كيف كسر محمد علي باشا شوكة علماء مصر؟
تاريخ النشر: 12th, July 2024 GMT
في كتابه "النخبة المدنية في القاهرة في أواخر العصور الوسطى" يرصد المؤرخ الأميركي كارل بتري أوضاع طبقة العلماء في مصر المملوكية قبل انتقالها إلى السيادة العثمانية، من حيث شؤونهم التعليمية والاقتصادية ومواطنهم التي جاؤوا منها، وأدوارهم السياسية التي قاموا بها، ورؤية السلطة السياسية من النخبة العسكرية الحاكمة (المماليك) لهؤلاء العلماء.
وسنرى أن العلماء أدّوا "دور الوسيط" بين الطبقة الحاكمة العسكرية (المماليك) وعامة الشعب؛ حيث شغلوا المناصب البيروقراطية والقانونية والتعليمية والدينية للدولة، وبالتالي كان لهم تأثير كبير في تحديد مسار البحث العلمي وكثير من القضايا العامة والسياسية الداخلية التي كان يلجأ فيها الناس إلى وساطة العلماء.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2إستراتيجية الصين لتغيير العالم.. قراءة في عقل الرئيس شي جين بينغlist 2 of 2إمبراطورية "أبو هلالين".. لماذا يعد الكبتاغون أخطر مخدر وصل إلى العالم العربي؟end of listكما احتفظوا بالاستقلالية والسلطة الأخلاقية؛ فعلى الرغم من سيطرة النخبة العسكرية على البلاد، فقد تمكن كثير من العلماء (النخبة المدنية) كما يسميهم بتري من الحفاظ على استقلاليتهم، وتعزيز مصداقيتهم لدى الجمهور من خلال سيطرتهم على المؤسسات الدينية والتعليمية، وكان "دورهم كحُماة للسنة محوريًّا؛ مما عزز من مكانتهم كمراجع أخلاقية في مواجهة نظام قاسٍ".
وكانت شؤون التعليم وحق إعطاء الشهادات العلمية حصرا فيهم؛ فالعلاقة بين الطلاب وأساتذتهم هامة للغاية في تكوين النخبة العلمية، ومن خلال الشهادات العلمية (الإجازات)، التي تُمنح بعد تقييم قدرة الطالب على استيعاب النصوص الشرعية وتفسيرها بشكل صحيح، كان يُعترف بأن الطالب عالم. هذه الشهادات كانت تعكس قدرة العلماء على الحفاظ على التعاليم التقليدية ونقلها إلى الأجيال القادمة.
ولا ننسى التأثير الثقافي والاجتماعي لهؤلاء العلماء؛ فعلى الرغم من أن العصور المملوكية تعتبر غير مستقرة ومليئة بالعنف والقلاقل، استطاعت النخبة المدنية تطوير إستراتيجيات للبقاء والاستمرار خلال هذه الفترات الصعبة. عكس هذا الأداء المتفوق في مختلف المجالات المهنية مستوى عاليًا من التخصص والتأثير في المجتمع.
وقبل أن نعرّج على الآليات التي استطاع من خلالها محمد علي كسر شوكة العلماء، سنستعرض مكانة العلماء في الفضاء الاجتماعي والسياسي والشرعي بمصر خلال السنوات التي سبقت إمساك محمد علي لزمام السلطة.
مكانة العلماء قبل مجيء محمد علي
وحين التحم العثمانيون بالمماليك في بلاد الشام ومصر، وبدأت الكفة ترجح لصالح العثمانيين وانتصارهم في معارك مرج دابق والريدانية والصليبة ووردان كان للعلماء دورهم البارز في هذه اللحظات المفصلية من تاريخ مصر؛ فقد وقف بعضهم في صف المماليك مثل الفقيه وخطيب جامع أحمد بن طولون شرف الدين يحيى بن العدّاس الذي ظل إلى آخر لحظة يحض جماهير الناس في مصر على دعم المماليك وقيادة السلطان طومان باي، وحين قبض عليه السلطان سليم الأول وكاد يفتك به، دافع عنه بقية العلماء والخليفة العباسي، فاضطر السلطان العثماني إلى الإفراج عنه.
وفي ظل هذه الحرب وحين لاحت بوادر الصلح بين الفريقين -قبل أن تفشل- عقد السلطان العثماني مجلسًا في قلعة القاهرة "الجبل" ودعا فيه قضاة المذاهب الأربعة والخليفة العباسي، وهو أول مجلس بالقلعة يحضره العلماء والخليفة بعد الفتح العثماني، كما حضر هذا المجلس عدد من الوزراء العثمانيين فعرض السلطان العثماني على المجلس قضية طومان باي، كما نرى عند المؤرخ ابن إياس في "بدائع الزهور".
تبدو من تاريخ ابن إياس -الذي يرصد السنوات العشر الأولى من حكم العثمانيين في مصر- مكانةُ وموقف العلماء المصريين والأزهريين منهم خاصة في مقاومة أشكال الظلم والاستبداد؛ فقد أمر السلطان العثماني بتعيين الأمير المملوكي خاير بك الجركسي واليا على مصر، وكان خاير بك في نظر المماليك والعلماء شخصية مجرمة سفاكة للدماء، خائنة للمبادئ، متعدية على الأموال والأنفس.
وقد أراد أن يبرئ سُمعته أمام السلطان سليم بكتابة محضر يوقّع عليه القضاة الأربعة بأنه كان يسير في الرعية بالعدل والإحسان فزجره القضاة أمام المبعوث العثماني قائلين: "نكتب خطوط أيدينا على شيء باطل ثم يبلغ الخُنكار (السلطان العثماني) خلاف ذلك، فنخشى على أنفسنا منه عندما نذكر أن مصر في غاية العدل والأمن والرخاء… وهذا باطل لا يجوز فبُهت ملك الأمراء (خاير)".
وسنرى هذه الشدّة لدى الفقيه شمس الدين محمد اللقاني المالكي الذي وقف أمام خاير بك معترضا على الضرائب التي فرضها على عقود الزواج، قائلا له: "يا ملك الأمراء قد أبطلتُم سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصرتم تأخذون على زواج البنت البكر ستين نصفًا، وعلى زواج الثيّب ثلاثين نصفًا، ويتبع ذلك أجرة الشهود ومقدمي الوالي وغير ذلك، وهذا يخالف الشرع الشريف، وقد عقد رسول الله على خاتم فضة وعلى ستة أنصاف فضة، وعقد على آية من كتاب الله".
لم يقتنع خاير بك بنصيحة اللقاني المالكي، وأخبره أن هذا القرار قادم من إسطنبول قائلا: "الخُنكار أمر بهذا وقال امشوا في مصر على اليسَق (القانون) العثماني، فصاح به شخص من طلبة العلم يُقال له عيسى المغربي قائلا: هذا يسق الكفر، فحنق منه ملك الأمراء وأمر بتسليمه إلى الوالي (قائد الشرطة) ليعاقبه… ثم طال المجلس بين ملك الأمراء ومشايخ العلم في الأزهر". وحين انفض الجمع دون قرار، ورجع الفقهاء إلى القاهرة ثارت ثورة الأهالي على خاير بك، ولهجت الألسنة بذمه، وقامت انتفاضة كبرى ضده، أغلقوا فيها المساجد إعلانا للعصيان المدني.
عند ذلك اضطر خاير بك إلى استرضاء الشيخ اللقاني قائلا: لا تؤاخذ ملك الأمراء فإنه لم يكن يعرفك. وأرسل معه مئتي دينار وأربع بقرات وُزّعت كلها على طلبة العلم بالأزهر. ويُعلق ابن إياس على هذه الحادثة بقوله: "قصد بذلك أن يسترضي العلماء والفقهاء الذين لم يرضوا بأفعاله الشنيعة؛ ليمحو هذا بذلك".
وعندما جاء سليمان باشا الخادم واليا على مصر من قبل السلطان سليمان القانوني، تعدى هذا الوالي، واشتهر بالظلم والعسف، والتنكيل والأخذ بالظنّة، وقد أصدر عدة قرارات بإنشاء اليهود معبدًا في قلب القاهرة، ولكن كبار علماء الأزهر مثل ناصر الدين اللقاني المالكي وناصر الدين الطبلاوي وابن عبد الحق السنباطي وضياء الدين بن الجلبي وشهاب الدين الرملي وغيرهم من العلماء تصدوا له، وأجبروه على هدم هذا المعبد، بل ألف بعضهم رسائل علمية في الرد عليه، أشهرها ما كتبه الشيخ زين الدين إبراهيم بن نجيم الحنفي (ت 975هـ/1567م).
وكما شارك العلماء المصريون في إسقاط ولاة ظلمة في مصر مثل أحمد باشا سنة 930هـ/1523م، عملوا على تثبيت حكم آخرين مثل مصطفى باشا سنة 1032هـ/1622م حين رأوا فيه صلاحًا، فأرسلوا للسلطان مراد الرابع في إسطنبول الذي أقرّهم على هذا الاختيار، وسنراهم يشاركون في خلع موسى باشا سنة 1040هـ/1630م، "وكان لهم في هذا الكلمة المقدمة والرأي الأول" كما يروي مؤرخو ذلك العصر؛ لأنه صادر أموال الناس بدون أسباب شرعية، وثبت اختلاسه للمال العام، وسفكه للدماء المعصومة بغير وجه حق وبالظنون والإشاعات، بل بدأ الطمع في أموال الأوقاف وإخراج النظارات من أصحابها ومعظمهم من العلماء ليسندها لأتباعه، وشرع يهدد الأمن العام في مصر حين قتل قائدا عسكريا عثمانيا اسمه "غيطاس بك" طمعا في الأموال التي جمعها للاشتراك في حملة الدولة العثمانية ضد الصفويين.
عند ذلك اجتمع رأي العلماء والقضاة ورجال الأزهر مع المعارضين العسكريين لسياسة هذا الوالي المتغطرس، وحاصروا القلعة، وسدوا كل الطرق المؤدية إليها، واتخذوا من جامع السلطان حسن المواجه لقلعة القاهرة مقرا لهذه الحركة، ثم قرروا عزل موسى باشا وتعيين حسن باشا الدفتردار قائم مقام بديلا عنه، وقرر المجتمعون من علماء الأزهر وقادة الفرق العسكرية العثمانية والمملوكية في مصر أن يكتبوا للسلطان في إسطنبول ثلاث رسائل بالتركية والعربية، قرأها السلطان والصدر الأعظم وأقروا ما جاء فيها بعزل موسى باشا.
الأزهر كلمة الفصل
ومن اللافت أن الأزهر كان مأوى للأمراء المظلومين والمغلوبين في صراعاتهم البينية وكان علماء الأزهر وفقهاؤه يتدخلون عند السلطة للفصل بينهم، وإحقاق الحق لأصحابه، ففي 1071هـ/1660م وقع صراع بين أهم فريقين من فرق المماليك الفقّارية والقاسمية، وقد اتجه 26 أميرًا منهزما إلى الجامع الأزهر يقصدون الاحتماء فيه، ويذكر مؤرخ تلك الواقعة إبراهيم الصوالحي العوفي في كتابه "تراجم الصواعق في واقعة الصناجق" أن هؤلاء المنهزمين الهاربين من والي مصر والصناجق الأخرى كانوا مظلومين.
ولهذا السبب عقد العلماء اجتماعا في الأزهر في 17 ربيع الأول 1071هـ/نوفمبر/تشرين الثاني 1660م برئاسة شيخه سلطان المزاحي وتناولوا في المجلس موضوع الأمراء والعسكريين المحتمين به، وانتهى الاجتماع على تشكيل وفد للقاء والي مصر العثماني وقتها إبراهيم باشا الدفتردار، وقالوا إن قرار الديوان مطاردتهم وإخراجهم من القاهرة وقطع رواتبهم والاستيلاء على أملاكهم ظلم وتعدٍّ، و"يجب علينا إبلاغ أولي الأمر باتباع القواعد الشرعية كما أمر الله تعالى ورسوله".
وعلى إثر ذلك عقد الوالي وكبار الأمراء من العثمانيين والمماليك اجتماعهم في اليوم التالي وصدر قرارهم بالعفو والصفح عن الأمراء المطاردين المحتمين بالجامع الأزهر وذلك "امتثالا لما رآه السادة العلماء الفضلاء"، وقد أصر العلماء على تسجيل هذه الإجراءات بصورة رسمية، فأوعزوا إلى قاضي القضاة بكتابة مذكرتين بالإجراءات الشرعية التي يجب اتخاذها مع الأمراء والعسكريين المحتمين بالأزهر، وأُرسلت هاتان المذكرتان إلى الوالي والقائم مقام لتنفيذهما.
وفي عام 1148هـ/1735م جاء من إسطنبول قرار من السلطان العثماني ورد فيه كما يروي الجبرتي في تاريخه: "إبطال مرتبات الأولاد والعيال، ومنها إبطال التوجيهات، وإن المال يُقبض إلى الديوان ويصرف من الديوان، وإن الدفاتر تبقى بالديوان ولا تنزل بها الأفندية إلى بيوتهم. فلما قُرئ ذلك قال القاضي (العثماني في القاهرة): أمر السلطان لا يُخالف ويجبُ إطاعته".
وكان حاضرا في هذا المجلس الشيخ سليمان المنصوري، مفتي الحنفية وشيخهم في الجامع الأزهر حينئذ، ولم يقبل هذه المراسيم التي جاءت من إسطنبول لأن فيها تعديًا على الشرع والأوقاف وحقوق العباد، ولندع الجبرتي يروي ما قاله: "قال الشيخ سليمان المنصوري يا قاضي الإسلام هذه المرتبات فِعل نائب السلطان، وفعل النائب كفعل السلطان، وهذا شَيء جرت به العادة في مُدة الملوك المتقدمين، وتداولته الناس وصار يُباع ويشرى، ورتبوه (أوقفوه) على خيرات ومساجد وأسبلة ولا يجوز إبطال ذلك، وإذا بطل بطلت الخيراتُ، وتعطلت الشعائر المرصد لها ذلك، فلا يجوز لأحد يؤمن بالله ورسوله أن يُبطل ذلك، وإن أمر ولي الأمر بإبطاله لا يُسلم له ويُخالف أمره؛ لأن ذلك مخالف للشرع، ولا يسلم للإمام في فعل ما يخالف الشرع ولا لنائبه".
فلما سمع القاضي العثماني ذلك سكت ولم يعقّب، فقال الباشا والي مصر العثماني: " هذا يحتاج إلى المراجعة". يعلق محمد جلال كشك في كتابه "ودخلت الخيل الأزهر" على هذه الواقعة اللافتة بأن هذه المرافعة الدستورية للشيخ المنصوري كافية وحدها لكشف زيف كل ما يُكتب عن الدور التحضيري و"التنويري" الذي أدّته الحملة الفرنسية أو الاستعمار الغربي في المفاهيم السياسية بالعالم الإسلامي، ويقول "هل هناك حكم بعدم دستورية مرسوم سلطاني أوضح وأجرأ وأكثر دقّة من هذا الحكم الذي أصدره الشيخ المنصوري، فأسكت به القاضي، بل وألزم الباشا أن يقول إن الأمر يحتاج لمراجعة".
ويكمل جلال كشك قائلا: "هذا المبدأ الخطير الذي يعلنه الشيخ المنصوري ببساطة في مواجهة نائب السلطان، والذي يُسقط الشرعية عن أي مرسوم سلطاني يخالف الشريعة أي يخالف الدستور/ الشرع يعلنه الشيخ الأزهري في سنة 1735م أي قبل سقوط الباستيل (واندلاع الثورة الفرنسية) بأكثر من نصف قرن، قبل أن يفكر أي عقل غربي في القارة الأوروبية بجواز معارضة الملوك فضلا عن أن يجرؤ على إعلان ذلك في مواجهة السلطة وبمثل هذا الوضوح والتحدي".
ويتضح دور علماء الأزهر ومشايخه في ظل الحملة الفرنسية التي قادها نابليون في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، ومدى الوعي الكبير الذي بثّه علماء الأزهر، وقيادتهم الروحية للأمة في ثورتي القاهرة الأولى والثانية، وتنظيمهم للعمليات العسكرية والثورية بين عامة الناس؛ الأمر الذي جعل نابليون ينتقم منهم بإقحام الخيول الفرنسية في الأزهر، وتحويله إسطبلا، قبل أن يضطر إلى الانسحاب والخروج تحت إلحاح من علمائه وشيوخه.
وفي السنوات التي أعقبت خروج الفرنسيين من مصر سنة 1801م ومجيء القوات الألبانية الأرناؤوط بقيادة محمد علي باشا وقوات عثمانية أخرى وبقائها في مصر، فضلا عن عودة قوات المماليك من الصعيد، واصطدام هذه العناصر الثلاثة سياسيا وعسكريا في البلاد، الذي أحدث اضطرابات سياسية جمة، وإدراك علماء الأزهر وكبار المشايخ ونقيب الأشراف أن محمد علي وفرقته الألبانية هم الأقدر على ضبط الأمور، قرر الجميع اختيار محمد علي واليا على مصر على خلاف ما أراده السلطان العثماني وقتئذ.
كيف قضى الباشا على سلطة العلماء؟
يقول الجبرتي: "وانتصر محمد علي بالسيد عمر مكرم النقيب والمشايخ والقاضي وأهل البلدة والرعايا… تم له الأمر بعد المعاهدة والمعاقدة والأيمان الكاذبة على سيره بالعدل وإقامة الأحكام والشرائع، والإقلاع عن المظالم، ولا يفعل أمرا إلا بمشورته العلماء، وأنه متى خالف الشروط عزلوه وأخرجوه".
قبل السلطان العثماني مرغمًا اتفاق جماهير المصريين وعلى رأسهم العلماء بولاية محمد علي، وقد أراد أن ينحني للعاصفة مؤقتا حتى تهدأ، ولهذا السبب في العام التالي سنة 1806م أرسل واليا جديدا لمصر اسمه موسى باشا، بينما قرر تعيين محمد علي مكانه في سلانيك باليونان، إذ أدرك العثمانيون ومن ورائهم الإنجليز مطامح ومطامع محمد علي في مصر.
حين نزل موسى باشا في الإسكندرية أرسل محمد علي إلى السيد عمر مكرم نقيب الأشراف وكبار علماء الأزهر ممن آزروه وجعلوه واليا على مصر "وعرفهم بصورة الأمر الوارد بعزله وولاية موسى باشا"، قائلا لهم: "اعملوا فكركم ورأيكم"، وقد سوّق إليهم أن الباب العالي يتآمر عليهم ويريد عودة المماليك من جديد، وأن ما يحدث بإيعاز من البريطانيين حلفاء المماليك.
والحق أن الأمر لم يكن يستدعي إعمال فكر من المشايخ، فقد اتفق محمد علي في اجتماعه المنفرد مع عمر مكرم على الخطة التي ارتضاها هو للخروج من المأزق، وكانت تتلخص في كتابة مُذكّرة "عرضحال" إلى السلطان سليم الثالث على لسان المشايخ، ووضع محمد علي خطوطها الرئيسية بنفسه وأرسلها إلى شيخ الأزهر وقتها عبد الله الشرقاوي "وأمروا المشايخ بتنظيم "العرضحال" وترصيعه ووضع أسمائهم وختومهم عليه ليرسله الباشا إلى الدولة فلم تسَعهم المخالفة، ونظّموا صورته ثم بيَّضوه في كاغد (ورقة) كبير". وظاهر من كلام الجبرتي أن المشايخ لم يكن لهم دخل في هذا العرضحال سوى الترصيع والتنميق والتوقيع.
كان السبب الرئيسي الذي جعل مجموعة كبيرة من المشايخ ينقادون لأفكار محمد علي أنه ربطهم بمصيره، فقد وزّع عليهم أملاك المماليك في القرى، وكانت تُدر عوائد سنوية كبيرة، وكان خلع محمد علي من ولاية مصر وعودة المماليك يعنيان نزع هذه الثروات من أيدي كبار العلماء ممن ارتضوها، وسنرى أن هذا المال المتدفق كان سببا في نجاح الباشا في ضرب بعضهم ببعض فيما بعد.
ورغم هذا "العرضحال" أصر الباب العالي الذي كان يمثّله القبطان باشا في الإسكندرية على تنفيذ الأوامر القادمة من إسطنبول، وأرسل قائد البحرية العثمانية رسالة جديدة إلى كبار المشايخ في مصر مثل الشيخ السادات وعمر مكرم وعبد الله الشرقاوي، فلما وصلت هذه الرسائل اجتمع معهم محمد علي من جديد وسألهم عنها، فقال الشيخ الشرقاوي: "ليس لنا رأي، والرأي ما تراه ونحن الجميع على رأيك، فقال لهم: في غد أبعث إليكم صورة تكتبونها في رد الجواب".
واستطاع محمد علي بواسطة كبار العلماء والمشايخ الذين كانوا يتصدرون الرأي العام ويوجّهونه من الإسكندرية إلى أسوان أن يفلت من العزل عن ولاية مصر، وأن يعود موسى باشا من حيث جاء، ولما فشل مخطط البريطانيين في عزل محمد علي وإعادة حلفائهم المماليك بزعامة محمد بك الدفتردار، كان سبيلهم لذلك القيام بحملة عسكرية مثل حملة نابليون من قبل، وهي الحملة التي عُرفت باسم "فريزر" سنة 1807م، وقد أفشلها الشعب المصري في رشيد، والمقاومة الباسلة التي اضطرت الإنجليز إلى الانسحاب من البلاد.
في هذين العامين 1805 و1807م كان محمد علي باشا مستفيدًا من الدعم الكبير الذي يتلقاه من العلماء والمشايخ في الأزهر؛ لأسباب سياسية ومالية؛ فالسياسية تتمثل في إفشال مخططات الباب العالي والبريطانيين لعزله وتحصين مركزه داخل مصر، وماليًا لأن العلماء كانوا يعطونه شرعية في جمع الأموال والضرائب التي يريدها للإنفاق على الجنود وتحصين القاهرة ومن ثم تقوية مركزه، فضلا عن حرب جيوب المماليك الهاربين في الصعيد.
وبعدما تأكد من ثبات مركزه الداخلي وانصراف السلطان العثماني عنه رأى أن مشاركة العلماء له في الحكم أو الشورى التي ألزموه بها أمست معوّقا له عن الاستقلال والانفراد بالسلطة وتقوية مركزه، وكان أول قراراته لتقليم أظافر العلماء إبطال الامتيازات المالية التي كانت تعود عليهم من الأراضي الزراعية التي أُعطيت لهم، أو التي يسميها الجبرتي بـ"مسموح المشايخ"، كما يقول في تاريخه: "لما انقضى هذا الأمر (هزيمة حملة فريزر) واطمأن خاطره، وخلص له الإقليم المصري… فأول ما بدأ به أنه أبطلَ مسموح المشايخ والفقهاء ومعافي البلاد التي التزموا بها".
وشرع الباشا في فرض الضرائب على العلماء وأهل الحرف والصنائع، والناس يقبلون هذا الأمر على مضض، ثم تمادى في فرض الضرائب على الأطيان والمتاجر، وحين طلعوا إليه في القلعة ينصحونه بتخفيض الضرائب عن كاهل المصريين لامهم بأنهم شركاؤه في أخذ الضرائب من الفلاحين الذين يعملون في أراضيهم التي التزموا بها، أي التي أقطعهم إياها، ولم يملك العلماءُ سوى الانسحاب أمام محمد علي، "وخرجوا من عنده متخاذلين، وقد ازدادوا وهنا على وهن"، كما يقول الجبرتي.
وأمام هذه المظالم المالية والضرائب المرهقة وتجرؤ الباشا على الاستيلاء على الأراضي الموقوفة على المساجد والعلماء وطلبة العلم بحجة عدم وجود وثائق لها، وتضرر الناس والفلاحين، اجتمع العلماء واتفقوا على الوقوف ضده، والكتابة للباب العالي لإسقاطه، عندها أرسل الباشا سكرتيره الخاص ديوان أفندي الذي هددهم وأخافهم ونصحهم بالاجتماع بمحمد علي في القلعة، ولكن المشايخ وعلى رأسهم عمر مكرم كانوا يدا واحدة وقالوا: "لا نذهب إليه أبدا ما دام يفعل هذه الفِعال، فإن رجع عنها وامتنع عن إحداث البدع والمظالم عن خلق الله رجعنا إليه وتردّدنا عليه كما كنّا في السابق؛ فإننا بايعناه على العدل لا على الظلم والجور".
ظل محمد علي يُفكّر مليًّا في تفريق العلماء واستطاع بالفعل شراء ذمم بعضهم مثل الدخاخني والمهدي والسادات وقد وقفوا ضد الشرفاء وعلى رأسهم الشيخ عمر مكرم الذي استطاع محمد علي أن يقبض عليه وينفيه إلى دمياط، ثم تمكن من القضاء على طبقة العلماء فيما يخص الشؤون السياسية والعامة بسبب نجاحه في تفريق وحدتهم، وشراء ذمم بعضهم أو من سمّاهم الجبرتي "مشايخ الوقت".
ولم يكن سقوط طبقة العلماء بسبب القوة العسكرية التي أصبح يتمتع بها محمد علي وشراء ذمم بعضهم، ولكنه نجح في بث روح الشك والريبة في قلوب عامة الناس، فتفرق الجمع، وأصبح الباشا سيد البلاد بلا منازع لا سيما بعد مذبحة القلعة التي فعلها ضد المماليك سنة 1811م.
بعد قرابة مئة عام من هذه الحوادث، وقف مفتي الديار المصرية الشيخ محمد عبده متأملا في المآل السياسي والاجتماعي الذي وصل إليه حال المصريين بعد الحكم المطلق والفردي لمحمد علي وأبنائه، وقضائه على طبقة العلماء سياسيًّا، والحجر عليهم داخل أروقة الأزهر فقط، فكتب يقول: "ما الذي صنع محمد علي؟ لم يستطع أن يُحيي، ولكن استطاع أن يُميت. كان معظم قوة الجيش معه، وكان صاحب حيلة بمقتضى الفطرة.. فأخذ يستعين بالجيش، وبمن يستميله من الأحزاب، على إعدام كل رأس من خصومه، ثم يعود بقوة الجيش وبحزب آخر على مَن كان معه أولًا، وأعانه على الخصم الزائل، فيمحقه.. وهكذا، حتى إذا سُحقت الأحزاب القوية، وجَّه عنايته إلى رؤساء البيوت الرفيعة، فلم يدع منها رأسًا يستتر فيه ضمير (أنا) واتخذ من المحافظة على الأمن سبيلًا (حجة) لجمع السلاح من الأهلين، وتكرر ذلك منه مرارًا حتى فسد بأسُ الأهالي، وزالت مَلَكة الشجاعة منهم، وأجهَز على ما بقي في البلاد من حياة في أنفس بعض أفرادها، فلم يبقَ في البلاد رأس يعرف نفسه حتى خلعه من بدنه أو نفاه مع بقية بلده إلى السودان فهلك فيه".
ويختتم رسالته قائلا: "أخذ يرفع الأسافل ويعليهم في البلاد والقرى، كأنه كان يحن لشبه فيه ورثه عن أصله الكريم حتى انحطَّ الكرامُ، وساد اللئام، ولم يبقَ في البلاد إلا آلات له يستعملها في جباية الأموال وجمع العساكر بأية طريقة، وعلى أي وجه.. فمَحق بذلك جميع عناصر الحياة الطيبة من رأي وعزيمة واستقلال نفسي؛ ليصير البلاد المصرية جميعها إقطاعًا واحدًا له ولأولاده، على أثر إقطاعات كثيرة كانت لأمراء عدة".
وهي خلاصة أدرك من خلالها الشيخ محمد عبده التغير السياسي والطبقي والاجتماعي والنفسي العميق الذي أصاب المصريين بعد مجيء محمد علي باشا؛ وقد رأينا أثرا من آثار هذه الحقيقة في طبقة العلماء ومدى نفوذها السياسي والعام الذي خُسفت به الأرض في زمن محمد علي.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات أبعاد السلطان العثمانی محمد علی باشا طبقة العلماء علماء الأزهر من إسطنبول من العلماء فی البلاد فی الأزهر العلماء ا عمر مکرم باشا فی من خلال فی مصر لم یکن قبل أن
إقرأ أيضاً:
الدكتور محمد ورداني: الشخصية السوية لا تقوم على مظاهر سطحية
اختتم مجمع البحوث الإسلامية فعاليات «أسبوع الدعوة الإسلاميَّة الخامس عشر» الذي تنظمه الأمانة العليا للدعوة بالمجمع بالتعاون مع جامعة عين شمس، تحت شعار «الشباب بين مقاصد الدين ومحاولات التغريب»، وذلك برعاية فضيلة الإمام الأكبر أ.د. أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، وإشراف فضيلة وكيل الأزهر أ.د. محمد الضويني، وفضيلة الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية أ.د. محمد الجندي؛ حيث عُقد اليوم اللقاء الختامي بكلية الآداب بجامعة عين شمس، تحت عنوان: «الشخصية السوية ومواجهة التغريب»، بحضور قيادات وأعضاء هيئة التدريس بالكلية والعاملين والطلاب.
أكدت أ.د. حنان كامل، عميد كلية الآداب، في كلمتها على الأهمية القصوى للتعاون المشترك بين الكلية والأزهر الشريف، مشيرة إلى أن هذا التعاون يمثل ضمانة حقيقية لبناء وعي سليم لدى الطلاب، لأن الأزهر بما يمتلكه من مرجعية دينية وتاريخية، لديه القدرة على تعزيز الهوية الوطنية والانتماء، وترسيخ الفهم الصحيح لجوهر الدين والقيم، كما أن هذه اللقاءات تسهم بشكل مباشر في صقل الجوانب المتعلقة بـالأخلاق والتربية والجانب الإيماني لدى الشباب، لذلك لدينا في كلية الآداب رغبة جادة في زيادة عدد لقاءات وندوات علماء الأزهر بالطلاب، لما سيكون له من أثر إيجابي في معالجة القضايا التي تشغل عقول الشباب، بما يسهم في تحصين العقول ضد الأفكار المتطرفة وبناء جيل واع ومسؤول.
وفي كلمته أوضح أ.د. محمد ورداني، أستاذ الإعلام بجامعة الأزهر، أن الشخصية السوية هي تلك التي تتسم بالتوازن الداخلي والانسجام الخارجي، وهي لا تقتصر على المظاهر والسلوكيات السطحية، بل تعتمد في جوهرها على بنية نفسية وفكرية متينة، ومن أبرز مقوماتها الأساسية هو القدرة على التحليل والتمييز، وامتلاك بوصلة قيمية ثابتة مستمدة من مرجعية راسخة، تمكن الفرد من مقاومة تيارات التغيير السطحية، التي يتعرض له في الحياة، نتيجة التغيرات المتسارعة، مع ضرورة أن يتجاوز الإنسان النظر إلى الأمور الشكلية أو ما يسمى بـ "القشور"، بل يجب عليه أن يدقق في الأمور ويحاول فهم الأبعاد الحقيقية للقضايا، مما يساعده على بناء قناعات ذاتية صلبة بدلاً من مجرد التبعية المجتمعية أو الإعلامية، لكل ما هو شكلي فقط.
كما أكد الدكتور محمد ورداني أن تحقيق الشخصية السوية، تتطلب أن يبدأ المسار من الفرد ذاته، حيث يجب على الإنسان أن ينظر في نفسه بعمق وصدق ويجري لها مراجعة دورية ومحاسبة ذاتية مستمرة لتقييم سلوكه وأفكاره، وهو المنهج الذي علمنا إياه النبي صلى الله عليه وسلم، والهدف من هذه المراجعة هو ضبط المسار وتصحيح الانحرافات قبل استفحالها، وأن يمتلك الفرد شخصية نقدية؛ أي شخصية لا تقبل المعلومة أو السلوك على كما هي، بل تمحص في كل ما تتعرض له وتتعامل معه بأسلوب نقدي، من خلال إعمال العقل والمنطق والقيم، وهذا النقد الدائم والموضوعي هو الضمانة الحقيقية لبقاء الشخصية على استقامتها السوية بعيدًا عن التقليد الأعمى أو التأثر السلبي بالتغيرات المتسارعة في محيطه.
من جانبه حذر الدكتور حسام شاكر، أستاذ الإعلام بجامعة الأزهر، من ظاهرة التغريب، لأنها ليست مجرد تأثر ثقافي عابر، بل هي مخطط ممنهج يشكل خطورة قصوى على المجتمع العربي والمسلم، ومن يقف خلف هذا التغريب لا يهدف فقط إلى تغيير الأنماط السلوكية، بل يسعى بالأساس إلى إعاقة أمتنا عن تحقيق الإنجازات والنهوض الحضاري، وذلك من خلال إحداث ضياع متعمد للهوية الأصيلة وتقويض المقومات الثقافية والدينية، التي تميز هويتنا الإسلامية والعربية، ولذا فإننا نأسف لظهور بعض مظاهر التغريب في أمتنا مثل: اندثار بعض ألفاظنا العربية الفصحى وتغلغل استخدام الألفاظ غير العربية، وكما أن الخطورة الأكبر تكمن في التباهي بهذا التمسك اللغوي المستورد، في حين أن هويتنا وتراثنا العربي الإسلامي مليء بكل مقومات القوة والابتكار والاكتفاء الذاتي الحضاري.
كما أكد الدكتور حسام شاكر أن التغريب يستهدف بشكل خاص الشباب الذي أصبح يواجه خطورة حقيقية تتمثل في التشتت الفكري والتبعية الثقافية، لثقافات لا تمثل ثقافتنا ولا تناسب أمتنا، وهذا الأمر ليس جديدًا، حيث كتب العديد من العلماء والمفكرين في هذا الشأن منذ عقود، داعين إلى ضرورة تحصين المجتمع من ضياع هويته، لكن التنبه الآن أصبح واجبًا قوميِا يتطلب تضافر جهود المؤسسات التعليمية والدينية والإعلامية، ليس فقط للتحذير، بل لتقديم البديل الحضاري المتمثل في الاعتزاز باللغة العربية، والتراث، والقيم الدينية الأصيلة، مع ضرورة بناء الجسور بين الشباب ومرجعيتهم الحضارية لضمان بقاء الأمة قادرة على الإنتاج والإسهام الحضاري الفاعل بعيدًا عن ذوبان الهوية في ثقافات الآخرين.
من جانبه، أشار أ.د. محمد إبراهيم، وكيل الكلية، إلى مفهوم "الشخصية السوية"، مؤكدًا أنها تحتاج بالضرورة إلى بوصلة توجهها نحو الطريق الصحيح، وهذه البوصلة، بدورها، تستلزم ضبطًا مستمرًا لضمان دقة توجيهها، وهذه اللقاءات التي تجمع الطلاب بعلماء الأزهر هي آلية مثلى لتحقيق هذا الضبط، خاصة وأنها تنبع من مرجعية دينية وتاريخية كبيرة وموثوقة مثل الأزهر الشريف، وهذا الدعم أصبح ضرورة في ظل ما يواجه الشباب من أزمات وتحديات فكرية وقيمية، حيث أصبح الكثير منهم ينجرف نحو البحث عن الترفيه السريع على حساب القيمة والمعنى الحقيقي للحياة، نتيجة التغيرات المتسارعة في عالمنا المعاصر.
من جانبه، أشار الأستاذ محمود حبيب، عضو المركز الإعلامي للأزهر، أن الشخصية السوية لا تعني الخلاء من العيوب، بل هي في جوهرها القدرة على الاتزان والتحلي بالحكمة عند مواجهة الأزمات، والبحث الفعال عن الحلول، مشددًا على أن تحقيق الصحوة للنفس والنهضة الذاتية، يبدأ بسؤال جوهري ومستمر هو: "من أنا؟"، معتبرًا أن هذا التساؤل العميق هو المفتاح لتحقيق التطور الذاتي المستمر.
يذكر أن «أسبوع الدعوة الإسلامية خامس عشر» والذي يحمل شعار «الشباب بين مقاصد الدين ومحاولات التغريب»، استمر خلال على مدار خمسة أيام بدأت من الأحد ٧ ديسمبر وحتى الخميس ١١ ديسمبر، بخطة دعوية شاملة في مختلف كليات جامعة عين شمس، بمجموعة من المحاول تشمل: «التغريب مظاهره ومخاطرة وسبل مواجهته»، و«محاولات تغريب المرأة وسبل ومواجهتها»، و«أزمة الشباب بين التطرف والانحلال»، «الحفاظ على الوطن في ظل موجات التعريب»، و«بناء الشخصية السوية ودوها في مواجهة التغريب».