بعد استحواذ حركات دارفور المتمردة على مساحات شاسعة من أرض الإقليم قبل عشرين عاماً، طرحت مشروعها السياسي لحل المشكلة السودانية، لكنها فشلت في ترجمة خطاب ذلك المشروع ليشمل جميع السودانيين، بل أخفقت في كسب قطاعات عريضة من مجتمعات دارفور نفسها، فحوّلت الصراع إلى صدام داخلي بين المكونات القبلية، حينما انبرى قادة حركات دارفور إلى الاستقطاب العرقي والقبلي، فانشقت حركتا العدل والمساوة وتحرير السودان لأكثر من ثمانين عصابة مسلحة، وبذلك حازت على لقب (حركات دارفور) دون منازع، وعمل الإعلام الحكومي على تأطيرها داخل القالب الجغرافي الضيّق، وقد نجح في ذلك، فما انفكت تصول وتجول لكي تخرج من ثوب القبيلة، لكنها رسبت في امتحان التمثيل القومي في هياكلها الادارية، وذلك باستمرارها في التشظي العشائري والانقسام الإثني، فحدثت الجفوة بينها وبين السكان، واتسعت دائرة انعدام الموثوقية بينها وبين القطاعات الاجتماعية التي صنفتها على أساس أنها العدو الاستراتيجي، ولم تسلم حتى الحواضن الشعبية التي كانت توفّر لها الملاذ الآمن من بطشها، فقامت بتصفية أحد الملوك الأهليين الذين ينتمون لحواضنها الشعبية، وما أثار حفيظة المواطن بالإقليم، وما دفعه للابتعاد عن مساندة من يرفعون شعار العدل والتحرير، هو انفلات هؤلاء المدّعين وتحولّهم لعصابات نهب وسلب تقتل وتغتصب نساء القرى – مهاجرية وغرابش وشعيرية، فانهار المشروع التحرري الساعي لتحقيق العدل والمساواة بين السودانيين، عندما اصطدم بعقبة الانكفاء القبلي والانزواء الجهوي والتقوقع العنصري، فهاجر أصحاب المشروع المسلح بجندهم وعتادهم للارتزاق بدولتي ليبيا وجنوب السودان، بعد أن تكبدوا الخسائر الفادحة على أيدي ذراع الجيش المتين حينذاك - قوات الدعم السريع، ثم أخيراً اختتموا المشروع الوصولي والانتهازي الكبير، وتحوّلوا من مرتزقة عابرين للحدود إلى مرتزقة مدفوعي الأجر للقتال في صفوف كتائب الاخوان المسلمين.


إنّ أهم أسباب مأساة دارفور الممتدة لأكثر من عشرين عاماً، هو كذبة العدالة، التي ولجت بها حركة العدل والمساواة ميدان العمل السياسي، وأكبر عار لحق بنخبة دارفور المثقفة هو خدعة التحرير، التي منيت بها دارفور جراء خطل وسوء منقلب حركة تحرير السودان بجميع انقساماتها، وحرب أبريل كشفت عن القناع الزائف الذي تدثرت به حركات القبائل، التي نحرت بعير السلم والأمن المجتمعي بالإقليم الغربي، فبينما يقيم قادة هذه الحركات العشائرية بأسرهم في لندن وبرلين والعواصم الأوروبية، ترزح خالات وعمّات نفس هؤلاء القادة تحت نير وبؤس مخيمات اللجوء والنزوح، في تجلٍ واضح لخصيصة العار المتمكّن من النفس البشرية، حينما تفقد أدنى مشاعر الحس الإنساني، وانعكاس بائن لشنيعة الجرم الذي جره سفهاء القوم فحل بغير جارمه العذاب، لقد قضت هذه الحركات نفس الفترة الزمنية التي قضاها جون قرنق - الحركة الشعبية لتحرير السودان – في الأدغال، لكن استطاع قرنق أن ينجز أهدافه في إحدى وعشرين عاماً، بوصوله لمرفأ السلام الشامل بضاحية نيفاشا في كينيا، بينما قضى صعاليك الحركات القبلية والعشائرية المسلحة هذه السنين في صالات الرقص، وباحات الفنادق ذات النجوم السبع، يحتسون النبيذ المعتّق، غير عابئين بضحايا حربهم العبثية التي خدعوا بها شعبهم المقهور، ولا مبالين بحرائرهم القاطنات لبيوت القش والصفيح، فلو لم يقف أهل الإقليم وقفة الرجل الواحد، سيستمر المتسكعون من الفاقد التربوي والمتبجحون بادعاءات التحرير ودعاوى إقامة دولة العدالة والمساواة، في إضاعة سنين أخرى، وستحرم أجيال قادمة من التعليم ومواكبة ركب الحياة العصرية، فلو كانت هنالك نكبة قد حلّت بسكان دارفور فهي الحرب التي أطلق رصاصتها الأولى هؤلاء الصعاليك.
على سكان إقليم الشرق أن يتعظوا بما حاق بسكان دارفور من مأساة إنسانية، نتيجة لنفاق وكذب وإجرام هؤلاء السفّاحين، فالمثل يقول:(من لم يكن له فضل على أهله لن يكون له فضل على الأخرين)، فحركات دارفور مثلها مثل طائر الشؤم، الذي أينما حط رحله حل الخراب والدمار والنزوح والتشرد واللجوء وضياع الأوطان، فعندما تشكلت حكومة الانتقال برئاسة حمدوك بعد انتصار ثورة ديسمبر، كانت الأحوال هادئة، وكان الصراع صراعاً سياسياً مدنياً بالصورة التي يجب أن تكون، حتى جاءت حركات دارفور السقيمة من جوبا بصفقة مشؤومة كانت الشرارة التي أشعلت الحرب، وما كان للقوات المسلحة أن تتراجع عسكرياً لو لا اختطاف قرارها بواسطة كتائب الحركة الاخوانية، ولولا دعم حركتي تحرير السودان والعدل والمساواة، فكل الهزائم التي تعرّض لها الجيش الذي يقوده فلول النظام البائد، جاءت بسبب هذا السرطان المتآلف مع بعضه (حركات دارفور+ فلول النظام البائد)، منذ اتفاقيات ابوجا والدوحة وجوبا، فإن أراد أهل الشرق الحفاظ على إقليمهم سالماً آمناً، عليهم إخراج هذا (العفن) الذي وصفه أحد الضباط الفلول بالجيش، فهذه الخلايا السرطانية المتعفنة فتكت بلحمة الجسد الدارفوري الذي ما يزال رطباً بالصديد، وعلى أحفاد الأمير عثمان أن يعتمدوا على أنفسهم في تحرير إقليمهم، وأن يعلموا تمام العلم بأن العدالة التي يبحثون عنها لا تملك حركة العدل والمساواة مسوغاً أخلاقياً لتحقيقها، ولا تحمل حركة تحرير السودان مثقال ذرة من خردل الأخلاق لتخرجهم من نفقهم المظلم، وإذا لم يتدارك الشرقيون هذا الأمر عاجلاً غير آجل، فسوف يتحوّل إقليمهم لحلقة من حلقات المسلسل المأساوي الذي شهدته دارفور، اخرجوا المرتزقة من دياركم تسلم كسلا وبورتسودان.

إسماعيل عبدالله
[email protected]  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: العدل والمساواة تحریر السودان حرکات دارفور

إقرأ أيضاً:

WP: الفاشر تعيش كارثة إنسانية وصمت العالم يفتح الباب لأسوأ مأساة في السودان

نشرت صحيفة "واشنطن بوست" مقالاً قالت فيه إن العالم يتعرّف على أهوال مدينة الفاشر من خلال الصمت والغياب، لا من خلال أدلة ملموسة، إذ لم تتمكن أي وسيلة إعلامية مستقلة من الوصول إلى المدينة السودانية الواقعة في ولاية شمال دارفور، والتي سقطت في أواخر تشرين الأول/أكتوبر بعد أكثر من 500 يوم من الحصار.

وأظهرت صور الأقمار الصناعية أحياء مدمرة، وأراضي ملطخة بالدماء، وآثار مقابر جماعية.

واختفى المرضى الذين كانوا يعالجون في المستشفيات والعيادات التي استهدفها المقاتلون، فيما وصل الأطفال الفارون من الفاشر إلى مخيمات النازحين من دون آبائهم أو ذويهم.

وروى عمال الإغاثة ومسؤولو الأمم المتحدة شهادات عن مجازر وعمليات اغتصاب واسعة النطاق ارتكبتها ميليشيات قوات الدعم السريع، إحدى الفصيلين الرئيسيين في الحرب الأهلية المدمرة في السودان.



ومنذ اندلاع الصراع في نيسان/أبريل 2023، عززت قوات الدعم السريع سيطرتها على إقليم دارفور الشاسع غرب البلاد، وجسد استيلاؤها على الفاشر عملية تقسيم فعلي بين الشرق والغرب، في حين استعادت القوات المسلحة السودانية العاصمة الخرطوم في وسط البلاد.

وأدت الحرب الأهلية إلى أسوأ كارثة إنسانية في العالم، بعدما نزح نحو 14 مليون شخص، نصفهم من الأطفال، وتفشت المجاعة والأمراض، ومنها الكوليرا، في مناطق واسعة، خصوصا الفاشر ومحيطها، حيث وصف شهود عيان كيف عاش السكان المحاصرون على علف الحيوانات والأعشاب الضارة.

كما ترافقت الأزمة مع العنف الممنهج الذي تمارسه قوات الدعم السريع ضد جماعات عرقية وقبلية غير عربية في دارفور، ويقدر عدد المفقودين من الفاشر بنحو 150,000 شخص، فيما يشير باحثون إلى أنّ نحو 60,000 منهم قتلوا على يد قوات الدعم السريع وحلفائها خلال الشهر الماضي فقط.

وفي أعقاب سقوط الفاشر، قال ناثانيال ريموند، المدير التنفيذي لمختبر ييل للأبحاث الإنسانية، لشبكة "سي إن إن" الشهر الماضي: "نشهد وتيرة قتل لا يضاهيها إلا الإبادة الجماعية في رواندا".

ويتابع المختبر تداعيات ما يجري، مضيفا: "نحن بصدد كارثة بشرية قد تتجاوز في غضون أسبوع عدد ضحايا غزة خلال عامين. هذه هي سرعة القتل التي نشهدها بناء على ما نراه من أكوام الجثث على الأرض".

وقالت الصحيفة إن المنطقة لا تزال تعاني أيضا من صدمات سابقة، ففي لاهاي، أصدر قضاة المحكمة الجنائية الدولية الثلاثاء حكماً بالسجن 20 عاما على علي محمد علي عبد الرحمن، قائد ميليشيا الجنجويد السودانية سيئة السمعة، بعد إدانته بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ارتُكبت تحت إشرافه قبل أكثر من عقدين خلال حملة مكافحة التمرد في دارفور.



وتعد الجنجويد النواة الأولى لقوات الدعم السريع، لكنها كانت آنذاك تنفذ أوامر الحكومة المركزية في الخرطوم بقيادة الرئيس عمر البشير.

وذكر الكاتب إشارات متكررة إلى العنف الإبادي الحالي، قائلاً إن مواقع التواصل الاجتماعي امتلأت بمقاطع مصورة لمقاتلين وقادة في قوات الدعم السريع وهم يتباهون بجرائمهم ويتفاخرون بقتل واغتصاب المدنيين من مختلف القبائل.

وسابقةً لسقوط الفاشر، شهدت مدينة الجنينة في غرب دارفور أيضا مجزرة واسعة، حيث قتلت قوات الدعم السريع وحلفاؤها نحو 15,000 شخص، وارتكبت عملية تطهير عرقي بحق شعب المساليت من أصول أفريقية سوداء.

وأشار المقال إلى أنّ الفاشر تحتل مكانة محورية في سجل الإبادة الجماعية في دارفور قبل عقدين، إذ سبق أن شنّت قوات المتمردين في نيسان/أبريل 2003 غارة على منشأة عسكرية رئيسية في المدينة، ما مهّد لحملة القمع الوحشية التي دعمتها الحكومة وما تلاها من فظائع.

وأكد الكاتب أن أوجه التشابه واضحة، فنقل عن توم فليتشر، كبير مسؤولي الإغاثة في الأمم المتحدة، قوله في إحاطة لسفراء الأمم المتحدة نهاية تشرين الأول/أكتوبر: "إن ما يحدث في الفاشر يُذكّرنا بالأهوال التي عانت منها دارفور قبل عشرين عاماً. لكننا نشهد اليوم رد فعل عالمي مختلفا تماما، رد فعل استسلام. إنها أيضاً أزمة لامبالاة".

وأضاف أن محللين شددوا مراراً على أنّ المأساة الحالية كانت متوقعة، ففي بيان صدر عام 2023 عند اندلاع الحرب الأهلية، قال تيغيري شاغوتا، المدير الإقليمي لمنظمة العفو الدولية لشرق وجنوب أفريقيا: "لا يزال المدنيون في دارفور اليوم تحت رحمة قوات الأمن نفسها التي ارتكبت جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب في دارفور ومناطق أخرى من السودان، من المخزي أن يعيش الناس في السودان في خوف كل يوم".



ولفت إلى أن الجيش السوداني أيضاً متهم بارتكاب فظائع، لا سيما بالقصف العشوائي للمناطق المدنية التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع، كما يُزعم أنّ قوات الدعم السريع قتلت عشرات المدنيين بطائرات مسيرة في منطقة كردفان جنوب وسط البلاد، التي أصبحت أحدث بؤرة توتر في حرب فشلت القوى الخارجية في كبحها.

وأضافت مجموعة الأزمات الدولية في موجزها السياسي أن السودان يقف اليوم أمام مأزق سياسي لا يستطيع أي من الطرفين كسره عسكريا، في ظل تزايد جرأة قوات الدعم السريع وترسخ وجود الجيش، وبعد أن اشترط الجيش وحلفاؤه انسحاب قوات الدعم السريع من الفاشر كشرط مسبق للمفاوضات، بات أقل استعداداً للدخول في محادثات بعد الهزيمة.

وشددت المجموعة على أنّ تجنب تقسيم دائم بين الشرق والغرب يتطلب دبلوماسية عاجلة ومبتكرة من جانب "الرباعية" بقيادة الولايات المتحدة، والتي تضم مصر والسعودية والإمارات.

وختم المقال بالإشارة إلى أن المسار الدبلوماسي لا يزال ضعيفاً رغم تدخل الرئيس دونالد ترامب مؤخرا، في ظل اعتقاد العديد من الدول بأن لها نفوذا ومصالح مهمة في الصراع، وأشار إلى أنّ الإمارات، على سبيل المثال، يُعتقد أنها دعمت ومكّنت قوات الدعم السريع عبر قنوات مختلفة، رغم نفي المسؤولين الإماراتيين بشدة.

واختتم بما كتبه جاويد عبد المنعم، الرئيس الدولي لمنظمة أطباء بلا حدود: "يتم تمكين الموت والدمار بسبب امتناع العديد من الحكومات عن استخدام نفوذها للضغط على الأطراف المتحاربة لوقف قتل الناس أو منع وصول المساعدات الإنسانية، إذ تكتفي بإصدار بيانات قلق سلبية، بينما تقدم هي وحلفاؤها الدعم المالي والسياسي، والأسلحة التي تدمر وتشوه وتقتل".

مقالات مشابهة

  • ما الذي تخطط له العدل الإسرائيلية بشأن العفو الرئاسي عن نتنياهو؟
  • الأمم المتحدة: المدنيين في دارفور وكردفان ما زالوا يواجهون عنفا متصاعدا وعشوائيا
  • حرب السودان تخرج عن السيطرة
  • شبكة أطباء السودان تكشف عن احتجاز آلاف المدنيين والعسكريين في سجون دارفور
  • WP: الفاشر تعيش كارثة إنسانية وصمت العالم يفتح الباب لأسوأ مأساة في السودان
  • تناسل الحروب
  • شبكة أطباء السودان: 19 ألف محتجز بسجون الدعم السريع بجنوب دارفور
  • شبكة أطباء السودان: ميليشيات الدعم السريع تحتجز أكثر من 19 ألف شخص في دارفور
  • السودان بعد حرب أبريل: من مخاطر التقسيم إلى تفكك الدولة!
  • كانت الحلويات المتاحة في الدكاكين كلها تعود الى العصر الحجري