في ظلال #طوفان_الأقصى “85”
الاعتياد على مشهدية #العدوان موت للضمائر وتبلدٌ للمشاعر
بقلم د. مصطفى يوسف #اللداوي
ما يرتكبه العدو الإسرائيلي في قطاع غزة ليس أمراً اعتيادياً يُسكتُ عنه ولا يُعارض، ولا مشاهد يومية لا تلفت الأنظار ولا تسترعي الانتباه ولا تثير الغضب، ولا هي أنشطة طبيعية للجيش لا تثير الشك ولا الريبة، ولا تخالف القوانين الدولية ولا أعراف الحروب ونُظمها، ولا هي برامج يومية ومهام دورية اعتاد عليها العالم واعتبرها مهام قانونية وأفعالاً مشروعة تجيزها القوانين وتقبل بها الأمم، ولا هي أفعالٌ يستطيع أن يقوم بها جيش الاحتلال بحريةٍ دون مسائلة، ووفق رغباته دون معارضة، وكأنه لا يقتل بشراً، ولا يدمر بلداً، ولا يقضي على حياة شعبٍ.
بل هي جرائم دولية موصوفة، لم يشهد العالم مثلها أو ما يشبهها، لا لجهة نوعية الأسلحة التي تستخدم، أو الصواريخ التي تطلق، أو حجم القنابل وأوزانها، أو قوتها التفجيرية وآثارها التدميرية، وتواصلها واستمرارها، وشمولها واتساعها، ومداها ونطاقها، أو لجهة الأهداف التي تقصف، والمساكن التي تدمر، والمقار الدولية التي تنتهك، والمستشفيات وهيئات الدفاع المدني التي لا تحترم، والصحفيين والإعلاميين والأجانب الذين يعدمون، والمدنيين الذين يقتلون، وعدد الأطفال والنساء الذين يستهدفون، أو مساحة المنطقة الضيقة التي تجري فيها العمليات الحربية، فضلاً عن حصارها وخنقها وتجويع سكانها وتعطيشهم، وحرمانهم من الغذاء والدواء والماء، بما يجعل حياتهم فيها مستحيلة، وبقاءهم فيها متعذراً.
الحقيقة التي يجب أن يدركها العالم وتعلم بها الشعوب، أن العدو الإسرائيلي يريد كي وعي الشعوب والأمم، وتخذير أذهانهم، وموت ضمائرهم، وكبت أصواتهم، وسلب إرادتهم، ومنع حراكهم، بل وخصي رجولتهم، وتقييد حريتهم، وإجبارهم على تجرع السم برضا، والقبول به بابتسامةٍ ورحابة صدر، ليجعل من عدوانه على الشعب الفلسطيني أمراً طبيعياً، وشيئاً عادياً متقبلاً، وكأنه ليس جريمةً دولية، ولا فعلاً شائناً، ولا عملاً كريهاً، فلا ينبغي استنكاره ولا التنديد به، وكأن ما يقومون به لا يستفز المشاعر، ولا يوخز الضمائر، ولا يثير الأحرار، ولا يفتت القلوب، ولا يفجر الغضب، ولا ينبغي أفعاله أن تحرك المشاعر الإنسانية لدى الشعوب أبداً، وأن تخلق رأياً عاماً شعبياً معارضاً له وناقماً عليه.
مضى على العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة اليوم 264 يوماً متواليةً، كأشد ما تكون أيام الحرب والقتال، وكأثقل ما تكون اليالي وأصعب الأيام، لم تهدأ خلالها عمليات القصف والغارات الجوية، ولم تتراجع وتيرة القتل الوحشي، ولا أعداد الشهداء من كل الفئات العمرية والجنسين، ولم تتوقف مختلف وسائل الإعلام العربية والدولية، ووسائل التواصل الاجتماعي المختلفة عن نقل الصورة، وبث الأخبار، وتسليط الأضواء وكشف الحقائق، وفضح ممارسات العدو وبيان جرائمه، من خلال الصور الموثقة والمشاهد المروعة التي يندى لها جبين الإنسانية، ولا يخجل منها مدعو الحضارة والتمدن والديمقراطية.
إلا أن صمت العالم يزداد، وعجزه يتفاقم، وسلبيته تستمر، وغير مبالاته تخزي، فقد اعتادت عيونهم مشاهد القتل والدمار، وصور المذابح والإبادة، وتأقلمت آذانهم مع الصرخات والآهات، والشكاوى والأنات، وباتت عقولهم تتقبل ما يجري، وتتفهم ما يقوم به جيش العدو، وتراه عملاً طبيعياً لا ينبغي له أن يستفز المشاعر ويحزن النفوس، وكأن الذين يقتلون ليسوا بشراً، وليسوا شعباً يستحق الحياة، وبعضهم أصبح يبرر له جرائمه، ويفسر أمام الرأي العام عملياته، ويدعو المجتمع الدولي لحمايته من ضحاياه، والدفاع عنه أمام من يقتلهم ويدمر بيوتهم، والوقوف معه ضد من يقتلعهم من أرضهم ويطردهم من مناطقهم.
لم تعد الأخبار تصدم المتابعين وتفاجئ المراقبين، أو تغضبهم وتخرجهم عن طورهم، فالصورة تتكرر والخبر لا يتغير، والضحايا هم أنفسهم، والعائلات هي ذاتها، وبات خبر ارتكاب العدو عدداً من المجازر أمراً مألوفاً غير مريعٍ ولا يلفت الأنظار، ولا يعيره أحدٌ اهتمامه، وخبر “مقتل” مئات الفلسطينيين أمراً عادياً طبيعياً، يضاف عددهم إلى أعداد الشهداء السابقين، وإذا نقص العدد يوماً بضع عشراتٍ عن شهداء اليوم السابق، فإن العالم يصفق لجيش الاحتلال، ويتوجه قادة الدول الكبرى بالشكر إلى الحكومة الإسرائيلية، ويشيدون بسياستها المسؤولة التي أدت إلى تقليص عدد الضحايا الفلسطينيين، ويبالغون في شكرها وتمجيد رئيسها إذا سمح بعض الشاحنات التي تحمل ما لا يكفي أحداً من الطعام والشراب الذي لا يسمن ولا يغني من جوع.
إنها جريمة تفوق الجريمة، وظلمٌ يتجاوز الظلم، وشراكةٌ في العدوان ولو بالصمت، ومسؤوليةٌ في الجريمة ولو بالعجز، إذا أصبح العالم يرى أن ما يجري في قطاع غزة أمراً يمكن احتماله، أو من الممكن التعامل معه وقبوله، فما يقوم به العدو الصهيوني يفوق الوصف، ويتجاوز الخيال، ولا يقبل به عاقل، ولا يوافق عليه غير قاتل، ولا يصمت عليه غير متآمر، ولا يتأخر عن استنكاره إلا شريكه، ولا يجبن عن صده إلا متخاذل، ولا يعتاد عليه إلا جاهل، ولا يبرر له إلا غِرٌ عاجزٌ.
بيروت في 26/6/2024
moustafa.leddawi@gmail.com
المصدر: سواليف
كلمات دلالية: طوفان الأقصى العدوان
إقرأ أيضاً:
” العدوان الصهيوأمريكي على إيران “3” الدنيا دولابٌ والزمنُ دوَّارٌ
صحيحٌ أنه مثلٌ عربيٌ قديمٌ، وكلماتُ حكماء بعد طول تجربةٍ وخبرةٍ وأناةٍ في الحياة، إلا أنها حكمة عامة وليست عربيةً خالصة، وتكاد تكون موجودة في تراث الأمم وأمثالها الشعبية، إذ تؤمن بها الشعوب كلها، وتلجأ إليها عادةً للتعبير عن حالها في لحظات الانكسار والهزيمة، أو الفقد والخسارة، للتعبير عن أن الخسارة ليست كلية، وأن الهزيمة ليست أبدية، وأن الزمن قد يعوضهم وينقلب لصالحهم، وأنه «ما من طلعة إلا وراءها نزلة»، حيث تأتي أيضاً رداً على الفائزين والمنتصرين، والكاسبين والمحظوظين، والمغرورين والمتغطرسين، وتحذرهم أن الأيام دول، وأن الحياة دولاب، وأن الفرحة لا تدوم ولا تبقى، والحزن عابرٌ ويمرُ.
وهي للحق حكمةٌ ذهبية، تستحق التأمل والعبرة، والاستفادة منها والتعلم وكسب الخبرة، ولا ينبغي الاستهتار بها وعدم الإصغاء لقائلها أياً كان، عدواً أو صديقاً، أو الانشغال بها والقلق بسببها، إذ علمتنا الحياة أنها حكمة صحيحة، وأنها تتكرر دائماً في كل زمانٍ ومكانٍ، فطوبى لمن سمعها ووعيها، وتعلم منها واستفاد، وأخذ العبرة من أحداثها وسلم من ويلاتها.
اليوم يطل علينا الإعلامي الصهيوني الخبيث إيدي كوهين بهذا المثل العربي، يعرضه على صفحته، وتتناقله وسائل الإعلام وتنشره، وهو يتبجح به بكل صفاقةٍ ووقاحةٍ، ويخاطب به العرب والمسلمين في ظل الاستعلاء الذي يعيشه وكيانه في الحرب الصهيوأمريكية خلال عدوانهم على إيران، ويقول لمصر التي يرتبط كيانه معها باتفاقية سلام، مخاطباً المصريين المنحازين إلى الجمهورية الإسلامية في إيران، والذين يؤيدونها في حربها ضد الكيان، ويفرحون لها كلما قصفت أهدافاً في فلسطين المحتلة، وأصابت مقار ومراكز ومواقع عسكرية وأمنية، وألحقت أضراراً بالمباني والمساكن.
والذين يعبرون عن شماتتهم بعدوهم وعدو الأمة كلها، الذي شرد الفلسطينيين في قطاع غزة، ودمر بيوتهم وأحال حياتهم إلى جحيمٍ لا تطاق، فلا يجدون إلا أن يظهروا شماتتهم بمستوطنيه الذين ألجأتهم الصواريخ والمسيرات الإيرانية إلى النزول إلى الملاجئ والمبيت فيها، واللجوء إليها ساعاتٍ طويلة في الليل والنهار هرباً من القصف الصاروخي الإيراني، ومسيراته التي باتت تصل إليهم، وتدمر مبانيهم، وتحرق سياراتهم، وتحول شوارعهم إلى هشيمٍ ودمارٍ، يذكرهم بما فعلوه مع الفلسطينيين في قطاع غزة.
يخاطب إيدي كوهين الشعب المصري العربي الأصيل، المسلم الحصيف، الصادق المخلص، الثائر الحر الغيور، ويصب جام غضبه على عامة المصريين الذين يعبرون بفطرتهم السليمة، وعقيدتهم الصحيحة، وعفويتهم البسيطة عن فرحتهم بما يصيب العدو الإسرائيلي ومستوطنيه، وعن سعادتهم بألوان الثأر والبأس والانتقام التي بات يتجرعها من حيث لا يحتسب، وقد كان يظن بسفهٍ وغرورٍ أنه دائماً يغزو ولا يغزى، ويَقتُل ولا يُقتل، ويُقاتِل ولا يُقَاتَل، إلا أن الصواريخ الإيرانية أيقظته من سكرته، وأعادته إلى وعيه، وأعلمته أن هذه الأمة ما زالت بخير، وأنها قادرة على النيل منه وإيلامه، وتتطلع إلى قهره والانتصار عليه.
غضب إيدي كوهين وهو الذي ينطق باسم الإسرائيليين بلا تمييز، ويعبر عن معتقداتهم بلا خوف، ويكشف عن نواياهم بلا تردد، والمعروف عنه أنه وقحٌ لا يخجل، وصفيقٌ لا يسكت، وهدد المصريين، الذين هم جزءٌ أصيلٌ من هذه الأمة، بأن الأيام دولٌ والحياة دولاب، وغداً سيصيبكم ما أصاب الإيرانيين واللبنانيين والفلسطينيين، وستصلكم الصواريخ الإسرائيلية كما وصلت إلى سوريا وإيران، فلا تفرحوا كثيراً، ولن تشمتوا بنا طويلاً، فالعالم معنا، والولايات الأمريكية تدعمنا، وهي تقاتل معنا، وغداً ستقصف إيران إلى جانبنا، وأنتم لا تملكون إلا أن تقفوا معنا وتؤيدونا، أو تسكتوا عنا وتتعاونوا معنا.
وكان كوهين قد سبق ذلك بتوجيه تهديدٍ صريحٍ ومباشرٍ إلى الدول المطبعة مع كيانه، وإلى تلك التي تتطلع إلى التطبيع معه، وتوقيع اتفاقيات سلامٍ مشتركة، أن هذا التطبيع لن يكون بالمجان، ولن يكون هبةً ولا منحةً ولا صدقةً وإحساناً، وأن على الأنظمة العربية أن تدفع الجزية لإسرائيل، وأن تقدم بين يدي الاتفاقيات ما يؤهلها لأن تكون تحت التاج الإسرائيلي، وداخل منظومة الدفاع والحماية الصهيونية، وإلا فإنها سيصيبها ما أصاب غيرها، ولن ينفعها أحدٌ، وكأن كيانه قد أنهى الحرب وانتصر، وحقق الأهداف التي يرجوها ووصل إلى الغايات التي يتطلع إليها.
لا تخلُ كلمات إيدي كوهين من إهانة، ولا من مفردات الذل والصغار وهو يخاطب العرب والمسلمين أنظمةً وشعوباً ويقرعهم ويهزأ بهم ويتهكم عليهم، وهو لا يفتأ يتهم الأنظمة والحكومات بأنها أدواتٌ وآليات لخدمة المشروع الصهيوني، ولا يتورع عن وصف بعضهم بأنهم صهاينة أكثر منه، وأنهم أكثر إخلاصاً لكيانه منه، ما يجعلنا اليوم نقف في وجهه بقوةٍ وصلابةٍ، وبتحدٍ وإرادةٍ، ووحدةٍ وإجماعاً، نؤيد إيران ونقف معها، ونساندها ونخذل عنها، ونتعاون معهاولا نخذلها، فانتصارها عليه انتصارٌ لنا، وعزةٌ وتمكينٌ لنا في بلادنا، وكسر شوكتها والتآمر عليها نهاية لوجودنا وشطبٌ لهويتنا، فلنكن معها بصدقٍ لنفسد مشروع عدونا، ونحبط خططه، ونقلب له ظهر المجن، ونعلمه باتفاقنا وتضامننا أن الزمن سيدور لكن عليهم وحدهم، وأن دولاب الدنيا سيقف لكن على حطام كيانهم.
كاتب وباحث سياسي فلسطيني