على وقع تعثّر المفاوضات.. هل اقترب ردّ حزب الله على اغتيال شكر؟!
تاريخ النشر: 21st, August 2024 GMT
مرّت ثلاثة أسابيع على جريمة اغتيال القائد العسكري في "حزب الله" فؤاد شكر، عبر استهداف الضاحية الجنوبية لبيروت، من دون أن يبصر الردّ "الموعود" النور، على الرغم من تكرار المسؤولين في الحزب مرارًا وتكرارًا بأنّ هذا الردّ آتٍ حتمًا، بمعزل عن تطورات الحرب الإسرائيلية في غزة، وبشكل منفصل حتى عن مسار جبهة الإسناد المفتوحة في جنوب لبنان، في أعقاب "طوفان الأقصى"، منذ الثامن من تشرين الأول.
على مدى الأسابيع الثلاثة الماضية، كان "حزب الله" يكرّر أنّ الردّ على جريمة الاغتيال الإسرائيلية حتميّ، مقفلاً الباب على أيّ جدال أو نقاش بشأنه، لكنّه لم يقدم على أيّ خطوة بعيدًا عن العمليات القائمة جنوبًا، وإن كشف عن غيض من فيض ترسانته العسكرية بفيديو "عماد 4" الذي كشف النقاب عنه، والذي أعطي أبعادًا ممهّدة للردّ، عبر قطع الطريق على أي ضربة إسرائيلية استباقية، أو عبر تأكيد الجاهزية للتصدّي لخيار الحرب.
مع ذلك، فإنّ التأخّر في الردّ طيلة هذه المدّة التي شهدت على العكس، المزيد من الضربات والاغتيالات الإسرائيلية لمقاتلي الحزب، يطرح الكثير من علامات الاستفهام، كما يثير التكهّنات حول العوامل والأسباب والدوافع، فلماذا رفع الحزب السقف من اللحظة الأولى، وألزم نفسه بردّ طال وقت انتظاره، حتى أضحى مصدر تندّر للبعض؟ وما حقيقة الحديث عن أنّ الردّ اقترب اليوم، على وقع تعثّر مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة؟
عوامل "أخّرت" الردّ
يتحدّث العارفون عن جملة من العوامل التي قد تكون لعبت دورًا في "تأخير" ردّ "حزب الله" على اغتيال قائده العسكري، بعضها مرتبط بتطورات الحرب الإسرائيلية على غزة، ولو أنّ قياديّي الحزب ومسؤوليه يصرّون على عدم وجود "رابط" بين الأمرين، باعتبار أنّ الردّ على ضربة الضاحية معزول عن كلّ المعارك التي تشهدها الجبهة الجنوبية، وحتى عن حرب غزة، باعتبار أنّ انتهاءها لو حصل "لن يعفي" الإسرائيليين من الردّ الحتميّ.
في هذا السياق، يشير المطّلعون على الكواليس إلى أنّ الأجواء السياسية التي انبثقت عن مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة، لعبت دورًا في "تجميد" الردّ، إن صحّ التعبير، باعتبار أنّ "حزب الله" الذي فتح جبهة جنوب لبنان إسنادًا لغزة في المقام الأول، لن يقوم بأيّ فعل يمكن أن "يشوّش" على أيّ تسوية محتملة، وبالتالي فهو قد يكون ارتأى أنّ تأخير الحرب لما بعد ظهور نتيجة المفاوضات، قد يكون أكثر فائدة في هذه المرحلة.
إلا أنّ هذا المعطى ليس الوحيد الذي "أخّر" الرد، الذي يقول العارفون بأدبيّات "حزب الله"، إنّ الأخير يصرّ على ضرورة أن يكون هذا الردّ نوعيًا، بهدف واضح ومحدّد، وهو لن يلجأ إلى ردّ "كيفما كان" للقول إنّه ردّ، على طريقة "رفع العتب"، علمًا أنّ فرضيّة "الرد المنسّق" بين أطراف محور المقاومة، قد تكون أخّرت الردّ أيضًا، ولو أنّ هذه الفرضية غير محسومة، بل إنّ الاعتقاد السائد بأنّ ردّ "حزب الله" سيكون منفصلاً عن غيره.
هل اقترب الردّ؟
بمعزل عن كلّ ما سبق من عوامل، قد تشكّل في مكانٍ ما "مبرّرًا حقيقيًا" لتأخير الردّ، ثمّة من يرى أنّ التأخير الذي حصل لم يكن في صالح "حزب الله"، باعتبار أنّه تعرّض خلال الأسابيع الثلاثة الماضية للمزيد من الضربات الإسرائيلية، التي تتطلب الرد أيضًا، بل إنّ هناك من يقول إنّ وتيرة الاعتداءات الإسرائيلية قد ارتفعت خلال هذه الفترة، ولم تنخفض، وهو ما شكّل في مكانٍ ما نوعًا من "الإحراج" للحزب أمام بيئته الحاضنة.
أكثر من ذلك، يقول البعض إنّ "حزب الله" تسرّع في رفع السقف بعد ضربة الضاحية، ليقع بعدها في "مأزق" في محاولته إيجاد توازن بين إلزامه نفسه بردّ من خارج قواعد الاشتباك المفتوحة على خط جبهة الإسناد، وبالتالي يمكن أن يؤدي إلى تصاعد المواجهة، وربما فتح الحرب الواسعة، وبين عدم رغبته بالانجرار إلى ما يعتبر "فخًا إسرائيليًا" بالذهاب إلى الحرب، التي قد تكون كلفتها باهظة ليس على الحزب فحسب، بل على لبنان أيضًا.
وإذا كان الحزب الذي سبق أن أطلق أمينه العام السيد حسن نصر الله معادلة أنّ "التأخير في الردّ هو جزء من الردّ، وجزء من العقاب"، يرفض مثل هذه المقاربات، فإنّ العارفين بأدبيّاته لا يستبعدون أن يكون الردّ قد أصبح "قاب قوسين أو أدنى"، ففشل المفاوضات بشأن غزة الذي بدأ يلوح في الأفق، قد يكون "النقطة الفاصلة" على هذا الخط، علمًا أنّ هناك انطباعًا سائدًا بأنّ ما بعد هذه المفاوضات لن يكون كما قبلها على كلّ الجبهات.
منذ اللحظة الأولى، أصرّ "حزب الله" على ترك الغموض سيّد الموقف في ما يتعلق بردّه على جريمة اغتيال قائده العسكري، واضعًا ذلك في خانة "الحرب النفسية" التي يخوضها مع العدو، والتي يندرج في إطارها فيديو "عماد4" الذي كشف النقاب عنه. واليوم أيضًا، يتمسّك الحزب بالغموض نفسه، رافضًا التعليق على التكهّنات باقتراب ردّه، الذي ضُرِبت الكثير من المواعيد، ورُبِط بالعديد من الاستحقاقات، ليبقى "لغزًا" لا يُعرف إن كان سيُحَلّ قريبًا..
المصدر: خاص "لبنان 24"
المصدر: لبنان ٢٤
إقرأ أيضاً:
جلال كشك.. الذي مات في مناظرة على الهواء مباشرة وهو ينافح عن رسول الله
يقدّم الكاتب والباحث المصري جمال سلطان في هذا المقال، الذي تنشره "عربي21" بالتزامن مع نشره على صفحته في فيسبوك، قراءةً حميمة ومكثّفة في سيرة واحد من أكثر المثقفين العرب إثارة للجدل وحضورا في معارك الوعي خلال النصف الثاني من القرن العشرين: محمد جلال كشك.
فمن خلال استعادة شخصية كشك وتجربته الفكرية وتقلباته وتحولاته وصراعاته، لا يكتب سلطان مجرد شهادة شخصية، بل يعيد تفكيك مشهد ثقافي وسياسي كامل، كانت فيه مصر ـ والعالم العربي ـ تتشكل تحت وطأة الإيديولوجيات الكبرى، والمشاريع السلطوية، وصدامات الهوية، ومحاولات التأريخ والهيمنة على الذاكرة.
تتكشّف في هذه السطور صورة كاتب عركته التجارب، واشتعل بالأسئلة، وامتلك جرأة لا تلين في مواجهة ما اعتبره زيفا أو تزويرا للوعي، حتى آخر لحظة في حياته.
طاقة صحفية وفكرية مذهلة
كنت في شبابي مغرما بالكاتب الراحل الكبير محمد جلال كشك، وما زلت، كان الرجل طاقة صحفية وفكرية مذهلة، ولديه صبر ودأب على القراءة والكتابة بشكل تحار فيه العقول، ويكفي أنه كان يقرأ كتب الراحل الكبير أيضا محمد حسنين هيكل ويجري مقارنات صبورة بين ما يكتبه هيكل في النسخة الانجليزية التي تصدر للتسويق الخارجي وما يكتبه في النسخة العربية ، ليكشف عن تناقضات في الروايتين، وهو جهد صعب للغاية، كما كان كتابه المهم "ودخلت الخيل الأزهر" أهم موسوعة حديثة في تسجيل جرائم الغزو الفرنسي لمصر، والعملاء الذين خدموه في الداخل، والكتاب أثار ضجة في حينه، كما كان كتاباه: كلمتي للمغفلين، وثورة يوليو الأمريكية، من أخطر الكتب التي صدرت عن تجربة ثورة يوليو وعبد الناصر، وهو ما قلب عليه القوميين والناصريين بشدة، وهو كان يبادلهم كراهية بكراهية وله كتابات أخرى في هذه المعارك .
لذلك كانت سعادتي كبيرة عندما قدمتني له الكاتبة الكبيرة صافي ناز كاظم، خاصة عندما قرأ كتابا لي صدر في أول التسعينات الماضية "أزمة الحوار الديني"، وأبدى إعجابه الشديد به، وكان مندهشا أن كاتبا شابا يكتب بتلك اللغة والمعلومات، ودعاني لزيارته في شقته بالزمالك وأكرمني كرما حاتميا مما جعلني أحكي تلك "العزومة" الفاخرة لصافي ناز على سبيل التباهي بأنها أتتني من كاتب كبير في قيمة وقامة جلال كشك، فلما بلغه كلامي وغزلي في العزومة غضب، واعتبر أن "العزومة" وما فيها من أسرار البيوت وأنني بذلك لم أحترم بروتوكل الزيارات، فلم يكررها ثانية، وبصراحة كان محقا في ذلك وقد تعلمت من هذا الموقف فيما بعد، لكني وقتها خسرت الكثير من الحمام المحشي والمشوي وخلافه، رغم أنه ـ رحمه الله ـ لم يكن يأكل إلا قليلا بسبب إصابته بالسكر والكوليسترول وأمراض أخرى اجتمعت عليه .
شهدت أفكار محمد جلال كشك تحولات، مثل تحولات عبد الوهاب المسيري وعادل حسين وطارق البشري وجيل كبير من المثقفين المصريين، بدأ حياته الفكرية والسياسية ماركسيا وكان من مؤسسي الحزب الشيوعي، ثم تركه وتركهم وقدم نقدا عنيفا للماركسية ومنظماتها في الستينيات ونشر سلسلة مقالات أزعجت الاتحاد السوفيتي، حتى ردت عليه صحيفة البرافدا واعتبرت أن وجود جلال كشك في الصحافة المصرية هو إساءة للاتحاد السوفييتي، وكانت علاقات عبد الناصر وقتها قد توثقت بموسكو، فأوقفه عبد الناصر عن الكتابة وعن العمل كلية ثلاث سنوات كاملة، ولم يعد إلا بعد النكسة، فعاد إلى مؤسسة أخبار اليوم، ثم ترك مصر كلها وهاجر، وقضى حقبة من حياته في بيروت في حالة لجوء اختياري بعد مضايقات عصر السادات، حتى كانت الثمانينيات حاسمة في توجهه إلى الفكرة الإسلامية، والانحياز للإسلام كحضارة وهوية للأمة وشرط لنهضتها.
لم يمكث جلال كشك بعدها سوى ثلاثة أشهر فقط، وكان من كرم الله عليه أن مات بأزمة قلبية وهو في مناظرة على الهواء ضد نصر حامد أبو زيد يدافع فيها عن رسول الله في وجه خطابات علمانية وغربية متطرفة، فقبضت روحه وهو على هذه الحال.كان جلال كشك يجمع بين الجدية والصرامة في الكتابة وبين خفة الظل والصراحة في المواجهة، وعندما ابتلي في سنواته الأخيرة بسرطان البروستاتا، كان يتردد على لندن للعلاج والفحص، وفي آخر زيارة طبية، أجرى التحاليل، فقال له الطبيب أن أمامه ما بين ثلاثة أشهر إلى ستة أشهر فقط في الدنيا ثم يموت، ويومها كتب مقالا مؤثرا للغاية في مجلة أكتوبر، وكان لها شأن في تلك الأوقات، كان عنوانه "أنعي لكم نفسي"، وحكى فيه ما جرى وأنه ينتظر الموت خلال ستة أشهر على الأكثر، هي كل ما بقي له من الدنيا، ويودع قراءه، ورغم الحزن والمفاجأة، إلا أنه لم يتخل عن خفة ظله في هذا المقال، فحكى فيه أنه بعد أن تسلم من المستشفى اللندني التحليل الذي يؤكد قرب وفاته، فوجئ باتصال يأتيه من شركة أمريكية متخصصة في "دفن الموتى"، وقالوا له: مستر جلال نحن لدينا تجهيزات راقية للجنازات، ومقابر مميزة وبأسعار مناسبة ويمكن أن نحجز لك مقبرة تسرك!!، وراح في المقال يلعن سلسفيل جدودهم، ولم يمكث جلال كشك بعدها سوى ثلاثة أشهر فقط، وكان من كرم الله عليه أن مات بأزمة قلبية وهو في مناظرة على الهواء ضد نصر حامد أبو زيد يدافع فيها عن رسول الله في وجه خطابات علمانية وغربية متطرفة، فقبضت روحه وهو على هذه الحال.
كان جلال كشك شرسا في معاركه الفكرية، موسوعي الثقافة، قوي الحجة، حاضر الذهن، صاحب جلد وصبر غير عادي على البحث والكتابة، لذلك كان مزعجا جدا لأكثر من تيار فكري ، وبشكل خاص كان مكروها من الأقباط المتطرفين، ومن استصحبوا الوعي الطائفي من المثقفين في كتاباتهم عن تاريخ مصر، ولذلك كان يكرهه بشدة الناقد المعروف لويس عوض وكذلك غالي شكري ، خاصة وأنه في كتابه "ودخلت الخيل الأزهر" كشف عن دور "المعلم يعقوب" والفيلق القبطي الذي شكله للقتال بجوار الجيش الفرنسي الذي احتل مصر، وكان لويس عوض يثني في كتاباته على "المعلم يعقوب" عميل الاحتلال الفرنسي ويعتبره بطلا .
أيضا، يكرهه الناصريون بشدة، لأنه صاحب أهم الكتب التي كشفت عن الدعم الكبير الذي قدمته المخابرات الأمريكية "CIA"، لانقلاب ضباط حركة يوليو 1952 بقيادة جمال عبد الناصر، وكان كتاباه "كلمتي للمغفلين"، و"ثورة يوليو الأمريكية" أشبه بزلزال ضرب الوعي الخرافي الذي سوقته آلة الدعاية الناصرية على مدار عقود، وذلك بسبب ما حواه الكتاب من وثائق وأدلة دامغة على الاتصالات واللقاءات السرية التي كانت تجري بين عبد الناصر وبعض ضباطه وبين السفارة الأمريكية، والترتيبات الأمريكية لدعم وحماية انقلاب الضباط ومنع جيش الاحتلال الانجليزي من التدخل، حيث كان جيشهم يرابط في منطقة القناة، على بعد ساعة واحدة من القاهرة.
أيضا، كان يحظى بكراهية شديدة من محبي الأستاذ محمد حسنين هيكل، ومجاذيبه، لأنه القلم الوحيد الذي جرؤ على إهانة هيكل وإحراجه، بل وإعلان احتقاره وتحديه، في مقالات كثيرة، وفي كتب أيضا، وكشف تناقضاته، كما كشف تمريره لمعلومات غير صحيحة على الإطلاق، وتعتبر تضليلا للرأي العام، وكان له صبر عجيب في تتبع هيكل وإحراجه، ولذلك كان الناصريون وأنصار هيكل أكثر من شنعوا على جلال كشك، وأطلقوا حوله الشائعات والشبهات، ورموه بالاتهامات المرسلة والسخيفة والكاذبة التي يسهل إطلاقها على أي أحد، بدون أي دليل، محض كراهية وبهتان وتصفية مرارات عالقة في النفوس.
تتفق أو تختلف مع جلال كشك ، الذي توفاه الله في العام 1993 ، إلا أنك لا يمكن أن تتجاهل أن الثقافة العربية والصحافة العربية خسرت بموته قلما جبارا، وطاقة لا تكل ولا تمل من إثارة المعارك الفكرية والصحفية التي أحدثت استنارة حقيقية في جيل بكامله من المثقفين المصريين والعرب أراد البعض لهم أن يرسفوا في أغلال الزيف والبهتان، يرحمه الله .