ماذا لو ألغيت اتفاقية التجارة الحرة بين تركيا وإسرائيل؟
تاريخ النشر: 17th, May 2024 GMT
يدخل التصعيد الاقتصادي بين تركيا وإسرائيل مرحلة جديدة بإعلان وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموترييش أنه بصدد إلغاء اتفاقية "التجارة الحرة"، وفرض رسوم جمركية إضافية بنسبة 100 بالمئة على البضائع المستوردة من تركيا.
وبينما توضع خطوته كرد فعل على ما اتخذته تركيا قبل أيام، بعدما أغلقت أبواب التجارة باتجاه إسرائيل بشكل كامل تثار تساؤلات عما سيسفر عنه الإجراء الذي يهدد سموتريتش بتطبيقه في الأيام المقبلة.
وحسبما ذكرت وسائل إعلام عبرية قدم الوزير الإسرائيلي خطة إلغاء اتفاقية التجارة الحرة إلى الحكومة من أجل الموافقة عليها.
وأوضح من جانب آخر وفق تقرير لوكالة "رويترز" أن الرسوم الجمركية الإضافية "ستظل سارية طالما بقي الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في السلطة".
ولم يصدر أي تعليق من أنقرة حتى ساعة نشر هذا التقرير.
ومع ذلك، اعتبرت وسائل إعلام تركية أن الخطوة الإسرائيلية كانت متوقعة، كونها جاءت في أعقاب إعلان إردوغان إغلاق أبواب التجارة مع إسرائيل "بافتراض أن حجم التبادلات المحدد بـ9 مليارات دولار غير موجود"، على حد تعبيره.
وتشكل اتفاقية التجارة الحرة التي تم توقيعها بين إسرائيل وتركيا عام 1996 "أساس العلاقات التجارية المزدهرة بين الجانبين"، كما توضح خبيرة السياسة الخارجية التركية في معهد "دراسات الأمن القومي" بجامعة تل أبيب، غاليا ليندنشتراوس.
وتشرح لموقع "الحرة" أنه وعلى الرغم من إعلان وزير المالية، لا يزال يتعين على القرار أن يمر عبر الحكومة.
ويقول المختصون إن "إسرائيل ومن خلال فرض الرسوم الجمركية ستعاقب مواطنيها"، حسب حديث ليندنشتراوس.
لكنها تؤكد من جانب آخر أنه "ورغم الانتهاك التركي للاتفاق من غير الواضح ما إذا كان بإمكان إسرائيل أيضا أن تقرر انتهاكه أيضا دون عواقب".
"سابقة مثيرة للقلق"الموقف الذي تم التوصل إليه بين دولتين لديهما اتفاقية تجارة حرة ولكنهما يقومان بإلغائها دون الإشعار المسبق المطلوب يشكل "سابقة مثيرة للقلق بالنسبة للنظام الليبرالي"، على حد اعتقاد الباحثة الإسرائيلية، غاليا ليندنشتراوس.
ويوضح الباحث المختص بالشأن التركي، محمود علوش أن "هناك أثمانا اقتصادية سيتعين على تركيا أن تدفعها جراء تعليق النشاط التجاري مع إسرائيل".
لكنه يقول في المقابل لموقع "الحرة" إن "حجم هذه الأثمان يتوقف في النهاية على الفترة والكيفية التي ستنتهي بها الحرب، وعلى قدرة أنقرة وتل أبيب في إدارة الأزمة بينهما ومنع وصولها إلى نقطة اللاعودة".
وتتجاوز قيمة الصادرات التركية لإسرائيل بكثير حجم وارداتها منها، "ما يجعلها الأكثر تجعلها الأكثر تضررا من هذه المواجهة الاقتصادية".
لكن وكما يضيف الباحث التركي "صمم إردوغان الضغط الاقتصادي كوسيلة أقل تكلفة على تركيا من المخاطرة بانهيار جديد للعلاقات الدبلوماسية".
وحتى الآن ما تزال تركيا تسعى للحفاظ على هامش يتيح لها المناورة بشكل مناسب للحد من آثار الحرب على علاقاتها مع إسرائيل.
ويعتقد الباحث أن الإسرائيليين في المقابل يفضلون أيضا "إدارة الأزمة مع أنقرة بدلا من جعلها مكلفة للغاية على علاقات البلدين في المستقبل، وسيسعون لموازنة ردهم الاقتصادي على أنقرة".
ما هي اتفاقية "التجارة الحرة"؟كانت إسرائيل احتلت المرتبة 13 على قائمة صادرات تركيا، بحجم تجارة بلغ 5.4 مليار دولار في عام 2023، حسب البيانات التي يتيحها "معهد الإحصاء التركي"، واطلع عليها موقع "الحرة".
وفي المقابل تشير بيانات "جمعية المصدرين الأتراك" إلى أن صادرات تركيا إلى إسرائيل انخفضت بنسبة 21.6 بالمئة في الربع الأول من عام 2024، أي بعد شهرين من بدء الأخيرة حربها في غزة.
وبالمقارنة مع الربع نفسه من العام السابق، فقد بلغت نسبة الانخفاض حوالي 28 بالمئة. وفي نفس الربع أيضا بلغت حصة الصادرات إلى إسرائيل من إجمالي الصادرات 2.06 بالمئة. وفي نفس الفترة من عام 2023، بلغ هذا المعدل 2.69 بالمئة.
ويورد الموقع الرسمي لوزارة التجارة التركية أنه تم التوقيع على اتفاقية التجارة الحرة بين تركيا وإسرائيل في 14 مارس عام 1996 في القدس، ودخلت حيز التنفيذ في 1 مايو 1997.
وبالإضافة إلى إلغاء التعريفات الجمركية تنظم الاتفاقية العديد من المجالات مثل التدابير الصحية والصحة النباتية والضرائب الداخلية وميزان المدفوعات.
كما تنظم مسار المشتريات العامة، والمساعدات الحكومية، وحقوق الملكية الفكرية، ومكافحة الإغراق، وتدابير وقواعد الحماية من المنشأ.
وبالنسبة للمنتجات الصناعية فقد تم إلغاء جميع الرسوم الجمركية والرسوم ذات الأثر المماثل اعتبارا 1 يناير عام 2000.
وبحلول عام 2007، تم توسيع الاتفاقية بشكل أكبر لتشمل كمية كبيرة من المنتجات الزراعية، بما في ذلك البيض والخضروات والطماطم المجففة ومركزات القهوة والعصائر المختلفة والبيرة وأنواع عديدة من المكسرات.
موقع "التجارة التركية" يوضح أيضا أن تركيا أبرمت حتى الآن اتفاقيات تجارة حرة مع 38 دولة، بينما تم إلغاء 11 منها بسبب انضمام الدول الموقعة معها إلى الاتحاد الأوروبي.
ويوجد حاليا في تركيا 23 اتفاقية تجارة حرة سارية، بينها مع إسرائيل ومقدونيا والبوسنة والهرسك وتونس والمغرب ومصر وألبانيا والمملكة المتحدة وفنزويلا وسنغافورة.
تأثيراتها على إسرائيل؟من الجانب الإسرائيلي نقلت وسائل إعلام عبرية خلال الساعات الماضية وجهتي نظر، الأولى حذّرت من التأثيرات السلبية لإلغاء الاتفاقية والثانية ذهبت بالاتجاه المعاكس.
ومن المتوقع أن يتخذ وزير المالية الإسرائيلي الخطوات اللازمة لتنويع الواردات الإسرائيلية بعيدا عن المنتجات التركية وإنشاء مصادر استيراد بديلة لتقليل الاعتماد الإسرائيلي على الاقتصاد التركي.
وتوضح خطته حسبما ذكرت صحيفة "جيروزاليم بوست" أن "التنويع قد يتسبب في اضطرابات قصيرة المدى، ولكن يجب أن يؤدي، على المدى الطويل، إلى خفض التكاليف والمساعدة في تخفيف مشكلات العرض المستقبلية بسبب الأحداث الجيوسياسية".
ومن المتوقع أيضا أن "تساعد هذه الخطوة في تحسين المرونة الصناعية الإسرائيلية والقدرة التنافسية في الأسواق العالمية".
لكن صحيفة "يديعوت أحرونوت" أشارت إلى أن مسؤولين من قطاع التجارة والاستيراد هاجموا القرار الذي أعلنه سموترييش.
ونشرت الجمعة نداء عاما وجهه شاهار ترجمان، رئيس اتحاد الغرف التجارية إلى وزير المالية الإسرائيلي، قائلا: "لقد تلقينا بدهشة قرارك المقترح بشأن فرض رسوم جمركية بنسبة 100 بالمئة على المنتجات القادمة من تركيا".
وأضاف: "لسوء الحظ.. هذا القرار الذي يحركه الغضب والانتقام لا يعكس الحالة المزاجية في قطاع الأعمال. ليست هذه هي الطريقة التي ندير بها الصراعات".
وسيؤدي القرار إلى إلغاء جزء كبير من عقود الاستيراد من تركيا إلى إسرائيل، لأنه لن يكون من المفيد للمستهلكين الإسرائيليين شراء المنتجات من تركيا بسعر باهظ، حسب "يديعوت أحرونوت".
وفي الوقت نفسه "قد تؤدي الضرائب الإضافية على المواد الخام إلى الحاجة إلى استيراد مواد خام مماثلة أكثر تكلفة من بلدان أخرى"، وفق الصحيفة ذاتها.
ما الأصداء في تركيا؟وتعيش تركيا في الوقت الحالي تداعيات أزمة اقتصادية، ويحاول الفريق الاقتصادي الذي عينه إردوغان بعد فوزه بانتخابات الرئاسة تخفيف آثارها، مع تأكيدهم على الهدف المتمثل بخفض مستويات التضخم إلى "فئة الآحاد".
وبينما يوضح الباحث الاقتصادي، الدكتور مخلص الناظر أن إلغاء الاتفاقية قد تفاقم عجز الحساب الجاري في البلاد لا يعتقد أنه سيكون لذلك "أثرا كبيرا"، لأن حجم التجارة بين الجانبين ليس ضخما.
علاوة على ذلك، قد يجد الجانب التركي أسواقا أخرى لتصريف المنتجات، وفق حديث الناظر لموقع "الحرة".
ويؤكد على "التأثير سيكون بسيطا جدا على الجانب التركي، وقد يظهر فقط على صعيد انخفاض الصادرات بالأرقام، إذا ما تم إيجاد أسواق جديدة".
وبالنظر إلى مسار حجم التجارة على مر السنين بين تركيا وإسرائيل، فقد كانت هناك زيادة بنحو 6 أضعاف من عام 2002 إلى عام 2022، كما تشير الباحثة الاقتصادية التركية، بورجو كوسيم.
وتشرح الباحثة بناء على الأرقام أن "تركيا تحتل المركز الخامس في واردات إسرائيل بحصة 6.2 بالمئة، بعد الصين والولايات المتحدة وألمانيا وسويسرا على التوالي".
ويلاحظ في المقابل أنها تتمتع بمعدل كبير في الصادرات، حيث تحتل المرتبة السابعة بحصة قدرها 3.6 في المائة، بعد الولايات المتحدة الأميركية والصين والهند وإنجلترا وإيرلندا وهولندا.
"بين الحكومة والتجار"ويستبعد المحلل الاقتصادي التركي، يوسف كاتب أوغلو أن تتأثر تركيا على نحو كبير في حال ألغت إسرائيل بالفعل اتفاقية التجارة الحرة.
ويربط السبب بفكرة أن "تركيا هي من فرضت العقوبات على إسرائيل أولا، وأغلقت الموانئ أمام أي منتجات تذهب وتأتي ومن وإلى إسرائيل".
كاتب أوغلو يعتبر أن إعلان وزير المالية الإسرائيلي بمثابة "حجة الخاسر"، ويقول لموقع "الحرة" إن "عدم إدخال المنتجات التركية إلى إسرائيل أو فرض ضرائب مئة بالمئة عليها سيؤدي إلى رفع الأسعار بشكل جنوني فيها".
وإذا ما أرادت إسرائيل الاتجاه لبدائل أخرى "ستكون بأسعار مرتفعة جدا"، وفق حديث المحلل التركي، متوقعا من جانب آخر أن تلجأ بلاده إلى "بدائل كثيرة يتيحها الموقع الجيو استراتيجي الذي تحظى به في خريطة العالم".
وعادة ما تنص اتفاقات التجارة الحرة على بنود واضحة بشأن نزاعات الأطراف، والمطالبة بالتحكيم الدولي بمقتضاها، والتي قد تُنظر أمام المركز الدولي لتسوية المنازعات الاستشارية، التابع لمجموعة البنك الدولي، والمعني بالنزاعات بين الدول بموجب معاهدات الاستثمار واتفاقيات التجارة الحرة. وفي وقت سابق من مايو الحالي نقلت رويترز عن أربعة مصادر في قطاع التصدير بتركيا، أن "التحرك التركي الأخير (بوقف التجارة مع إسرائيل) باغتهم وترك من لديهم طلبيات مؤكدة يبحثون عن سبل لإرسال بضائعهم إلى إسرائيل عبر دولة ثالثة".
وقال مدير شركة تصدير للشوكولاتة والحلويات حسب رويترز إن لدى شركته منتجات مصنعة خصيصا للسوق الإسرائيلية إذ أن تغليفها بالكامل كتب عليه باللغة العبرية.
وتابع قائلا "إنها خسارة مادية كبيرة لنا. هناك شركات في إسرائيل لنا عندها مستحقات وندين لها بأموال. ماذا سيحدث لتلك المستحقات مع وقف التجارة؟".
بدوره قال مصطفى غولتيبي، رئيس جمعية "المصدرين الأتراك"، في الثالث من شهر مايو، إن "هناك شركات تصنع ما بين 70 إلى 80 بالمئة من صادراتها إلى إسرائيل؛ وإذا استمر حظر التصدير لفترة طويلة، فستكون في مشكلة كبيرة". "يجب على الدولة حمايتهم وتغطية خسائرهم" على حد تعبير غولتيبي.
وأضاف في تصريحات نقلتها صحيفة "سوزكو" المعارضة قبل 14 يوما: "ليس من السهل تغطية خسارة 5-6 مليارات دولار قد تحدث بسبب توقف الصادرات إلى إسرائيل".
وتابع: "إذا لم يتم حل المشكلة التجارية (مع إسرائيل) في غضون شهر أو شهرين، فسيتعين علينا خفض هدف التصدير في نهاية العام من 267 مليار دولار إلى 260 مليار دولار".
المصدر: الحرة
كلمات دلالية: وزیر المالیة الإسرائیلی اتفاقیة التجارة الحرة بین ترکیا وإسرائیل إلى إسرائیل مع إسرائیل فی المقابل من ترکیا
إقرأ أيضاً:
ماذا حدث في المفاوضات؟ ولماذا انقلبت “إسرائيل”؟
#سواليف
في ذروة الإشاعات والبيئة السلبية التي صنعها المبعوث الأميركي ستيف #ويتكوف، والرئيس #ترامب الذي اتّهم حركة #حماس بأنها لا تريد التوصّل لاتفاق لوقف إطلاق النار في غزة، وهدّد بالقضاء عليها، كشف بيان لوزارة الخارجية القطرية 25 يوليو/ تموز- وبلسان قطري مصري مشترك- أن المفاوضات شهدت “تقدّمًا”، مؤكّدًا أن “التسريبات الإعلامية” لا تعكس واقع #المفاوضات، وهي تهدف للتأثير عليها وتقويضها، وأن مغادرة الوفود للتشاور قد يعقبه استئناف للمفاوضات في وقت قريب.
معلومات مهمّة
ظهر #بشارة_بحبح- وهو رجل أعمال أميركي من أصل فلسطيني، عمل مع ستيف ويتكوف في تقريب وجهات النظر بين الأطراف- في مقابلة إعلامية 25 يوليو/ تموز، ليكشف ما سمعه من الوسيطين: القطري والمصري، قائلًا نقلًا عنهما:
مقالات ذات صلة“رد حماس كان إيجابيًا، ويمكن البناء عليه، للتوصّل لاتفاق في وقت قريب”. “رد حماس لم يكن متصلبًا، بمعنى أنها كانت مستعدّة للأخذ والعطاء في هذا الرد”.
“عندما أعطوا رد حماس للإسرائيليين، قالوا لهم (أي قال الإسرائيليون للقطريين والمصريين)؛ يمكن التعامل مع رد حماس بحذر وإيجابية”.
ويضيف بحبح؛ “أن حماس قالت إن موضوع #الأسرى لن يكون عثرة أمام الاتفاق، فالخرائط أهم بكثير. حماس لا تريد تواجدًا إسرائيليًا داخل الأماكن السكنية في غزة”.
وفي هذا التوضيح من بحبح، ردٌ أيضًا على مصادر إسرائيلية تحدّثت عن أن سبب تعثّر المفاوضات هو شروط حماس، وتعنّتها في معايير إطلاق سراح الأسرى، وهو ما نفته حماس بتأكيدها أن ملف الأسرى لم ولن يتم مناقشته قبل الانتهاء من الاتفاق على محدّدات الاتفاق الإطاري المتعلقة بوقف الحرب، والانسحاب، والمساعدات أولًا.
إضافة للمعلومات التي تحدّث عنها بحبح، أصدرت حماس بيانًا توضيحيًا بالخصوص قالت فيه:
“كانت الأطراف الوسيطة، وخصوصًا قطر ومصر تعبّر عن ارتياحها وتقديرها لموقفنا الجاد والبنّاء”.
“حرصنا على تقليل عمق المناطق العازلة التي يبقى فيها الاحتلال خلال الـ 60 يومًا، وتجنّب المناطق السكنية الكثيفة، لضمان عودة معظم أهلنا إلى أماكنهم”.
هذه المعلومات من بحبح وحماس، تتقاطع مع بيان وزارة الخارجية القطرية لتؤكّد أن المفاوضات كانت تسير بشكل إيجابي، وأن رد حماس كان عاملًا محفّزًا للوصول لاتفاق قريب، وأن الموقف الإسرائيلي الأميركي ليس له ما يبرره موضوعيًا.
هنا لا بد من الإشارة أيضًا إلى أن بيان مكتب رئيس وزراء الاحتلال نتنياهو تعليقًا على سحب وفده من الدوحة، برّره في حينه أنه للتشاور لاتخاذ قرار، في وقت أثنى فيه على الدور القطري والمصري في هذا السياق، ولم يكن يحمل إشارة سلبية.
أسباب الانقلاب
يلاحظ ابتداء أن الموقف الأميركي على لسان الرئيس ترامب ومبعوثه ويتكوف، كان أكثر تطرفًا وسلبية ولا ينسجم مع دور واشنطن “الوسيط”، وإن كانت منحازة لإسرائيل كما هو معلوم، ما يؤكّد تكرارًا أن الولايات المتحدة تقف إلى جانب إسرائيل ونتنياهو على كافة الأوجه والاحتمالات، وأن أي تباين ظاهر بينهما لا يعدو كونه تبادلًا للأدوار، أو اختلافًا في التكتيكات، وليس الأهداف الإستراتيجية.
التناقض في السردية الأميركية الإسرائيلية السلبية من جهة، مع السردية القطرية المصرية الفلسطينية الإيجابية من جهة أخرى، يشير إلى عدة أمور منها:
أولًا: نجاح حركة حماس في إعادة رسم خرائط الانسحاب لجيش الاحتلال الإسرائيلي (تموضع مؤقّت داخل قطاع غزة)، بتوافق فلسطيني وقبول مصري وقطري كوسطاء، وبدعم من بعض دول الإقليم، ما يحسب للحركة ولحسن إدارتها المفاوضات. ثانيًا: الخرائط التي قدّمتها حماس والتي حازت قبول الوسطاء، وهي خرائط لا تسمح باستمرار النزوح لمئات آلاف المدنيين، ولا تسمح للاحتلال باقتطاع مناطق واسعة لإقامة معسكرات اعتقال ضخمة تسمّى “مدنًا إنسانية” للتهجير، كانت سببًا كافيًا لاستفزاز الإسرائيليين الذين يريدون فرض رؤيتهم وخرائطهم بالقوّة. ثالثًا: الموقف الإسرائيلي السلبي المدعوم أميركيًا، يمكن أن يحمل في حد ذاته مناورة تفاوضية، لشراء الوقت وممارسة أقسى درجات الضغط على حماس عبر القصف والتجويع الذي بلغ حدًا كارثيًا، لتَقْبَل حماس بالشروط الإسرائيلية، التي تعني وفقًا لخرائط الانسحاب الإسرائيلية، احتفاظ إسرائيل بمناطق سكنية متعدّدة ومساحات واسعة، تُفضي لاستمرار نزوح مئات آلاف الفلسطينيين داخل قطاع غزة (700 ألف فلسطيني).ومن ثم إنشاء معسكرات اعتقال لهم ولغيرهم، تحت مسمى “مدن إنسانية” في مدينة رفح جنوب القطاع على الحدود المصرية، للتهجير التدريجي، كما جاء على لسان وزير الحرب يسرائيل كاتس، وبدعم من الحكومة الإسرائيلية.
رابعًا: إذا لم تُفلح المناورة والضغوط الإسرائيلية، ولم تنجح إسرائيل في رسم اتفاق، بقبول فلسطيني يسمح لها بتهجيرهم تدريجيًا عبر سيطرتها على مساحات واسعة من القطاع والتحكّم في المساعدات، فهذا سيضع إسرائيل أمام احتمالين: القبول باتفاق وقف إطلاق نار، وفقًا لخرائط لا تسمح باستدامة نزوح الفلسطينيين داخل القطاع أو تهجيرهم خارجه، مع دخول المساعدات بإشراف الأمم المتحدة، ما يعدّ مقدّمة لانتهاء العدوان على غزة.استمرار تعنّت إسرائيل وتمسّكها بشروطها وبخرائطها لإعادة انتشار جيشها في مناطق واسعة من القطاع، بهدف تهجير الفلسطينيين، سيعقّد المشهد إنسانيًا وميدانيًا، ويُفضي لتوقّف المفاوضات، ويُبقي المشهد الحالي معلّقًا باستمرار الحرب والكارثة الإنسانية في غزة.
العامل المشترك أو الخيط الرفيع الذي يربط بين مخططات إسرائيل العسكرية في غزة، وحراكها التفاوضي في الدوحة طوال عامين ماضيين؛ هو محاولة كسر إرادة الفلسطينيين وهزيمتهم نفسيًا لقبولهم بسيناريو التهجير عبر المفاوضات، أو بالقوة العسكرية المباشرة.
فشل إسرائيل في تحقيق ذلك، يفسّر سبب انقلابها وبدعم أميركي على بيئة المفاوضات الإيجابية التي تحدّث عنها بيان وزارة الخارجية القطرية، وما تحدّث عنه بشارة بحبح المقرّب من ستيف ويتكوف، وما تحدّثت عنه أيضًا حركة حماس.
إسرائيل عودّتنا كلما أرادت أن تهرب من استحقاقات العملية التفاوضية، قامت بحملة إعلامية ضخمة وبدعم أميركي مباشر، بتحميل حركة حماس مسؤولية الفشل أو عدم نجاح المفاوضات، وبضخ معلومات كاذبة ومشوّهة على لسان مصادر مطّلعة وعلى لسان مسؤولين لا يتورّعون عن الكذب.
عقدة “إسرائيل”
اعتادت إسرائيل أن تفاوض لتُملي شروطها وتصوراتها بالقوّة وبدعم أميركي لا يصمد أحدٌ على الوقوف أمامه.
لكنها في هذه المرة، تواجه مفاوِضًا يرفض الاستسلام لشروطها المجحفة أو الركوع لسيف قوّتها العاتية، فكيف ذلك وهذا المفاوِض هو حركة حماس وفصائل مقاومة فلسطينية محاصرة ومحدودة القوّة المادية؟
كيف يحدث هذا والفلسطيني يتعرّض لإبادة وتطهير عرقي قتلًا وتجويعًا وتعطيشًا، وما زال يصر على البقاء ويرفض الاستسلام والتهجير؟
هذا المشهد المعقّد والصعب يزيد في حيرة الإسرائيليين والأميركيين، ويضعهم في مأزق أمام محدودية الخيارات، لا سيّما أن المقاربة العسكرية فشلت منذ نحو عامين في تحقيق الأهداف، فإسرائيل لم تُبقِ وسيلة أو خطة شيطانية إلا واستخدمتها.
العقل الإسرائيلي المتغطرس والمتبجّح لا يسعه الاعتراف بالهزيمة أمام إرادة الشعب الفلسطيني الأعزل، وهو يرى في ذلك استمرارًا لهزيمته المدوّية في معركة طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، التي صفعت وجه الردع الإسرائيلي، وضربته سهمًا في قلبه.
نتنياهو يبدو في موقفٍ ظاهره الظَفَر وباطنه فيه الخيبة، فهو لم يستطع تحقيق أهدافه السياسية بالقوّة العسكرية؛ فلا هو قضى على حركة حماس، ولا استطاع أن يكسر إرادة الفلسطينيين، أو أن يعيد الأسرى بالقوّة العسكرية، والجيش الإسرائيلي منهك ومتعب وقيادته تؤكّد عدم قدرتها على تحقيق الأهداف.
الأسوأ لدى نتنياهو، إدراكه أن إطالة أمد المعركة في غزة لا تضمن له الانتصار قُبيل الانتخابات البرلمانية الإسرائيلية المقبلة في العام القادم، وهو الذي يعوّل عليها للعودة مجددًا لحكم إسرائيل، وإذا لم يستطع الحسم سياسيًا عبر المفاوضات فقد يفقد الزخم الشعبي الذي حازه بعد الحرب على إيران، فغزة ستبقى ثَقبًا نازفًا في الذاكرة الإسرائيلية ما سينعكس سلبًا على حظوظه الانتخابية.
استمرار الوضع الحالي، لن يتوقّف في تداعياته على مصير نتنياهو والخريطة السياسية الإسرائيلية الداخلية فقط، وإنما سينسحب سلبًا على صورة إسرائيل خارجيًا وبشكل عنيف، فإسرائيل خسرت سردية “الضحية”، وتحوّلت في نظر العالم إلى كيان مارق متوحّش ينهش قيم الإنسانية، كما يأكل أجساد الفلسطينيين وأطفالهم في غزة.
الانهيار يبدأ من فقدان الشرعية والصورة، وهذا ما بدأت تعاني منه إسرائيل التي تقودها مجموعة متطرفين من اليمين، فاشلين سياسيًا وغير قادرين على تحقيق أوهامهم اللاهوتية، حيث الشعب الفلسطيني يتمسّك بالبقاء والحياة رغم الكارثة التي صنعها الاحتلال في غزة، ولسان حالهم يقول؛ رغم القتل والتجويع لا نكبة بعد النكبة.