لم يمثل طوفان الأقصى، زلزالا سياسيا فقط لجهة إسقاط مقولة الجيش الذي لا يقهر لدولة الاحتلال، وإنما أيضا مثل سؤالا فكريا وثقافيا وفلسفيا لا يزال يتردد منذ عصر النهضة العربية الأولى، عن سر النهضة والتقدم..

صحيح أن طوفان الأقصى وما تبعه من حرب إسرائيلية موغلة في الإبادة والوحشية، هو في ظاهره معركة بين حركات تحرر وطني وشعب يتوق إلى الاستقلال والسيادة، وبين قوة احتلال ترفض الانصياع للقانون الدولي، لكن ما تبعه من اصطفاف دولي غير مسبوق ضد الشعب الفلسطيني هو ما أثار علامات استفهام كبرى، حول مفاهيم الحرية والقانون والسيادة والمساواة والحقوق وغيرها من القيم التي عملت الإنسانية على مدى تاريخها بإسهامات تراكمية في صياغتها.

.

الفيلسوف والمفكر التونسي الدكتور أبو يعرب المرزوقي يعمل في هذه المقالات التي تنشرها "عربي21" في أيام شهر رمضان المبارك، على تقديم قراءة فلسفية وفكرية وقيمية للقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف باعتبارهما المرجعية الأساسية التي يبني عليها العرب والمسلمون إسهاماتهم الحضارية..

الفصل الخامس

إن هذا العلم الرئيس في ما بعد الأخلاق الذي حاولت وصف بنيته العميقة يقتضي ضرورة أن يكون القرآن قد استعمل المناهج التي أبدعها العقل الإنساني حتى تتعالى مبدعاته السياق سواء كان تناصيا أو تاريخيا أو ثقافيا. فالرسالة الإلهية لا يمكن أن تتوجه للإنسانية من دون استعمال المناهج التي تمكنهم من الولوج إلى مضمونها وفهمها. فالعلاقة بين ما هو ليس تاريخيا وما هو تاريخي للسلطتين الروحية والزمانية اللتين تفسدان الرسالة بإفقاد قيمها طبيعتها تؤدي هنا الدور الرئيس.

وهو دور لا ينتسب إلى أي سر خفي لأن الرسول نفسه يؤكد أنه لا يعلم الغيب. فهل علينا أن نعد هذه العلاقة بنحو ما علة التاريخية الممكنة التي يمكن أن تنتج عما تضيفه هذه العلاقة بالتاريخ في نص القرآن؟ فالعلاقة بين القيم الفطرية واستعمالها استعمالا أداتيا عند السلطتين الروحية والزمانية يبدو قائما بهذا الدور إذا نسينا أن القرآن لا يهتم أبدا بالبعد العيني لسياقات هذه العلاقة بل هو بالأحرى يعنى بالبنية الكونية للعنصر المفسد في هذا الاستعمال. ذلك أن الكلي الخلقي والسياسي في العلاقة هو الذي يمثل موضوع رسالته.

القرآن يضع فرضية أن من طبيعة الروحي الخالص أن يتجسد في سلطتين روحية وسياسية يمكن أن يكونا كونيين فيؤسسان مهمتين للإنسان في الأرض مع الحرص على الحيلولة دون هذا التجسد والتحول إلى استبداد وظلم بسبب تحريف الوساطتين بين المؤمن وربه وبينه وبين حكمه لنفسه.وبعبارة أخرى فإن الدين قبل أن يتعين في مؤسسات وسلطات خلقية وسياسية يكون روحيا خالصا أو فطرة فيحدد المثال الأعلى الذي تسعى إليه هذه المؤسسات والسلط لتحريرها بفضل فطرة الإنسان الدينية هذه من أنواع الفساد الممكنة التي تسعى للسيطرة عليها.

وفعلا فالقرآن يضع فرضية أن من طبيعة الروحي الخالص أن يتجسد في سلطتين روحية وسياسية يمكن أن يكونا كونيين فيؤسسان مهمتين للإنسان في الأرض مع الحرص على الحيلولة دون هذا التجسد والتحول إلى استبداد وظلم بسبب تحريف الوساطتين بين المؤمن وربه وبينه وبين حكمه لنفسه.

فأما مهمة الإنسان الأولى فتتمثل في كونه مكلفا بالاستعمار في الأرض أي بتعميرها ليستمد منها  مصادر حياته.

وأما مهمته الثانية فتتمثل في وجوب جعله تعمير الأرض يكون بقيم الاستخلاف أي بما يجعل الإنسان جديرا بخلافة الله في الأرض.

وهذا العمل الذي يحقق حريتي الإنسان الروحية والسياسية غالبا من يفسده الإنسان ليس بمقتضى طبيعة الديني الذاتية له بل بمتقضى من يفسده بسيطرة هذين المؤسستين اللتين تتحولان إلى استراتيجية لتأسيس سلطتين سلطة الوساطة بين المؤمن وربه في شأنه الروحي وسلطة الوصاية بين المؤمن وذاته في شأنه السياسي فيصبح تابعا للوسيط الروحي والوصي السياسي أي بين الجماعة والشأن العام (المائدة 38 الأمر امر الجماعة تديره بشوراها) لمنعها من أن تدير شأنيها الروحي والسياسي بنفسها.

ولهذه العلة فإن مشكل العلاقة بين فرعون وموسى تعد علاقة مركزية في النص القرآني. ولهذه العلة كذلك كانت الرسالات النبوية الست التي تكلمت عليها تعالج العقبات التي تعترض تحرير الإنسانية. لكني أغفلت ذكر شيء عن الرسول الأوسط في سلسلة الرسالات أعني إبراهيم الذي يشغل فيها الوسط بين الرسل الثلاثة الأولين أي بين نوح هود وصالح والرسل الثلاثة الأخيرين وبين لوط وشعيب وموسى. فالسورة لم تقل شيئا عن رسالة إبراهيم واكتفت:

1 ـ بإبلاغه حل المشكل الذي وضعته قضية المثلية الجنسية في قوم لوط
2 ـ وإعلامه بأن سينجب ابنا وحفيدا رغم سنه المتأخرة .

كما أن السورة لم تقل شيئا عما تطلبه من الرسول المخاطب بهذه الرسالة التي وصفها مع اخواتها الأربع بكونها قد شيبت رأسه.

لذلك فلا بد من تصور الوعد الذي ورد ذكره والموجه إلى إبراهيم يعني في ما يعني أن الإبن الروحي المخاطب بالرسالة التي شيبت رأسه هو المقصود مع الأبن والحفيد. فابن إبراهيم الروحي في تاريخ الإسلام هو محمد وليس اسحق ولا إسماعيل. فلا شك أنه محمد لأن رسالته تعد إبراهيمية محدثة أو حنيفية محدثة. فمحمد هو إبراهيم الثاني: الأول شيب رأسه مشكل توحيد الرب أو التحرر من الوثنية الفلكية في آيات الأفول والثاني شيب رأسه مشكل توحيد الإنسانية أو التحرر من الوثنية العرقية التي تفتت البشرية.

فالإسلام لم يكتف بالكلام عن وحدة الديني مع الإنساني من حيث صلة الإنسان بالرحمن صلة مباشرة إذ هو أقرب إليه من حبل الوريد ما يغني عن الوساطة الروحية للسلطة الكنسية وهو مستخلف في الأرض ما يغنيه عن الوصاية المادية للسلطة السياسية فيتحرر روحيا وسياسيا ليكون سيد نفسه ولا معبود له سوى ربه.

ولا بد هنا من التوكيد على ذلك هو علة مقاومته التاريخية لاستعمال الديني تبريرا لوجود سلطتين روحية وسياسة تفسدان الديني. ومجالا المقاومة هذان هم بوضوح ما يتحدد في القرآن: فهو معجزة الرسالة الخاتمة رغم كونه لا ينفي معجزات غيره من رسالات الأنبياء السابقين على الإسلام.

والخاصية الإعجازية تتمثل في طبيعة خطابه ومشروعه السياسي الذي حدد استراتيجيته والقيم الكونية التي يمثلها. وقصدي ألا أتجاوز المجال الأول مع الإشارة إلى أن القرآن يستثني بقصد وبصراحة السلطة الروحية (الكنسية) والسلطة السياسية ذات الحق الإلهي (الثيوقراطية).

وفي مجال الخطاب القرآن يتأسس الحجاج على الطريقتين اللتين تمكنان من تحرير انتاج الفكر من السياقات الاجتماعية والثقافية ومن التناص أعني طريقة الإبداع العلمي والنظام الطبيعي وطريقة الابداع  الجمالي وجمال المخلوقات:

1 ـ فالفن ينتج الجمال وينتج أسلوب تأويله والقرآن يعتبر الموجودات اعمالا فنية: بديع السماوات.
2 ـ والعلم ينتج النظام وينتج أسلوب تأويله والقرآن يعد الطبيعة مستجيبة لنظام رياضي: كل شيئ خلقناه بقدر.

والفلسفة تتأسس بفضل علم رئيس أعني الميتافيزيقا في علاقة مباشرة مع الطبيعة. والدين يتأسس كذلك على علم الرئيس خلقي أعني مابعد أخلاق في علاقة مباشرة بالتاريخ.

والميتافيزيقا موضوعها حل مشكلين: أولهما إبستمولوجي ويهدف إلى تحديد المفهومات الرئيسية والضرورية  لكل معرفة علمية وثانيهما أنطولوجي ويهدف إلى تعليل وجود العالم.

وبنفس الأسلوب يعالج العلم الرئيس ما بعد الخلقي القرآني مشكلين كلذلك ملازمين لمهمتي الإنساني: ألاهما التنمية  المادية لشروط حياته الدنيوية (الاستعمار في الأرض) والثانية التنمية الروحية التي تجعله جديرا  بأن يكون خليفة (الاستخلاف).

لكن هذين العلمين الرئيسيين الميتافيزيقا والميتا أخلاق ينتهيان إلى علاج نفس المشكلات رغم أنهما تسلكان نفس الطريق ولكن في ترتيب متعاكس: فالفلسفة تبدأ بالبعد النظري من الفكر الإنساني وتنتهي بالبعد العملي منه. والديني يسلط نفس الطريق ولكن بعكس الطريقة الفلسفية أي إنه يبدأ بالبعد العملي وينتهي بالبعد النظري.

وكلا السلوكين يتوالجان في النص القرآني لأن تنمية شروط الوجود الدنيوي تقتضي أن يعلم  الإنسان القوانين. لذلك فالمعرفة العلمية تعد أداة الأداة التي تمثل الغاية التي هي المعرفة الروحية والخلقية.

الإسلام لم يكتف بالكلام عن وحدة الديني مع الإنساني من حيث صلة الإنسان بالرحمن صلة مباشرة إذ هو أقرب إليه من حبل الوريد ما يغني عن الوساطة الروحية للسلطة الكنسية وهو مستخلف في الأرض ما يغنيه عن الوصاية المادية للسلطة السياسية فيتحرر روحيا وسياسيا ليكون سيد نفسه ولا معبود له سوى ربه.فالميتافزيقا وظيفتها تحديد بنية الفنون العلمية وتأسيسها. والدين وخاصة من منظور القرآن يؤدي نفس الوظيفة تماما لكن بكيف مغاير هو ما اطلقت عليه اسم ما بعد الأخلاق. فموضوعه الرئيس هو العلاقة بين التاريخي بوصفه عمل الإنسان الخلقي  السياسي والديني بوصفه تاسيسا للقيم التي ينبغي أن تحكم هذا العمل الإنساني.

وأخيرا فيمكننا عندما نقارن ميتافيزيقا أرسطو والمتا إثيقا كما تصورناها أن نلاحظ وحدة الغاية فيهما مع الفرق في الرؤية:

1 ـ فالغاية واحدة رغم التقابل في الترتيب دون المنزلة. ففي الارشيتاكتونيك الميتافيزيقية يتقدم الابستمولوجي والطبيعي على الخلقي والتاريخي. وفي الارشيتاكتونيك الميتا إثيقي يتقدم الخلقي والتاريخي في الترتيب دون المنزلة على الإبستمولوجي والطبيعي.

2 ـ أما الرؤية فإنها بخلاف ذلك مطلقة التمايز. فالارشيتاكتونيك ما بعد الخلقية ترفض قطعا الحكمين المسبقين  المسيطرين على الأرشيتاكتونيك الميتافيزيقية  سواء تلك التي عمل بها العصر القديم أو العصر الوسيط أو تلك التي نكصت إليها الهيجلية والماركسية بعد رفضهما الرؤية النقدية الكنطية: ابستمولوجيا المطابقة ووحدة العالم النافية لما يتعالى عليه وراءه.

الهامش:

18 إن ذروة هذا الفساد تمثلت في فكرة شعب الله المختار. وحتى يدحض هذه الفكرة  أكد القرآن أن كل الشعوب تلقت نفس الرسالة في لغاتها الطبيعية والإسلام يتوجه إلى كل البشر بل وقد ذهب حتى إلى تعدد الرسالات الإلهية هدفه تشيخ التسابق في الخيرات بين البشر في سعيهم لفعل الخير لأن القصد هو تمكين البشر من أن يكتشفوا بجهدهم الشخصي حقيقة الإيمان.

وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (المائدة 48).

  Cf. Karl-Josef Kuschel, Vom Streit zum Wettstreit der Religionen : Lessing und die Herausforderung des Islam Patmos Verlag, Dusseldorf 1998.
   256البقرة.
  Ce statut particulier des sourates sœurs de Hūd traitent essentiellement de cette ébauche de la philosophie de la religion et de son rapport à la philosophie de l'histoire. Ces Sourates sont les suivantes :

هود (11) وأخواتها: الواقعة 56 والمرسلات 77 و النبأ 78 والتكوير 8

إن التأمل الذي رأيناه توجد في رتبة عند  المسلمين تجعل الرب ليس له مضمون وكانه ليس عينيا. وهكذا  فتجلي الرب في اللحم  وارتفاع المسيح لرتبة ابن الله فوجود عند المسلمين لنعيم تناهي  العالم  والوعي ولا تناهي تحدد ذات الله. فليس للمسيحية إلا عقيدة المسيح باعتباره رسول الله وبوصفه معلما ربانيا ومن ثم فمثله مثل سقراط لكنه أفضل منه إذ هو بريء من كل خطيئة. فليس هو إلا نصف حقيقته.  فليس المسيح  إلا إنسانا أو "ابن إنسان". وهكذا فلا يبقى شيء من التاريخ  الإلهي فيكون المسيح من  جنس ما يقول  فيه القرآن".

وذروة هذا الفساد تبقى فكرة الشعب المختار. وحتى يدحضها القرآن يؤكد أن كل الشعوب تلقت نفس الرسالة في لغتهم والذاتية وأن الإسلام يتوجه إلى البشرية كلها بل يذهب إلى حد التوكيد على أن عدد الرسالات إليه تهدف إلى تشجيع التسابق في الخيرات بين البشر والقصد هو تمكين البشر من أن يتكتشفوا بجهدهم الشخي حقيقة الإيمان.

Cf. G.W.F.Hegel, Vorlesungen über die Philosophie der Religion Werke 17  surkamp taschenbuch wissenschaft s.337

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير القرآن خطابه القرآن رأي خطاب تاويلات أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة العلاقة بین بین المؤمن فی الأرض یمکن أن أن یکون ما بعد

إقرأ أيضاً:

لماذا لا يستطيع اليسار الوظيفي في تونس أن يكون ديمقراطيا؟

إن الحديث عن يسار وظيفي (وهو يسار متشكل من كيانات ماركسية وقومية ناصرية وبعثية) يعني منطقيا وجود يسار غير وظيفي، أي وجود يسار قد نختلف في توصيفه؛ فهو عند البعض يسار وطني وعند آخرين يسار ثوري أو يسار جديد، ولكننا لن نختلف في أنه لن يكون متذيلا للمنظومة الحاكمة ولا خادما لها بالمعنى التقليدي الذي تحدث عنه بول نيزان (كلاب الحراسة الذين كانوا يتشكلون زمن نشر الكتاب -سنة 1932- من الفلاسفة والمنظرين والمثقفين)، وبالمعنى الذي وضعه من بعده سيرج حليمي (كلاب الحراسة الجدد الذين يتشكلون من الإعلاميين والصحفيين والخبراء والمحللين).

فحراسة النظام والتقاطع الاستراتيجي مع نواته الصلبة ومع الخيارات التأسيسية للدولة-الأمة، ولو رافق ذلك أحيانا اتخاذ مسافة نقدية من الواجهة السياسية لمنظومة الاستعمار الداخلي أو التحرك ضدها في بعض القضايا الخلافية، تجعل من اليساري وظيفيا بالضرورة، أي فاعلا جماعيا يحدد مواقفه واقعيا ويتحرك في مختلف القطاعات -مهما كانت دعاويه نظريا- لخدمة تلك المنظومة ومنع أي مشروع ثوري/إصلاحي قد يُعرّض مصالحها المادية والرمزية لأي خطر وجودي. وهو أمر أكدته الثورات العربية بما فيها الثورة التونسية.

الديمقراطية لا تتعارض مع مصلحة النهضة، بل إن ما يتعارض مع مصلحتها هو الانقلاب عليها واختزالها في مقاربة أمنية قضائية، أما اليسار الوظيفي فإن الديمقراطية تجعله يواجه حقيقته: قوة نوعية "برجوازية" بلا أي عمق شعبي
ليس الهدف من هذا المقال شيطنة اليسار أو بطر حقه باعتباره حاملا لمشروع ثوري أساسه العدالة الاجتماعية وعنوانه الأكبر التحرر الوطني، وليس هدفنا أيضا أن نختزل اليسار في البعد "الوظيفي" الغالب على مكوناته وترذيل تلك الأصوات الفردية التي تتحرك ضد الاتجاه العام للفكر اليساري "المُتَونس" على أعين اليمين، ولكن هدفنا هو طرح بعض الأسئلة مشفوعة ببعض النقاط التي قد تصلح لتعميق النقاش العمومي فيها: لماذا تحوّلت أغلب مكونات اليسار إلى أجزاء وظيفية في منظومة الاستعمار غير المباشر/ منظومة الاستعمار الداخلي منذ عهد المخلوع واستمرت كذلك حتى بعد "الثورة"؟ لماذا ارتضت أغلب مكونات اليسار أن تكون "وكيلا مؤقتا" للمنظومة السابقة خلال المرحلة التأسيسية وطيلة ما يسمى بـ"عشرية الانتقال الديمقراطي" المجهضة؟ ما الذي دفع أغلب مكونات اليسار إلى إنضاج الشروط الفكرية والموضوعية لإنهاء "الفسحة الديمقراطية" والانقلاب عليها؟ ولماذا ساندوا "تصحيح المسار" رغم أنه ينهي الحاجة إلى "الديمقراطية التمثيلية" وإلى أجسامها الوسيطة في كل المجالات؟ هل يمكن لاستصحاب ثنائية التناقض الرئيس والتناقض الثانوي أن ينتج حقلا سياسيا طبيعيا يمكّن اليسار وغيره من الانعتاق -ولو بعد حين- من هيمنة النواة الصلبة لمنظومة الحكم بصرف النظر عن واجهتها السياسية؟

رغم دوران تعبير "الجمهورية الثانية" على ألسنة بعض النخب بعد الثورة، فإن مصيرها لم يختلف عن مصير الشخصية السياسية المعارضة التي ارتبطت بها، أي المرحوم طارق المكي؛ زعيم "حركة الجمهوية الثانية". فهذه الشخصية المعارضة لم تستطع أن تتموقع في الحقل السياسي الجديد، وكان مصيرها التهميش حتى بعد وفاتها. فقد غابت عن جنازته -بعد وفاته بـ"سكتة قلبية"- كل الوجوه السياسية والحقوقية والنقابية المعروفة، ولكنّ أغلب تلك الوجوه حضرت "جنازة" الجمهورية الثانية بإجماعها على إدارة الثورة بمنطق "استمرارية الدولة"، وهو منطق جعل الخروج من "الجمهورية الأولى" بلحظتيها الدستورية والتجمعية ضربا من أحلام اليقظة التي تشرعن نفسها وتتلبس بلبوس الحقيقة عبر شعار "الاستثناء التونسي".

ورغم أن اليسار الوظيفي لم يكن هو الطرف الأوحد الذي "طبّع" مع المنظومة القديمة ومع رموزها تحت غطاء "استمرارية الدولة"، فإن هذه المقولة كانت تسمح له بتحقيق مكسبين: أولا، منع أي إعادة تفاوض جذري على "المشترك الوطني"،أي الأساطير المؤسسة للدولة-الأمة، وجعل تلك الأساطير خارج النقاش العمومي ورفعها إلى مستوى "المقدس الوطني" الذي يُخون كل مُطالبٍ بمراجعته؛ ثانيا، فتح مجال أمام ورثة المنظومة القديمة -باعتبارهم جزءا من "العائلة الديمقراطية- لتقلد أهم مناصب الدولة في المرحلة التأسيسية، وذلك لمواجهة مشروع "أسلمة الدولة" الحقيقي أو المتخيل، وللاستقواء بهم ضد "العدو الوجودي" المتمثل في حركة النهضة ومجمل حركات الإسلام السياسي.

مهما كانت الأسباب التي دفعت بحركة النهضة إلى القبول بمنطق "استمرارية الدولة" -أي إدارة المرحلة التأسيسية بالرأسمال البشري التابع للمنظومة القديمة- فإنها قد حددت مسارها ووضعها الحالي منذ تلك البداية "التوافقية". ونحن هنا نتحدث عن خيار "استمرارية الدولة" باعتباره أصل كل سياسات التوافق اللاحقة، وذلك على الضد من كل الأطروحات التي تؤرخ للتوافق بالتحالف البراغماتي بين حركة نداء تونس وحركة النهضة بعد انتخابات 2014. فتوافق باريس بين "الشيخين" هو مجرد لحظة من لحظات إعادة التوازن للخيار التأسيسي: قبول النهضة بأن تتحول هي الأخرى إلى جسم وظيفي في خدمة منظومة الاستعمار الداخلي، أي تحولها إلى جناح "محافظ" داخل تلك المنظومة بمنطق "الشريك"، والتخلي عن أي مشروع لهدم تلك المنظومة وإعادة بنائها بمنطق "البديل". وهكذا تحولت النهضة -بصرف النظر عن نواياها وتقديراتها السياسية تكتيكيا واستراتيجيا- إلى "وطد متدين"، أي إلى يمين وظيفي يعد بأن يقدم للمنظومة ما قدمه لها اليسار الوظيفي، خاصة الوطد" من موقع مختلف أساسه "القوة الشعبية" التي ترفد/تتجاوز القوة النوعية لليسار الوظيفي. ولكن هل يجعل هذا الخيار من حركة النهضة "عائقا" من عوائق بناء الجمهورية الثانية كما هو شأن اليسار الوظيفي؟

إن الإجابة الأقرب إلى الموضوعية عن هذا السؤال هي النفي. فالاختلاف الجذري بين النهضة "الوظيفية" واليسار الوظيفي ليس في الدور الذي يلعبانه الآن-وهنا في خدمة النواة الصلبة للمنظومة القديمة، بل في الدور الذي يمكن أن يلعبه وجودهما في المستوى الاستراتيجي. ذلك أن وجود النهضة في الحقل السياسي القانوني يكسر التجانس القسري الذي فرضته منظومة الاستعمار الداخلي بين المكونات المعترف بها داخل السلطة وداخل المعارضة القانونية زمن المخلوع. كما أنه يخلخل احتكار النخب "اللائكية" بمختلف مرجعياتها الأيديولوجية للفضاء العمومي، وهو -فضلا عن ذلك- يدفع إلى إعادة التفكير في معنى "العائلة الديمقراطية" بعيدا عن ادعاءاتها الذاتية. فوجود حركة سياسية ذات مرجعية إسلامية -حتى وإن كان هذا التعريف مجرد معطى نظري لا محصول تحته- يعيد هندسة الفضاء العام، ويعمل بمنطق التراكم على استئناف التفكير في معنى "المشترك الوطني" وفي سياسات التحديث الفوقي وفي منطق "التنوير" وفلسفته السياسية الكامنة. وهي معطيات يمكن في المستوى "الاستراتيجي" أن تخلخل الأساطير المؤسسة للدولة-الأمة وأن تنتج الشروط الفكرية والموضوعية للتفكير "معا"، بعيدا عن إملاءات منظومة الاستعمار الداخلي وعن أدوار "الوكالة" التي ارتضى بها كل الوظيفيين يمينا ويسارا بعد الثورة.

إذا ما أردنا صياغة ما تقدم بصورة أكثر وضوحا فإننا سنقول بأن اليسار الوظيفي هو جوهريا ضد بناء الجمهورية الثانية، على خلاف النهضة التي تضادد تلك الجمهورية "سياقيا" أو نتيجة تقديرات سياسية خاطئة. فالديمقراطية لا تتعارض مع مصلحة النهضة، بل إن ما يتعارض مع مصلحتها هو الانقلاب عليها واختزالها في مقاربة أمنية قضائية، أما اليسار الوظيفي فإن الديمقراطية تجعله يواجه حقيقته: قوة نوعية "برجوازية" بلا أي عمق شعبي. ولذلك لا غرابة في أن يكون اليسار الوظيفي وراء كل الدعوات الانقلابية منذ المرحلة التأسيسية، الحديث عن يسار وظيفي هو في الحقيقة حديث عن الذراع الأيديولوجية للمنظومة القديمة قبل الثورة وبعدها، وهو أمر يؤكده استقراء مسار الانتقال الديمقراطي وما سبقه زمن المخلوع. فاليسار غير الوظيفي كان دائما مجرد هامش يمكن اختزاله في بعض الشخصيات الاعتبارية غير المتحزبة، أو بعض الكيانات الحزبية الهامشية وغير المتماهية مع "الخط العام" لليسارولا غرابة في أن يكون اليسار الوظيفي ذاته خادما لممثلي المنظومة القديمة في حركة نداء تونس وغيرها (وما الانتخاب المفيد للمرحوم الباجي قائد السبسي وشيطنة الرئيس منصف المروزقي ببعيد)، ولا غرابة أخيرا في أن يكون اليسار الوظيفي -بشقيه القومي والماركسي- هو من عفّن "الفسحة الديمقراطية" وأوجد الشروط الفكرية والموضوعية لـ"تصحيح المسار"؛ باعتباره نفيا للديمقراطية التمثيلية وعودة لما تسميه حنا أرنت بـ"الوحش البيروقراطي المسلّح"، ذلك الوحش الذي يلغي الحاجة لأنصاره "النقديين" قبل خصومه الراديكاليين.

ختاما، فإن الحديث عن يسار وظيفي هو في الحقيقة حديث عن الذراع الأيديولوجية للمنظومة القديمة قبل الثورة وبعدها، وهو أمر يؤكده استقراء مسار الانتقال الديمقراطي وما سبقه زمن المخلوع. فاليسار غير الوظيفي كان دائما مجرد هامش يمكن اختزاله في بعض الشخصيات الاعتبارية غير المتحزبة، أو بعض الكيانات الحزبية الهامشية وغير المتماهية مع "الخط العام" لليسار في المجتمع المدني وفي المركزية النقابية وفي "الخطوط التحريرية" الغالبة على الإعلام العمومي والخاص. أما "النهضة الوظيفية" فإنها تجربة تؤكد الحاجة إلى إدارة ملف التوافق بعيدا عن الانتهازية والحسابات الضيقة، ولكنها تجربة لا تلغي الحاجة إلى الأجسام السياسية المحافظة باعتبارها ممثلا لشرائح واسعة من المواطنين الذين لا يجدون أنفسهم في أطروحات اليسار، ولا في البورقيبية أو الأجسام التجمعية الجديدة.

ولا شك عندنا في أن ما تقدم يجعلنا أمام مسألة التمثيلية أو مصادر الشرعية وعلاقتها بالرأي العام، وهي مسألة ما زال اليسار الوظيفي يصر على إدارتها بالاستقواء بالدولة العميقة بعيدا عن أي حراك مجتمعي عفوي لا تحكمه "القوة النوعية" أو "القوة العارية" ومراكز النفوذ الداخلي والخارجي. ولا شك عندنا في أن هذا الوعي السياسي يجعل من الإرادة الشعبية وصناديق الاقتراع مجرد فاصلة في "الجمهورية الأولى"، بصرف النظر عن واجهاتها السياسية وعن السرديات السياسية الموظفة لحماية نواتها الصلبة وما يدور في فلكها من شبكات زبونية.

x.com/adel_arabi21

مقالات مشابهة

  • لماذا لا يستطيع اليسار الوظيفي في تونس أن يكون ديمقراطيا؟
  • لماذا لا يستطيع اليسار الوظيفي أن يكون ديمقراطيا؟
  • ما الذي يحرك الطلب على المشاريع العقارية التي تحمل توقيع المشاهير؟
  • عماد الدين حسين: من الطبيعي أن يكون لملكية المؤسسة تأثيرا على التناول الإعلامي
  • الخريف في ظفار... حين تتعاظم المشاعر
  • شاهد بالفيديو.. زواج رجل الأعمال السوداني والأب الروحي لبعض المطربات “عزيز كوشي” والدولية تشتت أموال طائلة من النقطة بالعملة المصرية فرحة بزواجه
  • حرب أفول الدولة
  • ربنا يكون في عونها..جابر القرموطي يدافع عن مها الصغير
  • كيفية حفظ القرآن الكريم ؟ طريقة سهلة مش هتنساه تاني
  • تناول منتجات الألبان قبل النوم قد يكون سبب “الكوابيس”