في كل عصر من العصور كانت المجتمعات عرضة لرياح التغيير والشبهات، خاصة أن المجتمعات عادة ومع الانفتاحات المعرفية والثقافية التي تحدث من خلال الترجمات تكون عرضة لمفاهيم وثقافات ومعارف وافدة، قد تتلاقى مع قيمها وأسسها المعرفية، قد تتقاطع وتختلف معها.
وكانت عادة الإشكالية تكمن في آلية ومنهج التعاطي مع هذه المعارف والمفاهيم والمصطلحات الوافدة على تلك المجتمعات، فضلا عن موقع هذه المجتمعات في التاريخ وفي حاضرها، وما هو دورها في صناعة هذا الحاضر ومستقبلها، أي ما صنعته من قوة وحضور يدمج بين القوة والمعرفة يؤثر في حاضرها، ويجعل لها موقعا مؤثرا في صناعة الاستراتيجيات المرحلية والمستقبلية، أو أنها كمجتمعات انحدرت حضاريا، وانكمشت معرفيا فانكمشت بذلك قوتها التأثيرية، وخسرت نقاط قوتها فأصبحت تابعة متأثرة منفعلة لا فاعلة.
وهنا لست بصدد الخوض المعرفي في مكامن القوة والضعف التي تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على هوية المجتمعات المعرفية ومدى فاعليتها وقوتها في هذا الصدد. وما يهمني هو انعدام السياق في كيفية التعامل مع المعارف والمصطلحات والمفاهيم الوافدة على مجتمعاتنا، والتي أحدثت فوضى في البنية الفكرية والمعرفية لدى الجيل الشاب، وانزياحا في كثير من المعتقدات والمسلّمات التي كانت تطرح في كثير من الأحيان بطريقة غير علمية ومنهجية، حيث كان أغلبها مسلّمات الآباء وتوارثها الأبناء دون بذل جهد معرفي ونقد وتقييم، فأحدثت ثغرات وفجوات معرفية كانت عرضة لرياح وموجات التشكيك المتهافتة أصلا في حال كانت البنية المعرفية مبنية على أسس برهانية قويمة.
لكي نوظف المقدمة في أحداثنا المرحلية، وراهننا السياسي الذي تقع غزة في قلبه وعلى رأس أولوياته، فإن أهم ما يمكن أن يؤرق الباحث الحاذق هو كيفية التأسيس للمرحلة القادمة وفق معطيات المرحلة الراهنة، ومراكمة نقاط القوة حتى لا تتحول إلى نقاط ضعف لا تحقق مرامات صانعيها، والمضحين من أجلها بأغلى الأثمان
ولكي نوظف المقدمة في أحداثنا المرحلية، وراهننا السياسي الذي تقع غزة في قلبه وعلى رأس أولوياته، فإن أهم ما يمكن أن يؤرق الباحث الحاذق هو كيفية التأسيس للمرحلة القادمة وفق معطيات المرحلة الراهنة، ومراكمة نقاط القوة حتى لا تتحول إلى نقاط ضعف لا تحقق مرامات صانعيها، والمضحين من أجلها بأغلى الأثمان، وأعني هنا النقاط التي حققتها المقاومة في كل الجبهات وخاصة في غزة، والتي لم تكن لولا حاضنة شعبية في غزة كان صمودها نتيجة المزاوجة بين المعرفة والتجربة والخبرة في العدو الذي تواجهه، أي هي مزاوجة بين القوة والمعرفة.
ورغم دموية المشهد في غزة، إلا أن حقيقته التي يمكن أن ننتزعها بعد قرابة سبعة أشهر ونصف من الحرب على غزة، هي أن هذه المزاوجة بين القوة والمعرفة (القوة العسكرية، والصمود الأسطوري لأهل غزة الذي لم يكن لولا رصيدهم المعرفي وتجربتهم المتراكمة في مواجهة العدو الصهيوني)، هي مزاوجة ضرورية ولازمة لتحقيق الانتصار المرحلي وحتى الاستراتيجي.
ولكن هل هذا هو واقع الشعوب العربية والإسلامية وكثير من النخب خارج غزة؟ ما هو هذا الواقع وكيف يؤثر على مسار التحرر الذي تقده المقاومة في الجبهات المتعددة، وشعب غزة في الداخل؟
النخب وأزمة الوعي والمقاومة:
سأركز هنا على اللحظة الراهنة، فكلامي ليس على إطلاقه وإنما في زمن كشف الكثير، فالزمان هو زمن غزة وحربها التي أماطت اللثام عن نقاط ضعف مهولة في البعد المعرفي، رغم نقاط القوة المهولة في البعد العسكري، حيث فقدنا التوازن بينهما، وهو ما يتطلب حالة نقد حقيقية ووقفة جادة لإعادة المزاوجة المتوازنة بين القوة العسكرية وقوة المعرفة.
فالعدو الصهيوني عدو ظاهر وواضح للجميع، لكن العدو الأخطر هو الجهل الذي يتصدر قائمته من يعتبرون أنفسهم من النخب، خاصة في مجال الاعلام والتحليلات السياسية والعسكرية، وحجم الخلط بينهما في الأدوار والوظائف.
أداة الجهل:
من أدوات العدو الصهيوني الخفية هي أداة الجهل: ففي الأداء وطرح الآراء الوازنة لا يمكن إخراج أي نضال عن سياقه التاريخي، ولا اجتزاء المقاومة عن الجهد المتراكم لقيادات دفعت حياتها ثمنا لما نراه اليوم، من تفوق لجبهات المقاومة في داخل فلسطين وخارجها.
أيضا لا يمكن وضع هذه الجبهات أيضا في إطار ميداني عملياتي ذو نسق واحد، بل هو تنسيق وتوزيع أدوار بين القيادات الميدانية العسكرية، وتلك السياسية التي تدير غرفة العمليات، ومن يدير الجبهة الإعلامية والتي جزء كبير منها حرب نفسية على العدو. فبعض النخب هم سكاكين في جسد المقاومة، وعقبات كؤود أمام وعي الناس، تحت عناوين ومسميات كبيرة، ولكن هم أصغر وعيا من عناوينهم ومسمياتهم، فوسائل التواصل صنعت طبولا وظواهر صوتية استعراضية كثيرة.
فليس كل من يدعم المعارك العادلة يعي أبعادها، وليس كل من شارك بها أدرك استراتيجياتها، وليس كل مؤيد لها يمتلك وعيا وازنا في قراءة الواقع، ورؤية الحقيقة، وفهم وقائعها. فلو يُترك تقييم الميدان وتنسيق الأدوار بين أطرافه لأهل الميدان، لما وقع خلاف وجدل.
الزمان هو زمن غزة وحربها التي أماطت اللثام عن نقاط ضعف مهولة في البعد المعرفي، رغم نقاط القوة المهولة في البعد العسكري، حيث فقدنا التوازن بينهما، وهو ما يتطلب حالة نقد حقيقية ووقفة جادة لإعادة المزاوجة المتوازنة بين القوة العسكرية وقوة المعرفة
البعض يعتقد أنه ينتصر لقضيته العادلة، ولكنه انتصار مغموس بالظلم، والجهل، فتحت شعار الانتصار يمارس ظلم الآخرين سواء أدرك ذلك أو كان به جاهلا.
والقضايا العادلة المُحِقّة لا تتحمل في خِضَم المعركة الجهلة، ولا المارقين، ولا المتسلقين، ولا أولئك الذين يتظاهرون بدعم القضية، لكنهم يدسّون سُمّهم النّافث في عسلها، لتنطلي الحقائق على الناس. إن قضية فلسطين من أجلى القضايا وضوحا في الحق، لكنها ابتليت عبر التاريخ بجهلة أضروا بها رغم اعتقادهم بأنهم نفعوها.
فلا يعني أيضا أنك تقدم الدم لأجل فلسطين، أن تستحق مكانة تخولك صناعة سرديّات سطحية تشتت الشمل، وتخدم الأعداء خاصة وطبول المعركة يُسْمعُ دَوِيُّها في كل مكان، وجثث الشهداء وأشلاؤهم تحت الأنقاض، مهما كانت شهاداتك الأكاديمية، فالوعي الاستراتيجي ووعي اللحظة لا يرتبط ارتباطا لازما بحرف الدال، ولا بعدد المتابعين، بل إنّ الإيمان الحقيقي بقضيتك العادلة من لوازم الوعي بها وبكل أبعادها، وهذا في المعركة لا يناله إلا ذو حظ عظيم، لأنه تلتبس في المعركة على كثيرين اللوابس.
التعصب وعبادة الذات:
إن الأداة الأخرى هي أداة التعصب وعبادة الذات عند كثير من النخب، وهي بلاء فلسطين اليوم، فالصهاينة عدو قطعي لا لبس فيه، لكن المشكلة الحقيقية المعيقة هي في الأدوات الصهيونية، وأقذر أدواتها الجهل وعبادة الذات حيث الجهلة الذين يجهلون ولا يعلمون أنهم يجهلون، بل يصرون على أنهم يعلمون.
فلو سكت الجاهل لما وقع خلاف، فليس من الواجب الكلام دوما، ولكن من الواجب أن اختار وأدقق وأركز بماذا سأتكلم، وكيف يكون كلامي نافعا لقضيتي العادلة في حال وجب الكلام.
فعبادة الذات التي باتت اليوم تتجلى في مواقع التواصل الاجتماعي، التي صنعت من الأصفار أرقاما، هي إحدى بلاءات القضايا العادلة، إضافة إلى التعصب القاتل للحقيقة، فأحد أوجه الجاهلية المنهي العودة إليها هي الحميّة العصبيّة الجاهليّة.
فمنذ بداية حرب غزة وقبلها بقليل، وأنا أتابع نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي بكافة مشاربهم ومستوياتهم الثقافية والعلمية، ولاحظت التالي:
1- ندرة الطرح العلمي القائم على منهج الدليل.
2- ندرة الإنصاف في البحث، والنتائج، والمعطيات، والآراء.
3- كثرة التحيزات التأكيدية الخاضعة للمزاج الشخصي، الذي غالبا ما تتحكم به العصبيات بكافة أشكالها.
4- كثرة الاستمزاجات في التحليلات، والتعبير عن الآراء دون امتلاك صاحبها غالبا معلومات موثقة، بل غالبا تكهنات أو ما يريده الجمهور والسلطة.
5- مزج العاطفة بالسياسة، وخلق فضاء وهمي بعيدا عن القراءة السياسية الواقعية.
6- كثير من النخب نتيجة حجم هذا الوهن المعرفي المنتشر، تحولوا من جبهة صناعة وعي معرفي منصف، وقراءة واقعية دون تحيزات، إلى جبهة الدفاع عن هذه الجبهة أو تلك، مع أن الأصل هو طرح الحقائق المستقاة من بنك معلومات موثوق، وبطريقة برهانية، بما يدحض الترهات والأوهام بشكل سلس.
7- الأهم مما سبق، غياب المحاولات النقدية للمعرفة النقلية، إذ جل معارفنا نقلية، وهو ما يتطلب دقة في توثيق المنقول من معلومات سواء من مواقع إخبارية، أو تحليلات سياسية، ودقة في كتابة الحقيقة المعرفية بطريقة تصل إلى ذهن القارئ والمستمع، كما يريدها الناقل من المصدر.
8- غياب حس المسؤولية الشرعية تجاه الكلمة، وتأثيرها الممتد في مواقع التواصل الاجتماعي.
9- غياب فقه الأولويات، وهو ما ينعكس على ترتيب قائمة الأعداء والأصدقاء في صراعنا لأجل التحرير، هذا الترتيب الذي يجب أن يقوم على أساس الفقه السياسي، وفقه التزاحم وفقه المصالح والمفاسد، الذي تتشابك فيه المصالح تارة وتتقاطع تارة أخرى، وهو ما يتطلب معرفة ودراية وعمقا قد لا يملكها أغلب نشطاء السوشيال ميديا.
10- الانجرار في الحوارات للآراء السطحية الواهنة، واستهلاك الطاقة في جدليات عصبوية لا تخلو من اختراقات وحدة 8200 الصهيونية، الخاصة بالإعلام والميديا.
فالعقلية العربية بشكل عام وفي نخبها بشكل خاص غالبا تم حصرها ثقافيا بين اثنية غبية "إما"، "أو"، لأن أصل التربية في العالم العربي كان وما زال غالبا قائما على التلقين وقبول الأفكار المُلَقّنة بشكل غير منطقي، هذا فضلا عن عدم وجود سقف حريات يعبر فيها المواطن المنطقي عن رأيه، بل هو أصلا غير شريك في القرار السياسي. فهو غير ممتهن ولا يملك خبرة في التفريق والتمييز بين الدولة والحزب والتيار، بين الخطاب العسكري وذلك الدبلوماسي. فهناك خيارات خارج "إما"، "أو"، لكنه حبيس إثنيّات كانت أحد الأسباب المهمة في التخلف الحضاري والثقافي.
في خيارات المقاومة ضد الاحتلال والاستبداد والكولونيالية لا تنحصر الخيارات بين "إما"، "أو"، فهناك تعدد للأدوار والوظائف وتكامل بينها. وهو ما يجب أن تشتغل عليه النخب اليوم، للخروج من هذه الدائرة المقفلة، التي كانت سببا في إقفال العقول وصدها عن الحوار خارج دوائر عصبوية قاتلة لكل حقيقة.
الحاضنة الشعبية والمقاومة:
أهم ما في معركة طوفان الأقصى أنها أعادت خيار المقاومة إلى الواجهة الشعبية، كخيار حتمي في وجه العدو الصهيوني، ووضحت أكثر حجم همجية هذا العدو ونازيته، وذهبت مليارات الدولارات التي أنفقتها أمريكا ومن في تبعيتها على معارك كي الوعي وربط المقاومة بالإرهاب وتطويع وعي الشعوب للتطبيع وربطه بالرفاه والاستقرار.
فقد قامت جبهات المقاومة الداعمة لغزة بعمل تجريبي قبل عملية التحرير الكبرى، كشفت من خلالها هذه الجبهات نقاط الضعف والقوة فيها، وفهمت حجم قوة العدو، واللغة التي يتكلم بها عسكريا، وغالبا تعتمد على التدمير واستهداف المدنيين والقتال من وراء جُدر، ومحورية التكنولوجيا في حربه، وضعف القدرات العقلية لدى جنوده، وأعني بها الاعتماد على الآلة والتكنولوجيا العسكرية، أكثر من اعتماده على التكتيكات العقلية، واعتماد جنوده على هذه التجهيزات أكثر من اعتمادهم على طاقاتهم البشرية وقوتهم القتالية المباشرة.
سيفيد هذا وأكثر من هذا؛ المقاومة في المعارك التمهيدية المقبلة مع هذا العدو، قبل المعركة الحاسمة بالضربة القاضية.
المقاومة في عدة جبهات نجحت إلى حد كبير في التجهيز العسكري والميداني، وعلى مستوى التدريب والتنسيق وتوزيع الأدوار، إلا أن هناك ثغرة عظيمة تفسد أي إنجاز للمقاومة، فرغم تقدم المقاومة القوي في جبهات القتال من غزة الى لبنان إلى العراق إلى اليمن، والتفوق العسكري على الجندي الصهيوني والأمريكي وباقي المرتزقة التي تقاتل في غزة، إلا أن هذه الإنجازات أمامها عائق كبير وثغرة، وهي الخاصرة الرخوة التي يستغلها العدو وينجح عادة باستغلالها، وخاصة مع وجود مواقع التواصل الاجتماعي، وهي مشكلة حواضن المقاومة في هذه الجبهات، أي البيئات الشعبية الحاضنة للمقاومة في مختلف الجبهات، والتي يغلب عليها للأسف الخطابات الشعبوية الشعاراتية العاطفية المُفَرّغة غالبا من التأسيسات المعرفية، والتفكير العقلاني الاستراتيجي، والانخراط في عز المعارك العسكرية مع العدو، بمعارك فتنة ومعارك شق للصفوف وإضعاف لمنجزات المقاومة عسكريا.
تُخاض هذه المعارك غالبا في وسائل التواصل الاجتماعي، مع اختراقات كبيرة انكشفت للجميع من قبل وحدة 8200 ومراكز تابعة لها في المنطقة، تلعب على تأجيج الصراعات والفتن في هذه الحواضن، مع وجود قابلية عالية تعكس شبه انعدام للوعي، وتحيزات وعصبيات بعيدة عن أي شعارات دينية أو وطنية، وهو ما يتطلب فعلا وقفة وفهم أين مكامن التقصير، وهل تم التركيز على التجهيز العسكري على حساب الجهوزية في الميدان المعرفي، أو لم يكن في خطة وأولوية المقاومة مفهوم المقاومة المعرفية؟
وتُخاض هذه المعارك غالبا في وسائل التواصل الاجتماعي، مع اختراقات كبيرة انكشفت للجميع من قبل وحدة 8200 ومراكز تابعة لها في المنطقة، تلعب على تأجيج الصراعات والفتن في هذه الحواضن، مع وجود قابلية عالية تعكس شبه انعدام للوعي، وتحيزات وعصبيات بعيدة عن أي شعارات دينية أو وطنية، وهو ما يتطلب فعلا وقفة وفهم أين مكامن التقصير، وهل تم التركيز على التجهيز العسكري على حساب الجهوزية في الميدان المعرفي، أو لم يكن في خطة وأولوية المقاومة مفهوم المقاومة المعرفية؟ فرغم أن جبهات المقاومة متعددة المشارب والاتجاهات، إلا أن جمهورها غالبا تضيق به الآراء المختلفة عن يقينياته، وكل جبهة حاضنة متمترسة خلف وهم أنها الحق المطلق، وأن الآخر باطل محض، وعليه من الله كل اللعنات.
هل بهؤلاء سنواجه فعليا العدو؟ أين يكمن التقصير؟ وهل واكب التجهيز العسكري للمقاومين تحصينا معرفيا للحواضن؟
وقفة تحتاج تأملا ومراجعة، فحرب غزة كشفت الثغرات التي يجب على جبهات المقاومة ترميمها، إلى حين أوان الحروب المفصلية مع هذا الكيان المجرم، الذي لا يفرق بيننا في الكراهية ورغبته المتوحشة في القتل والانتقام.
فكلنا عنده في سلة واحدة، لكن قاتل الله الجهل والجهلة، فالجهل عدو من أعداء الإنسان، ولا تقل أهمية مواجهته عن مواجهة العدو الخارجي.
ما نراه من أغلب الشعوب العربية من سوء تقدير وسوء قراءة سياسية، بل غالبا فشل في القراءات السياسية الاستراتيجية والواقعية، من أسبابه أنها شعوب لم تمارس السياسة ولم تكن يوما شريكة في القرار السياسي في أوطانها نتيجة القمع والاستبداد، وحكمت بعقلية الرأي الأحادي ذو البعد الواحد. لذلك نجدها هزيلة وهشة سياسيا، وسهلة الاختراق الاستخباراتي، بسبب حجم السذاجة، وقلة الخبرة، وحجم اختراق مفهوم الاستبداد لوعيها، وما يمارسه الاستبداد عليها تمارسه هي خارجيا مع أقل اختلاف، لأنها لم تعتد الاختلاف، واعتادت القمع والرؤى الأحادية.
هذه الأسئلة الإجابة عليها ليست وظيفة المقاومة العسكرية، بل هي وظيفة النخب الحقيقية، الذي يريدون النزول إلى ميدان المواجهة الأخرى، وهي المواجهة المعرفية لتحقيق التوازن معرفيا مع جبهة العسكر، وترصين النتائج لتكون في صالح معركة تحرير الشعوب من الجهل، كخطوة أولوية لازمة لتحريرها من الاستبداد، ووظيفة هذه النخب المحورية تحرير العقول لتعي منطق الأشياء، ومنطق العقل في النقل، الذي نبني عليه أغلب معارفنا.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه غزة المقاومة المعرفة الحاضنة الشعبية الاستبداد غزة المقاومة الاستبداد المعرفة الحاضنة الشعبية مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة مواقع التواصل الاجتماعی العدو الصهیونی جبهات المقاومة المقاومة فی نقاط القوة بین القوة نقاط ضعف من النخب فی البعد کثیر من إلا أن فی غزة
إقرأ أيضاً:
«Superman: Legacy».. حين تصبح القوة عبئاً
علي عبد الرحمن
منذ عرضه في صالات السينما، بدا فيلم «Superman: Legacy»، أكثر من مجرد إعادة إطلاق لواحدة من أشهر أيقونات الثقافة الشعبية، لقد جاء محمولاً على وعيٍ سردي جديد، يبتعد عن الاستعراض البصري، ليغوص في البنية النفسية والوجودية لشخصية البطل الخارق، ولا يسعى مخرجه جيمس غَن إلى تمجيد القوة، بل إلى تفكيكها، ولا يُعيد إحياء المجد الأسطوري لسوبرمان، بل يعرّيه من زيف الصورة، ويضعه وجهاً لوجه مع هشاشته الداخلية.
إنه ليس بطلاً تقليدياً يحلّق في السماء بحثاً عن خطر ليقضي عليه، بل شخصية قلقة، يسكنها الشك أكثر مما تحركها القدرة، ويقف على تخوم الهويّة وهو يسأل نفسه: من أكون؟، وما الذي يُنتظر مني؟، بهذا المعنى، يتحول الفيلم إلى سردية تأملية عميقة، تنظر إلى البطل لا كحلّ، بل كعلامة استفهام في عالمٍ يزداد تعقيداً.
جاء اختيار عنوان الفيلم بدقّة واعية، لا بوصفه تسمية شكلية، بل كبوابة دلالية تُفضي إلى عمق الحكاية فـ«Legacy»، لا يُحيل ببساطة إلى «الإرث» في معناه الوراثي أو التاريخي، بل إلى المأزق الثقيل المتضمَّن فيه، وما الذي يعنيه أن يرث الإنسان لا مجرد قوة هائلة، بل رمزاً متضخماً، وتاريخاً مكتظاً بالتوقعات، وصورة مسبقة عن البطولة لم يصنعها بنفسه.
«كلارك كينت»، أو من سيُعرف لاحقًا بسوبرمان، لا يدخل الحكاية كبطل مُكتمل، بل كوريث لحكاية لم يخترها، ولدور كُتب له مسبقاً قبل أن يعي رغبته الخاصة، وكأن العالم قد قرر من يكون، من دون أن يسأله عمّا يريد أن يكونه.
الهاجس الأخلاقي
في الفيلم، لا يقوم البطل على أكتاف القوة، بل على ثقل السؤال الذي يطارده في كل حركة: هل يجب أن أتدخل؟، المسألة لا تتعلق بالقدرة، بل بالواجب، لا بما يستطيع فعله، بل بما ينبغي عليه أن يمتنع عنه. هنا، تتحوّل البطولة من فعلٍ خارجي إلى أزمة داخلية، ومن ردّ فعل إلى مواجهة مع الضمير، في عالم تتداخل فيه المصالح، وتختلط فيه النيات بالنتائج، يصبح التدخل حتى حين يكون بدافع الخير فعلاً محفوفاً بالشك، ويقترب الفيلم من الفلسفة الوجودية في مقاربته فـ«كلارك» ليس بطلاً بمقاييس جاهزة، بل إنساناً حُرّاً تُلقى على عاتقه قرارات بلا خرائط، ويُترك وحيداً أمام احتمالات لا يمكن التنبؤ بعواقبها.
في أحد أكثر مشاهد الفيلم صمتاً، نراه يتأمل مدينة نجاها من الدمار، لكن تعابير وجوه سكانها لا تحتفل، بل تتساءل. وعندما تُواجهه بطلة العمل «لويس لاين» تؤدي دورها الأميركية راشيل بروسنان بالسؤال: «أنقذت المدينة، لكن ماذا عن الفكرة؟»، يتكشّف التوتر الأخلاقي الحقيقي: هل تُقاس الأفعال بما تحققه من نتائج؟، أم بما تتركه من أثر رمزي؟، وهل يمكن للقوة، حتى لو كانت في جانب الخير، أن تُحدث توازناً من دون أن تخلق شرخاً أعمق؟.
صمت بين الجمل
عرف الجمهور المخرج جيمس غَن من خلال أفلام تمزج بين الفانتازيا والكوميديا والمفارقة البصرية، لكن «Superman: Legacy» يكشف عن جانب آخر من صوته الإخراجي، أكثر نضجاً وتأملاً. ولا يعتمد غَن، في هذا العمل على التفجيرات أو المعارك الضخمة، بل يستبدل الضجيج بالصمت، والحركة بالثقل الرمزي، والمباشرة بالتماهي البصري، ويقود الكاميرا لتراقب لا لتُلاحق، لتسكن في المشهد لا لتُحرّكه. اللقطات طويلة، مُحمّلة بالانتظار، تُركّز على ما لا يُقال، على الملامح قبل الحدث، وعلى الصمت بين الجمل.
الإضاءة أيضاً ليست حيادية، بل تشارك في بناء ازدواجية البطل، فالمَشاهد «الكريبتونية» تغمرها الإنارة الباردة، الحادة، المعدنية، في حين تتسم لحظاته الأرضية بضوء دافئ، متردد، يتسلل كما لو أنه يبحث عن معنى داخل العتمة، هكذا لا يصنع المخرج فيلمًا عن بطل، بل عن ما يعنيه أن تكون بطلًا في زمن ينهار فيه المفهوم من الداخل.
في آخر المطاف، لا يتعامل الفيلم مع «سوبرمان» كشخصية فردية فقط، بل كأيقونة ثقافية تحمل في داخلها أسئلة حضارية كبرى، والبطل هنا ليس شخصية فوقية، بل استعارة للذات المعاصرة التي تواجه قلق السلطة والمسؤولية والمعنى في آن، ونحن أمام شخصية لم تعد تمثل الحلّ، بل تُجسّد الحيرة، أمام عالم تتلاشى تتحوّل فيه الأسطورة إلى عبء رمزي.
معضلة العدالة
لم يعُد «سوبرمان» في هذا الفيلم تجسيداً مطلقاً للعدالة، بل حاملاً لتناقضاتها، لقد غادرت العدالة منطقة النقاء الأخلاقي، ودخلت حيز الجدل، حيث تتنازعها التأويلات والمعايير المتضاربة، هو الآن شخصية تتحرك بين قيم موطنه الأصلي «كريبتون»، التي تقوم على التفوّق والصرامة، وتقاليد أميركية مشحونة بالإرث السياسي، وسياقات أممية تتطلّب الحياد، وذاكرة عائلية إنسانية تربّى في ظلّها على اللطف والرحمة، ولم يعُد الصواب واضحاً، ولا يكون الشر مجرّد عدوّ خارجي، بل يصبح كل قرار مساحة اشتباك بين وعيه الشخصي وتوقّعات العالم من حوله.
لا يكتفي «Superman: Legacy» باستعراض القوة عبر مشاهد الحركة، رغم إتقانها وتصاعد إيقاعها، بل يؤسّس عمقه الحقيقي على التوتر النفسي، الذي يسكن الجسد الخارق، في أول تجسيد له لشخصية «سوبرمان»، يبتعد الممثل الأميركي ديفيد كورينسويت عن نمط الأداء البطولي المعتاد، ويختار بناء شخصية محكومة بثقلٍ داخلي، لا بالقوة الاستعراضية، ويتحرك جسده ببطء محسوب، خطاه مثقلة، ونظراته غائرة، كما لو أن القوة نفسها أصبحت عبئاً لا منحة.
مرآة البطل
لا تظهر شخصية «لويس لاين» وتلعب دورها في الفيلم الأميركية راشيل بروسنان، بوصفها تابعاً عاطفياً أو حضوراً هامشياً، كما جرت العادة في كثير من النسخ السابقة، بل تتقدّم كمرايا حادة للبطولة ذاتها، تؤدي الدور ببراعة هادئة، وهي ليست المرأة التي تنتظر منقذها، بل التي تطرح على المخلّص نفسه الأسئلة الصعبة، إنها صوت الواقع، وعين الصحافة، وضمير العالم، لا تجامل، ولا تتورّع عن الشك، ولا تخاف من مواجهة الهيبة.