صلاح السعدني.. غياب «العمدة الزاهد» ابن ثورة يوليو و«حارس الدراما المثقف»
تاريخ النشر: 22nd, April 2024 GMT
«كلما رحل صديق مات جزء، وكلما غادرنا حبيب مات جزء، وكلما قُتل حلم من أحلامنا مات جزء، فيأتي الموت الأكبر ليجد كل الأجزاء ميتة، فيحملها ويرحل».. هكذا عبّر الشاعر والفيلسوف اللبناني جبران خليل جبران عن رؤيته لنفسه، وللإنسان بشكل عام في رحلة الحياة، وبرغم رحيل "جبران" عن دنيانا قبيل مولد الفنان الكبير صلاح السعدني بـ"عقد زمني كامل"، إلا أنه وصف رحلته بأدق كلمات، ذاك "العمدة" ظلت أجزاء منه تموت بموت "أصحابه"، و"أحبائه"، لينزوي شيئاً فشيئاً عن البريق، يزهد في الشهرة، وينسحب من هالات الضوء، في عز الوهج، ماتت بداخله أجزاء فأصبح غير قادر على التواصل مع العالم المتلاهث، وأتى الموت الأكبر صبيحة الجمعة، ليحمل بقية الأجزاء إلى مأواها الأخير، فتسدل الستار على رحلة استثنائية لأحد أعمدة خيمة الدراما المصرية.
مطلع الستينيات، كان أول "سرادق عزاء جماهيري" يقام لـ"السعدني"، حين مات (درامياً) خلال أحداث مسلسله "لا تطفئ الشمس"، ثم حلت نُذُر "رحيل" آخر، اسمًا فقط، في مسلسل "الرحيل"، ضمن ثلاثية درامية عملاقة (مع الساقية والضحية)، بتوقيع المخرج الكبير "نور الدمرداش"، الذي أطلق على "السعدني" وقتذاك لقب "ملك الدراما"، وبرغم كونه يجسد دور "أبو المكارم الأخرس"، إلا أن صوت موهبته كان أعلى من أن تخرسها حكومة "السبعينيات" بسبب "آرائه السياسية" التي لم تعجب أحدهم!
تلك الآراء (المشاكسة والمُحبة للوطن)، شربها وتشرّبها من شقيقه الأكبر، الصحفي الكبير محمود السعدني، الذي كان "الأب والرمز والملاذ والمثل الأعلى"، تلك الآراء دفع ثمنها غاليًا من "رصيده الفني"، وبلغت الذروة حين تم اعتقال الأخ الأكبر بسبب "سخريته السياسية من بعض الرموز"، وألقيت الظلال القاتمة على الأخ الأصغر، بـ"منعه" من المشاركة في عدد من الأعمال الفنية، وأشهرها (كما تردد)، مسرحية "مدرسة المشاغبين"، التي رشحه لها زميل كفاحه "عادل إمام"، وذهب الدور في النهاية للشاب (وقتها)، أحمد زكي، وكان محمود السعدني قد خصص في كتابه "المضحكون" فصولاً بأكملها عن "الأصحاب الثلاثة" صلاح السعدني وعادل إمام وسعيد صالح، واعتبرهم مكملين لبعضهم في الموهبة والذكاء والثقافة، وأطلق عليهم اسم "شلة الصيع"!!
وبرغم "الظلم" الذي تعرض له "صلاح" في حقبة السبعينيات، إلا أن بشائرها أهدته دور "علواني" في فيلم "الأرض" ليوسف شاهين، ثم منحه القدر أدوارًا مميزة خلدته في ذاكرة "سينما الحرب"، بفيلمي "أغنية على الممر"، و"الرصاصة لا تزال في جيبي"، واستأنف نجاحاته في حقبة الثمانينيات، وبحلول عام 1987، كتب القدر موعده الأهم والأقوى مع النجومية، في دور "بديل" لصديقه المقرب سعيد صالح، بشخصية "عُمدة" في ملحمة حفرت تاريخًا دراميًّا خالدًا، في "5" أجزاء، تحت عنوان "ليالي الحلمية".
شخصية "العمدة سليمان غانم" التي أصبحت "أيقونة" في ذاكرة الدراما المصرية والعربية، على مدار "8" سنوات، شكلت وجدان جيل بأكمله، وأصبحت "قطعة من أعمارنا"، بالملابس والإيفيهات والسكنات والحركات وحتى "الصرخات"، استلهمها صلاح من شقيقه الأكبر، محمود، الذي لم يكن في حياته مجرد "فرد"، وإنما كان "قبيلة" بأكملها، على حد تعبير "صلاح".
وبالتزامن مع أول أجزاء "الحلمية"، اختار المخرج يوسف مرزوق "السعدني" لأداء شخصية "ياسين" الابن الأكبر لـ"سي السيد"، في جزأي "بين القصرين"، و"قصر الشوق"، ضمن ثلاثية نجيب محفوظ الشهيرة، ثم تأتي مرحلة "أرابيسك" بشخصية "حسن أبو كيفُه"، التي كانت "الجناح الدرامي الثاني" بعد "العمدة سليمان غانم"، ويبدو أن شخصيته الدرامية في "أرابيسك" انطبعت في وجدان "صلاح الإنسان"، فتقمّصها في حياته بعيدًا عن الكاميرات، وتشكّلت "نمنماتها المدهشة" على جدار روحه، ليصبح "أبو كيفُه"، الصنايعي الفنان الذي يبدع بـ"كيفُه" وقتما يشاء "مزاجه العام".
وتختتم حقبة التسعينيات، بمسلسل "حلم الجنوبي"، الذي راهن مخرجه الكبير جمال عبد الحميد، على "صلاح" بإسناد دور الصعيدي "نصر وهدان القط"، مدرس التاريخ عاشق الحضارة المصرية، الذي يكتشف مقبرة الإسكندر الأكبر، ويطلق أول صرخة وطنية ضد "مافيا الآثار"، فيحقق جماهيرية كبيرة تضاف لرصيد "نوعي" فريد، لا يضاهيه نجم في سماء الدراما التليفزيونية.
مطلع الألفية الثالثة، وبالتحديد 2002، التقى الأصدقاء الثلاثة صلاح السعدني، وفاروق الفيشاوي ومحمد وفيق، في بطولة مشتركة لمسلسل يحمل اسم "الأصدقاء"، كعنوان واقعي لحياة هؤلاء النجوم الذين ألفت بين قلوبهم رابطة صداقة وأخوة، حوّلت كلمات تتر المسلسل إلى حقيقة، حين كتبها الشاعر الكبير سيد حجاب: "يا صديق عمري يا صاحب ذكرياتي.. يا كنز أيامي يا تحويشة حياتي"، أما عن صداقته مع العملاق الراحل نور الشريف، والتي امتدت لأكثر من "40" سنة، فبرغم أنها لم تثمر عن أعمال فنية ناجحة، بحكم تركيز "نور" على السينما وقت توهج "صلاح" تليفزيونيًا، إلا أن صداقتهما، و"صفاء روحيهما"، كانت تدفع "نور" كلما أتقن دورًا، إلى القول بأنه "لا يستطيع ممثل أن يؤدي هذا المشهد أحسن مني إلا صلاح السعدني"!
تعددت الوجوه الدرامية لـ"صلاح"، في مطلع الألفية الجديدة، بـ"كفر عسكر"، و"رجل في زمن العولمة"، و"الباطنية"، و"الإخوة الأعداء"، و"أوراق مصرية"، وغيرها، حتى اختتم مشواره في 2013، بمسلسل "القاصرات" الذي قرر بعده أن يستريح من "وعثاء" الرحلة، ربما جاء قرار "انسحاب الفنان" بمثابة "استراحة محارب" في بداية الأمر، ولكن فواجع القدر، كانت خبطات موجعة لقلب "صلاح الإنسان"، الذي كان لتوّه تعافى (جزئيًا) من صدمة رحيل شقيقه الأكبر (2010)، واستطاع بـ"شِق الأنفس" أن يقف أمام الكاميرات، لتنهال "قواصم الظهر" برحيل رفيق الدرب، الفنان سعيد صالح (2014)، ثم يجتاحه عام الحزن الأكبر (2015)، بصبغته السوداء، برحيل محمد وفيق، ثم نور الشريف، ليبدأ "العد التنازلي" لاعتزال "شغلانة العمر"، كما كان يسميها "صلاح".
بوفاة نور الشريف، انهالت الأحزان على قلب "صلاح"، وانهارت حالته الصحية، وبدا وكأن "أجزاء" ماتت بالفعل داخل روحه، وكيف لا، وهو الصديق الصدوق الذي ارتضى أن يلعب دور "المحاور التليفزيوني" لـ"عِشرة العمر"، شريك الحلم الناصري، النجم نور الشريف، والذي بدأ حواره بمقولة الأستاذ محمد حسنين هيكل، في تعريف "الصديق" بأنه "هو الذي تستطيع أن تجلس معه لساعات طويلة دون أن تتبادلا كلمة ودون أن ينقطع خط الحوار بينكما"، وكان يقصد "نور" شريك الحلم والثقافة والإبداع.
صلاح السعدني، خريج كلية الزراعة جامعة القاهرة، مرتاد مقاهى "متاتيا" بالعتبة و"محمد عبد الله" بالجيزة، صاحب أكثر من "200" عمل بين السينما والمسرح والتليفزيون، المتحدث اللبق والكوميديان التراجيدي الفلسفي الساخر، العمدة "صايع الدراما" الزاهد في البريق من فرط لمعانه، اختار الصمت من غزارة الكلمات بداخله، لخّص نظرته لمشواره الفني قائلاً: "الحياة بالنسبالي تركيبة مختلفة، فيها إيمان بأشياء خاصة جدًّا، لا يعنيني مين اسمه أكبر، يمكن ده حجم موهبتي ومن خلال حجمها عملت لنفسي مكانة".
المصدر: الأسبوع
كلمات دلالية: صلاح السعدني وفاة صلاح السعدني أعمال صلاح السعدني صلاح السعدنی نور الشریف إلا أن
إقرأ أيضاً:
إنريكي المدرب العنيد وقائد ثورة سان جرمان
باريس «أ.ف.ب»: في غضون عامين، أدخل المدرب المتطلب الإسباني لويس إنريكي تغييرات جذرية على باريس سان جرمان الفرنسي قادته إلى عتبة لقب تاريخي في مسابقة دوري أبطال أوروبا لكرة القدم بمواجهة إنتر الإيطالي في ميونيخ بعد غد السبت.
في الماضي القريب، كان هناك سان جرمان الأرجنتيني ليونيل ميسي والبرازيلي نيمار وكيليان مبابي، لكن حاليا طغت على نادي العاصمة صبغة مدربه إنريكي، فهذا الإسباني البالغ 55 عاما بات الوجه الرئيس للفريق منذ عامين، في صيف 2023، بدا واضحا أن سان جرمان سئم من نجوم العيار الثقيل ومن أهوائهم وتقلباتهم فقرر أن يصنع ثورته بيديه، وبعد غربلة عدة أسماء لمدربين في قمة مسيرتهم على غرار الألماني يوليان ناجلسمان والإسباني شابي ألونسو ومواطنه ميكل أرتيتا، راهن الرئيس القطري ناصر الخليفي والمدير الرياضي البرتغالي لويس كامبوس على إنريكي المتحدر من خيخون.
قبل هذه الخطوة، اشتهر إنريكي المهاجم السابق الذي ارتدى قميصي ريال مدريد وبرشلونة، باعتماده على الثلاثي الذهبي "أم أس أن" (ميسي -الأوروجوياني لويس سواريس-نيمار) ليفوز بدوري الأبطال في عامه الأول كمدرب للنادي الكاتالوني عام 2015.
ولكن في سان جرمان، لم تكن مسألة إدارة فريق وأسلوب لعب وصل إلى مرحلة عالية من النضج، بل مُنح مدرب "لا روخا" السابق حرية مطلقة لإجراء تعديلات جذرية وتغيير كل شيء، وأوضح إنريكي حقيقة ما حصل قائلا: "هنا في باريس، كان المشروع مختلفا، لقد تمكنا من تحديد ملف اللاعبين الذين نريد استقطابهم"، وأضاف: "إنه مشروع بناء، وكان علينا أن نبدأ من الصفر".
سريعا، ترك إنريكي بصماته فيما تعرفت عليه الجماهير الفرنسية بفضل مزاجه، وخصائصه، وأفكاره في اللعب المبنية على الاستحواذ والضغط عند خسارة الكرة ورغبته في أن يكون "قويا مع الأقوياء" في غرفة تبديل الملابس، ففي نظر هذا المدرب، لا ينبغي لأي لاعب أن يكون فوق فريقه، حتّى المهاجم مبابي، ليثبت نفسه بشكل طبيعي رمزا للنادي.
عند وصول إنريكي، بعث سان جرمان رسالة واضحة مفادها "المدرب هو أفضل من يجسّد المشروع، فهو يملك المفاتيح والنسخة الأخرى، ويتمتع بشرعية حقيقية، ومعرفة حقيقية، ويعرف ما يريد"، وفور وصوله، طالب إنريكي وحصل على "جهاز بقيمة 15 ألف يورو يرصد جميع المعايير الفزيولوجية، ويخضع اللاعبون للاختبار مرة أو مرتين في الأسبوع"، حسب مصدر مقرّب من النادي، وسرعان ما لاحظ المدرب تأرجح أداء المدافع نوردي موكييلي، فأجبره على الرحيل إلى باير ليفركوزن الألماني الصيف الماضي.
وفي الفيلم الوثائقي الذي تم بثه على التلفزيون الإسباني في الخريف، نرى المدرب وهو يلقي محاضرة على مبابي غير المبال لإقناعه بالمساهمة في الدفاع بشكل أكبر، وبعد الإعلان عن رحيله إلى ريال مدريد الإسباني، لم يتردد إنريكي في إبقاء مهاجم منتخب فرنسا على مقاعد البدلاء بانتظام خلال النصف الثاني من موسم 2023-2024، ويتابع المصدر المذكور "أن يتعايش لاعبون من الطراز الرفيع مع لويس إنريكي، فهذا أمر صعب"، كما تسببت الخلافات مع عثمان ديمبيلي في بداية الموسم، بسبب التأخير عن التمارين، في تهديد امكانية مشاركة جناح برشلونة وبوروسيا دورتموند الألماني السابق، وتم منعه من السفر إلى لندن في أكتوبر العام الماضي ثم تعرض لانتقاد لاذع علني بعد طرده في ميونيخ.
ووصف ديمبيلي في أبريل الماضي أسلوب الضغط المستمر الذي يعتمده المدرب "ظل المدرب يقول لنا: إذا لم تضغطوا أو تدافعوا، سيأخذ شخص آخر مكانكم، لذلك نحن جميعا ندافع". لكن إنريكي خفف أيضا من حدة نبرته تجاه ديمبيلي الذي يلعب دورا محوريا، فقرر استخدامه كمهاجم وهمي اعتبارا من ديسمبر 2024، وكان من الضروري التفكير في الأمر، وتكليف ديمبيلي بمهمة بناء وإنهاء الهجمات، وهو الذي كان يفتقر في كثير من الأحيان إلى الدقة أمام المرمى.
لكن مذاك، أصبح صاحب الرقم 10 يسجل المزيد من الأهداف، ولا يزال تأثيره على أسلوب لعب سان جرمان هائلا.
ويقول أحد المقربين من النادي: "لويس إنريكي قادر على تطوير أي نوع من اللاعبين، سواء كانوا صغار السن أو أصحاب خبرة، مضيفا "يتحدث إلى الجميع تقريبا كل يوم، وغالبا ما يكون برفقته الطبيب النفسي خواكين فالديس"، وأثنى كارليس مارتينيز نوفيل مدرب تولوز في فبراير الماضي على عمل مواطنه قائلا: "نرى أن لويس إنريكي يتمتع بعلاقة قوية ومتنامية مع لاعبيه، الجميع يبذلون قصارى جهدهم، ويؤدون دورهم".
أما قائد سان جرمان البرازيلي ماركينيوس، فقال: "عندما وصل، أضاف حمضه النووي، شيئا فشيئا، نجح في تحسين أدائنا"، وأردف "لقد عمل أيضا بجد على الجانب الذهني والتحفيز والتحضير وسلوك اللاعبين، إنه ليس مجرد مدرب يُملي علينا فعل هذا أو ذاك، لقد أرانا الطريق، إنه لا يتحدث عن كرة القدم فحسب، بل أكبر من ذلك".
وتعكس حصص التمارين هذه الكلمات حيث الأجواء الرائعة المسيطرة على اللاعبين الذين يتبعون بحماس قائدهم، قال إنريكي مدركا أن أسلوبه لم يحظ دائما بإجماع الآراء "هوسي هو مساعدة اللاعبين قدر الإمكان، هناك أوقات لم أنجح فيها".
من الواضح أن الفترة التي قضاها في عاصمة الأناقة هي حتى الآن ناجحة بشكل كبير، اذ قاد فريقه للفوز بثنائية الكأس والدوري في أول موسمين له، والوصول إلى نصف نهائي دوري أبطال أوروبا ثم إلى المباراة النهائية هذا الموسم.
يضع الإسباني الذي يحب إغاظة الصحافيين، الأمور في نصابها الصحيح: "هذه هي حياة مدرب من الطراز الرفيع، حيث تتعرض لانتقادات مستمرة، وعندما تسير الأمور على ما يرام قد تتلقى الثناء في بعض الأحيان".
بقلم باتيست بيكار وأليس لوفيفر