تستدعي الكاتبة «أوليفيا لاينغ» مؤلفة كتاب «المدينة الوحيدة» مغامرات في فن البقاء وحيدًا، ترجمة محمد الضبع. تداعي الوحدة على المرء في عالم شديد الصخب بقولها:«بإمكانك أن تكون وحيدًا في أي مكان، ولكن هناك نكهة خاصة للوحدة التي تعيشها في مدينة وأنت محاط بالملايين من البشر» فعلى الرغم من الحضور البشري الهائل يبدو الفرد وحيدا وبائسا.

لكن المخرج الألماني «فيم فيندرز» بالتعاون مع المخرج الياباني «تاكوما تاكاساكي» قدما أنموذجًا مغايرًا لوحدة فريدة من نوعها في فيلمهم المعنون «أيام مثالية» من خلال شخصية بطلهم الياباني«هيراياما» الذي يجسده الممثل الياباني «كوجي ياكوشو» وهو عامل نظافة لمراحيض طوكيو.

يبدو «هيراياما» الذي يعيش وحيدًا في شقة صغيرة في حي داخلي من أحياء طوكيو في العقد السادس من عمره. تمضي يومياته على النمط نفسه كل يوم وبالحس النفسي ذاته. يبدأ في الاستيقاظ من نومه قبيل طلوع الشمس. ومن خلال نافذة غرفته الوحيدة يستطيع المرء أن يتنبأ بحالة الطقس، مشمسا كان أم مبللا بأمطار غزيرة. يقطعها بخفة إلى ماكينة المشروبات الغازية القريبة من مسكنه ليسحب منها كل صباح مشروبه المعتاد وهو علبة قهوة اسبريسو الباردة، يكرع أول رشفة منها وهو خلف مقود سيارته ليمضي إلى عمله على نغم أغنية أمريكية كلاسيكية يختارها بعناية من مجموع شرائط الكاسيت المكدسة بترتيب ظاهر في أعلى ركن من أركان حافلته الصغيرة التي تفيض مقاعدها الخلفية بمعقمات وأدوات تنظيف المراحيض العامة. يسبر الشارع المكتظ مع كلمات أغانيه التي تفيض بالحيوية مع ابتسامة تجعل تقاطيع وجهه الباردة ودودة. تلك التفاصيل الضئيلة التي يتسّم بها روتينه تتّسع حتى في أثناء استغراقه لممارسة عمله في التنظيف الصارم حتى لأدق تفاصيل الأشياء، ليجهّز للعامة، للآخرين، العابرين مرحاضا يشع بالنظافة والتعقيم. ورغم جديته الصارمة في التنظيف يبدو ميالا إلى التنامي مع الناس والطبيعة من حوله مخففا من حدّة الغموض الذي يكاد يكون مكلّلاً بشخصيته. وفي طريق العودة يركن حافلته في مقابل شقته ليخرج منها سريعا حاملا معه سلة بداخلها منشفته الشخصية وعلى متن دراجته الهوائية يمضي إلى حمام سونا العام في شارع قريب. يسترخي في حوض يفيض بالمياه الساخنة مستمتعا بسكون الأرجاء من حوله. وحين ينتهي من حمامه اليومي يقود دراجته بيده تاركا إياها في وسط طريق قريب من مترو أنفاق يهبط سلالمها على قدميه ليتعمق في طريق محفوف بالأسواق الشعبية والمطاعم التقليدية. يتناول في إحداها وجبته وسط صمت مهيب رغم تدافع حماسة بعض الرجال من مشاهدة مباراة محلية يتفاعل معهم بابتسامة حيوية مُنهيا وجبته ومغادرًا إلى البيت ليسترخي في فراشه الأرضي وعلى ضوء أباجورة الخافت يقلب صفحات من روايات أمريكية الطابع كروايات فوكنر.

أما في يوم العطلة. فيشهد روتينه بتفاصيل أكثر ذاتية. ينهض متأخرًا قليلًا، يحمل ملابس عمله إلى المغسلة العامة ثم يعرج على مكتبة تديرها امرأة. تنحصر أغلب خياراته في روايات أمريكية الطابع وكتب أشعار لشاعرات من اليابان يغلب على أدبهن هواجس القلق والوحدة.

على هذا المنوال الذي يبدو رتيبًا وعاديًا يعيش «هيراياما» أيام حياته. رغم معايشته العادات نفسها مرة تلو المرة. لكنها لا تبدو وهو يمارسها بشكل يومي بأنها تفاصيل راكدة بل يمكن القول بأنه رجل يستمتع برفقة نفسه. هائم في عوالم خيالاته. مستغنيًّا عن العالم كله عبر خيارات تنعش أوقاته كقراءة القصص والكتب واستماع لأغان عتيقة من كاسيت قديم، أو جولة على دراجته الهوائية في الهواء الطلق. أو حمام سونا. والتجول في المكتبة.

ما يميزه أنه لا يمارس روتينه بطريقة آلية بل يبدو مستغرقًا في المتعة، مضمخًا بصفاء الذهن والسلام الروحي، سابرًا ومطمئنًا في وحدانيته وكأنه الكائن الوحيد في الكون.

حتى أن ابنة شقيقته حين باغتته بزيارة مفاجئة تآلفت مع طبيعة حياته كما تعلقت بعاداته اليومية بل أبدت فضولا تجاه كتبه ورواياته التي كان يستعيرها من المكتبة، وتحفزت لطريقة تفانيه في عمله وعاونته في تنظيف بعض المراحيض على الرغم مما قد يبدو للبعض بأن عامل تنظيف مراحيض عامة قد يكون محاطًا بالقذارة. ناهيك عن معاملته بالدونية ونحو ذلك، لكن تركيبة شخصية «هيراياما» أضافت بعدًا جماليًّا لعامل المراحيض العامة باعتبارها وظيفة كباقي الوظائف التي سيظل المرء يمارسها طوال حياته دون شعور بالعار أو النقيصة.

قدم الفيلم بشخصية البطل أنموذجًا مثاليًّا لوحدة مثالية، فالبطل وحيد لكنه سعيد. يعيش وحيدًا غير أن أوقاته ممتلئة. يستمتع بالمتع الصغيرة التي تآلف معها. قد يراها الآخرون عادية لكنها في وقتنا الراهن حيث البشر المحاطون بحيوات غاية في الآلية والجمود تكاد تكون نمط حياة «هيراياما» وعزلته مع ذاته وهواياته المتعددة والتي طبعت بطالع ثقافي مذهلة. حياة معافاة. خيالاته شاعرية لكنها ذات صلة بالواقع. نائيا كيانه الفردي عن حياة افتراضية ومتخففًّا من ثقل الأسماء المستعارة أو الحسابات الوهمية، حتى هاتفه لم يوظفه في الفيلم سوى لاستقبال اتصال مسؤوليته في العمل أو لاتصال طارئ بزميل عمله الذي عزم دون سابق إنذار أن يستقيل مسببا ربكة لطبيعة الدقيقة، ولشعوره بالمسؤولية المتفاقمة لإنجاز عمله على أكمل وجه.

وحين نعود لنستعرض وحدة الأشخاص الذين لامستهم مؤلفة كتاب «المدينة الوحيدة» نرى أنها انتخبت نماذج شوهتها الوحدة. شخوصا محاطين باضطراباتهم، أرواحهم قلقة، تلاحقهم هواجس الماضي الداكن. غريبو أطوار. قلبت الوحدة أحوالهم من الخارج. يبدون أناسا مهمّشين، يمارسون مهنا مهمشة، بالرتابة نفسها، صلاتهم لمن حولهم معدودة، بل تكاد تكون معدومة. يبدون من هيئاتهم خطرين أو مشردين، مثيرين للشفقة في آن، على الرغم من أن أعماقهم تصطخب إبداعا، منغمسين في مواهب فنية وإبداعية عالية وساحرة بل خارقة للعادة أيضا.

لكن وحدة البطل الياباني تبدو مثالية كأيامه. وحدة صحيّة، تكاد تكون منسية أو مفقودة. وحدة تصقل شخصية المرء، تجعله يبدو حقيقيًّا في عالم افتراضي، تكاد تلامس ما ذكرته الكاتبة الأمريكية «فيرجينيا وولف» في مذكراتها سنة 1992م حيث وصفت شعورًا بالوحدة الداخلية، وكانت تحاول أن تحللّه: «فقط لو أستطيع القبض على هذه الشعور: إنه شعور سماع غناء العالم الحقيقي، تأخذني إليه الوحدة والصمت لأبتعد عن العالم المليء بالبشر».

ليلى عبدالله كاتبة وقاصة عمانية

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: وحید ا

إقرأ أيضاً:

كيف يبدو واقع السينما ومنصات البث في روسيا تحت سيف العقوبات؟

موسكو- تأثرت دور السينما الروسية بشكل مباشر بالعقوبات الغربية مما أدى إلى عدد من العواقب، بما في ذلك عدم عرض الأفلام الأجنبية في روسيا وتغييرات في صناعة السينما الروسية نفسها.

فبعد أن بدأت بالكاد بالخروج من أزمة جائحة كوفيد 19، والتي تسببت، وفقًا لبعض الخبراء، في خسارة دور السينما الروسية حوالي مليار دولار في عام 2020 وحده، وجدت صناعة السينما المحلية نفسها مجددا في وضع صعب بسبب التغيرات الجيوسياسية، والتي تحولت في النهاية إلى عقوبات ضد روسيا.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2دينيس فيلنوف يقود أولى مغامرات جيمس بوند تحت راية أمازونlist 2 of 2قصص ما وراء الكاميرا.. أفلام صنعتها السينما عن نفسهاend of list

بناء على ذلك، توقف عرض العديد من الأفلام العالمية الكبرى في روسيا، مما أدى إلى نقص حاد في العروض والإصدارات الجديدة في دور السينما.

علاوة على ذلك، تم الحد من الوصول إلى وسائل الإعلام والخدمات الغربية، حيث تم حظر الوصول إلى مواقع التواصل الاجتماعي ومنصات الإعلام (مثل فيسبوك، وإنستغرام، وتويتر، ويوتيوب) مما أدى إلى تقييد مشاهدة المحتويات الأجنبية عبر هذه المنصات.

ويتضح نقص المحتوى بوضوح من خلال إيقاف توزيع معظم الأفلام الأجنبية، حيث غادرت أستوديوهات هوليود الرئيسية الخمسة السوق الروسية.

ومع ذلك، بقيت أستوديوهات أصغر ولا تزال تتعاون مع روسيا، لكن السؤال المطروح هو: هل يشاهد أحد منتجاتها؟ وإذا شاهدها، فهل ترقى إيرادات عرضها إلى مستوى توقعات دور السينما؟

توقف عرض العديد من الأفلام العالمية الكبرى في روسيا، مما أدى إلى نقص حاد في الإصدارات الجديدة في دور السينما (الجزيرة)

تتضح الإجابات على هذه التساؤلات بشكل خاص عند مقارنة إيرادات شباك التذاكر على مدى السنوات الماضية.

فقد بلغ عدد التذاكر المبيعة في دور السينما الروسية في الربع الأول من عام 2025 مستواه الأدنى في السنوات الثلاث الماضية، وفقًا لما أظهرته بيانات نظام المعلومات الآلي الموحد لمعلومات عروض الأفلام في دور السينما.

إعلان

ففي الربع الأول من عام 2022، الذي تزامن مع بدء العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا والإلغاء الشامل للعروض الأولى لأفلام هوليود في روسيا، لم يحضر عروض السينما سوى 34.2 مليون مشاهد.

وكانت النتيجة في بداية هذا العام أفضل من أرقام عام 2022، لكنها أسوأ من الربع الأول من عام 2021، عندما ظلت قيود فيروس كورونا ساريةً في مُعظم المناطق، بما في ذلك موسكو.

وفي ظل العقوبات، أصبحت شبكات التواصل الاجتماعي وبرامج الرسائل الفورية الروسية هي الأكثر شعبية، فضلا عن المحتوى غير المرتبط بالسياسة والعقوبات، مثل الأخبار والترفيه وأسلوب الحياة والمحتوى التعليمي والمحتوى الترفيهي.

إضافة إلى ذلك، أدت العقوبات إلى تغييرات هيكلية في صناعة السينما الروسية، مما جعلها أكثر اعتمادًا على التمويل المحلي والسوق المحلية.

ولكن من المهم الإشارة إلى أنه قبل هذه التغييرات، لم تستحوذ الأفلام المحلية إلا على مركزين أو ثلاثة من بين الأفلام العشرة التي حققت أعلى إيرادات في شباك التذاكر في روسيا خلال السنوات الأخيرة.

في ظل هذه الظروف، يبدو حديث بعض المسؤولين في مجال الثقافة -على سبيل المثال-  بأن 87 مليون مشاهد شاهدوا الأفلام المحلية في عام 2023، وهو ضعف عددهم في عام 2020، عندما شاهد 42.5 مليون شخص الأفلام الروسية، غريبًا بعض الشيء.

 صحيح أن المنطق الرياضي وراء هذا التصريح صحيح، لكن هذه المعلومة قُدّمت على أنها انتصار كبير لصناعة السينما المحلية، ولم تذكر أي شيء عن أن هذه النتائج لم تكن ممكنة إلا في ظل غياب شبه كامل للمنافسة في السوق، بسبب اختفاء أشهر الأفلام الأجنبية.

القيود المفروضة على الوصول إلى الأفلام الأجنبية تسببت في زيادة حصة الأفلام المحلية في التوزيع بشكل ملحوظ (الجزيرة) أزمة إنتاج

يؤكد صانع المحتوى وكاتب السيناريو ليونيد فودوفوزف بأن تأثير العقوبات الغربية على صناعة السينما الروسية تمثل في تقييد الوصول إلى التمويل والتكنولوجيا والخبرة الدولية.

وحسب ما يقول للجزيرة نت، أدى ذلك إلى انخفاض عدد المشاريع المشتركة مع الشركاء الأجانب. فقد أدى حظر القروض والاستثمارات لصناعة السينما الروسية، وخاصةً من الشركات الغربية، إلى صعوبة إنتاج وتوزيع الأفلام.

كما تسببت القيود المفروضة على توريد المعدات والبرمجيات اللازمة لإنتاج الأفلام (مثل معالجات الرسومات وبرامج التحرير) بإبطاء وتيرة إدخال التقنيات الجديدة وزيادة التكاليف.

إضافة لذلك، أفضى إغلاق أستوديوهات الأفلام والقيود المفروضة على التعاون مع الشركاء الأجانب إلى انخفاض عدد المشاريع المشتركة وتقييد الوصول إلى سوق التوزيع الدولية.

في المقابل، تسببت القيود المفروضة على الوصول إلى الأفلام الأجنبية، في زيادة حصة الأفلام المحلية في التوزيع بشكل ملحوظ، إذ أصبحت صناعة السينما الروسية أكثر توجهًا نحو السوق المحلية، مما أدى إلى تزايد المواضيع الوطنية وفي نفس الوقت إلى تراجع التنوع.

بناء على ما سبق، يخلص المتحدث إلى أن سوق صناعة السينما الروسية قادرة على الصمود في ظل العقوبات، إلا أن ثمة مخاطر لا تزال قائمًة، ولمواجهتها، يجب على روسيا اتخاذ تدابير لمكافحة مخاطر العقوبات، بالإضافة إلى تحفيز سوق صناعة السينما الروسية.

إعلان سد الفراغ

من جانبه، يؤكد مسؤول الإعلانات بشركة "كينوميديا" للدعاية السينمائية على ضرورة الاهتمام باستخدام التقدم العلمي والتكنولوجي لابتكار أشكال جديدة من إنتاج الأفلام، مثل الواقع الافتراضي والرسومات الحاسوبية، لجذب المشاهدين وجعل السينما المحلية أكثر تنافسية في السوق العالمية.

ووفقا له، أتاحت العقوبات للمنتجين المحليين فرصة لإثبات جدارتهم، ومع ذلك، ليس كل شيء بهذه البساطة.

فكما يوضح، يمثل نقص المتخصصين الذين غادروا سوق إنتاج الأفلام الروسية بعد فرض العقوبات خطرًا أيضًا، نظرًا لصعوبة تدريب المحترفين المستقبليين في مجال صناعة الأفلام.

كما يشير إلى وجود مشكلة تتعلق بتقييد توزيع الأفلام الروسية في الخارج، ويدعو، ردًا على ذلك، إلى التركيز على الأسواق الأخرى في الدول التي يصفها بالموالية والترويج النشط للمحتوى الروسي خاصةً على المنصات الإلكترونية، إلى جانب شراء محتويات بديلة، على سبيل المثال،  من تركيا وكوريا الجنوبية.

ويتابع بأنه لزيادة اهتمام الجمهور بالسينما المحلية، يمكن لروسيا جذب الاستثمارات في إنتاج محتوى عالي الجودة، وتطوير مهرجانات الأفلام وغيرها من الفعاليات، وتطوير منصات إلكترونية لتوزيع الأفلام، مما يتيح الوصول إلى السينما المحلية لجمهور واسع.

مقالات مشابهة

  • كيف يبدو واقع السينما ومنصات البث في روسيا تحت سيف العقوبات؟
  • حبس عاطل 4 أيام بتهمة سرقة مبلغ مالى من مكان عمله السابق
  • هبة وسارة مهند يردان على تعليقات التنمر: عادي صرنا ناكل بزيادة.. فيديو
  • «تنشيط السياحة» بـ الإسكندرية: المدينة تزخر بالآثار التي تثبت تاريخها الحضاري العريق
  • الكرملين: ينبغي تذكير الولايات المتحدة بأنها الدولة الوحيدة التي استخدمت الأسلحة النووية
  • أفضل 5 سيارات كهربائية مثالية.. أبرزهم كيا EV9
  • زهران ممداني.. الشاب المجهول الذي قلب نيويورك راسا على عقب بسباق عمدة المدينة
  • بعد إخفاقين سابقين.. اتحاد الكرة العراقي ينجح بعقد اجتماع غير عادي
  • بمناسبة قرب انتهاء فترة عمله في المملكة.. أمير منطقة المدينة المنورة يستقبل القنصل العام العراقي
  • وزير الدفاع الأمريكي: ضرباتنا التي استهدفت المواقع النووية بإيران كانت مثالية