في مختلف أنحاء العالم، تبدو الديمقراطيات هشة وفي موقف دفاعي. وتكثر المقارنات مع سبعينيات القرن العشرين وفترة ما بين الحربين العالميتين. في الولايات المتحدة، أشعل أداء دونالد ترامب القوي في استطلاعات الرأي الأخيرة شرارة موجة أخرى من الخوف من القومية الاستبدادية. من منظور كثيرين من أولئك الذين تابعوا عن كثب الانتخابات الرئاسية الأمريكية في عامي 2016 و2020، كان تقدمه في الولايات المتأرجحة الرئيسية مثيرا للقلق والانزعاج.
الواقع أن أسوأ استراتيجية ينتهجها الديمقراطيون في مختلف أنحاء العالم، والديمقراطيون في الولايات المتحدة، تتمثل في تقليد خصومهم. فهذه مباراة لا يمكنهم الفوز بها. ومع ذلك، هذا هو على وجه التحديد ما يفعله كثيرون منهم. لنتأمل هنا الحزمة الجديدة من التعريفات الجمركية التي فرضها الرئيس الأمريكي جو بايدن على الصين، والتي تمثل انقلابا أكثر تطرفا على السياسة التجارية الأمريكية التقليدية من أي شيء تبنّاه ترامب ذاته خلال رئاسته. في حين أَكَّـدَت العناوين الرئيسية على التعريفات الجمركية بنسبة 100% على المركبات الكهربائية الصينية، فإن القصة الحقيقية تتعلق بالبطاريات، والصلب، والألمنيوم، وأشباه الموصلات. وبرغم أن الجمهور لا يشتري هذه السلع بشكل مباشر، فإنها مدخلات في كثير من المنتجات والأجهزة المصنعة في الولايات المتحدة. المفترض أن إدارة بايدن تأمل ألا يشعر الأمريكيون بأي تأثير اقتصادي تقريبا، وأن يروا فقط أن الأمور ستصبح عصيبة مع الصين. نحن نعلم ما لن تفعله التعريفات الجمركية. فهي لن تخلق (أو «تعيد») وظائف وفيرة في الولايات المتحدة، لأن أمريكا إذا كان لها أن تصنع المركبات الكهربائية أو الألواح الشمسية على نطاق كبير، فإنها ستعتمد بالكامل تقريبا على مصانع آلية. ولن تعمل التعريفات الجمركية أيضا على تحسين العلاقات مع حلفاء الولايات المتحدة، من خلال تشجيع «دعم الأصدقاء» على سبيل المثال. بل من المرجح أن يخسر المنتجون الأوروبيون أسواق المنتجات الهندسية المباعة للصين، مع زيادة الإنتاج الصناعي المحلي الصيني. لن تعمل التعريفات الجمركية أيضا على التعجيل بإزالة الكربون. بل على العكس من ذلك، من خلال جعل التكنولوجيات الخضراء الأساسية أكثر تكلفة (وبالتالي تأخير استيعابها على نطاق واسع)، سيجعل بايدن العالم أكثر سخونة. علاوة على ذلك، كما يظهر تقرير حديث صادر عن البنك الأوروبي لإعادة البناء والتنمية، تظل المعادن والعناصر الأرضية النادرة (الجاليوم والجرمانيوم) اللازمة لتصنيع الأجزاء المكلفة من تكنولوجيا البطاريات تُـسـتَـجـلَـب في الأغلب الأعم من الصين. أخيرا، لن تعمل التعريفات الجمركية على تحسين سجل الصين في مجال حقوق الإنسان. بل لن تؤدي إلا إلى تشجيع أولئك الذين يعتقدون بالفعل أن الخطاب الأمريكي بشأن حقوق الإنسان نفاق محض ويمكن تجاهله بأمان.
لكن الرسوم الجمركية سيكون لها تأثير: فهي ستساعد بايدن على خسارة الانتخابات. وبصرف النظر عن مدى ارتفاع الرسوم التي تفرضها الإدارة الحالية، فسوف يكون ترامب قادرا دائما على الادعاء بأنه سيرفعها إلى مستوى أعلى. وسوف يظل بايدن يبدو وكأنه يستجيب فقط لتحدي ترامب - وبطريقة هَـرِمة فاترة.
علاوة على ذلك، أثبتت الرسوم الجمركية صحة الحجج التي يسوقها الرئيس الصيني شي جين بينج والرئيس الروسي فلاديمير بوتين للتدليل على أن النظام الدولي القديم مُـعَـطَّـل لأن أمريكا تتعامل باستخفاف ومراوغة مع القواعد. والأمر الأكثر أهمية (في سياق الانتخابات) هو أن الرسوم الجمركية ستؤدي إلى تفاقم مشكلة زيادة التكاليف التي يتحمّلها الأمريكيون العاديون. لقد جعلت حملة ترامب الانتخابية مسألة التضخم بالفعل واحدة من قضاياها الرئيسية. وفي مهرجاناته الانتخابية، يزعم ترامب (كاذبا بكل تأكيد) أنه لم يعد بإمكانه تناول لحم الخنزير المقدد على شطائره؛ لأن تكلفته باهظة. الواقع أن الحوار الدائر حول التضخم يُساء فهمه على نطاق واسع. ومثلها كمثل كل الحكومات الغربية، تستطيع إدارة بايدن أن تشير إلى أن التضخم انخفض بسرعة وأصبح في نطاق الهدف القديم المحدد عند مستوى 2%. لكن هذا لا يهم الناس العاديين. فهم يرون أن التكاليف ارتفعت بشكل حاد منذ جائحة كوفيد-19، لتنهي بذلك فترة طويلة من استقرار الأسعار. في حين قد يبلغ التضخم التراكمي منذ عام 2020 نحو 20%، فإن التصورات بشأنه أسوأ، بسبب ميل المستهلكين ووسائل الإعلام إلى التركيز على عدد قليل فقط من العناصر التضخمية الإضافية، مثل لحم خنزير ترامب المقدد. فقد أصبح السكن والغذاء أكثر تكلفة بدرجة كبيرة. فجالون الحليب الذي كان يكلف 3.25 دولار في بداية عام 2020 أصبح سعره أكثر من 4 دولارات بحلول عام 2022؛ وارتفع سعر اثنتي عشرة بيضة من 1.45 دولار عند بداية الجائحة إلى 4.82 دولار في يناير 2023، قبل أن ينخفض إلى 2.86 دولار. في الوقت ذاته، لا يفكر الناخبون في الملابس وغيرها من البنود التي ظلت أسعارها مستقرة نسبيا - أو حتى انخفضت، كما في حالة المركبات الكهربائية. لكنهم من المحتمل أن يلاحظوا زيادة في أسعار مجموعة واسعة من المنتجات الاستهلاكية نتيجة للتعريفات الجديدة. هنا، تقدم لنا سبعينيات القرن العشرين بعض الدروس. في ذلك الوقت، حاولت الولايات المتحدة استبعاد السيارات اليابانية وغيرها من السلع المصنّعة الأرخص والأكثر كفاءة. وكانت النتيجة مفيدة بشكل مؤقت فقط للمنتجين الأمريكيين. ففي الأمد المتوسط، خسروا الأسواق والمصداقية؛ وفي الأمد البعيد، كان عليهم التكيف متأخرين مع تقنيات جديدة. لقد كلفت سياسات الحماية شركات صناعة السيارات الأمريكية وقتا ثمينا في إجراء التغييرات، وفي نهاية المطاف دمرت الوظائف بدلا من خلقها. كما أدت إلى نفور المستهلكين الذين ساورهم القلق بشأن التضخم، مما ساهم في نهاية المطاف في هزيمة الرئيس جيمي كارتر في انتخابات عام 1980. في عام 2023، بذلت إدارة بايدن قصارى جهدها لتشرح للناس أنها لم تكن تنفصل عن الصين، بل كانت تعمل على «إزالة المخاطر» فحسب. لكنها الآن، في نوبة ذعر، تبنت سياسة عدوانية للانفصال الواعي. الواقع أن أي حكومة لن تلهم الناخبين فجأة لأنها قررت «الانفصال»، ولن تحقق أي تقدم حقيقي في مكافحة تغير المناخ من خلال تحويل التكاليف إلى آخرين. في عام 1944، لاحظ وزير الخزانة الأمريكي هنري مورجنثاو أن «الرخاء، مثله كمثل السلام، لا يتجزأ. ولا نملك ترف السماح بتناثره هنا أو هناك بين المحظوظين أو التمتع به على حساب آخرين». كانت هذه الرسالة صحيحة آنذاك، وهي صحيحة الآن. فالزعماء السياسيون يلهمون الثقة عندما يتمكنون من إثبات أن سياساتهم تعود بالنفع على الناس العاديين، وتخفض الأسعار، وتجعل المنتجات الأفضل متاحة. هذه هي الهيئة التي ينبغي للحكومات المقتدرة أن تبدو عليها، ومن الواضح أن كثيرا من الديمقراطيات حاليا لا تفي بالتزاماتها بتوفير المنافع العامة.
هارولد جيمس أستاذ التاريخ والشؤون الدولية في جامعة برينستون. وهو متخصص في تاريخ الاقتصاد الألماني والعولمة.
خدمة بروجيكت سنديكيت
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی الولایات المتحدة التعریفات الجمرکیة
إقرأ أيضاً:
كاتب أميركي: الولايات المتحدة لم تعد بلدا مستقرا
يرى الكاتب الأميركي ديفيد فرنش أن إدارة الرئيس دونالد ترامب تتعامل مع الاحتجاجات في مدينة لوس أنجلوس في ولاية كاليفورنيا برؤية قتالية كما لو أن الولايات المتحدة على شفا حرب، مؤكدا أن المؤشرات تتزايد يوميا على أن أميركا لم تعد بلدا مستقرا.
وكتب فرنش، في مقال رأي في صحيفة نيويورك تايمز الأميركية، أن "إدارة ترامب تتأهب للقتال في شوارع أميركا" في تعاملها مع أعمال العنف التي اندلعت في أوساط المهاجرين في لوس أنجلوس إثر احتجاجات على الاعتقالات التي قام بها موظفو إدارة الهجرة والجمارك ضد المهاجرين.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2واشنطن بوست تستطلع آراء ألف أميركي بشأن احتجاجات لوس أنجلوسlist 2 of 2صحيفة إسرائيلية: تحالف نتنياهو والحاخامات يحبط آمال الجيش بتجنيد الحريديمend of listولاحظ الكاتب أن مستوى أعمال العنف في لوس أنجلوس لا يزال حتى الآن محدودا، والأهم من ذلك أنه في مقدور مسؤولي ولاية كاليفورنا ومدينة لوس أنجلوس التعامل معه، لكن إدارة ترامب تميل للتعامل مع الوضع بأنه "تمرد" كما ورد على لسان ستيفن ميلر، أحد أقرب مستشاري الرئيس ترامب وأهم مهندس لسياسات الهجرة في إدارته.
"غزو"ومن جانبه، يرى جي دي فانس نائب الرئيس الأميركي أن ما يجري في لوس أنجلوس هو "غزو"، وكتب في تدوينة على منصة إكس "لدينا مواطنون أجانب ليس لديهم حق قانوني في الوجود في البلاد، يلوحون بأعلام أجنبية ويعتدون على سلطات إنفاذ القانون. يا ليت لدينا كلمة طيبة تُعبّر عن ذلك".
إعلانوفي المنحى نفسه، برر وزير الدفاع بيت هيغسيث، في تدوينة على منصة إكس، لجوء الإدارة الأميركية إلى نشر الحرس الوطني لدعم قوات إنفاذ القانون الفدرالية في لوس أنجلوس وحشد قوات مشاة البحرية للغرض نفسه.
ونشر الرئيس ترامب السبت الماضي تدوينة على موقع "تروث سوشيال"، قال فيها إنه "إذا لم يتمكن غافن نيوسكوم حاكم كاليفورنيا، وكارين باس رئيسة بلدية لوس أنجلوس، من القيام بوظائفهما، وهو ما يعلم الجميع أنهما لا يستطيعان القيام به، فإن الحكومة الفدرالية ستتدخل وتحل مشكلة أعمال الشغب والنهب بالطريقة اللازمة".
وفي اليوم الموالي، قال ترامب إنه أعطى توجيهات لوزيرة الأمن الداخلي كريستي نويم، ولوزير الدفاع بيت هيغسيث، والمدعية العامة بام بوندي، بالتنسيق مع جميع الوزارات والهيئات المعنية الأخرى، لاتخاذ جميع الإجراءات اللازمة لتحرير لوس أنجلوس مما سماه "غزو المهاجرين".
انتهاك لسيادة الولايةواستدعى ترامب 2000 عنصر من الحرس الوطني للخدمة الفدرالية، ونشرهم في لوس أنجلوس، رغم أن كارين باس وغافن نيوسوم لم يطلبا ذلك التدخل لأن ولاية كاليفورنيا تمتلك موارد هائلة للتعامل مع الاضطرابات الحضرية، في وقت لم يترك لهما ترامب الفرصة لإجراء اللازم.
وطلب نيوسوم من ترامب إلغاء نشر قوات الحرس الوطني، واصفا إياه بأنه "انتهاك خطير لسيادة الولاية".
وتوقف الكاتب مليّا عند مغزى قرار ترامب، وقال إنه بالتدقيق في الأمر "نجد أن تصرفات إدارة ترامب لا تتطابق تماما مع قلقها. نشر ترامب الحرس الوطني، لكنه لم يُفعّل قانون التمرد، وهذا تمييز قانوني بالغ الأهمية".
واستشهد الكاتب برأي ستيفن فلاديك، وهو أستاذ القانون بجامعة جورج تاون، والذي قال إن "ترامب أمر الحرس الوطني بالتوجه إلى لوس أنجلوس بموجب قانون مختلف، يسمح للرئيس باستدعاء الحرس الوطني عندما يكون هناك تمرد أو خطر تمرد ضد سلطة حكومة الولايات المتحدة".
إعلانوبموجب ذلك القانون، فإن قوات الحرس الوطني تتمتع بسلطة "قمع التمرد"، لكنها لا تتمتع بالسلطة الكاملة لإنفاذ القانون التي قد يمتلكها الجنود إذا قرر الرئيس نشر وحدات الجيش بموجب قانون التمرد.
وبالتالي فإن مهمة قوات الحرس الوطني التي أمر ترامب بنشرها في كاليفورنيا، تتمثل في حماية موظفي وزارة الأمن الداخلي من هجمات المتظاهرين، وفق تفسير ستيفن فلاديك.
لغة متطرفةيخلص الكاتب إلى أن إدارة الرئيس ترامب تستعمل لغة متطرفة وأبدى تخوفه من أن تكون الخطوة التالية هي التعامل مع الأمر بأنه "تمرد" و"غزو المهاجرين" لتبرير المزيد من السيطرة العسكرية، وربما اللجوء إلى "قانون التمرد".
ويرى الكاتب أن صياغة "قانون التمرد" فضفاضة ومن شأنها أن تمنح الرئيس كل السلطة القانونية اللازمة لنشر عشرات الآلاف من الجنود في الشوارع، مشيرا إلى أن ترامب أعرب علنا عن ندمه لعدم استخدام المزيد من القوة لقمع الاضطرابات عام 2020 ويُقال إن حلفاءه وضعوا خططا لتفعيل قانون التمرد خلال ولايته الثانية.
وتساءل الكاتب: هل يريد ترامب إيذاء المتظاهرين؟ وهناك يتذكر الكاتب أن وزير دفاع ترامب السابق مارك إسبر صرّح بأن ترامب سأل رئيس هيئة الأركان المشتركة آنذاك الجنرال مارك ميلي عام 2020 "ألا يمكنك إطلاق النار عليهم ببساطة، إطلاق النار على أرجلهم أو شيء من هذا القبيل؟".
ويرى الكاتب أن خلفية الصراع بين ترامب وحاكم كاليفورنيا الديمقراطي غافن نيوسوم تكمن في تلويح إدارة ترامب بإلغاء واسع النطاق للتمويل الفدرالي لولاية كالفورنيا، في حين اقترح نيوسوم حجب أموال ضرائب كاليفورنيا عن الحكومة الفدرالية، مشيرا إلى أن سكان كالفورنيا يدفعون للحكومة الفدرالية ضرائب أكثر مما تتلقاه الولاية من تمويل فدرالي.