء من الوطن العربي والعالم لقطاع غزة".

ثم استطرد قائلًا " لقد مررنا بالعديد من الصعوبات أثناء إجراء العمليات الجراحية بسبب عدم توفر الادوية والامكانيات الطبية اللازمة لكن الدكتور أيمن لم تستوقفه تلك النواقص بل كان يوفر البدائل بإستمرار وهذا كان يشعرنا بالفخر ويساهم في إنقاذ العديد من الحالات الصعبة ".

يذكر أن الإحتلال الإسرائيلي تعمد قتل 348 كادرًا صحيًا واعتقال 269 آخرين على رأسهم مدراء مستشفيات بخان يونس وشمال غزة.

لقد ترك الدكتور أيمن السالمي قطاع غزة، لكن أثر وجوده كان حاضرًا وباقيًا لدى كل من تعامل معه، لقد كنت استمع الى شهادات الجرحى بكل فخر رغم سيطرة ذلك الحُزن علي من هول ما رأيت من اصابات صعبة داخل أقسام المستشفى لقد أصبحَت قلوبنا وجبةً شهيّةً يلتهمُها الحزن يوميًا.

رغم الحزن الذي اعتراني بعد مشاهدة حجم المأساة الإنسانية غادرت المستشفى أحمل القصص التى سمعتها من الجرحى كان أقلّ ما يُمكن أن يُقال عن دكتور أيمن السالمي أنّه قمّةً ومثال راقي يحتذى به، فالباحث عن العطاء هو نفسه الباحث عن السعادة ومن يتقن العطاء فقد رسم للسعادة خطواتها الأولى كما قال الله تعالى في كتابة العزيز:{ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ }

عدت لخيمة النزوح بعد أن حصلت علي العديد من الصور، تواصلت مساءًا مع الدكتور أيمن عبر تطبيق الواتس اب وقد جاء رد الطبيب شافيًا ووافيا ويحمل في طياته تمنيات بأن تحط هذه الحرب اوزارها وان يزور الأمان والسلام هذه البقعة من الأرض.

وكان رده عن سؤال وجهته اليه يتعلق بشعوره وهو يزور قطاع غزة لأول مرة قائلًا " لقد غادرت سلطنة عمان دون اخبار احد، وقمت بأخبار الأهل بعد وصولي للمستشفىي مباشرة، لقد امتزج شعورهم بالفخر والخوف كوني أول طبيب عماني أستطيع الوصول إلى غزة، كان هدفي الأول إنساني بالدرجة الأولي وهو مساعدة المحتاجين والجرحى، لقد كانت المرة الأولى التي أرى فيها إصابات الحروب، لا أدري كيف يمكن أن أصف ذلك الشعور ولكن فظاعة المنظر جعلتنى اشعر بالقلق والخوف والألم لما كنا نراه دومًا من جرحى وقتلى، احد المصابين فقد عيناه، والآخر بترت ساقه ويديه، والبعض أصيب بالشلل الكامل، وهناك إصابات مباشرة كانت بالرقبة والرأس، إنها إصابات مؤلمة بسبب هذه الحرب الشنيعة ضد اهل غزة، أيضًا منظر النازحين داخل المستشفى محزن جدًا، كنت أراهم وهم يسرعون لحجز أماكن لنومهم داخل وخارج المستشفى هربًا من الموت، لقد كان الوضع مؤلم ومتعب في نفس الوقت "

لقد كانت رسالة الدكتور أيمن هادفة وسامية فالشعب الفلسطيني فخور بالطواقم الطبية التى استطاعت الوصول إلى قطاع غزة رغم الظروف القاسية والمأساوية التي يعيشها أهالي غزة والبالغ عددهم اكثر من 2 مليون و 300 الف نازح اصبح معظمهم نازحين في مدينة رفح منذ اليوم الأول للحرب على غزة في السابع من أكتوبر الماضي.

إن لسان حال أهل غزة المنهكين يقول " أحياناً نحن لسنا بحاجة لمن يعطينا مظلة بقدر حاجتنا لمن يبتل معنا، لأن مساحة الشعور تفوق مساحة العطاء".

حري بنا كشعب فلسطيني أن نفخر بكل من وطأت قدماه لأرض غزة من أجل التخفيف من معاناة الشعب الفلسطيني الذي يتعرض لأبشع جريمة إبادة جماعية في التاريخ الإنساني.

أن الشعب الفلسطيني بكافة اطيافه يثمن عاليًا المواقف العربية الداعمة لحقوق الشعب الفلسطيني في انهاء الحرب وإقامة دولته الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس، كما يثمن دور دولة سلطنة عمان ممثلة بجلالة السلطان هيثم بن طارق والحكومة والشعب، المناصرة بقوة لشعبنا وحقوقه المشروعة، مؤكدين على موقف الشعب العماني تجاه القضية الفلسطينية والتي تدافع عن حقوق شعبنا الفلسطيني لتحقيق العدالة وتفانيهم مع مبادئ الرحمة والمساواة والكرامة الإنسانية، كما تقدر الحكومة الفلسطينية موقف السلطنة وقرارها في منع الطائرات الاسرائيلية المدنية من استخدام اجوائها كأداة ضغط من اجل وقف العدوان الإسرائيلي علي غزة.

وفي هذا الصدد يتابع الشعب الفلسطيني عن كثب الجهود الداعمة للسلطنة القاضي بإقرار الحق المشروع للشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة لكي يعم السلام الدائم في المنطقة، كان ذلك في لقاء وزير الخارجية السيد بدر بن حمد البوسعيدي مع الممثل الأعلى للإتحاد الأوروبي للسياسة الخارجية والامنية ونائب رئيس المفوضية الأوروبية في بروكسل، والذي شدد فيه معاليه على المسؤولية الماثلة أمام المجتمع الدولي لوقف الحرب وتداعياتها ووقف إطلاق النار وإنقاذ الأرواح وفتح الممرات الكفيلة بدخول المساعدات والمواد الإغاثية الإنسانية لقطاع غزة وتهيئة مناخ الأمل لجميع الأطراف علي مسار حل الدولتين وحق تحقيق المصير.

د. حكمت المصري كاتبة فلسطينية من غزة

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: العملیات الجراحیة الشعب الفلسطینی الدکتور أیمن العدید من هذه الحرب خان یونس التى کان قطاع غزة لقد کانت اکثر من لقد کان قائل ا

إقرأ أيضاً:

رسالة من داخل غزة عن معركة ما بعد انتهاء الحرب

مع فجر يوم جديد من أيام محرقة غزة، تسللت الشمس من بين سحب الدخان والغبار والنار، حاملة معها ما ظننّاه بصيص أمل يُنير ليل محنتنا العميقة. لكن خلف ذلك الضوء الخافت، ظل الألم والحصار والدمار والقتل مستمرًا بلا هوادة.

أمامي، كانت مئات عناصر العصابات الإجرامية تحاصر الحي، والآليات العسكرية تنتشر في المباني المجاورة التي تحولت إلى نقاط مراقبة وتدمير، في ظل قصف لا يتوقف، يُمطرنا بقذائف تهدم كل ما حولنا.
تحصّنا معًا في أماكن ضيقة، نتلو الأذكار والدعاء، نحاول كبح موجة الرعب التي تعلو مع كل انفجار يهدم عمارة، ليسحق معها أحلامنا وطموحاتنا.

ولم يقتصر الدمار على الحجر فقط، بل تعدّاه إلى إحراق المباني وتحويل المساجد والمدارس إلى مراكز تعذيب وتحقيق، عقب طرد النازحين منها بالقتل والتشريد، مما عمّق شعورنا بالعزلة والظلم.
مع تصاعد القصف والاشتباكات، أصبح منزلنا أنقاضًا تحوَّلت إلى ثكنة تتعرض للقصف من كل الاتجاهات.

نعيش لحظات رعب مستمر وسط ظلام دامس بسبب قطع الكهرباء ومنع المحروقات، فضلًا عن نقص الغذاء، في محاولة لإبادة "الحيوانات البشرية" كما أعلن كبيرهم الذي علّمهم السحر.

من شقوق الركام والخراب، رأيت- أنا وأولادي الذين استشهدوا تباعًا بعد ذلك- نساءً وأطفالًا يخرجون ملوّحين بالرايات البيضاء، بينما كان الرجال، وأحيانًا النساء، يواجهون مصير الإعدام أو الاعتقال. تبعناهم بتردد، رغم الخطر المحدق، في لحظات نادرة أمطرت فيها السماء، وأخفقت طائرات الاستطلاع في اصطياد كل متحرّك.

ومع اتساع رقعة الدمار الممنهج، تحوّل النزوح إلى حالة دائمة. وعندما عدنا إلى ما كانت شقتنا في عمارة سكنية، بدا المشهد كابوسيًا: إبادةً تامة، وركامًا متراكمًا، وأطلالًا بدت وكأنها اجتُثّت بأمواج تسونامي.

غرقنا جميعًا في بحر من الألم والهمّ، وسط صمت عالمي مريب، وانعدام تام لأي موقف فعلي، حتى بدا أن هذه المحنة الأشد في تاريخنا لن تجد سبيلًا إلى النهاية.
من موقع المسؤولية، خضنا مرارًا تجربة إعمار غزة بعد كل عدوان صهيوني، حيث واجهتنا عقبة كبرى تمثلت في منع الاحتلال دخول الأسمنت ومواد البناء الأساسية.

إعلان

دفعنا ذلك إلى البحث عن حلول بديلة، فكان الركام المنتشر في كل مكان فرصة مؤلمة لكنها بداية جديدة. قمنا بإعادة تدوير أنقاض المنازل المدمرة وتحويلها إلى حجارة بناء باستخدام آلات بسيطة وجهد يدوي، كما عدنا إلى استخدام البناء الطيني (لم يصمد طويلًا مع المطر) في بعض المناطق، مستلهمين من تراثنا المعماري أدوات مقاومة صامدة في وجه الحصار والعدوان.

كانت هذه التجربة مريرة ولا توفر حلًّا شاملًا، لكنها أسست لنهج إعمار بديل لا يعتمد على شروط الاحتلال، بل على إرادة الحياة. ظهرت بذلك بدائل محلية وإبداعية تعتمد على مواد بناء محلية ومعاد تدويرها، وإستراتيجيات بناء مستدامة تقلل الاعتماد على الموارد المحظورة.

وشملت هذه البدائل تقنيات صديقة للبيئة، ومشاريع منخفضة التكلفة تلبي الاحتياجات الإسكانية والمجتمعية، معززة روح المقاومة والابتكار رغم كل العراقيل.

لم تكن معركة الإعمار أقل قسوة من الحرب ذاتها، فهي لم تكن مجرد إعادة بناء ما تهدم من منازل ومرافق، بل مجابهة شاملة لدمار البنية التحتية والنسيج الاجتماعي، وسط حصار خانق يمنع دخول مواد البناء، وتوترات سياسية داخلية تعيق التنسيق وتعرقل المبادرات.

ورغم هذه المعوقات، شهدنا جهودًا محلية ودولية صبورة لترميم المنازل، ومشاريع عربية خففت جزئيًا العبء، ساهمت في خلق فرص عمل وإنعاش محدود للاقتصاد.

ويبقى الأثر الأعمق للإعمار هو أن كل جدار يُعاد بناؤه، وكل مدرسة تُفتتح، تأكيد على حقنا في الحياة ورفضنا للفناء. فأصبح الإعمار فعل مقاومة يتجاوز الحجر إلى إرادة شعبية صلبة وتخطيط مستدام يُصر على الانبعاث من بين الركام.

لكن مع الأسف يومها، تحوّل ملف إعمار غزة إلى ساحة صراع نفوذ بين أطراف عربية ودولية، والسلطة الفلسطينية، ليست بدافع إنساني بحت، بل للاستحواذ على عوائد مالية ضخمة ومكاسب سياسية محتملة.

هذا التنافس أفضى إلى تعقيد الإجراءات، وفرض اشتراطات سياسية، وتباطؤ في التنفيذ، ما ضاعف معاناة الناس وعمّق فجوة الثقة بين السكان والمؤسسات الرسمية والدولية.

الدمار اليوم في غزة ليس كسابقاته؛ إنها إبادة شبه كاملة للحجر، حيث تجاوزت كمية المتفجرات المستخدمة قنابل نووية، مع تدمير ممنهج يشجع المقاولين الصهاينة على هدم المنازل مقابل مكافآت مالية، ما أوجد حالة تنافسية في التخريب تصل إلى حد الإبادة العمرانية.

وقد وثّقت التقارير الأممية ومنظمات حقوق الإنسان حجم الدمار الهائل الذي ناهز 75% من بنيان غزة، مؤكدين أن إعادة الإعمار واجب قانوني يقع على الاحتلال باعتباره المسؤول الأول وفق القانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف وقرارات الأمم المتحدة.

ولا بد أن تتم عملية الإعمار خارج إطار الرقابة أو الاشتراطات السياسية التي يفرضها الاحتلال، لضمان العدالة والسرعة وكرامة الفلسطينيين الذين واجهوا حرب إبادة ببسالة وصبر.

في محرقة غزة المستمرة، الإعمار أكثر من بناء منازل أو مرافق؛ هو صمام أمان يحفظ وجود الفلسطينيين على أرضهم ويحول دون تفريغهم القسري. كل منزل يُعاد وكل مدرسة تُصلح يعني استمرار الحياة وتعزيز الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، في ظل سياسة الاحتلال التي تستهدف التهجير بالقوة عبر التدمير الممنهج والضغط الاقتصادي.

إعلان

يُعتبر الإعمار وسيلة عملية لمواجهة هذا المخطط، إذ يحد من موجات النزوح ويعزز فرص البقاء. كما أن بناء المؤسسات التعليمية والصحية يعزز ثقة السكان بمستقبلهم ويدفعهم لرفض التهجير القسري.

في هذا الإطار، يتحول الإعمار إلى إستراتيجية مقاومة حيوية تثبت حق الفلسطينيين في العيش بكرامة على أرضهم.

يمثل إعمار غزة تحديًا متجددًا يعكس عمق المأساة الإنسانية والسياسية؛ فالدمار لا يطال فقط البنية التحتية بل يمتدّ إلى روح الجماعة ومقومات الصمود، حيث أُلحِق ضرر واسع بالمنازل، المستشفيات، المدارس، وشبكات المياه والكهرباء.

ومع كل جولة عدوان، تتفاقم الكارثة مع دمار غير مسبوق وشمولي، مخلفة كارثة إنسانية تمسّ ملايين الفلسطينيين، نصفهم أطفال.

هذه المعركة ليست هندسية أو إنشائية فقط، بل هي صراع متعدد الأبعاد: سياسي، اقتصادي، إنساني، ومجتمعي، يقوم على مقاومة التهجير والتدمير عبر إرادة البناء والتجدد. أصبح الإعمار رمزًا للصمود وتعبيرًا عن الإرادة الجماعية في مواجهة الإبادة البطيئة.

ورغم التحديات، مطلوب أن تظهر غزة مرونة كبيرة بتبني إستراتيجيات متنوعة، تشمل مساعدات إنسانية، مبادرات محلية، ومشاريع بأموال عربية، وغيرها.

ومع ذلك، هناك عقبات هيكلية ستعيق الإعمار، أبرزها استمرار الحصار المتوقع تشديده والذي يقيّد دخول مواد البناء ويشل الحركة التجارية، إلى جانب الانقسام السياسي الفلسطيني الذي يعرقل التنسيق الموحد. على الصعيد الدولي، التمويل محدود ولا يرقى إلى حجم الكارثة، مما يجعل الاستجابة دون المستوى المطلوب.

في ظل هذه الظروف، من الضروري فتح أفق الإبداع نحو إعمار مستدام، عبر استخدام تقنيات صديقة للبيئة ومواد بديلة تقلل الاعتماد على الموارد المحظورة. هذه التحولات تنعكس إيجابيًا على الواقع الاقتصادي والاجتماعي من خلال خلق فرص عمل وتحسين البيئة المعيشية.

إعمار غزة ليس مجرد استجابة إنسانية، بل معركة قانونية وأخلاقية ووجودية تتطلب شراكة دولية جريئة تضع حدًا للتقاعس وتكف يد الاحتلال عن تعطيل الإعمار.

لا يمكن النظر إلى هذا الملف كإجراء تقني معزول، بل كقضية إنسانية نضالية تستدعي حشدًا فلسطينيًا وعربيًا ودوليًا لتحرير الإعمار من الحسابات السياسية، ومنحه بُعده الحقيقي كحق لشعب يستحق الحياة والكرامة.

إن إعمار غزة هو فعل مقاومة وتجديد لعقد الحياة وسط الموت، ورسالة وطنية تتحدى محاولات السحق والتغييب. مشروع جامع يتطلب إرادة فلسطينية موحدة، إدارة مهنية شفافة، وتكاملًا بين المؤسسات الرسمية، المجتمع المدني، والدول الصديقة، على قاعدة العدالة والكرامة الوطنية. نجاحه مرهون بتكثيف الضغط الدولي على الاحتلال وتحميله المسؤولية القانونية والمالية عن جرائمه.

هذه الوثيقة تمثل إستراتيجية لإعادة إعمار غزة، ترتكز على مبادئ العدالة والكرامة، وتحمل الاحتلال المسؤولية، وتدعو إلى شراكة دولية فاعلة تعيد الحياة لغزة وتؤسس لمرحلة جديدة من التعافي والبناء، تليق بتضحيات أهلها، وتحافظ على جذوة البقاء مشتعلة في وجه آلة الإبادة.

في قلب هذه الأرض التي عانت، وعلى أنقاض مدينة صمدت رغم المحن، ينبثق نور الأمل من بين ركام الدمار. غزة، المدينة التي لم تنكسر رغم كل العواصف، تقف اليوم على مفترق طرق بين الموت والبقاء، بين الخراب والنهضة. طريق إعمار غزة ليس مجرد مشروع بناء حجارة وأسمنت، بل ملحمة تُكتب فيها فصول جديدة من الصمود والعزيمة، وتحكي قصة وطن لا يقبل أن يُمحى من الذاكرة.

هذا الطريق يتطلب أكثر من الإرادة؛ يحتاج رؤية متكاملة تجمع بين العدالة والتنمية، بين التحدي والتخطيط، بين الحقوق والقوة. إنه مسار يستند إلى حقوق مشروعة وأحلام كبيرة لشعب يستحق الحياة والكرامة.

إعلان

من خلال هذه الرؤية، نرسم خارطة طريق لإحياء غزة، ليس فقط كمدينة تُبنى من جديد، بل كرمز حي للمقاومة وأيقونة للبقاء في وجه محاولات الطمس والتهجير.

معًا، سننطلق على هذا الطريق، مدفوعين بإيمان راسخ بأن إعادة إعمار غزة هي انتصار للإنسانية وتجسيد لإرادة لا تنكسر مهما طال الظلام.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • لم يطرح الدكتور “كامل” مشروعاً واضحاً للانتقال من الحرب إلى البناء
  • وزارة الصحة تبحث مع سفير الهند تعزيز التعاون في تأهيل الطواقم الطبية
  • المنسق المقيم للأمم المتحدة في سوريا الدكتور آدم عبد المولى لـ سانا: تم اليوم إرسال قافلة ثالثة تحمل مساعدات إنسانية أساسية، تشمل المواد الغذائية، والإغاثية، والإمدادات الطبية، وذلك بتنسيق مع الهلال الأحمر العربي السوري
  • سر تواجد محمد صلاح في معبد إيكوين في اليابان
  • فضيحة مدوية.. شاهد ما الذي كانت تحمله شاحنات المساعدات الإماراتية التي دخلت غزة (فيديو+تفاصيل)
  • كاتب بريطاني: إبادة غزة كانت متوقعة نظرا لخطاب صراع الحضارات والإسلاموفوبيا لسنوات
  • انعدام الحليب يهدد حياة 100 ألف طفل في غزة
  • كانت ستجنب العراق ويلات الحرب.. الكشف عن مبادرة عربية رفضها صدام حسين
  • محمد فايق: إسرائيل كانت تخشى المجتمعات العربية في عهد عبدالناصر
  • رسالة من داخل غزة عن معركة ما بعد انتهاء الحرب