البوابة نيوز:
2025-05-24@08:53:18 GMT

رضا دليل..  تأريخ لموت  مبكر

تاريخ النشر: 30th, March 2024 GMT

 رضا دليل.. رحل عنا  مبكرا من  قبل أن  يمهله  القدر الانتهاء  من  مشاريعه الطموحة  أوحتى أن  يملى نظره برؤية  المغرب  التي لطالما   داعبت  أحلامه منذ  صباه.  سنفتقد ابتسامته.  سنفتقد طموحه  وكتابته الرومانسية.  وها  قد أصبحت الخريطة  الأدبية مهلهلة  بسبب رحيله  المفاجئ.  هذا الموت الذي  كان  بمثابة المقصلة.

كان يصارع  المرض  ويرغب في  الاستمرار  في الكتابة  حتى وهوطريح الفراش. ياله من فكر بطولي! لقد  أراد  دائما أن يقهر الألم  الذي  كان يعاني  منه  دائماَ في صمت  بل  وأن ينتصر عليه  بسلاح   الابتسامة وسيف  القلم. غيبه الموت وهوبعد  في  الخامسة والاربعين  من  العمر مخلفاَ  ميراثا  أدبيا  والعديد  من المقالات  التي  كان ينتظرها القراء بشغف  بالغ.  الحزن يعتصر الجميع  اليوم.  وقد  اتشحت  شبكات التواصل الاجتماعي  بالسواد  معلنة هذا الحداد  الجماعي  الذي شمل  كافة الأطياف  والانتماءات. الصحفيون  والكتاب ورجال  السياسة  والأصدقاء والقراء  يتفقون  على الاعتراف  بأن  رضا كان رجلا عظيما عاشقاَ لبلده.

كان يكتب  كما  لوكان في  عجلة من  أمره.  وقد أصابته  باكورة  انتاجه الروائي في  عام  2014  بما يشبه  النضوب  المؤقت الذي  لم  يلبث أن  تولد  منه عمله الأدبي  الثاني   ليصبح أكثر  الكتب مبيعًا.  وكم أنا مندهش  أن  أراه يرحل  عنا  قيل الانتهاء  من  روايته الثالثة  وغيرها  كثير كان  يحمله  لنا المستقبل. 

رضا دليل

مسيرة حياة  بالغة الخصوصية

رضا دليل من  مواليد  عام 1978 بالدار  البيضاء.  وقد أتم  دراسته  الثانوية بمدرسة "  ليسيه  ليوتيه" قبل  الالتحاق  بجامعة الأخوين  ليحصل، في عام 2001، على بكالوريوس  في  إدارة الأعمال ويبدأ حياته المهنية، أولًا في  مجال التأمين، ثم في شركة إنجليزية متعددة الجنسيات.  وقد  أتاحت له رحلاته التجارية المتعددة الفرصة لأن  يجوب   العالم شرقه  وغربه  ويكتشف ثقافات  متنوعة. 

وسرعان ما رضخ لشغف الكتابة الذي سكنه منذ الطفولة.  فتخلى، في عام 2008، عن منصبه «كمدير مالي » وكرس نفسه للصحافة. في عام 2010، تم تعيينه رئيسًا لتحرير صحيفة" Le  Temps"  الأسبوعية. بعد عام  من هذا  التاريخ، بدأ في كتابة روايته الأولى  « Le Job » وحقق  حلمه  في أن  يصبح «مدير النشر» في «Tel  Quel».  وأصابه  مرض مزمن ليتوفى بعد  خضوعه لعملية  جراحية في في 19 مارس 2024، عن عمر يناهز 45 عامًا.

خبر أفقدنا  القدرة  على الكلام. حصدته  آلة  الموت التي لا  تتمهل  من يجيش  في  صدره الطموح ولم  تمنحه  فرصة تغيير  الأشياء واحياء  البلاد من خلال  الصحافة أوالثقافة.        نعم رحل  رضا  مبكرا جدا. وان  كان موته يحمل القيمة  الرمزية للخلود  التي تمنحها  الكتابة.  سيطل رضا حيا  دائما  وأبدًا ليحدثنا  عبر جذوة  هذا الصوت  الذي  لن يتمكن  احد  أبدا من  اخماده: انه  صوت القلم.

 هذا  الروائي  الذي يحمل بين جنباته  هوس  التفاصيل اليومية الدقيقة. هويرصد بإمعان  ويطلق  العنان لقدرته في أن يقص علينا، من خلال النظرة الثاقبة لعالم  الجمال، وبدون  مبالغة، بعض  اللحظات  الني  تحمل في  طياتها  الكثير من  الشاعرية:

" تتوالى  عبر زجاج النافذة  مشاهد للدار  البيضاء  الخرقاء، المتمردة، القذرة والعدوانية."

"فناء المعجزات وفد  تناثرت عليه هنا  وهناك سيارات BMW الفارهة ومجموعة من ناطحات السحاب وقد أصاب طلائها  القدم."

"الجمال والقبح يختلطان، ويتداخلان"

تفكير  خالص في  فعل  الكتابة ذاته وفي  قواعده وفي روعته.  رواية وصفية لكتابة  الرواية  تجرؤ على أن تبرز  نضوب القلم بل وأفضل  من  ذلك تقويض عالم  النشر  من أعلى  إلى أسفل.

ويزعم  بشير بشير المعروف  باسم  "ب ب" أنه يتعيش من  الكتابة. والحق  انها مغامرة محفوفة  بالمخاطر  في بلد   الكتاب  فيه حكرا على النخبة السعيدة.  وبعد  النجاح المدوي  الذي   لا يقدر بثمن  لروايته  الأولى "Le Job"،  قرر هذا  الروائي،رغم  إعادة كرة التأليه التجاري والجمالي،   أن فعل الكتابة في حد  ذاته لا يمكن  القيام  من خلاله بتصنيع  "تحت  الطلب". فها هويصطدم  بالمتلازمة الصادمة للصفحة  البيضاء والتي كانت  سببًا في  إطلاق  سلسلة لا نهائية  من  العصف الذهني والاستبطان  وولوج  في طرق مسدودة  والتعرض للكثير  من الطفرات  المفاجئة.  وبدلا من قبول الدنيا  على حالها،  نزع الى  التضحية  بنفسه على مذبح  الانفاق  الجنوني والالتزامات  العمياء كلها لم  يكن  هناك بد  منها  حتى يتمكن من  الوفاء  بمسئوليته كأب لطفل  وحيد.  ومنذ ذلك  الحين  لم يتوقف  عن  تجسيد الغارق  الذي  يصارع الامواج المتلاطمة  ويحاول جاهدا  التعلق  بأي وريقة  قادرة  على انتشاله من تلك  الهوة  السحيقة. زوجة سابقة خائنة ومستهترة وحماة سليطة اللسان، وطفل يعاني من حدث مزعج، ومعشوقة يائسة ونسوية، وأب يطارده شبح  أحد الملوك واحاديثه  التي عفا عليه  الزمان، وأخ عاطل وعاطفي، وأم أنانية ومحبة  للحياة، وناشر ساخر وانتهازي. وأمام  كل ذلك لم  يكن لديه خيار سوى ارتكاب أكثر الكتب مبيعًا والتي من المحتمل أن تكون ورقته الرابحة التي ستعيد تأهيله بل  ولما لا تعيد النسق لحياة الصعاليك الملفوظين والمحبطين  التي يحيياها.

 رواية رضا  الدليل  الثانية:

 تحيل تلك الرواية وببراعة  إلى تقنية  الامكانات السردية والتي لا تظل معلقة  إطلاقًا؛  ومن تداخلها في  بعضها البعض  يعطي  الكاتب الانطباع  بأن الأمر  يتعلق بعينة من الحكايات  التي  تجمعها حبكة واحدة  بالغة  التعقيد. فهي نموذج  لأكثر  الكتب مبيعا التي  تتغذى  أيضًا  على  ثقافة أدبية واعلامية  بالغة  الرحابة إلى  الحد  الذي يفضل   فيه المؤلف الاستشهاد بالقنوات والصحف والإذاعات والكلاسيكيات الأدبية بأسمائها الحقيقية، حتى لوكان ذلك فقط حتى  يصل الي ذروته بتأثير الحقيقة الذي  يعكسه خيال مقارب  للحقيقة. خيال قادر على صنع حتى المقالات النقدية   التي ربما تستهدف من كتابتها رواية مطروحة  في الأسواق. وهذه الواقعية السحرية مدينة لثنائية لغة التي تمنح للنص  هيكله في حد ذاته. (في هذه الحالة، أقصد التعبيرات الإنجليزية والتي  يبدواننا نجدها  على  الدوام في كل موضع!)

من ناحية أخرى، تعتمد هذه الرواية على مسرد للألفاظ السينمائية التي ترصد بلا هوادة جميع الحوارات التي تحمل في مقدمتها  ديكورات  واشارات نصية كما لوكان المؤلف قد أراد كتابة رواية تحت أعيننا، نحن القراء كما لوكان في مختبر مفتوح أوفي مطبخً داخليً ممراته المظلمة بلا أية  تغطية. هذه الرواية بمثابة تجربة تجعل من الكاتب كائنًا عاديًا، رجل يعيش العديد من الاحباطات والروائع لا سيما في عالم يحاط   فيه الأدباء بما  يشبه الهالة الأكاديمية في حفلة تنكرية نزع فيها الناس اقنعتهم لتنكشف  فيها وجوههم؛  عالم  يعج بصور الفيس بوك التي تبرز بشكل  مزيف أن  حياتهم يسيرة بحق  رغم  هذا التعذيب غير المرئي لعمل انفرادي حقًا وهوالكتابة!

الكتابة بالفعل في مرتبة أعلى من الموت ومن الاختفاء  حتى وإن كان سابقًا لأوانه. كل كاتب يقاوم النسيان والرحيل. واليوم نبكي رضا. 

القلب ينزف  من فراقه. عزاء واحد لذكراه: أن نواسي  أنفسنا بإعادة قراءة افتتاحياته ورواياته وكتابه عن المغرب، بلده الذي أحبه ولم يتردد في انتقاده وكشف الجانب  الخفي منه. سيظل التزامه درسًا علينا تلقينه للأجيال القادمة. وكذلك صدقه.  ليس هذا فحسب ولكن  أيضًا أمانته. مرونته ستكون حكمتنا التي  نتحلى بها وابتسامته التي  كانت  "تخفف"  من وطأة المأساة   ستعلمنا  كيف نكتب ونعيش ونستمر، ولكن دون أن ننسى هذا المستوى من المواطنين الذين يصنعون تاريخ أدبنا وثقافتنا. وداعا، رضا.  ستكون السماء أكثر ترحيبًا بك وسيضيئ نجم ابتسامتك لوحة  بلدك المغرب الذي لن نرفض رؤيته بعد الآن، لأنه سيكون كما كنت دائمًا تتخيله عند قراءة عملك الأدبي  من جانب  الأجيال  القادمة بقلب وعقل  ينتمي  إلى  كل  أرجاء هذا الكوكب. 

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: رضا دليل

إقرأ أيضاً:

حلم الثري اليهودي فريدمان الذي يسعى سموتريتش لتحقيقه

في 19 مارس/ آذار 2024، ألقى وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش خطابًا في العاصمة الفرنسية باريس، ظهر فيه على منصة دعائية خُصصت لفعالية تحمل خريطة مثيرة للجدل، تضم فلسطين، والأردن تحت مسمى واحد: "إسرائيل".

الخريطة التي كانت تحمل شعار إحدى المنظمات الصهيونية، تعكس تصورًا أيديولوجيًا توسعيًا يقوم على أن "إسرائيل الكبرى" تمتد لتشمل كامل الأراضي بين البحر والنهر، بل وتمتد أيضًا لتشمل الضفة الشرقية لنهر الأردن.

وجاء هذا المشهد متقاطعًا مع خطاب آخر للرئيس الأميركي دونالد ترامب في 15 أغسطس/ آب 2024، أعرب فيه عن دهشته من ضآلة مساحة "إسرائيل"، مقارنة باتساع المنطقة المحيطة، متسائلًا: "هل من طريقة يمكن أن تحصل بها إسرائيل على مزيد من الأراضي؟".

هذه التساؤلات وإن جاءت مغلّفة بلغة سياسية معاصرة، إلا أنها تعكس امتدادًا لخطاب استيطاني إحلالي قديم، لطالما استهدف شرق الأردن كجزء من الطموحات التوسعية الصهيونية.

البدايات الاستعمارية للفكرة: من لينش إلى أوليفانت

منذ منتصف القرن التاسع عشر، استهدفت المشاريع الاستعمارية الغربية -وفي مقدمتها المشروع الصهيوني- الأراضي الأردنية باعتبارها امتدادًا طبيعيًا لفلسطين التوراتية.

فقد أرسلت الحكومة الأميركية عام 1848 بعثة بحرية بقيادة الضابط وليم فرانسيس لينش إلى نهر الأردن والبحر الميت، في أول مهمة رسمية ذات أهداف تتجاوز الجانب العلمي، وصولًا إلى البحث في إمكانية إنشاء وطن قومي لليهود في شرق الأردن، بما يشمل "ترحيل السكان المحليين إلى محميات بشرية"، على حد تعبير الوثائق المعاصرة.

إعلان

لينش، في تقاريره، لم يُخفِ انحيازه الأيديولوجي. فقد شبّه السكان المحليين بـ"الهنود الحمر" في أميركا، وعقد مقارنة مثيرة بينهم وبين السكان الأصليين في أميركا "الهنود الحمر"، الذين رأى أنهم كانوا متوحشين وتحولوا إلى متمدّنين بفضل الاستيطان الأوروبي.

وبهذا المنطق الاستعماري، استنتج لينش أن سكان شرق الأردن "عكسوا" تلك المسيرة، وأن استبدالهم ضروري لتحقيق التقدم. في تقريره، تنبأ لينش بأن "تفكك الإمبراطورية العثمانية"، سيُمهد لعودة اليهود إلى فلسطين، وصرح عقب رفع العلم الأميركي في المنطقة بأن ذلك "قد يبشّر بإحياء الشعب اليهودي".

لم تكن أفكار لينش استثناءً. في ستينيات وسبعينيات القرن التاسع عشر، ظهرت دعوات مماثلة. فقد دعا يهوشع يلين، أحد مؤسسي مستوطنة "نحلات شيفع" في القدس، إلى توسيع الاستيطان نحو شرق الأردن.

وفي عام 1871، أسس شركة بالتعاون مع رجال أعمال يهود، وادعى أنهم توصلوا إلى اتفاق مع بعض شيوخ عشيرة "عرب النمر" لفلاحة أراضي غور النِّمرين شمال شرقي البحر الميت.

وفي السياق نفسه، قدّم الضابط البريطاني في سلاح الهندسة السير تشارلز وارن، وهو أحد الباحثين المرتبطين بـ"صندوق استكشاف فلسطين"، مقترحًا صريحًا لتوسيع الاستيطان اليهودي شرقي نهر الأردن.

دعا وارن إلى تأسيس شركة استيطان تستأجر الأراضي من الدولة العثمانية مقابل سداد جزء من ديونها الخارجية، وذلك ضمن إطار رؤية استعمارية تجمع بين الطموح الصهيوني، والمصالح الإمبريالية البريطانية.

ومن أبرز الشخصيات الأوروبية التي قدمت دعمًا نظريًا وميدانيًا للمشروع الاستيطاني الصهيوني في شرق الأردن كان لورانس أوليفانت. ففي عام 1889، نشر الطبعة الأولى من كتابه النادر: "أرض جلعاد"، والذي دوّن فيه مشاهداته وآراءه عقب رحلته إلى لبنان، وسوريا، وفلسطين، وشرق الأردن في عام 1880.

إعلان

رأى أوليفانت في أراضي شرق الأردن "مساحات خصبة صالحة لأقصى درجات التطوير الزراعي"، مؤكدًا أن توفر الموارد الطبيعية والظروف المناخية، يجعل من هذه المنطقة هدفًا استثماريًا جذابًا للمهاجرين اليهود.

في تحليله للسكان المحليين، أشار أوليفانت إلى أن العشائر الأردنية المتجولة "لا تملك سندًا قانونيًا للأرض"، مما يجردهم -من وجهة نظره- من أي شرعية في الوجود.

بل ذهب إلى أبعد من ذلك، حين وصفهم بأنهم نشروا "الخراب والفوضى"، وأن تهجيرهم إلى الصحراء التي جاؤُوا منها هو "الحل المنطقي"، على حد تعبيره.

أما المنطقة التي اقترحها للاستيطان اليهودي، فشملت كامل إقليم البلقاء من وادي الموجب جنوبًا إلى نهر الزرقاء شمالًا، وتمتد شرقًا إلى درب الحاج، وحتى أجزاء من عجلون شمال نهر يبوق (الزرقاء)، بمساحة تقارب مليونًا ونصف المليون هكتار، بحدود غربية تصل إلى نهر الأردن وساحل البحر الميت.

مشروع أرض مدين

لم تكن المحاولات الصهيونية للتمدد شرق نهر الأردن حكرًا على لورانس أوليفانت، بل مثّلت جزءًا من توجّه استعماريّ أوسع تجاوز الشخصيات الفردية وتحول إلى مشاريع متكاملة تقودها شخصيات، وجمعيات، ومؤسسات.

في مطلع تسعينيات القرن التاسع عشر، حاول الثري اليهودي الألماني الأصل، بول فريدمان، تنفيذ مشروع استيطاني استعماري مشابه، ولكن هذه المرّة في منطقة مدين جنوب شرق الأردن، بدلًا من "جلعاد" التي كان أوليفانت يركز عليها.

نشر فريدمان في عام 1891 كُتيبًا من 18 صفحة بعنوان: "أرض مدين" في برلين، عارضًا فيه تصورات جغرافية واقتصادية وسكانية عن المنطقة، مدعومة بإحصاءات تفيد بأن عدد سكانها الأصليين حينها بلغ نحو 23 ألف نسمة.

وقد وُجّه هذا الكتيب إلى شخصيات يهودية نافذة في بريطانيا، والنمسا، وألمانيا بهدف كسب الدعم السياسي والمالي للمشروع. حاول فريدمان إقناع المهاجرين اليهود بأن السكان المحليين سيرحبون بهم، زاعمًا أن سكان العقبة ينحدرون من عشيرة يهودية تُدعى "بني سبت" احتفظت ببعض التقاليد الدينية اليهودية، واستنتج أن مدين كانت في الماضي جزءًا من الكيان اليهودي القديم.

إعلان

قام فريدمان بتجنيد خمسين متطوعًا من علماء ومهندسين وجغرافيين، إضافة إلى ثلاثين عائلة يهودية مهاجرة. تلقى هؤلاء تدريبات عسكرية في معسكرات خاصة بهنغاريا، والنمسا، بإشراف ضابط ألماني يُدعى لوثر فون سيباخ، بمشاركة ضباط يهود من النمسا.

وخصص فريدمان يختًا تجاريًا أطلق عليه اسم "إسرائيل"، حمّله بالمتطوعين، وكميات كبيرة من الذخائر والأسلحة وفّرها له الجيش النمساوي، ثم أبحر من ميناء ساوثهامبتون البريطاني في نوفمبر/ تشرين الثاني 1891، تحت العلم النمساوي. انضمّ إلى الحملة خلال توقفها في الإسكندرية عدد من اليهود المصريين الناطقين بالعربية، وتوجهت السفينة إلى منطقة "الطور" قرب مدين، حيث نُصبت الخيام وأُنشئ معسكر في وادٍ قريب.

نجح فريدمان في شراء قطعة أرض قرب قلعة المويلح، وشرع بمحاولات إضافية لشراء مزيد من الأراضي في المنطقة. ومع أن المشروع انهار في نهاية المطاف، بعد أن كلّفه ما يعادل 170 ألف مارك ألماني، إلا أن فريدمان أصر على "إنقاذ الشرف اليهودي"، وفقًا لتعبيره، ورفع دعوى ضد الحكومة المصرية مطالبًا بتعويض قدره 25 ألف جنيه إسترليني، كما حاول إعادة تمويل المشروع لاحقًا.

مشاريع استيطانية

في ذات العام (1891)، أعلن إلياهو شيد، المسؤول عن مستوطنات البارون روتشيلد، نية البارون شراء أراضٍ شرقَ الأردن لتوطين ألف مستوطن، يليهم لاحقًا آلاف آخرون. أُثيرت تساؤلات حول البنية التحتية، فأكد شيد أن خططًا قائمة لتعبيد الطرق، بل وتُدرس مشاريع مثل مدّ خط سكة حديد أو قناة مائية تربط البحر الأبيض المتوسط ببحيرة طبريا.

وفي السياق ذاته، قام الحاخام شموئيل موهيلبر، أحد مؤسسي حركة "أحباء صهيون" في روسيا، بجولة ميدانية شرق الأردن، وأعد تقريرًا خلص فيه إلى أن الاستيطان هناك أفضل من الجليل، من حيث جودة الأرض وتكلفة شرائها، شرط وجود "مائة عائلة قادرة على مواجهة أخطار البدو".

إعلان

ومن روسيا أيضًا، كتب يهوشع سيركن، أحد زعماء الجماعات اليهودية في مينسك، تقريرًا يؤكد فيه خصوبة الأراضي ورخصها شرق الأردن، معتبرًا أن مخاوف الاعتداءات البدوية لا أساس لها من الصحة، وداعيًا إلى توطين عشرات الآلاف من الصهاينة فيها.

وقد أبدت جماعة يهودية من مدينة فيلنه السوفياتية اهتمامًا مباشرًا بالاستيطان، إذ قررت إرسال ممثل لدراسة شروط الإقامة في شرق الأردن. وفي مايو/ أيار 1891، قدمت عشرون عائلة يهودية ميسورة من باكو طلبًا إلى أ. زافشتاين، تستفسر فيه عن إمكانية شراء أراضٍ للاستيطان في المنطقة.

تكررت هذه المحاولات لاحقًا. ففي عام 1893، حاول هنري دي أفيغدور شراء أراضٍ في منطقة حوران لتأسيس قاعدة استيطانية، إلا أن المشروع فشل نتيجة رفض الدولة العثمانية، وغياب الدعم اليهودي الكافي.

وفي العام نفسه، قدم أفيغدور، بالتعاون مع صموئيل مونتاغو وباسم جمعية "أحباء صهيون"، التماسًا إلى السلطان عبدالحميد الثاني للسماح بالاستيطان شرق الأردن، بعد أن فُرضت قيود على شراء الأراضي داخل فلسطين.

كما طرح الدكتور بوهلندورف خطة لجمع عدد كبير من اليهود في شرق الأردن، وتنظيم عمليات مقاومة مسلحة ضد السكان البدو، بهدف تهجيرهم وتأسيس قاعدة لما وصفه بـ"الدولة اليهودية".

في خضم هذه التحركات، برزت قضية الأراضي السلطانية (الجفالك) التي نُقلت ملكيتها من السلطان عبدالحميد إلى الخزينة العامة عقب عزله عام 1909. وقد طلب نجيب إبراهيم الأصفر – إحدى الشخصيات اللبنانية النافذة- امتيازًا لاستئجار هذه الأراضي مقابل قرض بمائة مليون فرنك، شريطة استصلاحها وبيعها لاحقًا للزراع. لاحقًا، تبيّن أن شركة بلجيكية ذات صبغة صهيونية كانت المستأجر الفعلي، في محاولة للالتفاف على التشريعات العثمانية.

كشفت صحف سورية وفلسطينية، على رأسها جريدة الكرمل، هذه الصفقة، محذّرة من خطورة المشروع على الوجود العربي في جنوب سوريا، وفلسطين، وشرق الأردن، ومسلّطة الضوء على دور جمعية "فلسطين اليهودية" خلف الكواليس.

إعلان خطة روتنبرغ (1936): الترحيل الممنهج

في عام 1936، قدّم بنحاس روتنبرغ، أحد أبرز رموز المشروع الصهيوني الاقتصادي، خطة استيطانية طموحة تستهدف جانبي وادي نهر الزرقاء في شرق الأردن. قامت الخطة على تقسيم استيطاني دقيق، حيث تُخصّص الضفة الجنوبية للفلاحين العرب، فيما تُخصّص الضفة الشمالية للمستوطنين اليهود.

جاء هذا المشروع ضمن سياق أوسع يسعى لخلق تواصل جغرافي بين المستوطنات اليهودية في غور بيسان والباقورة، من جهة، والمناطق المستهدفة شرقي نهر الأردن، من جهة أخرى، بما يعزز السيطرة الصهيونية على مفاصل زراعية ومائية حيوية.

واقترحت الخطة إنشاء شركة خاصة برأس مال يصل إلى مليوني جنيه فلسطيني، يُخصص نصف هذا المبلغ لتمويل عملية إعادة توطين الفلاحين الفلسطينيين المُرحّلين من أراضيهم داخل فلسطين إلى أراضٍ جديدة في شرق الأردن، بينما يُخصص النصف الآخر لتوطين المستوطنين الصهاينة في المنطقة نفسها.

تُظهر خطة روتنبرغ هذا المزج الدقيق بين الطابع الاستيطاني الإحلالي والآليات الاقتصادية الحديثة، التي تسعى لإضفاء مشروعية إدارية واستثمارية على مشروع جغرافي- سياسي قائم على الترحيل الطوعي للعرب والتوطين المنظم لليهود.

كما تعكس الخطة انخراطًا صهيونيًا متقدمًا في معادلة شرق الأردن، في وقت كان يُفترض فيه أن هذا الإقليم خارج حدود "وعد بلفور" المعلن رسميًا عام 1922.

أخيرًا، رغم فشل تلك المخططات المتعددة والمتتالية، فإن الأطماع الصهيونية في شرق الأردن لم تنتهِ، بل ظلت كامنة وتظهر كلما توفرت الفرصة، كما في التصريحات العلنية الأخيرة لرموز سياسية إسرائيلية، والتي تؤكد أن الأردن، بموقعه وحدوده، لا يزال في "عين العاصفة" ضمن التصور التوسعي للمشروع الصهيوني.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • توخيل: لن أسمح للاعبي إنجلترا بالمغادرة مبكرًا قبل مونديال الأندية
  • غلاكسي إس 25 إدج.. ما الذي ضحت به سامسونغ من أجل التصميم الأنيق؟
  • دراسة تكشف سرًّا مجانياً لرفع المعنويات.. كيف تغيّر الكتابة حياتك؟
  • قيظ مبكر في العراق قبل 9 أيام على الصيف
  • حلم الثري اليهودي فريدمان الذي يسعى سموتريتش لتحقيقه
  • الشي الوحيد الذي أصاب ترامب فيه
  • لبيد: إسرائيل فقدت المظلة الأميركية وترامب ضاق ذرعا بنتنياهو
  • إرضاء القارئ العجول.. تأثير في شكل الكتابة وطريقة النشر ونوعية التلقي
  • الروائيّة زينب خضور: الكتابة وسيلتي لفهم نفسي وترتيب مشاعري ومواجهة العالم
  • عدد الأصدقاء أم نوعيتهم؟.. ما الذي يحقق لنا السعادة في التواصل الاجتماعي؟