"جاكوفا".. الصراع بين الشخصية الصهيونية واليهودية لدى رجاء نعمة
تاريخ النشر: 15th, May 2024 GMT
غنوة فضة **
تنطلقُ الكاتبة اللبنانية رجاء نعمة (1942) في روايتها الأخيرة "جاكوفا ابنة المنزل اليهودي"، من نقطة الخداع الذي مارسته الحركة الصهيونية على اليهود العرب لحثِّهم على الهجرة إلى إسرائيل، وتدخل في صميم المجتمع اليهودي، لكن بعيداً عن التسييس المتعمد؛ إذ تستعين بالواقع مدعوماً بالخيال، لتجسِّد من مذكرات ابنة عائلة يهودية المصيرَ الذي آلت إليه أحوال أفرادها جراء التعقيدات السياسية وسطوة السلطة الدينية.
تقول الكاتبة: "هل في التاريخ الحديث من تزويرٍ أعتى من أن يُقال لشعبٍ: هذه الأرض ليست لك، هذا ليس وطنكَ وعليك أن ترحل؟".
من هذه المقولة الكبرى، تذهب الكاتبة في روايتها -الصادرة عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر (بيروت)- لتتصدى لتأسيس وطنٍ قومي لليهود في فلسطين، وتفككُ همجية قيام دولة إسرائيل. نقعُ هنا على كاتبةٍ وضعتها الصُّدف أمام فتاةٍ يهودية اسمها جاكوفا؛ عاشت في لبنان وتحلم في نشر مذكراتها. إذن؛ نحن أمام كاتبةٍ يُطلبُ منها أن تكتب حكاية غيرها؛ أي أن تكون كاتبة ظلّ، وحين تعترض على الفكرة، تقنعها الفتاة بجمالية الكتابة التي تتناول أحداثاً وأحوالاً لم نعشها. وفي هذا إمعانٌ من الكاتبة في زج الواقع بالمتخيل، ذلك أن قراءة المذكرات تجعلَ الكاتبة فريسة الحكاية نفسها، لتتساءل عما إذا كان المكتوب واقعاً أم متخيلاً، وهو فضاء أسريّ لمجموعة يهودية فريدة من نوعها.
"كيف لن أشعرَ بالتميز عن زميلات الكنيس وورائي تاريخ مدهش وتاريخهن أملس؟". نقع هنا على حكاية يائيل؛ جد العائلة الأكبر، والجواهريّ المعروف في إسطنبول. نراه حائراً في نقل إرثه من السبائك الذهبية إبان سقوط الدولة العثمانية. وهو الجواهريُّ الذي قصدته زوجة الإمبراطور الألماني "غيوم الثاني" حتى أضحى أشهر صائغ في البلاد،. نجده في مطلع الحكاية هارباً مع أسرته إلى مدينة حلب، ومنها ينتقل إلى بيروت ويبني ما سمي لاحقاً أجمل تحفة معمارية مطلة على صخرة الروشة. حيث يشادُ منزل آل يعقوب موطن أحداث الرواية.
تأخذ الكاتبة من الحرب أداة لزج أبطالها في مصائر غير متوقعة، ذلك أن جاكوفا؛ صغرى بنات سليم بن يائيل، تعيش في منزلٍ يؤلِّهُ الصبي "جاكوب" باعتباره الذكر الوحيد. وهنا تتجه الرواية لرصد سياقٍ ترفضه البطلة، إذ نراها تنكفئ عن عائلةٍ تفضل الذكور على الإناث. هو ما يتبلور في المشهد الذي تُضرَبُ فيه وتُعاقب لمجرد لمسها رداء الصلاة. من تلك النظرة الدونية، تندفع الطفلة نحو الظل، وتنكفئ باعتبارها طفلة منبوذة لأسرةٍ انتظرت ذكرها الثاني وفوجئت بالمولودة الأنثى. تمسي طفلةً هزيلة ومستوحدة، ما خلا تلك اللحظات التي عاشتها مع مربيةٍ خففت من توجسها قبل أن تهاجر إلى بلدٍ يهيئهُ العالم لليهود.
تمضي الحكاية راصدة أثر الجماعة في قمعها للفرد، وتبحث في المسوغات التي تدفعه ليحيا ساخطاً عليها. إذ تمضي جاكوفا حياتها ساخطة لارتدائها ملابس أخيها الافتراضي، لكن دخولها المدرسة وتنقّلها من الدير إلى المدارس العلمانية في لبنان، يسمح بمنحها كياناً فكرياً استثنائياً. ومع الوقت نجدها واقعة في هوى الماركسية، لكنها تتلقى الأذى من أبيها. تُحبَسُ على مجاهرتها بأفكارها، ويساندنها أخوها في الخفاء؛ الأخ الذي تأثر بطرد الأب لعمته، لا يرغبُ بتكرار المأساة مع أخته الصغرى، نراه غاضباً من محاولات الأب في جعله نسخة عنه، الأمر الذي يدفعه للتحرر من الطائفة والانتساب إلى مجموعة من المثقفين المعادين لإسرائيل.
"ما أيسرَ أن تهجّرَ امرأةً من بيتها، وشعباً من بلاده!"
هكذا يطلق جاكوب أفكاره كشابٍّ مثقف وحرّ. يرمي الأسئلة التي تمس الطائفة، لكنه يمسي سجين الإرث، ويقع في مواجهة بين العالم وأبيه. نجده في أثناء دراسته الجامعية يتساءل عن تلك الأسرار في بيتهم، في وقت تتزوج فيه الأخت الكبرى "إيفا" من يهودي هارب إلى أميركا ومتعصب لقيام دولة اليهود. تظهرُ هنا الشروخ الفكرية في العائلة؛ ويبرز الخلاف بين الانتماء إلى اليهودية وبين التمثلات الصهيونية التي بدأت الحركة في فرضها على اليهود العرب. ذلك أن جاكوب غير منجذب لزوج أخته، ويراه طامعاً في كنوز آل يعقوب. وجاكوفا ترى في العريس الجديد ما يسرّ أختاً لا تعرف عن العالم سوى النظر إلى المرآة. هكذا يُزرَعُ الشقاق بين أفراد الأسرة. بينما تقف الأم حائرة، ذلك أن وجودها لا يتعدى الانكفاء تحت سلطة زوج صارم، ما جعلها غير قادرة على مواجهة تساؤلات جاكوب حيال عُقَد الطائفة، وحيال رعبٍ سيّرَ تاريخها وجعلها تختلقُ أكذوبة التفردِ عن باقي الطوائف والأعراق في العالم: "آخرون يطارهم شبحُ نبوخذ نصر، وبعد آلاف السنين التي مرت على السبي ما زالت صورته محفورة في نفوسهم، كما الاعتقاد الملتبس الذي قادهم إلى النبذ والتنابذ".
بين تديُّن الآباء وعلمانية الأبناء، يحاول سليم استمالة ابنه وصدهِ عن أفكاره بكشف كنوز العائلة، لكن أثرها على جاكوب لا يتعدى أثر الماء على الزجاج، ذلك أن رفضه لعقيدة الطائفة تشعب إلى درجة السخرية من معتقدات تفردهم عن الجميع. ويؤجج ذلك التمرد هربُ أخته جاكوفا وزواجها من شاب غير يهودي، ليُسهِم الحدث في إرباك الجميع، وهو ما تضجّ به المدينة. إذ تقيم العائلة مراسم عزاء على من منحتهم الدنس بحسب اعتقادهم؛ يأتي المسافرون، ويُجبر جاكوب على قراءة سفر الموتى على أخته الحيّة؛ ومن نقطة الموت المزور تلك، يصاب الشاب في صميم أفكاره ويوقظ ما طال ركوده. يلوذ بالفرار، وهو فرارٌ فكريّ أكثر منه مكانيّ. إذ يؤسس مقالاته في كشف الدور الذي لعبه اليهود في توجيه السياسة العالمية. وهنا تضلع الكاتبة بكشف حوادث تاريخية شهيرة، كدور الثري روتشيلد في جذب القوى العظمى للحصول على وعد بلفور، وتجهيز هرتزل ومن بعده الروسي حاييم وايزمان لتهجير الفلسطينيين ومنح بيوتهم وأراضيهم لليهود القادمين من جميع أنحاء العالم.
هكذا تخرج شخصيات الرواية عن مسارها، مثلما خرج شباب السبعينات عن الموروث، ونرى صاحبة المذكرات تقطع صلتها بماضيها بينما نجد كاتبة الظل واقعةً في غرام الحكاية. يصاب سليم الجواهري بالإحباط من ابنيهِ، لذا يفرّ إلى عالم جديد، هو عالم فريدا رفول؛ وهي سيدة مجهولة النسب فتحت صالوناً في بيروت، وتوقع الجميع في حبها، ومن بينهم سليم الذي يغرق في عوالمها وسهراتها، لكن العلاقة بينهما لا تمتد بسبب اكتشاف أجهزة الأمن شبكة تجسس لصالح العدو، وإعلان فريدا امرأة دخيلةً ويمسي كلُّ من كان له علاقة بها متهماً.
يُثقل اعتقال سليم حياة جاكوب، ويزداد أساهُ عندما يغلو الأب ويصرّ على براءة فريدا، ولا يُفرَج عنه إلا بعد وساطة جيش من المثقفين في لبنان. تتشكل هنا فضيحة كبرى في العائلة، وبينما يهاجر سليم إلى ابنته في أميركا، لا يبقى لجاكوب سوى أخته الوسطى إستر. تتأثر بأفكارهِ، وتسانده في كتابه الذي عنونه "فلسفة الشيطان". يراها الناس تلقي المواعظ وتبشر بعودة الفلسطينيين إلى بلادهم. تحمل شعار سقوط إسرائيل، وتسافر إلى الأراضي المحتلة لتنشط ضد الكيان نفسه، بينما يلمع اسم جاكوب بعد نشر كتابه وتدمير منزل آل يعقوب بعد الاشتباه بما حوله، وبعد وقوع الكاتبة في غرام جاكوب، بما يرمي الظلال على الحكاية برمتها، ويدفعنا للتساؤل حيال الخيال الذي نسجت فيه جاكوفا قصتها، وذهب بدوره ليصنع الواقع بيد كاتبة الحكاية.
** كاتبة وروائية سوريَّة
(ينشر بالتعاون مع مركز الدراسات الآسيوية والصينية)
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
رابط الاستعلام عن مواعيد المقابلات الشخصية لبرنامج المرأة تقود
كتب- محمد نصار:
أتاحت الأكاديمية الوطنية للتدريب، الاستعلام عن مواعيد المقابلات الشخصية للدفعة الثانية من برنامج "المرأة تقود للتنفيذيات" ضمن مراحل القبول المؤهلة للالتحاق بالبرنامج.
وقالت الأكاديمية، في بيان، اليوم الثلاثاء، إنه يمكن معرفة موعد المقابلة الشخصية لمن اجتزن مرحلة الاختبارات، من خلال الرابط التالي، اضغط هنا. https://register.nta.eg
اقرأ أيضًا:
"الدستورية" تنظر دعوى طعن على 4 مواد في قوانين الإيجار القديم - تفاصيل
السيسي يستعرض جهود خفض التضخم وتوفير النقد الأجنبي
وزيرة لموظفي وحدة الصف: ريحوا الناس ومتعقدوش الدنيا عليهم
لمعرفة حالة الطقس الآن اضغط هنا
لمعرفة أسعار العملات لحظة بلحظة اضغط هنا
برنامج المرأة تقود مواعيد المقابلات الشخصية الأكاديمية الوطنية للتدريبتابع صفحتنا على أخبار جوجل
تابع صفحتنا على فيسبوك
تابع صفحتنا على يوتيوب
فيديو قد يعجبك:
الأخبار المتعلقةإعلان
إعلان
رابط الاستعلام عن مواعيد المقابلات الشخصية لبرنامج "المرأة تقود"
روابط سريعة
أخبار اقتصاد رياضة لايف ستايل أخبار البنوك فنون سيارات إسلامياتعن مصراوي
اتصل بنا احجز اعلانك سياسة الخصوصيةمواقعنا الأخرى
©جميع الحقوق محفوظة لدى شركة جيميناي ميديا
القاهرة - مصر
27 14 الرطوبة: 17% الرياح: شمال شرق المزيد أخبار أخبار الرئيسية أخبار مصر أخبار العرب والعالم حوادث المحافظات أخبار التعليم مقالات فيديوهات إخبارية أخبار BBC وظائف اقتصاد أسعار الذهب أخبار التعليم فيديوهات تعليمية رياضة رياضة الرئيسية مواعيد ونتائج المباريات رياضة محلية كرة نسائية مصراوي ستوري رياضة عربية وعالمية فانتازي لايف ستايل لايف ستايل الرئيسية علاقات الموضة و الجمال مطبخ مصراوي نصائح طبية الحمل والأمومة الرجل سفر وسياحة أخبار البنوك فنون وثقافة فنون الرئيسية فيديوهات فنية موسيقى مسرح وتليفزيون سينما زووم أجنبي حكايات الناس ملفات Cross Media مؤشر مصراوي منوعات عقارات فيديوهات صور وفيديوهات الرئيسية مصراوي TV صور وألبومات فيديوهات إخبارية صور وفيديوهات سيارات صور وفيديوهات فنية صور وفيديوهات رياضية صور وفيديوهات منوعات صور وفيديوهات إسلامية صور وفيديوهات وصفات سيارات سيارات رئيسية أخبار السيارات ألبوم صور فيديوهات سيارات سباقات نصائح علوم وتكنولوجيا تبرعات إسلاميات إسلاميات رئيسية ليطمئن قلبك فتاوى مقالات السيرة النبوية القرآن الكريم أخرى قصص وعبر فيديوهات إسلامية مواقيت الصلاة أرشيف مصراوي إتصل بنا سياسة الخصوصية إحجز إعلانك