سودانايل:
2024-06-12@07:25:02 GMT

القوى المدنية السودانية و«الحفر بالإبرة»

تاريخ النشر: 29th, April 2024 GMT

د. الشفيع خضر سعيد

كتبنا في مقالنا السابق أن سمنار القوى المدنية السودانية الذي التأم في باريس بتاريخ 15 أبريل/نيسان الجاري، هو الأول من نوعه منذ إرتكاب جريمة الحرب بحق السودان وشعبه. فالسمنار شاركت فيه مجموعات مدنية سودانية ظلت لفترة طويلة تتخاصم وتتصارع، بل بعضها، ومنذ الفترة قبل اندلاع الحرب، يرفض مجرد الجلوس مع البعض الآخر.

ثم تفاقم الخصام والصراع بعد اندلاع الحرب رغم أنهم جميعا يتفقون حول ضرورة وقفها. وقلنا في ذات المقال أن اللقاء جاء تجسيدا لحلم انتظرناه طويلا، وكان البعض يرى استحالة تحققه على أرض الواقع، بينما البعض الآخر، ومن ضمنهم شخصي، كان يصر على أنه سيتحقق ولو متأخرا. فالمنطق السليم يقول بما أن هذه الأطراف المتصارعة تقف على ذات ضفة الوطنية ورفض الحرب، فإن التفكير السليم سيفرض عليها القناعة أن الوطن كله أصبح في مهب الريح، وأن خطرا داهما يتهدد الجميع، وأن ما يجمع هذه الأطراف من مصالح في الحد الأدنى الضروري للحياة، أقوى مما يفرقها، وأنها لابد أن تلتقي وتعمل بجدية وإخلاص لتمنع انهيار الدولة السودانية. ومن قراءتي الخاصة والذاتية لمجريات ما دار من نقاش في السمنار، جاء تقييمي الشخصي بأنه كان ناجحا وأدى غرضه، حيث برز بشكل واضح توافق مشترك حول العديد من المحاور المطروحة للنقاش، مرسلا إشارات إيجابية بإمكانية مواصلة هذه اللقاءات وصولا للتوافق حول رؤية سودانية لوقف الحرب، وأن الأمر الجوهري الآن هو أن نلتقط هذه الإشارات الإيجابية ونستثمرها في فعل سياسي تنظيمي ملموس. وفي هذا السياق، سأهتم في مقال اليوم بنقطتين من نقاط المشتركات الست التي لخصتها في المقال السابق، وهما النقطة التي تؤكد على استمرار العمل المشترك بين الأطراف المشاركة في السمنار وتوسيع دائرته لتشمل كافة الجهات والأطراف الرافضة للحرب والتنسيق بينها، مقرونة بالنقطة التي تؤكد على أن إنهاء الازمة السودانية هو في يد السودانيين في المقام الأول ولا ينبغي أن يكون رهينا لأي تدخلات إقليمية أو دولية.
تعلمنا من دروس التاريخ، أن تبوء أحلام الشعوب مكانها ورسوخها في قمة أولويات أجندة القادة والزعماء هي التي تدفع بالحضارة البشرية إلى الأمام، وفي اللحظة التي تتساقط فيها هذه الأحلام من أولويات أجندات أولئك القادة والزعماء ويعجزون عن الاستجابة لها، أو يضعونها في موقع أدنى بالنسبة لأجنداتهم الحزبية والخاصة، تصاب الحضارة البشرية بالتصدع. وحلم الشعب السوداني اليوم هو وقف الحرب وبسط السلام وإستكمال ثورته ورتق جروح الوطن. لكن رتق جروح الوطن يحتاج إلى خيوط متينة وأيد ماهرة، وجميعها، لن تتوفر إلا بتوفر الإرادة والرؤية والأداة المناسبة عند قياداتنا. وهذه الخيوط تستمد متانتها، مثلما الأيدي تكتسب مهارتها، من حقيقة أن وقف الحرب وإعادة بناء الوطن يحتاج إلى توسيع مبدأ القبول والمشاركة ليسع الجميع إلا من إرتكب جرما في حق الوطن، فهولاء مصيرهم المثول أمام العدالة.

إن العمل المشترك ضد الحرب لا يتطلب وحدة اندماجية أو ذوبانا تنظيميا بين المجموعات المدنية المختلفة، ولكنه، وانطلاقا من الموقف الموحد ضد الحرب، يتطلب التوافق حول التمسك بصناعة سودانية خالصة

ومن هنا تأتي دعوتنا لتطوير اللقاءات والسمنارات التي عقدتها القوى المدنية السودانية مؤخرا لتنتظم في مؤتمر مائدة مستديرة جامع للقوى السياسية والمدنية، يعقد اليوم قبل الغد، مع اشتراط الوصول لكل أطراف هذه القوى، وعدم إقصاء أي حزب أو مجموعة، غض النظر عن أي مواقف سياسية سابقة لها، مادامت هي الآن تقف ضد الحرب، ومادامت المجموعة تستند إلى قاعدة جماهيرية ملموسة على الأرض، مع ضرورة اشتراك الجميع في تفاصيل التحضير، والتقيد بالشفافية في كل خطوات العمل، والتي يجب أن تكون بعيدة عن أي مؤثرات خارجية، دولية أو إقليمية.
صحيح أن الطرفين المتقاتلين وبما يمكن أن يخضعا له من ضغوط، قد يوافقان على وقف إطلاق النار والقتال، لكن ليس باستطاعتهما وحدهما وقف الحرب ولا يمكن أن يحددا هما فقط مصير السودان ومستقبله. فالمسؤولية الأكبر والرئيسية في وقف هذه الحرب المدمرة تقع على عاتق القوى المدنية السودانية، لأنها هي المناط بها تصميم وقيادة العملية السياسية التي بدونها لن تضع الحرب أوزارها. وجوهر العملية السياسية يبدأ بصياغة الرؤية لوقف الحرب، بمعنى الإجابة على العديد من الأسئلة حول مستقبل قيادة الجيش ومستقبل قوات الدعم السريع والميليشيات الأخرى، والمساءلة بالنسبة لجريمة اندلاع الحرب وما صاحبها من انتهاكات، وكذلك مخاطبة المأساة الإنسانية الراهنة والمتفاقمة في البلاد، وفترة انتقال بقيادة مدنية بعيدا عن أي شراكة مع أي من طرفي القتال، إذ لا خير في أي عملية سياسية يكون هدفها الرئيسي فقط هو اقتسام كراسي السلطة، وغير ذلك من الأسئلة التي ناقشناها بالتفصيل في مقالاتنا السابقة. وتصميم العملية السياسية وصياغة الرؤية ليسا فرض كفاية، يقوم به قسم من القوى المدنية ويسقط عن أقسامها الأخرى، بل هما يشترطان مشاركة كل القوى المدنية الرافضة للحرب، ومن هنا تأتي دعوتنا لعقد مؤتمر المائدة المستديرة.
إن العمل المشترك ضد الحرب لا يتطلب وحدة اندماجية أو ذوبانا تنظيميا بين المجموعات المدنية المختلفة، ولكنه، وانطلاقا من الموقف الموحد ضد الحرب، يتطلب التوافق حول التمسك بصناعة سودانية خالصة للعملية السياسية، تصميما ومحتوى وقيادة، كما يتطلب فهما مشتركا للتعامل مع المجتمع الدولي والإقليمي. وأي مسعى لوحدة القوى المدنية السودانية أو التنسيق بينها، من الضروري أن تحكمه مبادئ الشفافية، ومشاركة الكل في التحضير، وأن يكون المسعى سودانيا بعيدا عن أي تدخلات خارجية، والجدية في أن يكون تمويله ذاتيا.
إن دعوتنا للمائدة مستديرة ليست جديدة، بل هي موقفنا الثابت الذي ظللنا نجهر به منذ بدايات الفترة الانتقالية. وفي الفترة الأخيرة كثفنا نشاطنا في هذا الاتجاه والتقينا بالعديد من القيادات المدنية، في «تقدم» و«الكتلة الديمقراطية» وغيرهما، وسنواصل. ولا أرى غضاضة في تسمية هذا النشاط «الحفر بالإبرة» بعيدا عن تهكم منصة «مجد» الإعلامية!

نقلا عن القدس العربي  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: القوى المدنیة السودانیة وقف الحرب ضد الحرب

إقرأ أيضاً:

الحروب في السودان تؤكد هشاشة التكوين القومي وعجز الحكومات عن الحسم

محمد الحمامصي
دراسة تعد من أهم الدراسات الحيوية حاضرًا ومستقبلنًا في فهم ما يحدث في المجتمع السوداني من صراعات لا تنتهي وتنذر بتفكك الدولة السودانية.

حرب مدمرة
تعد دراسة قضية الحروب الأهلية في السودان والموقف الإقليمي والدولي منها مدخلًا لفهم أبعاد الصراعات السودانية والمواقف الدولية منها وتحليلها، وكذلك فهم دوافع القوى الكبرى في السودان وأهدفها، ومن ثم فهم الإطار العام للصراع الدولي على أرض السودان، بالإضافة إلى تشخيص عوامل الضعف في البنيان السوداني التي تجذب إليها الصراعات الدولية، وهي الخطوة المهمة والأساسية على طريق تحديد أسلوب العلاج الذي يبعد السودان من دائرة الصراع الدولي وطبيعته ويقلل من فرص التدخل الأجنبي في شؤونه.

وهذه الدراسة “الحروب الأهلية في السودان والموقف الإقليمي والدولي منه 1955 – 2005” للباحثة سالي عبدالله دوبح، تعد من أهم الدراسات الحيوية حاضرًا ومستقبلنًا في فهم ما يحدث في المجتمع السوداني من صراعات لا تنتهي وتنذر بتفكك الدولة السودانية. حيث تسلط الضوء على موضوعات وأحداث تاريخية؛ اعتمدت على الوثائق البريطانية غير المنشورة في معرفة موقف بعض الشخصيات السودانية تجاه أحداث الحرب الأهلية الأولى، التي أوضحت كثيرًا من الحقائق. كما تناقش دور الرئيس السوداني عمر حسن البشير السياسي والعسكري في أحداث الحرب الأهلية الثانية منذ وصوله إلى السلطة في 1989 وحتى 2005، بالاعتماد على تقارير مسح الأسلحة، والبرامج الوثائقية التي كشفت كثيرًا من التسجيلات المسربة للرئيس البشير وأوضحت موقفه تجاه الحرب في الجنوب.

الدراسة تعد من أهم الدراسات في فهم ما يحدث في المجتمع السوداني من صراعات لا تنتهي وتنذر بتفكك الدولة السودانية
الدراسة تعد من أهم الدراسات في فهم ما يحدث في المجتمع السوداني من صراعات لا تنتهي وتنذر بتفكك الدولة السودانية
وتم اختيار زمن الدراسة في المدة الممتدة من 1955 إلى 2005، وهي المدة الزمنية التي حدثت فيها الحروب الأهلية في السودان وما تبعها من متغيرات في المواقف الإقليمية والدولية حتى 2005 الذي يشهد نهاية الحرب الأهلية الثانية بتوقيع اتفاق نيفاشا.

وتناولت دوبح بالتفصيل كل أحداث ومجريات هذه الفترة بدءا من الحرب الأهلية السودانية الأولى، وموقف القوى الإقليمية والدولية خلال الفترة الممتدة من 1955 وحتى 1972، حيث تطورت الأحداث السياسية في جنوب السودان بدءا من العصيان المسلح للفرقة الاستوائية في 18 أغسطس 1955، وما نتج عن ذلك من قتل للكثير من الشماليين، ثم أحداث الحرب منذ بداية يناير 1964 وحتى نهاية سبتمبر من العام 1964، والمتغيرات السياسية ما بعد انتفاضة أكتوبر 1964. وانتهاء باتفاق أديس أبابا وجهود التسوية السلمية وإعلان الرئيس جعفر النميري في 1969 إيقاف الحرب وتطرق إلى اتفاقية الحكم الذاتي الإقليمي التي أنهت الحرب في 1972.

ثم الحرب الأهلية الثانية في المدة الممتدة من 1983 وحتى 1988، وأوضاع السودان ما بعد اتفاق أديس أبابا في المدة الممتدة من 1973 إلى 1982، والأسباب التي أدت إلى تجدد الحرب الأهلية الثانية وفي مقدمتها القرارات التي أصدرها الرئيس جعفر النميري التي أسهمت في انهيار اتفاق أديس أبابا وكان نتيجة ذلك العصيان المسلح من قبل جنود الكتيبة 105 ورفض الجنوبيين تلك القرارات. وقد أدى ذلك إلى سقوط نظام الرئيس جعفر النميري فضًلا عن الصراعات السياسية بين النخب السودانية وسقوط العديد من المدن في يد الجيش الشعبي لتحرير السودان.

وتوقفت دوبح عند دور الرئيس السوداني عمر حسن البشير في الحرب السودانية منذ وصوله إلى السلطة في العام 1989 وحتى 2005؛ متناولة انقلابه ووصوله إلى سدة الحكم، حيث عمل نظامه على تجيير الدين في الحرب ضد الجنوبيين. كما ناقشت موقف القوى الإقليمية والدولية تجاه الحرب الأهلية الثانية في المدة الممتدة بين 1983 و2005.

وأكدت دوبح على هشاشة التكوين القومي في السودان وعجز الحكومات السودانية بعد الاستقلال عن حسم مشكلة الجنوب؛ إذ عملت حكومة إسماعيل الأزهري على تشكيل لجنة لكن تلك اللجنة لم يكن فيها تمثيل عدد الجنوبين كبيرا مقارنة بأعداد الشماليين، ورفضت مطالب الجنوبيين بالنظام الفيدرالي إلى جانب ذلك إعلان الحكومة بأن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة، واللغة العربية هي اللغة الرسمية في السودان، الأمر الذي أسهم بشعور الجنوبيين بعدم الثقة. أما حكومة عبدالله خليل فعلى الرغم من السماح للجنوبيين بمشاركهم في الانتخابات في 1958 وحصول الجنوبيين على 37 مقعدًا؛ لكن الجنوبيين قدموا استقالاتهم نتيجة لمحاكمة العضو أزيوني بتهمة الفيدرالية والترويج لها، إلى جانب ذلك فشلت في إيقاف التصعيد الأمني في الجنوب.

حرب تستنزف كل الموارد

وإلى جانب ذلك؛ عانت حكومة عبدالله خليل من الصراعات الداخلية على السلطة. أما حكومة عبود فقد تعاملت مع الجنوبيين، وقد حظرت الأحزاب السياسية في جميع انحاء السودان ودعم الدعوة الإسلامية بالجنوب، وإنشاء المعاهد الدينية، وتعريب المناهج، وجعل اللغة العربية لغة التخاطب الرسمي في البلاد؛ الأمر الذي أدى إلى ازدياد أعمال العنف وظهور عدد من التنظيمات السياسية والعسكرية وكان من أبرزها الاتحاد الوطني السوداني – الأفريقي للمناطق المغلقة “الذي طالب باستقلال الجنوب في حالة رفض الاتحاد الفيدرالي”. إلى جانب ذلك ظهرت حركة أنيانا التي تكونت من الكوادر الذين شاركوا في العصيان المسلح.

وكشفت دوبح دور رئيس الوزراء الصادق المهدي أثناء الحرب الاهلية الأولى حيث عمل على تسليح الزعماء الموالين ومؤيديه، ومن ناحية أخرى كان عجز أطراف القتال، الجيش السوداني والفصائل الجنوبية وحركة أنيانيا، عن تحقيق الانتصار جاء لكي يعزز جهود الرئيس السوداني جعفر النميري وحل مشكلة جنوب السودان. فمثلت سياسته مرحلة جديدة تجاه الحكم الذاتي الإقليمي في إطار السودان الموحد، مع اعترافه بالفوارق الدينية والثقافية بين الشمال والجنوب.

ولفتت إلى أن العوامل الإقليمية مؤثرة مباشرة في حرب الجنوب السوداني وخاصة دول الجوار التي عملت على دعم حركة أنيانيا لاسيما أوغندا والكونغو وأريتريا وتشاد وإثيوبيا حيث كانت مراكز لنشاط حركة أنيانيا والفصائل الجنوبية أثناء الحرب الأولى، ومع تجدد الحرب الثانية عملت على تسليح ودعم الحركة الشعبية والجيش الشعبي وقوات التجمع الوطني المعارض ودعمهم الأمر الذي أدى إلى استمرار الحرب طوال خمسين عامًا.

نقلا عن العرب الدولية:  

مقالات مشابهة

  • قلق فاتيكاني وفرنسي على لبنان: لا الرئاسة فقط
  • بعد نجاح التهديد في كركوك.. حراك لحل مجلس ديالى المخفق منذ 4 اشهر
  • بعد نجاح التهديد في كركوك.. حراك لحل مجلس ديالى المخفق منذ 4 اشهر- عاجل
  • هل تنجح القاهرة في “لمّ شمل” السودانيين؟
  • الموقف من المائدة المستديرة في مصر اول امتحان امام تقدم!
  • الحروب في السودان تؤكد هشاشة التكوين القومي وعجز الحكومات عن الحسم
  • الموقف من المائدة المستديرة في مصر أول امتحان أمام تقدم!
  • الحرب المتسارعة … مقابل … الحفر بالإبرة
  • نائب:مجلس ديالى يرفض التجديد لمحافظها الحالي (مثنى التميمي)
  • السودان: عسكرية الحرب ومدنية الحل