يتمتع العراق جغرافياً بنعمة ونقمة، فهو يقع عند مفترق الطرق بين آسيا وأوروبا، وتحده المملكة العربية السعودية وإيران، وهما قوتان إقليميتان كبيرتان. ولكن على الرغم من احتياطياته النفطية الهائلة، فإن ساحل العراق الذي لا يزيد طوله على 36 ميلا (58 كيلومترا) يحد من وصوله المباشر إلى المياه الدولية. ولتصدير الطاقة، يعتمد العراق على تمرير نفطه في شبه الجزيرة العربية عبر الخليج العربي والبحر الأحمر وقناة السويس للوصول إلى البحر الأبيض المتوسط.

وهذا يجعل السلام في المياه المحيطة والعلاقات الطيبة مع الدول المجاورة أمرا بالغ الأهمية لشريان الحياة الاقتصادي للعراق. ولتوسيع التجارة وتنويع اقتصاده، يخطط العراق لتطوير "طريق التنمية" بطول 1200 كيلومتر، وهو ممر مزدوج يجمع بين السكك الحديدية والنقل البري. ويبدأ من ميناء الفاو على الخليج العربي، فيمر عبر البصرة والمناطق الغنية بالنفط، ويمتد شمالا إلى الحدود التركية.

وبدعم من إيران وتركيا، يهدف هذا المشروع إلى إنشاء مسار أوراسي بديل، يتجاوز قناة السويس ويكمل الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا (IMEC) قيد الإنشاء. ولا ريب في أن تنفيذ مشروع "طريق التنمية" بنجاح سيعزز فرص العمل المحلية، ويسهل التجارة عبر القارات، ويُنشئ مناطق اقتصادية خاصة ومدنا جديدة تركز على التنمية الخضراء، وبالتالي سيدعم واقعا جديدا يمثل الرافعة الاقتصادية ومشاريع أخرى غير النفط.

غير أن مشروع طريق التنمية يصطدم بجملة من التحديات الأمنية والاقتصادية، فقد تضافرت عقود من الحرب لتضعف التماسك السياسي للعراق. ولأن "طريق التنمية" سيكون ممرا محتملا للتجارة الأوراسية، فلا بد من ضمان التدفق الحر للبضائع من خلال هيكل أمني قوي. فمن الذي سيقدم مثل هذا الضمان الأمني؟ ومن الذي سيضمن استمرار الإرادة السياسية في تنفيذ مثل هذا المشروع الضخم عبر القيادات والإدارات المتعاقبة؟ وفوق ذلك، يعتمد النجاح المستقبلي لطريق التنمية على نمو تجاري قوي بين آسيا وأوروبا، وخاصة بين الصين وأوروبا، سوى أن الانقسام التجاري الحالي بين الغرب والصين، جعل أوروبا تشرع في تطبيق مخططات التعريفة الجمركية على بعض المنتجات الصينية وعلى رأسها السيارات الكهربائية الصينية، وتحويل سلاسل التصنيع والإمداد التجارية بعيدا عن الصين إلى دول آسيوية أخرى. ولا يُتوقع في العقد القادم أن ينمو حجم السلع المتبادلة بين الصين وأوروبا بشكل كبير. وهذا أمر إشكالي لأن طريق التنمية يعتمد على أحجام تجارية عالية لتعويض تكاليف البناء والتشغيل، وتقلص التبادل بين المنطقتين لا يبشر بالخير في ما يتعلق بالجدوى المالية والاستدامة الاقتصادية لمثل هذا المشروع الضخم للبنية التحتية.

طريق التنمية كمكمل لمبادرة الحزام

ثمة كثرة ممن يتساءلون عما إذا كان طريق التنمية في العراق بديلا لمبادرة الحزام والطريق الصينية أم مكملا لها. تهدف مبادرة الحزام والطريق إلى تحديث التجارة الأوراسية من خلال إنشاء روابط بنية تحتية وممرات تجارية لم تكن موجودة من قبل. وبالفعل، تربط شبكات السكك الحديدية القارية الأوراسية اليوم التجارة من الساحل الشرقي للصين عبر آسيا الوسطى إلى أوروبا الغربية. وتربط مبادرة الحزام والطريق أيضا الممرات البرية من جنوب غرب الصين إلى ميناء جوادر في باكستان، حيث تبحر البضائع المتداولة عبر قناة السويس إلى أوروبا الغربية. ولأن "كل الطرق تؤدي إلى روما"، فلا يوجد طريق حصري، ولذلك فإن وجود ممر نقل محتمل بين العراق وتركيا، يمكن للبضائع الصينية أن تشحن من ميناء جوادر في باكستان مباشرة عبر الخليج إلى ميناء الفاو في العراق. وهذا الطريق سيجعل الشحن الصيني أسرع وأقل تكلفة من البضائع المماثلة التي تصدرها منافستها الدولية– الهند، وبالتالي فهو يقدم ميزة كبيرة للصين.

ولكن لـ"طريق التنمية" منافس آخر. إنه ممر الهند- الشرق الأوسط- أوروبا الاقتصادي (IMEC) الذي يتميز بالطموح ذاته، ولكن بقيادة الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين. ويهدف ممر النقل المتعدد الوسائط هذا إلى تعزيز الروابط التجارية بين الهند، التي تبرز اليوم كمركز تجاري عالمي والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، اللتين تتمتعان بفوائض تجارية كبيرة وتخضعان لتحولات اقتصادية كبيرة، وإسرائيل، حليفة الولايات المتحدة الرئيسة وإحدى رائدات التكنولوجيا العالمية، وأوروبا، سوق المستهلك النهائي. ونظرا لأهمية الهند المتزايدة في التصنيع العالمي والتكامل الاقتصادي بين البلدان المشاركة، فإن ممر الهند- الشرق الأوسط-أوروبا على استعداد لخلق نموذج جديد للتجارة العالمية.

وبالتوازي تقريبا، سيصبح "طريق التنمية" وممر الهند- الشرق الأوسط- أوروبا في موقع المنافسة المباشرة. وفي ظل المشهد الجيوسياسي الحالي، صُمم طريق الهند- الشرق الأوسط- أوروبا على النحو الأمثل لتسهيل التجارة من الهند إلى أوروبا، في حين سيدعم "طريق التنمية" في المقام الأول التجارة من روسيا والصين.

الصين حذرة إزاء "طريق التنمية" العراقي

لقد جمعت الصين، طوال العقد الماضي، أكثر الخبرات تطورا في مجال هندسة البنية الأساسية والعمران في العالم. ورأينا أثر ذلك في قيام العاصمة الإدارية الجديدة في مصر في وسط الصحراء الكبرى في زمن قياسي، وفي الأنفاق وناطحات السحاب في "نيوم"، المدينة المستقبلية في المملكة العربية السعودية، وهي أدلة حية على الإنجاز الهندسي للصين.

ولم تتخلف الصين عن المشاركة بنشاط في إعادة إعمار العراق بعد الحرب. وهي أكبر بانٍ لمحطات الطاقة العراقية، حيث توفر طاقة تزيد على 6200 ميغاواط، بما في ذلك محطة الطاقة في البصرة. وطورت الشركات الصينية مرافق النفط والغاز الطبيعي المسال ومصانع معالجة المياه والمطارات والمدارس. وتعد الصين، إلى ذلك، أكبر شريك تجاري للعراق، وقد رفع البلدان علاقاتهما الدبلوماسية إلى شراكة استراتيجية.

الجدوى المالية للمشروع غير مؤكدة، فقد رفعت الميزانية الأصلية لبناء ميناء الفاو عند إنشائه وتأخر موعد الانتهاء منه إلى عام 2025

ومع ذلك، وعلى الرغم من كونها شريكا حيويا في البنية التحتية والتجارة، فإنها اتخذت موقفا حذرا بشأن مبادرة "طريق التنمية" العراقية البالغة 17 مليار دولار لأربعة أسباب رئيسة:

أولا، يواجه المشروع مشكلة محتملة بسبب اختلاف معايير البناء والهندسة. فقد حصلت شركة "دايو" الكورية الجنوبية على عقد بناء بقيمة 2.6 مليار دولار لميناء الفاو للمياه العميقة، والذي يشكل نقطة انطلاق "طريق التنمية"، بينما أجرت شركات أوروبية معظم دراسات الجدوى الأولية لـ"طريق التنمية". ومن المحتمل أن تؤدي التفاوتات في معايير البناء والهندسة بين الغرب والصين إلى تكاليف إضافية للمشروع وتأخيرات.

عدم كفاءة الحكومة وفسادها سيعيقان التنفيذ

ثانيا، الجدوى المالية للمشروع غير مؤكدة. فقد رفعت الميزانية الأصلية لبناء ميناء الفاو عند إنشائه وتأخر موعد الانتهاء من المشروع إلى عام 2025. وتتضمن خطط "طريق التنمية" الحالي بناء خمس عشرة محطة على طول الطريق، وهو مسعى ضخم. والصين غير مقتنعة بأن عائدات النفط الحكومية ستكون كافية لتغطية التمويل اللازم، عند بناء نظام نقل مزدوج للسكك الحديدية والطرق البرية عبر العراق.

ثالثا، لا تزال الأخطار السياسية والأمنية المحيطة بمشروع البنية التحتية الضخم قائمة. فعدم كفاءة الحكومة وفسادها سيعيقان تنفيذ مشروع عملاق كهذا، كما أن السعي وراء الريع سيعيق تنفيذ الخطة، الأمر الذي يتطلب الشفافية في عمل الحكومات الإقليمية وخضوعها للمساءلة. كما أن عدم الاستقرار داخل الحكومة، ولا سيما التطرف العنيف في إقليم كردستان حيث يمر طريق التنمية، قد يؤدي إلى شل النقل على الطريق إذا اندلعت أعمال العنف.

رابعا، الصين ليست متحمسة لأنها ببساطة تتوفر على بدائل. ففي يونيو/حزيران الماضي، اتفقت الصين وأوزبكستان وقرغيزستان على بناء خط للسكك الحديدية يربط كاشغار في شينجيانغ، مع شرق أوزبكستان مرورا بجنوب قرغيزستان. وسيرتبط خط السكك الحديدية الجديد، الذي تبلغ تكلفته خمسة مليارات دولار، بشبكات السكك الحديدية الحالية في تركيا وأوروبا الغربية. كما يتخطى الممر البري الجديد الممتد من غرب الصين إلى أوروبا الغربية، كلا من روسيا والبحر الأحمر المثيرتين للجدل من الناحية الجيوسياسية، وهذا يمثل اختراقا كبيرا في مجال البنية التحتية للنقل بين أوروبا وآسيا. يبدو هذا البديل، مقارنةً بالمرور عبر العراق إلى تركيا، أكثر جدوى من الناحية المالية وأقل اضطرابا من الناحية الجيوسياسية وأكثر قابلية للتحكم فيه مع اكتمال البناء.

أخيرا، لعل الافتراض بأن الصين ستدعم "طريق التنمية" تلقائيا بسبب علاقاتها التجارية والاستثمارية المتزايدة مع العراق وانحيازها المعلن إلى الجنوب العالمي، قد لا تكون في محلها تماما، كما يبدو.

المصدر: وكالة الإقتصاد نيوز

كلمات دلالية: كل الأخبار كل الأخبار آخر الأخـبـار السکک الحدیدیة أوروبا الغربیة طریق التنمیة الشرق الأوسط میناء الفاو إلى أوروبا الصین إلى

إقرأ أيضاً:

السوداني:إيران وتركيا وراء شحة المياه في العراق ونحن لاحول ولا قوة!!!

آخر تحديث: 2 يوليوز 2025 - 11:35 صالبصرة/ شبكة أخبار العراق- ترأس رئيس الوزراء محمد السوداني اجتماعاً موسعاً في ديوان محافظة البصرة لمتابعة الإجراءات الخاصة بمعالجة مشكلة شحة المياه في المحافظة، وفقا لبيان صادر عن المكتب الإعلامي للسوداني اليوم الاربعاء.هذا وحضر الاجتماع وزراء الموارد المائية والاعمار والزراعة، ورئيس الهيئة العليا للتنسيق بين المحافظات، و محافظا البصرة وميسان وذي قار، ورئيس مجلس المحافظة، ورئيس هيئة المستشارين، وقائد العمليات المشتركة، ومديرو الدوائر المعنية، والوكلاء والمديرون العامون والقادة الأمنيون.وذكر البيان أن، الاجتماع استعرض التحديات الناجمة عن شحة المياه، والمعالجات المطلوبة لأزمة المياه وزيادة نسب الملوحة، وتأثيرها على مستوى تأمين مياه الشرب للمواطنين، كما قدم المحافظون إيجازاً عن مشاكل المياه بمحافظاتهم، وتداعياتها على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، وتقديم مقترحات لحلول آنية وسريعة.وبهذا الصدد قال السوداني، إن مشكلة شح المياه مزمنة، تتجدد في كل موسم نواجه فيه قلة مياه الأمطار، ما يؤثر على حجم الخزين المائي وحجم الاطلاقات من الحصص المائية، وبشكل أساسي من الجارة تركيا.وأكد أن المعالجة لا تقتصر على إجراءات آنية، و يجب التعاون لمواجهة الازمة والعمل بروح الفريق الواحد، مشدداً على اتخاذ إجراءات حازمة بحق المتجاوزين على الحصص المائية، وعلى ضفاف الأنهر.وأوضح السوداني ان الحكومة وقعت اتفاقاً ستراتيجياً مع تركيا بشأن ادارة المياه، باعتبار ان 90% من مصادر المياه للعراق تعتمد على الجانب التركي، وهي تنص على نقل أسلوب ادارة المياه الى العراق من خلال التجربة الناجحة لتركيا في تنفيذ مشاريع السدود ومحطات المياه.كما واشار رئيس مجلس الوزراء الى مشروع تحلية مياه البحر كأحد الحلول الاستراتيجية، حيث التزمت الحكومة بتنفيذه، وتم تحويل المشروع الى محافظة البصرة التي اتخذت الإجراءات الخاصة به.ووجه السوداني بتدقيق الإجراءات الخاصة بالمشروع الذي يعد الأكبر من نوعه في المنطقة، وسينفذ تكنولوجيا وتقنيات حديثة، مؤكداً أن المشروع أقر في مجلس الوزراء، وبإمكان المحافظ إبرام العقد مع الشركة المنفذة.وتشتد أزمة الجفاف في العراق على نحو غير مسبوق، بسبب قلّة هطول الأمطار خلال السنوات الماضية نتيجة التغير المناخي، والسبب الثاني يعود إلى تراجع مستويات المياه الواصلة عبر نهري دجلة والفرات، جراء سياسات مائية لإيران وتركيا أبرزها بناء السود على المنابع وتحويل مساراتها، ما يهدد بوقوع كارثة إنسانية في البلاد. يذكر ان العراق لم يقدم أي شكوى ضد إيران وتركيا وفقا للقوانين الدولية وعلاقات دول الجوار والعلاقة بين دول المنبع والمصب وحصة العراق العادلة من المياه!!.

مقالات مشابهة

  • المياه النيابية: ضعف السوداني وحكومته وراء شحة المياه في العراق
  • أرنولد:هدفي إسعاد الشعب العراقي
  • نائب كردي: السفير العراقي سيزور 7 أكراد احتجزوا في ليبيا خلال محاولتهم الهجرة لأوروبا
  • المسند يكشف: 7 أسباب صادمة تجعل موجات الحر قاتلة في أوروبا دون الدول العربية
  • خسارة ثقيلة لمنتخب سيدات العراق أمام الهند تنهي مشوار التأهل الى كأس آسيا
  • السوداني:إيران وتركيا وراء شحة المياه في العراق ونحن لاحول ولا قوة!!!
  • العراق يواجه الهند في ختام مشواره بتصفيات كأس آسيا للسيدات
  • وكيل محافظ «التجارة الخارجية» يوضح أسباب فرض رسوم مكافحة إغراق على واردات من الصين وتايوان
  • إصابة جديدة تربك حسابات سيدات العراق قبل لقاء الهند
  • خطة لإعداد المنتخب العراقي تتضمن إقامة معسكرين تدريبيين