الرباط- دافع رئيس الحكومة المغربية عزيز أخنوش عن حصيلة حكومته أمام البرلمان بمجلسيه (النواب والمستشارون) بعد مرور نصف عمر ولايتها، وذلك خلال جلسة مشتركة عقدها البرلمان أمس الأربعاء.

وقال أخنوش إن مشروع الدولة الاجتماعية "ليس شعارات، بل قرارات فعلية وإجراءات ملموسة"، مضيفا أن نصف فترة ولاية حكومته شهدت "تحقيق ثورة اجتماعية غير مسبوقة" على مستوى تعميم مشروع التغطية الصحية الإجبارية.

نجحت الحكومة -بحسب أخنوش- ابتداء من الأول من ديسمبر/كانون الأول 2022 في تعميم نظام "التأمين الإجباري الأساسي على المرض"، حيث تم نقل المستفيدين سابقا من نظام "راميد" وعددهم 4 ملايين أسرة (أكثر من 10 ملايين شخص) إلى نظام التأمين الإجباري، بميزانية تتحملها الدولة وتبلغ 9.5 مليارات درهم سنويا (نحو مليار دولار).

كما أعلن أنه تم تسجيل 2.4 مليون مهني من غير الأجراء، وفتح باب الاستفادة من نظام التأمين الأساسي على المرض أمام 6 ملايين مستفيد وذوي الحقوق المرتبطين بهم.

وأشار أخنوش إلى أن برنامج الدعم الاجتماعي المباشر "من المحطات التاريخية المتميزة التي سيتذكرها كل المغاربة"، لافتا الى أنه سيمكن ملايين الأسر المغربية ضعيفة الدخل من الخروج من الهشاشة والتهميش الاجتماعي.

وذكر أن القيمة الدنيا للدعم بالنسبة لكل أسرة مستهدفة لا تقل عن 500 درهم شهريا (نحو 50 دولارا)، مشيرا إلى أن تفعيل البرنامج كلف ميزانية قدرها 25 مليار درهم (نحو 2.5 مليار دولار) برسم سنة 2024، ثم 26.5 مليار درهم (نحو 2.6 مليار دولار) برسم سنة 2025، ليبلغ 29 مليار درهم (نحو 2.9 مليار دولار) بحلول سنة 2026.

ومن البرامج الاجتماعية التي قال رئيس الحكومة إنه تم إطلاقها في النصف الأول من ولايتها برنامج الدعم المباشر لاقتناء السكن، والموجه للفئات الاجتماعية ذات الدخل المنخفض والطبقة المتوسطة، بميزانية سنوية تقدر بـ9.5 مليارات درهم (نحو مليار دولار) للسنوات الخمس المقبلة.

حكومة أخنوش بدأت عملها في أكتوبر/تشرين الأول 2021 (مواقع التواصل) مخيبة للآمال

حزب العدالة والتنمية الإسلامي المعارض استبق الحكومة في تقييم حصيلتها المرحلية، وذلك في ندوة صحفية عقدها الأسبوع الماضي، وخلص إلى أنها "ضعيفة ومخيبة للآمال"، ذاكرا الإجراءات التي التزمت بها الحكومة في برنامجها في ما يتعلق بالمساهمة في تدعيم ركائز الدولة الاجتماعية.

وقال الحزب المعارض إن حكومة أخنوش قامت بتنزيل مضطرب لورش تعميم الحماية الاجتماعية، حيث من لهم الحق في الاستفادة الفعلية من الخدمات الصحية في إطار نظام التأمين الأساسي الإجباري عن المرض حتى تاريخ 30 سبتمبر/أيلول 2023 هم 10.22 ملايين شخص مقابل 18.44 مليونا كانوا يستفيدون سابقا من نظام المساعدة الطبية المجانية "راميد" حتى عام 2022.

وأشار "العدالة والتنمية" في الندوة ذاتها إلى فقدان مجموعة من الحقوق من الدعم الاجتماعي المباشر لدى الفئات التي كانت تستفيد منه سابقا بسبب مؤشر العتبة.

وانتقد الحزب عدم وفاء الحكومة بوعودها بإلغاء نظام التعاقد وزيادة 2500 درهم (نحو 250 دولارا) في أجرة أساتذة التعليم، مسجلا حدوث اضطرابات أدت إلى إضرابات بنسب ومدد غير مسبوقة أوقفت الدراسة في التعليم الأساسي وفي كليات الطب والصيدلة.

بدوره، قدم مرصد العمل الحكومي -وهو آلية مدنية لتتبع السياسات الحكومية- تقريرا عن حصيلة الحكومة ثمّن فيها عددا من البرامج التي قامت الحكومة بتنزيلها، ورصد عددا من الاختلالات، خاصة تلك التي تتعلق بتنزيل ورش الحماية الاجتماعية وتدبير برامج التشغيل وعدم وضوح نتائجها، والامتناع الحكومي عن التدخل للحد من الانعكاسات الاقتصادية القوية لارتفاع أسعار المحروقات على المواطنين.

وإلى جانب ما وصفه بـ"غياب الإرادة الفعلية" لدى الحكومة لمواجهة مختلف أشكال المضاربة والاحتكار التي تهيمن على سلاسل توزيع وبيع المواد الغذائية، خاصة المنتجات الفلاحية وانعكاساتها السلبية على القدرة الشرائية للمواطنين.

بين الأرقام والواقع

تعتبر فترة عمل الحكومة بين أكتوبر/تشرين الأول 2021 وأبريل/نيسان 2024 فرصة لتقييم الأداء الحكومي، وكان أخنوش قد أكد في مناسبات عدة على أن الحكومة التي يترأسها اجتماعية بامتياز، مما جعل البرامج التي أطلقتها حكومته موضع تقييم وتفاعل من المجتمع.

واعتبر محمد العمراني بوخبزة أستاذ العلوم السياسية في جامعة عبد المالك السعدي أن الأرقام والمؤشرات التي قدمتها الحكومة في حصيلتها تبدو "إيجابية وتعكس التزامها بتفعيل البرامج الاجتماعية، خاصة برنامج الحماية"، لكنه يرى في حديثه للجزيرة نت أن هذه المؤشرات والبرامج لم تنعكس على واقع المواطن المغربي.

وعزا المتحدث هذا التناقض إلى عدد من الأسباب، من بينها التضخم الذي لم يعد مسألة عابرة وتسبب في ارتفاع تكلفة المعيشة، وهو الأمر الذي لم تكن الأسر المغربية مستعدة لمواجهته.

وأشار العمراني إلى أن التضخم كان له تأثير كبير على شريحة واسعة من المواطنين، ووصل إلى الطبقة المتوسطة، وقال "في الوقت الذي كانت الحكومة تشتغل على حماية هذه الطبقة وتوسيعها أثر التضخم عليها، وهو ما ظهر من خلال عدم قدرتها على الادخار، مما جعلها في وضعية تجرها نحو الهشاشة"، حسب وصفه.

وسجل المحلل السياسي إشكالات على مستوى تنزيل البرامج الاجتماعية، خاصة التغطية الصحية والسجل الاجتماعي، ولفت إلى أن المنهجية المعتمدة كانت "ارتجالية وغير موضوعية"، مما جعل العديد من الأسر في وضعية فقر وهشاشة خارج المستفيدين منها، مضيفا أن توالي الإضرابات في قطاعات مثل التعليم والصحة والجماعات الترابية كان له تأثير على السلم الاجتماعي.

من جهته، ذكّر المحلل السياسي محمد جدري بالظروف التي رافقت أداء الحكومة لمهامها، والتي اتسمت بحالة عدم اليقين على المستوى الدولي، وارتفاع أسعار المحروقات والمواد الأولية، وارتفاع التضخم إلى مستويات قياسية، إلى جانب سنوات الجفاف المتوالية التي لم يشهدها المغرب منذ 30 سنة.

وقال المتحدث للجزيرة نت إن الحكومة في النصف الأول من ولايتها قامت بعمل لا بأس به في ما يخص الجانب الاجتماعي، لكن هذا العمل شابته نواقص خاصة في ما يتعلق باستدامة البرامج الاجتماعية في السنوات المقبلة.

أولياء الأمور امام إحدى المدارس للاحتجاج على استمرار إضرابات الأساتذة بمدينة آسفي في نوفمبر 2023 (الجزيرة) تحديات مقبلة

وبينما تقف حكومة أخنوش على عتبة الشروع بالنصف الثاني من الولاية تواجه تحديات وملفات كبرى تضعها على المحك، حيث يؤكد المحلل جدري على ضرورة تبني الحكومة أسلوب تواصل سياسي مع المواطنين عوض الأسلوب التكنوقراطي الذي نهجته في النصف الأول من الولاية.

ودعا جدري إلى إطلاق حوار مجتمعي حقيقي بشأن الإصلاحات الهيكلية الكبرى، وتجنب المقاربة أحادية الجانب التي اتبعتها الحكومة في الآونة الأخيرة، مشيرا إلى الحاجة إلى نقاش مجتمعي لمواجهة معضلات، مثل البطالة التي بلغت مستويات قياسية، حيث وصلت نسبتها إلى 13% سنة 2023.

وأكد المحلل ذاته على أهمية العمل على خلق الثروة من خلال قطاعات واعدة، مثل صناعة الطيران والصناعات الغذائية والصناعة التقليدية لتوفير المزيد من فرص العمل.

ويرى العمراني بوخبزة أن حكومة أخنوش ستواجه تحديات كبيرة تتعلق باستكمال عدد من البرامج المهمة والقوانين، خاصة مدونة الأسرة وقانون الإضراب وقانون النقابات.

وبرأيه، فإن التحدي الأكبر يتعلق بالحفاظ على التماسك الحكومي، خاصة أن الأحزاب الثلاثة المشكلة للتحالف ستكون عينها في النصف الثاني من الولاية على انتخابات 2026، وهو ما قد يدفع بعضها إلى ارتكاب أخطاء تضر بتماسك الأغلبية.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: ترجمات حريات البرامج الاجتماعیة ملیار دولار حکومة أخنوش الحکومة فی الأول من فی النصف إلى أن

إقرأ أيضاً:

اقتصاد الظل في السودان: تحالفات الخفاء التي تموّل الحرب وتقمع ثورة التحول المدني

 

اقتصاد الظل في السودان: تحالفات الخفاء التي تموّل الحرب وتقمع ثورة التحول المدني

عمر سيد أحمد

[email protected]

مايو 2025

من اقتصاد الدولة إلى اقتصاد النهب

في السودان، لم يُولد اقتصاد الظل من فراغ، ولم ينشأ على هامش الدولة، بل تكوَّن داخل قلب السلطة، وتحوَّل إلى أداة محورية في يد منظومة مسلحة — تضم الجيش، وجهاز الأمن والمخابرات، والمليشيات — تحالفت لعقود مع منظومات الإسلام السياسي لتثبيت السيطرة على الدولة والمجتمع. ومع تفجّر الثورة، ثم اندلاع الحرب، تكشّف الوجه الحقيقي لهذا الاقتصاد: ليس فقط مصدرًا للثراء غير المشروع، بل وقودًا للحرب، ومنصة لتشويه الوعي، ودرعًا يحمي شبكات السلطة من الانهيار.

اقتصاد بلا دولة… بل ضد الدولة

اقتصاد الظل في السودان لم يعد مجرد أنشطة غير رسمية كما في التعريف التقليدي، بل أصبح منظومة مهيكلة تعمل خارج إطار الدولة، تموّل وتُهرّب وتُصدر وتُجيّش بلا أي رقابة أو مساءلة. يتجلّى هذا الاقتصاد في تهريب الذهب من مناطق النزاع عبر مسارات محمية بالسلاح وعبر الحدود في كلزالاتجاهات وعبر المنفذ المحمي بالنافذين ، وتجارة العملة التي تغذي السوق الموازي بعيدًا عن النظام المصرفي، إلى جانب شبكة من الأنشطة التجارية الخارجية التي تدار لصالح قلة مرتبطة بأجهزة أمنية وشركات استيراد الوقود لطفيلي النظام السابق محمية من السلطة ، وتحويلات مالية غير رسمية تُستخدم في تمويل اقتصاد الحرب.

تشير التقديرات إلى أن ما بين 50% إلى 80% من إنتاج الذهب في السودان يُهرّب خارج القنوات الرسمية. وتُقدّر خسائر السودان من تهريب الذهب خلال العقد الماضي بما لا يقل عن 23 مليار دولار في حدها الأدنى، وقد تصل إلى 36.8 مليار دولار . هذه الأرقام تُظهر حجم الكارثة الاقتصادية التي يمثّلها اقتصاد الظل، ومدى تحوّل الذهب من مورد وطني إلى مصدر تمويل خفي للحرب والنهب.

من العقوبات الاقتصادية إلى السيطرة: نشأة التحالف الخفي

خلال سنوات العقوبات الأميركية، نشأت شبكات بديلة لحركة المال والتجارة، قادها رجال أعمال ومؤسسات أمنية مرتبطة بالنظام. وبدل أن تواجه الدولة الأزمة ببناء بدائل وطنية، فُتحت السوق أمام فئة طفيلية نمت في الظل، وتحوّلت إلى ذراع اقتصادية للسلطة. وحتى بعد رفع العقوبات عام 2020، لم يُفكك هذا الهيكل، بل تعمّق. ومع انقلاب 25 أكتوبر، استعادت هذه الشبكات سيطرتها الكاملة على الأسواق والموارد، لتبدأ مرحلة جديدة: تحويل اقتصاد الظل إلى مصدر تمويل مباشر للحرب.

اقتصاد الريع: الأساس البنيوي لاقتصاد الظل

من أبرز الأسباب البنيوية التي مهدت لتضخم اقتصاد الظل في السودان هي هيمنة اقتصاد الريع، الذي مثّل النمط الغالب منذ الاستقلال. فقد اعتمد السودان تاريخيًا على تصدير المواد الخام دون أي قيمة تصنيعية مضافة، بدءًا من القطن والحبوب الزيتية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، مرورًا بالبترول في العقد الأول من الألفية، وانتهاءً بعصر الذهب بعد انفصال الجنوب عام 2011. هذا النمط الريعي جعل الاقتصاد السوداني مرتهنًا للأسواق الخارجية، ومفتقرًا لقاعدة إنتاجية وطنية مستقلة.

في ظل أنظمة شمولية وفساد مؤسسي، لم تُستثمر عائدات هذه الموارد في تنمية مستدامة، بل أعيد توزيعها عبر شبكات محسوبية وزبونية لصالح نخب الحكم والأجهزة الأمنية. وبدل أن يكون اقتصاد الريع رافعة للتنمية، تحوّل إلى بيئة حاضنة لاقتصاد الظل. والمفارقة أن هذا الاقتصاد لم ينشأ في الهوامش كما قد يُظن، بل نشأ وترعرع في المركز، داخل مؤسسات الدولة نفسها، وبتواطؤ من النخبة الحاكمة، التي استخدمته أداة للتمويل غير الرسمي، ولتثبيت سلطتها السياسية والعسكرية.وهكذا، اندمج الريع مع الفساد والعسكرة، وخلق منظومة اقتصادية موازية، لا تقوم على الإنتاج بل على النهب، ولا تخضع للقانون بل تتحصن خلفه..

تجارة السلاح والمخدرات: الوجه المحرّم لاقتصاد الظل

من أخطر أوجه اقتصاد الظل، تورّط المنظومة المسيطرة في تجارة السلاح والمخدرات. فقد انتشرت تقارير موثقة عبر وسائط الإعلام ومنصات التواصل خلال عهد الإنقاذ، حول “كونتينرات المخدرات” التي وصلت البلاد أو عبرت نحو دول الجوار، تحت حماية أو تواطؤ من جهات أمنية. هذه التجارة، وإن ظلت في الظل، شكّلت مصدر تمويل خفي مكمل للحرب، ومنصة لتجنيد المليشيات، ومجالًا لتبييض الأموال وتوسيع سيطرة مراكز النفوذ.

معركة الوعي المُموّلة: الإعلام كسلاح في الحرب ضد المدنية

لا يقتصر دور اقتصاد الظل على تمويل السلاح فقط، بل يُغذي معركة أخرى لا تقل خطورة: معركة السيطرة على الوعي. تُدار هذه الحملة الإعلامية من غرف خارج السودان، في عواصم مثل القاهرة، إسطنبول، دبي، والدوحة، بإشراف إعلاميين من بقايا نظام الإنقاذ وشبكات أمنية وإيديولوجية. وتنتج هذه الغرف محتوى ممولًا على وسائل التواصل الاجتماعي يبرر الحرب، ويشوّه قوى الثورة، ويُجيّش الرأي العام ضد التحول المدني، ويروّج لاستمرار الحرب التي شرّدت الملايين، وقتلت الآلاف، ودمّرت البلاد.

الهدف لا يقتصر على قمع الثورة المسلحة، بل يمتد إلى اغتيال فكرة الدولة المدنية ذاتها. تُصوَّر الديمقراطية كتهديد للاستقرار، وتُقدَّم السلطة العسكرية كخيار وحيد لضمان وحدة البلاد، في تجسيد صريح لعسكرة الدولة والمجتمع.

تفكيك المنظومة: ليس إصلاحًا إداريًا بل صراع طويل

لا يمكن الحديث عن تفكيك اقتصاد الظل في السودان بوصفه مجرّد قرار إداري أو إجراء قانوني، خاصة في ظل حرب مفتوحة، وانهيار مؤسسات الدولة، وسيطرة المنظومة المسلحة على مفاصل الاقتصاد. فهذه المنظومة لا تُفكَّك من خلال الانتصار الحاسم، بل من لحظة تآكل السيطرة المطلقة، حين تبدأ الشروخ في البنية الأمنية والاقتصادية للنظام القائم.

ورغم عسكرة الحياة اليومية، لا ينبغي أن يؤدي ذلك إلى شلل في الفعل المدني أو استسلام لقوى الأمر الواقع. المطلوب هو العمل من داخل الحرب، لا على هامشها، لصياغة مشروع تحوّل واقعي وجذري. ويبدأ ذلك بخلق وعي جماهيري جديد، يفضح الترابط البنيوي بين السلاح والثروة، ويضع اقتصاد الظل في موضع المساءلة الشعبية والدولية.

يتطلب هذا المسار مراقبة دقيقة للسوق الموازي وتحليل آلياته، تمهيدًا لبلورة سياسات اقتصادية وتشريعات عادلة تعيد تنظيم السوق وتكسر احتكار شبكات التهريب. كما أن توثيق جرائم التهريب، وتجارة المخدرات، ونهب الذهب، لا بد أن يتحول إلى ملفات قانونية وإعلامية قابلة للمساءلة، لا مجرد روايات متداولة.

إلى جانب ذلك، يبرز دور الإعلام البديل والمجتمعي كجبهة مقاومة مستقلة، تتصدى لخطاب التضليل الذي يُنتج خارج البلاد، وتواجه الرواية الرسمية التي تبرر الحرب وتشيطن التحول المدني. هذه المواجهة الإعلامية ليست ترفًا، بل ضرورة لبناء رأي عام مقاوم ومتماسك.

وأخيرًا، فإن أي محاولة للتغيير لا تكتمل دون بناء شبكات وتحالفات مدنية، تطرح مشروعًا وطنيًا بديلًا يعيد تعريف الدولة، ويفكك الارتباط بين السلطة والثروة، وينقل الاقتصاد من يد المليشيات إلى يد المجتمع. هذا الطريق ليس خطة جاهزة، بل جبهة مفتوحة، تتطلب العمل اليومي، والمبادرة من داخل الشروخ التي فتحتها الحرب، لا انتظار نهايتها.

العمل وسط الحرب: لا وقت للانتظار

ورغم عسكرة الحياة واشتداد المعارك، لا ينبغي أن يكون الواقع ذريعة للتوقف عن الفعل أو الاستسلام للأمر الواقع. بل العكس هو الصحيح؛ المطلوب اليوم هو العمل من داخل الحرب، ومن بين شقوقها، لبناء بدايات جديدة تُمهّد لمسار تحوّل مدني حقيقي. فالتغيير في سياق مثل السودان لا يُنتظر حتى لحظة النصر، بل يُصنع من داخل المعركة، بخطوات واقعية ومدروسة، تستند إلى الفعل الجماهيري والإرادة الجمعية.

أدوات التغيير: من الوعي إلى التنظيم

هذا المسار يتطلب بناء أدوات جديدة، وخلق وعي جماهيري ناقد، يدرك أن المعركة ليست فقط عسكرية أو سياسية، بل أيضًا اقتصادية وثقافية. ويبدأ ذلك بكشف البنية الاقتصادية للمنظومة المسلحة، وفضح العلاقة البنيوية بين السلاح والثروة، بما يتيح خلق ضغط داخلي وخارجي على مراكز النفوذ. كما ينبغي رصد نشاط السوق الموازي وتحليل آلياته، لتجهيزه للمواجهة لاحقًا بسياسات اقتصادية وتشريعات عادلة تفكك احتكارات الظل وتستعيد الاقتصاد لحضن المجتمع.

في الوقت ذاته، يُعد توثيق جرائم التهريب، وتجارة المخدرات، ونهب الذهب، ضرورة لبناء ملفات قانونية وإعلامية يُمكن الرجوع إليها في لحظة المساءلة. وعلى الجانب الإعلامي، لا بد من دعم إعلام بديل، مستقل ومجتمعي، يواجه سرديات التضليل التي تُدار من غرف إعلامية في الخارج، ويقدم خطابًا مقاومًا ينبني على سردية الثورة، لا على خطاب الحرب.

وبالتوازي مع ذلك، يجب العمل على بناء تحالفات مدنية مرنة وواقعية، تطرح مشروعًا سياسيًا واقتصاديًا بديلاً، يعيد تعريف علاقة الدولة بالمجتمع والموارد، ويفكك ارتباط السلطة بالنهب والاحتكار.

جبهة مفتوحة: بداية لا نهاية

إن ما نواجهه اليوم ليس مجرد أزمة سياسية عابرة، بل لحظة تاريخية تتطلب إعادة صياغة المشروع الوطني من جذوره. وهذه ليست خطة جاهزة بقدر ما هي جبهة مفتوحة للتغيير التدريجي، تُصاغ من داخل لحظة الانهيار، لا من خارجها. فالتحدي الحقيقي لا يكمن في انتظار نهاية الحرب، بل في استثمار التصدعات التي خلقتها، وتحويلها إلى مسارات للمقاومة المدنية، وبدايات جديدة تُبنى فيها دولة ديمقراطية مدنية، عادلة ومنقذة، تعبّر عن طموحات الناس لا عن مصالح النخب المتغولة.

المصادر

1. Global Witness (2019). ‘The Ones Left Behind: Sudan’s Secret Gold Empire.’

2. International Crisis Group (2022). ‘The Militarization of Sudan’s Economy.’

3. Human Rights Watch (2020). ‘Entrenched Impunity: Gold Mining and the Darfur Conflict.’

4. United Nations Panel of Experts on the Sudan (2020–2023). Reports to the Security Council.

5. BBC Arabic & Al Jazeera Investigations (2021–2023). Coverage of Sudan’s illicit trade and media operations.

6. Radio Dabanga (2015–2023). Reports on drug trafficking and corruption during Al-Ingaz regime.

7. Sudan Tribune (2020). ‘Forex crisis and informal currency trading in Sudan.’

 

 

 

 

 

 

 

 

الوسوماقتصاد الظل السودان تحالفات الخفاء تمويل الحرب عمر سيد أحمد

مقالات مشابهة

  • 239 مليار درهم التصرفات العقارية في 5 إمارات
  • الحكومة تخفض طلبات الاستثمار 1.5 مليار جنيه.. لهذه الاسباب
  • 239 مليار درهم حجم التصرفات العقارية في 5 إمارات بالدولة في 3 أشهر
  • 8.6% ارتفاعا في الصادرات غير النفطية إلى 1.6 مليار ريال بالربع الأول
  • الرهوي: الحكومة ستعمل على تسهيل كل التحديات التي تواجه قطاعي الزراعة والثروة السمكية
  • 56.5 مليار درهم إيرادات قطاع الإعلام في الإمارات 2025
  • وزير الإسكان يلتقي نظيره العُماني ووزيرة التنمية الاجتماعية والأسرة في قطر
  • اقتصاد الظل في السودان: تحالفات الخفاء التي تموّل الحرب وتقمع ثورة التحول المدني
  • المتحدث باسم الحكومة الألمانية يكشف تفاصيل خاصة عن المساعدات التي سمح العدو الصهيوني بإدخالها إلى قطاع غزة
  • الحكومة تعلن دعماً مباشراً لقطاع تربية الماشية بـ6.2 مليار درهم