كان العالم أكثر تفاؤلا بعد أن صمتت مدافع الحرب العالمية الثانية، ومستبشرا بأن عهدًا جديدًا من السلام والاستقرار سيشرق على العالم.. كان ذلك التفاؤل مستندًا إلى عدة عوامل وأحداث بارزة ظهرت في تلك المرحلة؛ وفي مقدمتها إنشاء هيئة الأمم المتحدة بهدف تعزيز السلام والأمن الدوليين، ومنع حدوث صراعات مستقبلية.

كانت الأمم المتحدة في تلك المرحلة رمزا للأمل في نظام عالمي جديد يتم فيه حلّ النزاعات بطرق سلمية من خلال الحوار والتعاون الدولي. ووسط ذلك الأمل والتفاؤل وقع العالم على الكثير من الاتفاقيات والمعاهدات تهدف إلى ضمان عدم تكرار الفظائع التي حدثت خلال الحرب. ومن أبرز تلك المعاهدات اتفاقيات جنيف وميثاق الأمم المتحدة. كانت هذه المعاهدات تهدف إلى وضع قواعد للسلوك الأخلاقي أثناء النزاعات المسلحة وحماية المدنيين.

كان المشهد مشجعا لبدء مرحلة إعمار وبناء عالمي، فأعلن العالم المنتشي بالفرحة عن خطة «مارشال»، وسعى إلى تعزيز الديمقراطية وقيمها والبحث عن اقتصادات عالمية مستدامة.. وتحركت في الكثير من دول العالم المستعمَر حركات التحرر الوطني. وصاحب كل ذلك نهضةٌ علمية وتكنولوجية لا مثيل لها.

ورغم أن التفاؤل لم يدم طويلا، إلا أن العالم أنجز في العقود التالية الكثير من الإنجازات التي تحسب للبشرية، لكن الأمر لم يستمر طويلا، فعادت الفظائع التي تنتهك كرامة الإنسان خلال الحروب، وكسرّ العالم القيم التي اعتقد أنها وصلت إلى مرحلة من الكمال. ودخل العالم دوامة جديدة غابت فيها قيم العدالة والمساواة وجيرت الأمم المتحدة ومنظماتها، بما في ذلك مجلس الأمن، لخدمة الدول العظمى ومصالحها الضيقة. أما المعاهدات والاتفاقيات فلم يعد يحفل بها إلا الضعفاء. ولذلك ليس مستغربا أن تبقي أمريكا دعمها السياسي والعسكري لإسرائيل رغم جرائم الإبادة الجماعية التي ترتكبها في قطاع غزة للشهر التاسع على التوالي، وسط عجز تام من منظمات الأمم المتحدة.

وأمام كل هذا يُطرح في العالم اليوم سؤال مهمّ جدا: ألم يحن الوقت لمراجعة القوانين والمعاهدات التي وقعتها دول العالم في أعقاب الحرب العالمية الثانية لتكون أكثر ملاءمة مع المشهد العالمي المعاصر؟ وهل تكفي إعادة صياغة هذه المعاهدات أم أن الأمر يحتاج إلى آلية ملزمة تجعل الدول، بما في ذلك الدول العظمى، تلتزم بها؟

كانت الاتفاقيات التي وقعت في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية منشغلة جدا بوضع قواعد واضحة للسلوك الأخلاقي أثناء النزاعات المسلحة، وحماية المدنيين، ومنع استخدام الأسلحة المحرمة دوليًا.. كل هذا لم يعد له وجود اليوم، حتى المبادئ الإنسانية التي لا جدال فيها لم تعد حاضرة في أي سلوك دولي يصاحب الحروب، اللهم إلا إن كان في سياق توظيف تلك المعاهدات لإدانة الدول الضعيفة.

إن التقدم الهائل في التكنولوجيا العسكرية الذي أفرز الحروب الإلكترونية، والهجمات بالطائرات المسيرة، والنزاعات مع الجهات غير الحكومية يطرح تحديات كبيرة للاتفاقيات التي أبرمت بعد الحرب العالمية الثانية، فيما لو سلمنا أنها ما زالت صالحة للمرحلة.. فاتفاقية جنيف، على سبيل المثال، لا تتناول بشكل كاف التهديدات الناشئة عن الحرب الإلكترونية، ولا توفر حماية واضحة من الهجمات بالطائرات المسيرة أو الحروب السيبرانية التي أصبحت، جميعها، أدوات رئيسة في الحروب الحديثة. وكلّ هذا يتطلب إعادة النظر في كيفية تعريف الأطراف المتحاربة وكيفية معاملتها، وفقًا للقانون الدولي.

ولكن إعادة صياغة المعاهدات ليست كافية بحد ذاتها لتحقيق الأهداف المرجوة. إن العالم اليوم في أمس حاجة إلى وجود آليات ملزمة تضمن التزام الدول، بما في ذلك الدول العظمى، بالقوانين والمعاهدات؛ فالتحدي الرئيسي يكمن في تطبيق المعاهدات وضمان الامتثال لها. والتاريخ مليء بالأمثلة التي تُظهر كيف أن الدول القوية تتجاوز أو تنتهك القوانين الدولية دون عواقب تُذكر.

يبدو العالم اليوم في أمسّ الحاجة إلى تجديد قوانينه وتجديد مؤسساته فورا، وليس عليه أن ينتظر مرحلة دمار كتلك التي شهدها خلال وبعد الحرب العالمية الثانية، والتي يمكن أن نقرب صورتها بمشهد قطاع غزة في الوقت الحالي.

لكن العالم الذي بدا متفائلا بعد الحرب العالمية الثانية، هو أبعد ما يكون عن التفاؤل في هذه اللحظة، ليس في العالم العربي وحده الذي قد يبدو مع الوقت أفضل حالا، ولكن في الكثير من بقاع العالم، حتى تلك التي تعتقد حكوماتها أنها في مأمن من التداعيات التي يشهدها العالم.. واليمين المتطرف والحكومات الشعبوية قادمة للسيطرة على الحكم في العالم، وهي في طريقها لتهديد الديمقراطية، وتقويض مؤسساتها، وتبني خطابات العنف وتعزيز الانقسامات الاجتماعية، وضرب الحريات، وحقوق الإنسان الحقيقية.

إن المسؤولية الأساسية اليوم ملقاة على عاتق النخب الثقافية، وبشكل خاص المفكرين والفلاسفة والأكاديميين لصياغة خطاب نقدي حقيقي للمرحلة التي يمر بها العالم.. وطرح خيارات بديلة والدفع بها للتبني من قبل المجتمعات في مختلف أنحاء العالم.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: بعد الحرب العالمیة الثانیة الأمم المتحدة الکثیر من

إقرأ أيضاً:

دراسة جديدة.. حوالي 7 مليارات يفتقرون الحقوق المدنية الكاملة

كشفت دراسة جديدة، اليوم الاثنين، أن 40 دولة تمثل 3.5% من تعداد سكان العالم تحترم جميع الحريات المدنية، محذرة من "أن الديمقراطية وحقوق الإنسان تتعرض للهجوم في جميع أنحاء العالم بطرق لم نشهدها لعقود".

إيران تهاجم فرنسا: لا تملكون الأهلية الأخلاقية للحديث عن حقوق الإنسانوزير الخارجية يترأس الاجتماع الوزاري الرابع للجنة العليا الدائمة لحقوق الإنسانالدول ذات الحريات المفتوحة

وكشفت دراسة لـ"أطلس المجتمع المدني" الصادر عن منظمة "خبز للعالم" (Brot für die Welt)، اليوم الاثنين الموافق 2 يونيو، أن حوالي 284 مليون شخص يعيش بدول "مفتوحة" من ضمنها النسما، وإستونيا، والدول الاسكندنافية، ونيوزيلندا، وجامايكا حيث يتمتعون بحماية الحقوق الإنسانية والحريات المدنية غير المقيدة.

وتحدد المنظمة غير الحكومية الدول على أنها "مفتوحة" إذا كانت تسمح للناس بتكوين تجمعات "بدون عوائق قانونية أو عملية، أو التظاهر في الأماكن العامة، أو تلقي المعلومات والسماح لهم بنشرها".

الدول ذات الحريات المقيّدة

وتم إدراج 42 دولة تمثل 11.1% من تعداد السكان بالعالم في الفئة الثانية حيث تصنف الحقوق المدنية فيها بأنها "مقيدة" وتضمن ألمانيا، وسلوفاكيا، والأرجنتين، والولايات المتحدة.

في تلك الدول، تحظى حقوق حرية التجمع والتعبير عن الرأي باحترام كبير ولكن مع وجود عدة انتهاكات مسجلة.

الدول ذات الحريات المقموعة أو المغلقة

وكشف البيان أن في المقابل، أن الحقوق المدنية إما مقيدة، أو مقموعة، أو مغلقة في 85% من تعداد سكان العالم. مضيفًا أن حكومة 115 دولة من أصل 197 تقيد بقسوة الحريات المدنية وتزعج، وتعتقل، وتقتل الأصوات الناقدة.

وتضمن تلك الفئة "المقيدة" عدة دول أوروبية من ضمنها اليونان، والمملكة المتحدة، والمجر، وأوكرانيا.

ووفقًا للبيانات، فإن المجتمع المدني في 51 دولة يعتبر "مضطهدًا" ومن ضمت تلك الدول الجزائر، والمكسيك، وتركيا. حيث تقوم الحكومات، في تلك الدول، بمراقبة، وسجن، وقتل الأصوات الناقدة، وممارسة الرقابة على الإعلام والمعلومات.

الدول المغلقة

وأخيرًا، تصنف روسيا و28 دولة أخرى على أنها "مغلقة"  وتُسودها "أجواء من الخوف". وحتى انتقاد الحكومة والنظام في تلك الدول قد يصل إلى عقاب شديد.

تغييرات في التصنيفات

واستندت المنظمة في تقريرها السنوى على البيانات التي جمعتها من عدة منظمات مجتمع مدني من جميع أنحاء العالم، حيث شملت البيانات 197 دولة وإقليم.

وتحسن تصنيف تسع دول من حيث حرية التعبير، منها جامايكا، واليابان، وسلوفينيا، وترينيداد وتوباغو، وبوتسوانا، وفيجي، وليبيريا، وبولندا، وبنغلاديش. في المقابل، تدهورت الأوضاع في تسع دول أخرى، منها جورجيا، وبوركينا فاسو، وكينيا، وبيرو، وإثيوبيا، وإسواتيني، وهولندا، ومنغوليا، والأراضي الفلسطينية.

طباعة شارك الحريات المدنية الحقوق الإنسان الديمقراطية النسما نيوزيلندا الولايات المتحدة ألمانيا أوكرانيا المملكة المتحدة اليونان روسيا إثيوبيا الأراضي الفلسطينية

مقالات مشابهة

  • فوز إذاعة سلطنة عُمان بالجائزة الثانية في المسابقة العربية للموسيقى والغناء
  • وزير الخارجية: مصر من أوائل الدول التي اعترفت باستقلال دولة بنين
  • وجهات نظر “القوى المتوسطة” في زمن الفوضى العالمية
  • اختتام فعاليات القمة العالمية الثانية للاقتصاد الإسلامي
  • دراسة جديدة.. حوالي 7 مليارات يفتقرون الحقوق المدنية الكاملة
  • اتحاد العمال: 2 مليار عامل حول العالم يعملون في الاقتصاد غير المنظم
  • سلاسل الإمداد العالمية تحت المجهر.. من يسيطر على تدفق السلع حول العالم
  • العراق: 100 عام من الضياع والتخبط
  • ⛔ لاحظ التعابير التي استخدمها فيصل محمد صالح في هذا اللقاء
  • مسابقة التصوير العالمية للطعام.. تعرف على الصور التي حازت على المراكز الأولى