عربي21:
2025-05-29@01:55:04 GMT

الزعيم اللئيم والصعلوك الكريم (11)

تاريخ النشر: 8th, August 2023 GMT

في هذا الاجتماع (وهو الاجتماع قبل الأخير) الذي دوَّن وقائعه المستشار حسن العشماوي، عضو فريق الإخوان المسلمين الذي كان ينسق مع قيادة "الضباط الأحرار" في "الأيام الحاسمة" التي سبقت وأعقبت انقلاب الضباط على الملك فاروق، ظهر جليّا انحياز جمال عبد الناصر التام للغرب! حتى أنه رد على سؤال للمستشار الهضيبي بقوله: "ولكنك تعلم أن وضعنا الطبيعي أننا من أنصار الغرب" هكذا بكل وضوح!

ولما سأله الهضيبي: "لماذا؟"، أجاب عبد الناصر: "لأننا مرتبطون بالغرب طبيعيا، فالشيوعية لا نرضاها دينا ولا وطنية.

. والغرب جرَّبنا استعماره، وهو أهون مما لم نجرب.. فضلا عن أن أمريكا لا تعتبر مستعمِرا في الوقت الحاضر.. إنها تعاون العرب على الاستقلال"!

غير أن عبد الناصر لم يثبت على رأيه هذا إلا قليلا، إذ ارتمى (بعد بضع سنين) في أحضان الاتحاد السوفييتي، أب الشيوعية وأمها، حتى باتت مصر في عهده، منطقة نفوذ سوفييتي بامتياز، وبات الجيش المصري يُدار بضباط سوفييت، تحت مسمى "خبراء"!.

ومما لفتني في هذا الاجتماع، أن المستشار الهضيبي كان قليل الكلام.. فقد أفسح المجال لإخوانه؛ للرد على عبد الناصر وزملائه، وكان إخوان الهضيبي أهلا لذلك، كما بدا لي من سياق الحديث الذي أظهر لي (أيضا) عمق التفاهم، والاحترام المتبادل، بين الهضيبي وإخوانه..

وكان من أغرب ما دوَّنه العشماوي في هذا الاجتماع سؤال عبد الناصر الاستنكاري الذي وجهه للعشماوي: "ماذا يعني بالأمة"؟! ردا على "تنبيه" أو تأكيد الهضيبي: "إن الأمر كله بيد هذه الأمة، تقرره بممثليها الذين انتخبوا انتخابا صحيحا.. وكل ما يتبقى من محاولات واجتهادات منكم، تؤجرون عليها إن خلصت نيتكم"...

وجاء رد العشماوي توبيخا وتأنيبا لعبد الناصر الذي حاول التغابي والاستبلاه بطرحه هذه السؤال "المستفز": يعني هذه الأمة.. ومن يمثلها تمثيلا صحيحا في انتخابات حرة! إن هذه الأمة ليس لأحد الوصاية عليها لمجرد أنه قام بانقلاب عسكري.. أنت تعلم أنه يعني ذلك.. فلماذا تتجاهل ذلك الآن"؟!

رجل على وشك قيادة دولة كبرى، والدخول في مفاوضات مع المحتل، لا يعرف ماذا تعني "الأمة"! تلك الكلمة التي تكررت في خطاباته أكثر من عدد وعود السيسي للشعب المصري التي اكتشف الجميع (اليوم) أنها كانت طعوما لشراء الوقت، حتى ينتهي من تجريف مصر وتخريبها!

ستعلم أيضا (عزيزي القارئ) من خلال هذا اللقاء، أن ضباط يوليو وعدوا المصريين بإجراء انتخابات بعد ستة أشهر من الانقلاب على الملك، تماما كما وعد المجلس العسكري الشعب المصري إبّان انتفاضة يناير 2011 بإجراء انتخابات بعد ستة أشهر من خلع مبارك، وتسليم السلطة لرئيس منتخب، وهو الأمر الذي لم يتم إلا تحت ضغط شعبي هائل، بعد مماطلة واضحة من المجلس العسكري، وهي المدة ذاتها التي طلب المارشال ياسر جلال من الشعب المصري إمهاله إياها، وبعدها ستكون مصر "في حِتّة تانية خالص"!

وللتاريخ.. فقد وفَّى المارشال جلال بوعده، وأصبحت مصر "في حِتّة تانية خالص" لن تعود منها إلا بعد قرن من الزمان، على أقل تقدير..

ولست أعرف على وجه اليقين السر وراء اختيار العسكر مدة "ستة أشهر" لتكون بداية خداع المصريين، في كل مرة!

ما أشبه اليوم بالبارحة!

لنتابع معا (عزيزي القارئ) وقائع اجتماع ذاك اليوم الذي انعقد في بيت منير الدلة، القيادي في الإخوان المسلمين..

اليوم الثالث.. 25 فبراير 1953

(منزل منير [الدلة ـ إخوان].. أثاث ينم عن ذوق سليم، غرفة الجلوس.. بعد الغداء.. يجلس المستشار [الهضيبي]، ومنير [الدلة] وصالح [أبو رقيق] وخميس [لم أستدل على اسمه الثنائي].. جمال [عبد الناصر] وسالم الصغير [صلاح سالم] وعبد الحكيم [عامر] وكمال [الدين حسين].. يدخل حسن [العشماوي ـ إخوان ـ كاتب محاضر الجلسات] وعبد القادر [صاحب البيت الذي استضاف اجتماعات قيادات الإخوان والضباط قبل الانقلاب على فاروق] قادمين من سفر، يُسلمان مصافحة باليد على الجالسين، ويرحبون بهما.. ثم يتم المستشار حديثه).

ـ المستشار [الهضيبي] (متما حديثه): هذا هو رأينا بوضوح.. جلاء غير مشروط، فإذا عجزتم عن ذلك، وبقيت القاعدة قابلة لعودة الإنجليز، عند قيام الحرب، أو خطر الحرب، يجب أن يقرر خطر الحرب مجلس الأمن.. أو اتفاق الطرفين.

ـ كمال [الدين حسين ـ ضابط]: رائع.. إن هذا الموقف المتشدد يساعدنا كثيرا في التفاوض.

ـ المستشار: ماذا تعني بالموقف المتشدد؟

ـ كمال: أعني الوقوف على الحياد بين المعسكرين الدوليين!

ـ جمال [عبد الناصر] متدخلا: اسمح لي يا أستاذ.. هل تقصد هذا الرأي حقيقة، أم أنك تقصد الظهور بموقف المتشدد عونا لنا؟ أعني لنحصل على أكبر مكسب ممكن في التفاوض؟

ـ المستشار: أنا لا أقول إلا ما هو حقيقة.. ولكن، ما هو التشدد الذي ترونه في هذا القول؟ إنه الطلب الطبيعي للحركة الإسلامية، ولكل وطني مخلص لوطنه.. لسنا أنصار غرب ولا شرق.. إن احتلال أرضنا أمر غير مشروع! لذلك نرفضه في أية صورة.. بمعاهدة أو بغير معاهدة!

ـ جمال: ولكنك تعلم أن وضعنا الطبيعي أننا من أنصار الغرب.

ـ المستشار: لماذا؟

ـ جمال: لأننا مرتبطون بالغرب طبيعيا، فالشيوعية لا نرضاها دينا ولا وطنية.. والغرب جربنا استعماره، وهو أهون مما لم نجرب.. فضلا عن أن أمريكا لا تعتبر مستعمِرا في الوقت الحاضر.. إنها تعاون العرب على الاستقلال.

ـ المستشار: إذا كنتم قد جربتم الاستعمار الغربي وارتضيتموه، فلماذا تحاربونه.. إن كل استعمار فكري، أو عسكري، أو اقتصادي، مرفوض، بما في ذلك استعمار الأمريكان.

ـ جمال: أترتضي الشيوعية وهي مخالفة للدين؟

ـ المستشار: أنا لا أرتضي استعمار الكرملين، فكلاهما مخالف للدين.

ـ جمال: إذن لماذا تصر على الحياد؟

ـ المستشار: لأن طبيعة أمتنا، وأصول ديننا، ترفض الاستعمارين.

ستعلم (عزيزي القارئ) من خلال هذا اللقاء، أن ضباط يوليو وعدوا المصريين بإجراء انتخابات بعد ستة أشهر من الانقلاب على الملك، تماما كما وعد المجلس العسكري الشعب المصري إبّان انتفاضة يناير 2011 بإجراء انتخابات بعد ستة أشهر من خلع مبارك، وتسليم السلطة لرئيس منتخب، وهو الأمر الذي لم يتم إلا تحت ضغط شعبي هائل، بعد مماطلة واضحة من المجلس العسكري، وهي المدة ذاتها التي طلب المارشال ياسر جلال من الشعب المصري إمهاله إياها، وبعدها ستكون مصر "في حِتّة تانية خالص"!ـ كمال (متدخلا): فإذا لم نستطع الحياد؟ أي إذا لم نستطع الخروج من معاهدة 1936 إلا بمعاهدة جديدة؟

ـ المستشار: قلت لكم رأيي في ذلك.. (يصغي).

ـ منير: الواقع أن رأي المستشار في هذا الموضوع واضح.

ـ سالم (في استحياء): ولكني لم أفهم بعد، فهل يمكنك شرحه لي؟ لو سمحت!

ـ منير: طبعا يمكنني (ينظر إلى المستشار كالمستأذن، فيبتسم الأخير، فيواصل منير حديثه).. إن الأخ الكبير [يقصد الهضيبي] يقدر موقفكم، واستحالة عدم حصولكم على مطلب الجلاء بغير معاهدة مستغلة للقاعدة الحربية في السويس.. ولذلك، فهو يرى أولا، أن تكون مدة الارتباط بعودة الإنجليز إلى القاعدة محدودة، ثم أن تكون (أساسا) في حالة تعرض مصر، أو إحدى الدول العربية لهجوم مسلح من دولة أجنبية.. أما مسألة قيام خطر الحرب، أي خطر الاعتداء على إحدى هذه الدول، فإنه أمر يجب أن تتفق عليه لجنة من الطرفين المتعاقدين، مصر وإنجلترا.. هل هذا واضح؟

ـ كمال: واضح ومعقول.

ـ جمال: فإذا لم يتفق الطرفان؟

ـ منير: تكون العودة بقرار من مجلس الأمن، بوجود حالة خطر الحرب.. خطر الاعتداء على إحدى تلك الدول.

ـ سالم: وما دخل مجلس الأمل في هذا الأمر؟

ـ جمال: وجيه هذا التساؤل.. لماذا ندخل في دوامة مجلس الأمن؟

ـ منير: لأن مجلس الأمن لن يتخذ قرارا متحيزا في هذا الشأن.. فحق الفيتو (الاعتراض ـ النقض) مكفول لكل من المعسكرين المتخاصمين، ولذلك لن يوافق عليه جميع المتخاصمين إلا إذا كان خطرا حقيقيا.. أو خطر يأتي من غيرهما.. وبهذا نضمن الحياد عند توتر العلاقات بين المعسكرين.

ـ جمال: ولكن هب أن الخطر كان حقيقة.. من روسيا.. وروسيا ستستعمل حق الفيتو لتعطل القرار؟

ـ صالح [أبو رقيق]: إذا كان الخطر حقيقيا، هنا تكمن أهمية المعاهدة ودور الإنجليز، إذا لم تستطع مصر وحدها رد العدوان.

ـ جمال: آه صحيح.. هذا أمر مفهوم، ولكن هل يقبله الإنجليز؟

ـ منير: هذا واجبكم في المفاوضات.

ـ سالم: وما المدة التي ترونها معقولة للجلاء؟

ـ منير: سنة.. كما قال الأخ الكبير [الهضيبي].

ـ جمال: لم يستطع صدقي أن يصل إلى أقل من ثلاث سنوات.

ـ المستشار (متدخلا) كان هذا منذ مدة.. كان سنة 1946، أي أن الجلاء كان سيتم عام 1949، لو أن الاتفاقية تمت وقتذاك.

ـ جمال (يطرق لحظة، ثم يرفع رأسه): فإذا لم نستطع إقناعهم بسنة؟

ـ المستشار (لا يجيب، ويومئ إلى منير بأن يتولى الرد)..

ـ منير: لماذا؟

ـ جمال: إن عملية الجلاء ذاتها تحتاج إلى أكثر من سنة، ولا تنس أننا سنستلم، أثناء الجلاء، أجهزة ومعدات معقدة لم نعتد عليها.

ـ عبد القادر (مقاطعا): أتتكلم الآن كعسكري أم كسياسي مفاوض؟

ـ جمال (هامسا): ليتك لم تتكلم! (ثم يرفع صوته مجيبا) الاثنان.. الاثنان (ملتفا إلى حسن) أليس كذلك يا حسن [العشماوي ـ كاتب محاضر الجلسات - أقرب قيادات الإخوان إلى عبد الناصر)؟

ـ حسن (ضاحكا): لا تعتمد على تأييدي لك فأنا متهم!

ـ المستشار (بجدية): لست متهما، وإن كنتَ صديقا لجمال، فهذا لا يعني اتهامك.

ـ حسن: الحمد لله.. ولكن أجب أنت وحدك يا جمال.

ـ عبد القادر (مقاطعا): لقد أجاب.. كفتني إجابته.. ولم أقتنع بها.

ـ جمال: لماذا لم تقتنع بها.

ـ المستشار (متدخلا): لا يهم هذا.. ولكن ماذا تعني أنت يا جمال؟

ـ جمال: أعني أن الجلاء ذاته يحتاج إلى أكثر من سنة.

ـ المستشار: إلى كم سنة يحتاج؟

ـ جمال: إلى ثلاث سنوات على الأقل.

ـ المستشار: إذن لم تأت بجديد، فهذا سمعناه قديما.

ـ جمال (مستدركا): سنحاول أن نختصرها ما استطعنا.

ـ منير: أجل.. حاولوا.

ـ المستشار: ولكنكم نسيتم أمرا.. أمرا هاما.

ـ منير (في تعجب): ما هو؟

ت المستشار: إن الأمر كله بيد هذه الأمة تقرره بممثليها الذين انتخبوا انتخابا صحيحا.. وكل ما يتبقى من محاولات واجتهادات منكم، تؤجرون عليها إن خلصت نيتكم.

ـ منير: أنا لم أثر هذا.. فقد كان واضحا منذ بدء حديثك.

ـ جمال (مخاطبا حسن): ماذا يعني بالأمة؟

ـ حسن: يعني هذه الأمة.. ومن يمثلها تمثيلا صحيحا في انتخابات حرة! إن هذه الأمة ليس لأحد الوصاية عليها لمجرد أنه قام بانقلاب عسكري.. أنت تعلم أنه يعني ذلك.. فلماذا تتجاهل ذلك الآن؟!

ـ جمال: آه.. تذكرت.. ولكن (ينظر إلى أصحابه) هل تعتقدون أن الوقت مناسب لانتخابات حرة؟

ـ حسن: لقد انقضت الشهور الستة التي ضربتموها موعدا.

ـ جمال: ولكن ظروفا جدت.. ظروفا تقتضي التأجيل.

ـ المستشار: أرجو ألا تدعوكم الظروف إلى تأجيل طويل.. (يقف) أستأذن الآن.. أستودعكم الله.
(يقف الجميع.. يتصافحون.. ويغادر المستشار الغرفة ومعه منير وعبد القادر).

(يظل الجميع وقوفا يتحدثون فرادى، حتى يعود منير.. يسلمون ويخرجون، الواحد بعد الآخر)..

(يتبع)..

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير الضباط الأحرار مصر مصر تاريخ سياسة الضباط الأحرار توجهات مقالات مقالات مقالات سياسة مقالات سياسة سياسة رياضة سياسة رياضة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة المجلس العسکری الشعب المصری مجلس الأمن عبد القادر عبد الناصر ـ المستشار خطر الحرب هذه الأمة تعلم أن ـ جمال إذا لم فی هذا ـ کمال ـ منیر

إقرأ أيضاً:

هل على نتنياهو أن يخشى من جيل الأطفال الذي شهد الإبادة؟

بعد ساعات طويلة من انتظار الحصول على حصّته من المياه، يقف طفل لا يتجاوز الـ12 من عمره أمام غالونين كبيرين مليئين بالماء، لا وقت للإرهاق الآن، فالحصول على المياه النظيفة الشحيحة شيء، والعودة بها للخيمة أو المنزل المهدم الذي يعيش فيه مع أسرته شيء آخر تماما. يحاول الطفل رفع الغالونين عدّة مرات دون فائدة، فالحمل ثقيل لجسد صحيح، فما بالك بجسد منهك من الحرب وقلة التغذية.

محاولات الطفل غير الناجحة جعلته يدرك أن مقدار وزن الغالونين رُبما يفوق وزنه هو شخصيا، وحينما أدرك الصغير حجم ما يواجه، رفع وجهه إلى السماء ثم قال: "أعطني القوة يا الله". تنفس ملء رئتيه، وتمكن بالفعل من حملهما والسير بهما لخطوات عدة وثّقتها الكاميرا لترصد نزرا يسيرا من هول ما يعيشه أطفال غزة تحديدا وعموم قاطني القطاع المحاصر.

طفل غزيّ يحاول رفع غالونين من المياه (مواقع التواصل)

في وقت سابق، نشر ستيفن جوزيف، وهو أستاذ في كلية التربية بجامعة نوتنغهام الإنجليزية، في نوفمبر/تشرين الثاني 2012، ورقة بحثية ناقش فيها النمو النفسي خلال مرحلة ما بعد الصدمة أو التجربة المؤلمة، وقد استهلّت الورقة البحثية عنوانها بـ"ما لا يقتلنا".

عمل ستيفن مع عديد من الناجين من الصدمات وأهوال النزاعات، ولديه مسيرة طويلة في دراسة ما تُعرف بـ"النمو بعد الصدمة"، وكتابه الشهير: "ما لا يقتلنا: دليل للتغلب على الشدائد والمُضي قدما"، حاول فيه توظيف بعض النظريات والممارسات النفسية لاستكشاف ماذا يجري بعد الصدمة، وكيف يمكن التغلب على الشدائد لخلق معنى وهدف جديدين في حياتنا.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2صور أطفال فيتنام غيّرت العالم فلماذا لا يهتز لصور أطفال غزة؟list 2 of 2ما الذي تغير ليرفض الغرب حرب الإبادة على غزة؟ ولماذا الآن؟end of list إعلان

وضّح جوزيف أن الدراسات النفسية المتعلقة بالصدمات قد تغيرت مؤخرا، خاصة مع إدراك الباحثين أن الشدائد والمواقف بالغة الصعوبة لا تؤدي بصورة حتمية إلى خلق شخص مضطرب نفسيا أو مكتئب، إذ بدأت اتجاهات البحث النفسي العلمي ترى أن هناك جانبا من "النمو الإيجابي" قد يتحقق خلال مرحلة ما بعد الصدمة والتجارب القاسية ويمكن أن تمثّل نقطة انطلاق لبناء مستويات أقوى من الصلابة النفسية.

وهذا ما عبرت عنه بجلاء الورقة التي نشرتها يوم 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2024  الأستاذة الأسترالية ميشيل بيس في المعهد الأسترالي للشؤون الدولية بعنوان "الغزيون: شعبٌ يتمتع بشجاعةٍ لا تُقاوم، وإيمان، ولطف" ، وأشارت فيها إلى نمط حياة شعب غزة في فترة ما قبل الحرب، وكيف أنهم "رغم الحصار والتضييق الخانق من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي، كانوا يجدون وسائل للتكيف مع واقعهم المُعاش ووسائل بناء شبكات تضامن اجتماعية تسيّر حياة المجتمع"، وأن هذه الديناميات والقدرات أسهمتا بصورة أو بأخرى في رفد المجتمع بأساليب وأدوات للبقاء والصمود، وقد زادهم صلابة تتالي الحروب وتنوع وسائل القتل والتدمير التي لم تتخلف عن القطاع طوال الفترة الماضية.

ومن المداخل التفسيرية التي لا تستحضر كثيرا في الدراسات النفسية وإن كان لها دور في تعضيد هذه القراءات، ونقصد بذلك المدخل الإيماني الذي يلعب دورا واضحا في الكيفية السلوكية التي يتعامل بها الأفراد تجاه المصائب التي يواجهونها، إذ تشكّل الأرضية الإيمانية -التي يستند إليها الفرد أو المجتمع- عاملا أساسيا في محددات الحالة الشعورية التي تلي المعاناة، فضلا عن الحالة النفسية في أثناء الأزمة، ولا يمكن فصل هذا العامل عن تحليل المشاهد الواردة من غزة، إذ يمكن ملاحظة حضور المفاهيم الدينية والإيمانية في خطاب وسلوك الغزيّين.

إعلان

في الدين الإسلامي مثلا، البلاء يتطلب صبرا، وللصابرين مثوبة جزيلة، وجانب من التكوين الإيماني للمسلم قائم على أن البلاء مرحلة مرّ بها المؤمنون على مدار التاريخ، حيث يسوق القرآن وتسوق الأحاديث النبوية الكيفية التي تعاملت بها المجتمعات المؤمنة التي تعرضت للبلاء، وما يلي ذلك من ثواب من الله لا يقتصر على ما يراه الفرد في هذه الدنيا.

بالطبع لا يسعى هذا التقرير إلى أسطرة الإنسان الغزي (أي جعله أسطورة)، بل يحاول البحث في الديناميات والقدرات النفسية الحقيقية التي يقاوم بها سكان القطاع، في محاولة للنجاة من الأهوال التي يقاسونها يوميا، ليس على صعيد النجاة من الموت فحسب، بل أيضا عبر المجاهدة في تفاصيل يومهم كافة، بدءا من شربة الماء، وصولا إلى محاولة النوم، وليس انتهاء بالعيش وسط مجتمع لا يمتلك أدنى مقومات العيش الكريم، وأساسات الحياة التي اعتادها لعقود.

أطفال فلسطينيون بالقرب من حاويات المياه في قطاع غزة، السادس من أبريل/نيسان 2025 (رويترز) هل تؤدي الصدمات والشدائد إلى "تدمير" الشخص؟

أما عن مصطلح "اضطراب ما بعد الصدمة" فهو أحد أكثر المصطلحات النفسية شيوعا في العالم العربي، وقد أخذ رواجا على إثر الانتكاسات السياسية والاقتصادية وما تلاها من تمزّقات شملت البنى الاجتماعية في عدد من المجتمعات العربية، وكانت ارتدادات تلك الانتكاسات حاضرة بثقلها على المساحة الشعورية للأفراد والمجتمعات على السواء، وفي ظل هذا الواقع، حضر مصطلح اضطراب ما بعد الصدمة كمحاولة لتفسير آثار التغيرات التي برزت على سطح المجتمع وعمقه.

وكما الحال في العلوم الاجتماعية والإنسانية، فإن المفاهيم عادة ما تنشأ في سياق زماني وجغرافي محدد، ثم تكون عرضة للتبدل والتغير، عندما تتعرض لتفسير وفهم مستجدات جديدة، فامتزاج النظرية بسياقات ثقافية مختلفة عن البيئة التي نشأت فيها، يحتم عليها أن تتجاوب مع المتغيرات حتى يمكنها، اخراج تفسيرات ملائمة. وقد أسهمت غزة في خلق تحديديات كثيرة أما العديد من الأفكار والنظريات الاجتماعية.

إعلان

أما عن سياق نشأة وظهور مصطلح "اضطراب ما بعد الصدمة"، فنجده مرتبطا بالجمعية الأميركية للطب النفسي عام 1980، وقبل سك هذا المصطلح، كان هذا الاضطراب يُعرف قد انتشر خلال الحرب العالمية الأولى باسم "صدمة القذائف"، وكان يُعتقد أنه يؤثر على الجنود فقط. وتعرّفه جمعية علم النفس الأميركية بأنه اضطراب نفسي يحدث عندما يعيش أو يشهد شخص ما حدثا يشعر خلاله بتهديد حياته أو سلامته الجسدية، فتكون المشاعر المسيطرة على الشخص خلال هذا الحدث هي الخوف أو الرعب أو العجز.

بمرور الوقت، جذبت أعراض هذا الاضطراب انتباه الباحثين والعلماء، وبدأت البحوث المتتالية ترصد وتوثق أثر التعرّض للصدمات في تغيير حياة الإنسان وإفسادها، وذلك لما تتركه الصدمات من تأثيرات وتغييرات نفسية سلبية بعد تعرض الشخص لحادث صادم. وقد اعتقد الباحثون أن هذه التغييرات النفسية السلبية مردّها عائد إلى رغبة العقل في حماية الشخص من التعرض لمزيد من "التجارب الخطرة" أو من تلك التجارب التي يمكن أن تضع الفرد في موقف فيه تهديد، حتى وإن كان متخيّلا.

في البدء، طغى اتجاه طبي ينحصر تركيزه في توثيق التأثير السلبي للتعرض للصدمات، دون الالتفات كثيرا إلى الملاحظات -كانت قليلة حينها- التي تناولت التأثير الإيجابي الذي يُمكن أن تُحدثه الصدمات في حياة وشخصية الأفراد الذين يتعرضون لها.

لكن قد يكون السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: "هل كل مَن يتعرض لحادث مؤلم مُهدِّد للحياة، يُعاني بعد النجاة منه اضطراب ما بعد الصدمة؟".

النمو بعد الصدمة

رغم الاهتمام بالجوانب السلبية، فإن بحث جوزيف، السابق الإشارة إليه، يرى أن الاهتمام العلمي في المجال النفسي بالتغيرات الإيجابية التي قد تعقب تعرض الشخص للصدمات والشدائد، أخذ في التزايد، بعدما أظهرت مجموعة من الدراسات -التي أُجريت أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات- أن هناك مجموعة من التغيرات الإيجابية التي شهدتها شخصيات قاسوا أحداثا مأساوية أو صدمات شديدة القسوة.

إعلان

حين رُصدت نتائج الدراسات السابقة، بدأ الاهتمام خلال تسعينيات القرن الماضي بدراسة الكيفية التي تتحول فيها صدمة إلى عامل "محفز" للتغييرات الإيجابية، وأثر ذلك في تعضيد التكوين الشخص النفسي. هنا بدأ يظهر مفهوم "النمو" بعد الصدمة، حتى أصبح مجالا بحثيا يجذب اهتماما دوليا واسعا من الباحثين والعلماء، وخلال السنوات العشر التالية لظهور هذا المفهوم، أصبح نمو ما بعد الصدمة أحد الموضوعات الرئيسية التي تندرج ضمن موضوعات علم النفس الإيجابي.

يُشير موقع "سيكولوجي توداي" إلى أنه في أوائل التسعينيات، صاغ عالِما النفس ريتشارد تيديشي ولورانس كالهون مصطلح "النمو بعد الصدمة" (PTG)، ويقوم هذا المصطلح بشكل أساسي بوصف التغييرات الإيجابية التي يمكن أن تحدث لشخصية الفرد أو نفسيته بعد تعرضه لأزمة كبيرة أو حادث مُهدِّد للحياة أو صدمة قاسية.

وأن التغييرات الإيجابية الملحوظة يمكن أن تحدث للشخص الذي تعرض للصدمة خلال الأيام أو الأشهر أو حتى السنوات التي تلي تعرضه لهذه الصدمة. وبالنسبة للناجي من الصدمة، يمكن أن تكتسب الحياة معنى جديدا يمنح الفرد القدرة على إعادة تشكيل معتقداته وأولوياته وأهداف حياته والقيم التي ستشكل هويته.

مشروع مقاوم أكثر صلابة

خلال شهر مايو/أيار الجاري، أعلنت وزارة الصحة بقطاع غزة، أن 16 ألفا و503 أطفال فلسطينيين قتلهم جيش الاحتلال الإسرائيلي خلال الإبادة الجماعية في غزة، في إحصائية صادمة تجسد حجم الاستهداف المباشر والممنهج لأضعف فئات المجتمع.

عرف الأطفال، الذين يُمثلون ما يقرب من نصف عدد سكان قطاع غزة خلال أكثر من 20 شهرا، معنى أن يتركوا بيوتهم مرغمين مذعورين قبل أن تُهدم فوق رؤوسهم، ومعنى أن يذوقوا ألم فقدان أهاليهم وأقربائهم وأصدقائهم وجيرانهم، ومعنى أن ينتظروا الموت، فلا يعلمون ما إذا كانت هذه آخر مرة يضع فيها الواحد منهم رأسه المنهك على الأرض كي ينام، أو أن يرقبوا بأعينهم من وراء الركام ويشموا بأنوفهم رائحة الدماء التي تعني حتما ارتفاعا يوميا في أعداد الشهداء والمصابين، حتى يصبح الموت حاضرا وماثلا وجاثما على امتداد القطاع.

إعلان

اختبر هؤلاء الأطفال معنى أن تسترد وعيك في المشفى كي ترى طرفا من أطرافك قد بُتر. ناهيك عن الإصابات غير المرئية، كأن تنخفض قدرة طفل على السماع على إثر قذيفة سقطت في منطقة مجاورة لمكان تواجد الطفل، وهذه إصابة حقيقية لها شواهدها.

بالعادة، وفي سياقات مشابهة، تبدو نتيجة الضرر النفسي البالغ حتمية على كل طبقات المجتمع، فما ظنّك بالأطفال؟ بالتأكيد هناك من عانى من ويلات الحرب وألمت به مشاعر الاكتئاب والقلق واليأس والحزن والاستياء والغضب والخوف، لكن هذا ليس أمرا جاريا ومضطردا في كل الأحوال.

فبعض التغييرات العنيفة والأحداث بالغة القسوة التي شهدها الطفل الغزاوي، وفقا لمفهوم "النمو" بعد الصدمة والتي تمتزج مع المركّبات الإيمانية للمجتمع الغزيّ، قد لا تقود إلى نتيجة حتمية مفادها الانهيار -وإن كان ذلك حاضرا ولا يمكن إنكار حدوثه اليوم أو احتمالية ظهوره في المستقبل القريب- لكنها في المقابل قد تجعل منه شخصية تتسم بالصلابة والقوة النفسية، ورُبما يكون الصبي الذي شهد كل هذا العنف في الغد القريب مقاوما أكثر صلابة من سابقيه، فكثير من مقاومي اليوم هم من أهالي الشهداء والأسرى والمصابين، وهم ممن قاسوا شخصيا، أو قاسى أهلهم المباشرون حروبا وتهجيرا وتضييقا ممنهجا حتى وجدوا في المقاومة خيارا ضروريا لاسترداد الحق.

في السياق ذاته، قبل أن يتغير موقف الملياردير الأميركي إيلون ماسك من حرب إسرائيل على غزة، فإنه كان قد تساءل في مقابلة مصورة في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، أي بعد شهر تقريبا على طوفان الأقصى وبدء حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة: "مقابل كل عضو تقتله من حماس كم خلقت من الأعداء؟ وإذا كان ما خلقته أكثر مما قتلت فأنت لم تنجح". كان هذا التساؤل المشروع قبل أن يحرك نتنياهو ترسانته لاستمالة ماسك الذي بدا جليا تغير خطابه ومواقفه بعد هذه المقابلة تحديدا.

إعلان

قد تخلق الظروف القاسية إنسانا مضطربا، وقد تساعده على اكتشاف مكنوناته وقدراته الداخلية. قد يتألم الانسان الموجوع، ولكن من الممكن أن يشتد عوده وتصلب إرادته، وعندما يعتاد مجتمع ما الحرب والصراع وترتبط ذاكرته بالاستعمار والانتهاكات، فليس أمامه إلا طريقان: أن يستسلم، أو يقاوم، وغزة بالتأكيد تقاوم.

ووسط كل هذا الركام والدموع المنهمرة، قد يتخلق شيء إيجابي وفق تصورات علم النفس، وأن هذا النمو المتوقع، أو التغير الإيجابي المرتقب لا يحدث بضغطة زر، وليس نتيجة حتمية للتعرض للصدمة، لأنه يتطلب تحديا واستعدادا نفسيا عاليا يصحبه المرء أثناء خوضه معركة بقائه. وهنا يوضح ستيفن جوزيف أن النمو بعد الصدمة هو "عملية تغيير وليس فقط نتيجة تلقائية للتغيير"، فهي لا تحدث إلا للأفراد الذين تأهلوا لذلك.

وهذه "الآثار الإيجابية" قد تزور الفرد بعد أعوام من الحرب، فيكتشف الحكمة من ورائها، ويسبر أغوار الآثار النفسية العميقة التي تركتها التجربة، وكل هذه أمور قد لا تحدث لآخرين. كما أن ثمة بعدا آخر في تشكيل هذا المقاوم الأكثر صلابة، وهي أن القاتل أو المجرم لم يترك "للضحية" مساحة ولا خيارا آخر، فإما أن يغرق في ظلمات الاكتئاب فيصبح الدم المسفوك لا معنى له سوى ندبة غائرة وجرحا نازفا في نفس وذهن الشخص، أو أن يقف على قدميه متحديا كل الأعباء، نافضا عنه غبار العاصفة الثقيل، كعنقاء تخرج من رمادها، ثم يقاوم، كي يسترد بعضا من حقه، أو يُقتل وهو يحاول، فـ "علَى هَذِهِ الأَرْض مَا يَسْتَحِقُّ الحَياةْ"، كما يقول محمود درويش.

مقالات مشابهة

  • جمال شعبان: برد الصيف أحد من السيف
  • السيد القائد الحوثي: القرآن الكريم النعمة الكبرى بكتاب الهداية الذي فيه البركة الواسعة في كل مجالات الحياة
  • برشلونة يعلن رسمياً تجديد عقد نجمه لامين جمال
  • برشلونة يجدد عقد لامين جمال حتى عام 2031
  • هل على نتنياهو أن يخشى من جيل الأطفال الذي شهد الإبادة؟
  • منير زايد يطرح الأغنية العاطفية "مو غلطتك" باللون الغنائي الخليجي
  • أرض مقابل ربع جنيه.. رئيس إذاعة القرآن الكريم الأسبق ينعى ابن الشيخ مصطفى اسماعيل بقصة مؤثرة
  • أمير القصيم يرعى حفل تكريم 50 متميزًا في برنامج براعم القرآن الكريم
  • تكريم المجيدين بمدارس القرآن الكريم في محافظة ظفار
  • التنمية المحلية تتابع ترتيبات مؤتمر المسؤولية المجتمعية والسكن الكريم