الضربة الإيرانية وعودة المكبوت الطائفي في تونس
تاريخ النشر: 19th, April 2024 GMT
ليلة السبت الماضي قامت الجمهورية الإسلامية الإيرانية -بالتعاون مع حلفائها في العراق ولبنان وسوريا واليمن- بتوجيه ضربات صاروخية ضد الكيان، وهي واقعة أظهرت حجم الحماية الغربية والعربية للكيان، بحكم مشاركة كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والأردن وغيره من الدول العربية "المعتدلة" في اعتراض تلك الهجمة والحد من أضرارها المادية والبشرية.
ورغم إجماع التونسيين على نصرة "المقاومة الفلسطينية" بصرف النظر عن المواقف الأيديولوجية المتباينة من قاطرتها "الإخوانية" (حماس والجهاد)، فإن دور "محور الممانعة" ظل محل سجال عمومي بين النخب والأوساط الشعبية على حد سواء منذ انطلاق "طوفان الأقصى". فإيران وحزب الله وبعض الفصائل الشيعية قد شاركت في إفشال الثورة السورية وتحويلها إلى حرب طائفية، على الأقل بحكم وقوفها العسكري وراء النظام البعثي ذي النواة الصلبة العلوية. ورغم مشاركة العديد من القوى الإقليمية السُّنية في هذا المآل الكارثي للثورة السلمية السورية، بل رغم مساهمة هذه القوى (محور الثورات المضادة وعرابي صفقة القرن، خاصة السعودية والإمارات) في تحويل سوريا إلى مكان للصراع الطائفي ووقوفها وراء تدمير بلدان الربيع العربي وإفشال الانتقال الديمقراطي في تونس، فإن ذلك كله لم يشفع لإيران وحلفائها في محور "المقاومة" ولم يمنع من عودة المكبوت الطائفي الذي لا يمكن اعتباره المحدد الأول للمواقف السياسية في تونس، وإن كان أحد محدداتها المركزية.
ما يُحدد الموقف من إيران -والشيعة عموما- في تونس ليس القضية الفلسطينية ولا المرجعية الأيديولوجية، بل الصراعات السياسية المحلية
نظريا، كان من المفترض أن يساعد الالتقاء الموضوع بين جناحي الأمة في محور المقاومة على تخفيف الانقسامات الطائفية والحد من تأثيراتها في المستوى المحلي بتونس، ولكنّ ذلك لم يحصل واقعيا. فحماس والجهاد لم تنكرا يوما الدور الإيراني الأساسي في نصرة المقاومة الفلسطينية، على خلاف أغلب الأنظمة العربية المسارعة إلى التطبيع أو المساندة للكيان بصورة سرية منذ تأسيسه. كما أنّ طوفان الأقصى قد أكدت أنّ "المحور الشيعي" هو الوحيد الذي انتصر للمقاومة ديبلوماسيا وعسكريا. ولكنّ ذلك كله لم يكن كافيا -من جهة أولى- لفصل هذا الموضوع عن باقي الصراعات الإقليمية (خاصة المسألة السورية)، كما لم يكن كافيا -من جهة ثانية- في "التطبيع" مع المكوّن الشيعي في المقاومة بقيادة إيران. وقد زاد في تقوية ها المنطق أنّ محصول هذه الضربة كان شبه صفري من جهة الخسائر البشرية والمادية في الكيان، فضلا عن اعتراف إيران ذاتها بأنها قد أبلغت الولايات المتحدة وبعض الدول في المنطقة بموعد ضربتها العسكرية.
ورغم أن الموقف المهاجم لإيران يتأسس على السردية "الإسرائيلية" بصورة كاملة (ويتقاطع موضوعيا مع سردية محور التطبيع)، ورغم وجود قرائن قوية تشكك في مصداقية تلك السردية (منها فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي للمتطرف بن غفير يعترف فيه بوجود خسائر عسكرية وبشرية)، فإنّ تعبير "المسرحية الإيرانية" قد أصبح من أكثر التعابير المتداولة في السجال العمومي في تونس، سواء من جهة القائلين بوجود تلك "المسرحية" أو من جهة المفنّدين لها.
ونحن نعتبر أن كلمة "المسرحية" لم تولد بعد الضربة، بل هي موجودة منذ أن تحرك حلفاء إيران في المنطقة لدعم المقاومة. فإذا كان هذا التحرك قد سرّ القوى "الحداثية" التونسية التي استطاعت أن تجد مبررا سياسيا لنصرة المقاومة "الإخوانية" في غزة (فالمقاومة ليست شأنا "إخوانيا" صرفا)، فإن خصوم النظام السوري -وأصحاب المرجعيات الدينية ذات الجذر "الطائفي"- قد اعتبروا أن ما يقوم به حلفاء إيران هو مجرد خدمة لهذه الدولة (أو مجرد تقوية لمواقع تلك القوى الشيعية في صرعاتها الداخلية) ولا علاقة له بنصرة القضية الفلسطينية بصورة مبدئية.
إن ما يُحدد الموقف من إيران -والشيعة عموما- في تونس ليس القضية الفلسطينية ولا المرجعية الأيديولوجية، بل الصراعات السياسية المحلية. فـ"الحداثي" التونسي لا يجد حرجا في الانتصار لمحور المقاومة بقيادة إيران التي هي في أدبياته "دولة دينية رجعية"، مثلما لا يجد حرجا في التحالف مع "محور الثورات المضادة" وعرّابي صفقة القرن ودعاة التطبيع بقيادة "الرجعية" السعودية الوهابية والإماراتية. وهي وقائع لا يعنيه تناقضها مع مرجعياته الأيديولوجية من جهة، وتعارضها مع ما يؤسس موقفه الرافض للاعتراف بـ"الإسلام السياسي" في تونس واعتباره مكوّنا من مكوّنات الحقل السياسي القانوني، من جهة أخرى.
أما خصوم إيران فلا يعنيهم اعتراف المقاومة الإسلامية الفلسطينية بالدور الإيراني في نصرتها، ولا تعنيهم أيضا حدة الصراع بين إيران وحلفائها وبين الكيان. فكل ذلك ليس إلا "مسرحية" يتقاسم فيها "أعداء الأمة" (أي أعداء أهل السنة والجماعة) الأدوار برعاية أمريكية. فإذا كانت أمريكا في سردية الثورة الإيرانية هي "الشيطان الأكبر"، فإن خصوم إيران يشككون في صدق هذه السردية ويعتبرونها مجرد سردية دعائية تخفي حقيقة التحالف الاستراتيجي بين الكيان وإيران في خدمة المشروع الأمريكي في المنطقة.
ختاما، فإننا نعتبر أن الانتصار لمحور "الممانعة" أو معاداته هو جزء من آليات الصراع الداخلي، أو لنقل هو امتداد خارجي للتموقعات المحلية وما يحكمها من رهانات مادية ورمزية. فمن جهة خصوم محور "الممانعة"، فإنّ التشكيك في طبيعة الدور الإيراني هو أمر يحكمه معطيان؛ أما المعطى الأول فهو معطى مخيالي أو تاريخي أو طائفي يرتد إلى الماضي البعيد، وهو لا يتمظهر في الأغلب بصورة صريحة إلا في بعض السجالات "العامية" وإن كان لا يغيب عن سجالات بعض ممثلي "الثقافة العالمة"، أما المعطى الثاني فهو معطى آني أو راهني ويتمثل في وجود قرائن قوية عن وجود علاقة بين القوى "الحداثية" التونسية وإيران، وهي قرائن قد تشمل النظام الحاكم في تونس وليس فقط المعارضة "الحداثية" التي تسنده أو تقف على هامشه.
المسألة الطائفية هي مكوّن من تلك المكوّنات، فمثلما عجز التونسيون عن بناء سردية سياسية جامعة تدير الانتقال الديمقراطي، فإنهم قد فشلوا في "تحييد" المسألة الطائفية التي أصبحت أداة من أدوات الصراع السياسي بين "القوى الحداثية" وبين خصومهم من الإسلاميين كما بيّنا أعلاه، بل أصبحت أداة لتجذير الانقسام على أساس "الهوية"
أما من جهة أنصار السردية الإيرانية والمثمنين لدورها في دعم المقاومة، فإنهم هم أيضا محكومون بخطاب سياسي يقوم على قاعدتين: أولا إضعاف الإسلام السياسي السني (الإخواني خاصة، والتشكيك في أسسه باستدعاء نقيضه الموضوعي والتاريخي وتوظيفه في الصراع ضد حركة النهضة، ثانيا تعويم دور المقاومة الفلسطينية في محور "الممانعة" ومنع حركة النهضة من استثمار ذلك الدور في تقوية وضعها الداخلي أو "تبييض" صورتها لدى الرأي العام؛ بعد سنوات من الشيطنة النسقية للحركات الإخوانية والدعوة أحيانا إلى تصنيفها "حركات إرهابية".
رغم أن كل مكونات الطيف السياسي التونسي تتحرك نظريا -بل دستوريا- تحت سقف الدولة الوطنية أو الدولة-الأمة، فإن السجال العمومي حول القضية الفلسطينية -وباقي القضايا الإقليمية في المجال العربي الإسلامي- يؤكد انتماء تونس لفضاء أكبر مما فرضه التحديث الفوقي على أساس اللائكية الفرنسية، كما يؤكد استمرار بعض المكونات التراثية -ما قبل الحداثية- في توجيه السجال العمومي التونسي وتحديد سقفه من جهة المفردات والرهانات والتحالفات المحلية والإقليمية.
ولا شك عندنا في أن المسألة الطائفية هي مكوّن من تلك المكوّنات، فمثلما عجز التونسيون عن بناء سردية سياسية جامعة تدير الانتقال الديمقراطي، فإنهم قد فشلوا في "تحييد" المسألة الطائفية التي أصبحت أداة من أدوات الصراع السياسي بين "القوى الحداثية" وبين خصومهم من الإسلاميين كما بيّنا أعلاه، بل أصبحت أداة لتجذير الانقسام على أساس "الهوية" (الحقيقية أو المتخيلة). وهو أمر محصوله تزييف الوعي الجماعي وحرفه عن القضايا المتعلقة بمشروع التحرير والعلاقة بالإمبريالية في مرحلتها الحالية (أي الامبريالية المتصهينة)، وبأذرعها المحلية في منظومة الاستعمار الداخلي وواجهاتها السياسية والأيديولوجية المختلفة قبل الثورة وبعدها (سواء كانت في السلطة أو في المعارضة الجذرية أو في الموالاة النقدية).
twitter.com/adel_arabi21
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الإيرانية التونسيين الفلسطينية الطائفية إيران فلسطين تونس الطائفية أيديولوجيا مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة مقالات صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة القضیة الفلسطینیة فی تونس من جهة
إقرأ أيضاً:
الضربة القاضية. بريطانيا تعلن رسمياً دعمها مخطط الحكم الذاتي في الصحراء تحت السيادة المغربية
زنقة 20. الرباط
تعتبر المملكة المتحدة “مقترح الحكم الذاتي، المقدم (من قبل المغرب) في 2007، بمثابة الأساس الأكثر مصداقية وقابلية للتطبيق وبراغماتية من أجل تسوية دائمة للنزاع” الإقليمي حول الصحراء المغربية، و “ستواصل العمل على الصعيد الثنائي، لاسيما في المجال الاقتصادي، وكذلك على الصعيدين الإقليمي والدولي، وفقا لهذا الموقف، من أجل دعم تسوية النزاع”.
تم التعبير عن هذا الموقف في بيان مشترك وقعه، اليوم الأحد بالرباط، وزير الدولة البريطاني للشؤون الخارجية والكومنولث والتنمية، ديفيد لامي، ووزير الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، ناصر بوريطة.
وجاء في البيان المشترك أن “المملكة المتحدة تتابع عن كثب الزخم الإيجابي الحالي تحت قيادة صاحب الجلالة الملك محمد السادس”. وأضاف أن لندن “تدرك أهمية قضية الصحراء” بالنسبة للمغرب، مبرزا أن تسوية هذا النزاع الإقليمي “من شأنها أن توطد استقرار شمال إفريقيا وتعزز الدينامية الثنائية والاندماج الإقليمي”.
كما أكدت المملكة المتحدة، في البيان المشترك الموقع اليوم بمقر وزارة الشؤون الخارجية، أن “الهيئة البريطانية لتمويل الصادرات قد تنظر في دعم مشاريع في الصحراء”، خاصة في إطار “التزام الهيئة بتعبئة 5 مليارات جنيه إسترليني لدعم مشاريع اقتصادية جديدة في جميع أنحاء البلاد”.
وسجل البيان أن “المملكة المتحدة تعتبر المغرب بمثابة بوابة رئيسية للتنمية الاجتماعية والاقتصادية لإفريقيا وتجدد التأكيد على التزامها بتعميق تعاونها مع المغرب باعتباره شريكا للنمو في شتى أرجاء القارة”.
وعلاوة على ذلك، شدد البيان، الذي وقعه الوزيران المغربي والبريطاني، على أن “كلا البلدين يدعمان ويعتبران الدور المحوري للعملية التي تقودها الأمم المتحدة أمرا حيويا”، وجددا التأكيد على “دعمهما الكامل للجهود المبذولة من طرف المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة، السيد ستافان دي ميستورا”. وبشكل خاص، تصرح المملكة المتحدة بأنها “مستعدة وراغبة وعازمة على تقديم دعمها الفعال وانخراطها للمبعوث الشخصي وللأطراف”.
وفي الختام، سجل البيان المشترك أنه “باعتبارها عضوا دائما في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، تتقاسم المملكة المتحدة وجهة نظر المغرب بشأن الحاجة الملحة لإيجاد حل لهذا النزاع الذي طال أمده، بما يخدم مصلحة الأطراف”، مضيفا أنه “آن الأوان لإيجاد حل والمضي قدما في هذا الملف، بما من شأنه تعزيز الاستقرار في شمال إفريقيا وإعادة إطلاق الدينامية الثنائية والاندماج الإقليمي”.
ويعزز هذا الموقف الجديد للمملكة المتحدة، العضو الدائم بمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، الدينامية الدولية المتنامية التي يقودها صاحب الجلالة الملك محمد السادس لفائدة مخطط الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، ويؤكد مصداقية هذه المبادرة والتوافق الذي تحظى به بهدف التوصل إلى حل نهائي للنزاع الإقليمي حول مغربية الصحراء.
الصحراء المغربية