لجريدة عمان:
2025-05-16@13:31:47 GMT

لماذا مفهوم الهوية أكثر بروزا في العالم؟

تاريخ النشر: 9th, August 2023 GMT

مفهوم الهوية في عالمنا المعاصر، من المفاهيم التي تتعدد تفسيراتها بين المدارس الاجتماعية والفكرية والسياسية والنفسية، وفي كل الثقافات الإنسانية، مثله مثل مفاهيم الحرية، والخير والشر، والعدالة والمساواة، سواء في التعريف اللغوي في العربية، أو في الغربي الثقافي أيضا، فهناك مفاهيم ومصطلحات، تلاقي الكثير من التفسيرات والتحويرات، وأحيانا حتى في الاختفاء تماما من التداول، بالقياس إلى مفهوم الهوية مثل مفهوم العلمانية، والحداثة، وما بعد الحداثة، والتاريخانية، وغيرها من المفاهيم والمصطلحات التي تتعدد تفسيراتها، وهذه مسائل طبيعية تجد لها مسوغات لكونها تخضع لإيديولوجيات فكرية، من أصحابها، فالحرية مثلا في النظام الرأسمالي تعني حرية السوق المطلقة دون تقييد، (دعه يعمل دعه يمر)، لكن عندما جاءت الفلسفات الليبرالية وأصبحت أكثر تأثيرا في الغرب الرأسمالي، وبدأت الانتقادات للرأسمالية المتوحشة، جاءت المطالبات بحرية التعبير وحرية الأحزاب وحرية الصحافة، فتوسع مفهوم الحرية، وأصبح شاملا في مجالات كثيرة.

وفي الجانب الآخر من مفهوم الحرية، خاصة من النظام الاشتراكي في شرق أوروبا وأمريكا اللاتينية، في ظل النظم الشمولية والحزب الواحد، فُسِّرت الحرية تفسيرا مغايرا لما سارت عليه الليبرالية في غرب أوروبا، وهو أن العيش الكريم للشعوب، هو غاية الحرية حسب مفهومهم لكلمة الحرية، دون نقد أو معارضة، أو تعددية سياسية، إذا المفاهيم قد تتغير وقد تُحور وفق التوجهات والإيديولوجيات السياسية والفكرية، والهوية أيضا قد تتطور وتفسر وفق الانتماء الفكري لفلسفات تختلف في نهجها عن فلسفات أخرى، لكنها تاريخيا ليست مختلفة بين كل الثقافات كفكرة، كما ظهرت في فترة زمنية بعينها.

والهوية في الثقافة العربية، تنسب إلى ضمير الغائب (هو)، أو نحن أو هم كمجموع، ثم أضيفت لها كل مقومات الأمة وتاريخها وتراثها.. إلخ. أما الهوية وفق النظرة الغربية فلسفيا ـ كما يشير د. حسن حنفي ـ أنها :«تُثبت الآخر قبل أن تُثبت الأنا. لأن يشتق لفظ «الهوية» من ضمير المتكلم الفرد «الأنا» إلا بمعنى الأنانية في مقابل الغيرية. أما لفظ «الإنية» فمشتق من «إن»، حرف توكيد ونصب، ومعناه أن يتأكد وجود الشيء وماهيته من خلال التعريف». ومع ذلك أصبح مفهوم الهوية أكثر توسعا من هذا التفسير، ولا يتسع المقام لسرده، فأثر هذا المفهوم في حياة الثقافات والحضارات والأديان، أكبر بكثير من هذه التعريفات، فقد تشتمل الهوية على العادات والتقاليد والسمات والأعراف، والكثير من المفاهيم التي تتعلق بالانتماء الفكري والثقافي، سواء للفرد أو للمجموع في أية أمة من الأمم، لكن الهوية قد تكون ساكنة في محيطها الاجتماعي، لكنها عند الأزمات والتوترات والأخطار الداهمة على الوجود الفكري أو الثقافي، قد تستنهض الهمم للدفاع هن الوجود الهوياتي أو التحذير من المساس بها، أو الاعتداء على الذات الفكرية أو اللغوية أو الثقافية، أو غيرها مما يتعلق بنذر أو خطر داهم أو متوقع بحسب التقديرات والحسابات.

وفي أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين، سواء من كتابات الحركة الإصلاحية، وما صاحبها من كتابات أخرى في تلك الانطلاقة السياسية أو الفكرية، خاصة الكتاب والمؤلفين الذين كانوا الأكثر بروزا في الكتابة والتأليف في ذلك العصر، فلم نجد أية إشارة إلى مفهوم الهوية كمصطلح ظاهر ومقاربته مع المفاهيم المستجدة بعد ذلك في تلكم الظروف، فقد كان الشغل الشاغل لهؤلاء في ذلك، هو الوحدة الوطنية والحديث عن مواجهة الاستعمار ونهوض الأمة، بعد الاحتكاك مع الغرب وتقدمه ونهضته، والفجوة الكبيرة بيننا وبينه، والحديث عن محاولته محو الشخصية الوطنية كمقاربة لبعض مظاهر الاستعمار في بداية تحركه الفكري والتربوي والثقافي، فلم نقرأ لعباس محمود العقاد، أو طه حسين، أو الأمير شكيب أرسلان، أو محمد رشيد رضا، أو عبد العزيز الثعالبي، أو سليمان الباروني، أو غيرهم ممن كانت لهم مؤلفات وكتابات بارزة، وهي منشورة، وعُرفت في الآفاق العربية بصورة واسعة، أقول لم نجد من هؤلاء من تحدث عن مفهوم الهوية وأهميتها للأمة في ظل الاجتياح الغربي للبلاد العربية، وفي القرن الثاني من القرن العشرين، بدأ الحديث عن الهوية، وكتابات من بعض المفكرين العرب، والحديث عن خطر الاختراق الثقافي والفكري، مثل كتابات مالك بن نبي، ومحمد عابد الجابري، وأنور الجندي، وعلي شريعتي، وحسن حنفي، وغيرهم من الكتاب والباحثين الذين أشاروا إلى تأثير الاختراق الفكري على الهوية عموما، وهذا الاهتمام كان بسبب ما ظهر من تأثير الاستعمار في العديد من البلاد العربية في محاولة إقصاء اللغة العربية وإحلال لغة المستعمر في هذه الدول العربية التي استعمرها، وتشجيع اللهجات المحلية، باعتبار اللهجات لا تأثر لها لغة على اللغة الأجنبية وانتشارها، وغيرها من الأساليب التي اتبعها الاستعمار في فترة وجوده البغيض، من هنا بدأ الحديث عن الخطر على الهوية، ممثلة في اللغة والثقافة والقيم والدين، ومن المفكرين العرب الذين اهتموا بمخاطر الاستعمار ودوافعه في استئصال مقومات هوية الأمة، المفكر الجزائري مالك بن نبي، في العديد من مؤلفاته التي كتبها ونبه عليها، وخاصة كتبه مثل «الصراع الفكري في البلاد المستعمرة»، وكتاب «في مهب المعركة» وكتاب «القضايا الكبرى»، وهذه الكتابات من هؤلاء كانت بمثابة دق ناقوس الخطر، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وقد تحققت بعض مثالب الاستعمار وأساليبه في الاحتراق الفكري، خاصة في اللغة والتعليم والثقافة، وربطها بالعلم والتقدم والنهضة، من أجل تمرير فكره وثقافته وتفتيت الكثير مما يقف في وجهه.

وأتذكر أنني حضرت عام 2008 مؤتمرا في الجمهورية الجزائرية لمنتدى الفكر العربي الذي يرأسه الأمير الحسن بن طلال، وأقيم في فندق الصنوبر المعروف الذي يقع في وسط العاصمة الجزائرية، وفي الصباح كالعادة بعد الإفطار، سألت عن صحف الصباح بركن الجرائد القريبة من قاعة الاستقبال، فلم أجد إلا الجرائد الجزائرية باللغة الفرنسية، فسألت: هل يمكن أن أحصل على جرائد عربية؟ فقالت لي إحدى الأخوات الجزائريات العاملات في الفندق: آسفين عزيزي.. لا توجد هنا في الفندق صحف عربية، فقط عندنا صحافة جزائرية باللغة الفرنسية! فتألمت كثيرا: لماذا هذا يحصل في بلد المليون شهيد؟ وبعد خطة التعريب التي وضعها الرئيس الراحل هواري بومدين لسنوات حكمه. ولذلك من أهم استهداف الهوية الذاتية لأي شعب من الشعوب، هو أن تستهدف لغته في المقام الأول، لأنها أهم عناصر الهوية وأداة تعبير مكنونها الوطني والقومي، فإذا أقصيت اللغة، فستتبعها بقية العناصر الجامعة لهُوية الأمة وربما وجودها المادي والروحي، وقد عبر عن هذا الهدف المفكر المغربي د.عبد الكريم غلاب، عندما طرح قضية الهوية في كتابه «أزمة المفاهيم وانحراف التفكير»، فيقول د.غلاب:«في العصور الحديثة قام الاستعمار بالدور الكبير لتحييد الهوية العربية، تارة بالاحتلال المباشر، وإلغاء الهوية الشرعية ممثلة في الوطن واللغة والقومية، وكاد يصل إلى الدين كوضعية الجزائر قبل الاستقلال، وتارة بإجلاء الشعب وإحلال شعب آخر بهويته الدينية والقومية واللغوية والدولية كوضعية فلسطين، وتارة بإلحاق الوطن، وإحلال اللغة الأجنبية محل اللغة العربية، ومحاولة تغيير الدين عن طريق التمسيح، وتغيير التوجه الفكري والحضاري عن طريق غزو فكر جديد وحضارة جديدة يمسخان الفكر الوطني والحضارة الوطنية». فالهوية مسألة تتعلق بقضية أساسية، وهو تعزيز قيم الأمة عند الخطر والمسخ والذوبان من الآخر الذي له من الإمكانيات التي يحاول من خلالها النيل من الهُوية.

والغرب نفسه يتحدث أيضا عن الهوية، وهذه تأتي نتيجة تراجعات في هويته، وفي المقابل فإن الثقافات تتمسك بهويتها وتعززها عند الخطر، وذكر هذا البروفيسور «صامويل هنتنغتون» في كتابه الشهير «صدام الحضارات»،عن أهمية تعزيز القيم الغربية ومنها مسألة الهوية: ولذلك نجد أن قضية الصراع والصدام في الرؤية الغربية، بديهية من أجل تهميش هوية الآخر وإضعافه، وأشار هنتنغتون في هذا الكتاب إلى رواية «ديبون» «البحيرة الميتة»، التي تتحدث عن مسألة تعزيز الهوية لمواجهة الآخر والتي يقول فيها:«لا يمكن أن يكون هناك أصدقاء حقيقيون دون أعداء حقيقيين. إن لم نكره ما ليس نحن، فلن يمكننا أن نحب ما هو نحن. تلك هي الحقائق القديمة التي نعيد اكتشافها بألم بعد قرن أو أكثر من النفاق العاطفي، والذين ينكرونها إنما ينكرون أسرتهم وتراثهم وحق الميلاد.. إنهم ينكرون ذواتهم نفسها ولن يعفى عنهم ببساطة». وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، تحدث الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن، بما يستنفر الهوية الأمريكية تجاه الآخرين:« من ليس معنا، فهو ضدنا» وهي تساوي «من نحن ومن أنتم»؟. إذن قضية الهوية واستخدامها في الأزمات معروفة، فالهوية تعكس وضعا نفسيا داخليا، ويتم استرجاع الذات ماضيه وحاضره وعقيدته، واستجماع قواه لخطر ما يراه متوقعا، ويستلزم مواجهته.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

ختام الدورة الرابعة للأئمة والواعظات في اللغة العربية والإعلام والعلوم البينية بجامعة القاهرة

شهد الدكتور أسامة الأزهري، وزير الأوقاف، والدكتور محمد سامي عبد الصادق رئيس جامعة القاهرة، ختام الدورة الرابعة للأئمة والواعظات في اللغة العربية والإعلام والعلوم البينية بجامعة القاهرة.

وقد حضر اللقاء كلٌّ من: الدكتور محمود الفخراني، مساعد وزير الأوقاف لشئون الامتحانات؛ والأستاذ الدكتور عبدالله التطاوي، المستشار الثقافي لرئيس الجامعة ونائب رئيس الجامعة الأسبق؛ والدكتور محمد منصور هبة، المستشار الإعلامي لرئيس الجامعة؛ والدكتور السيد مسعد، مدير مديرية أوقاف الجيزة؛ والدكتور أحمد أبو طالب، مدير الدعوة بأوقاف الجيزة والمشرف على الدورة.

أفضل أدعية للمتوفى.. رددها الآن واجعل قبره روضة من رياض الجنةهل عدم استجابة الدعاء دليل على غضب الله من العبد؟.. رد حاسم لـ الإفتاء

وقد ثمن رئيس جامعة القاهرة هذه الدورة التدريبية للأئمة والواعظات، حيث إنها تمثل ثمرة التعاون بين الأوقاف والجامعة، فالأئمة والواعظات هم من يحملون أمانة الدعوة إلى الله عز وجل بالحكمة والموعظة الحسنة، موجّهًا رسالته للسادة المتدربين، بأن يكونوا رحماء بالناس، وأن يتسموا بالسماحة والوسطية في أداء رسالتهم الدعوية، ومقدمًا شكره للأستاذ الدكتور أسامة الأزهري، على حضوره حفل الختام، فهو بمثابة مسك الختام لفعاليات هذه الدورة.

ومن جانبه، قدّم الأستاذ الدكتور أسامة الأزهري، وزير الأوقاف، الشكر باسمه وباسم أبناء وزارة الأوقاف، لجامعة القاهرة العريقة والسادة القائمين على استضافتها لهذا البرنامج التدريبي، الذي يأتي في إطار التعاون المشترك بين وزارة الأوقاف وجامعة القاهرة، والذي شمل العديد من العلوم والمعارف، مؤكدًا حرصه الشديد على تزويد الأئمة والواعظات بكل ما يرتقي بهم دعويًا وعلميًا؛ بما يعزز قدرة أبناء الأوقاف في القيام بواجبهم في بناء الوعي.

وقد وجه وزير الأوقاف رسالته للأئمة والواعظات، بالحفاظ على الوطن، وأن ينطلقوا في ربوع الوطن محمَّلين بالأمانة والديانة، فهو ينتظر منهم دورًا كبيرا، فهم ورثة الأنبياء، والأمناء على الدين والوطن، وأن يثابروا على الدعوة في مساجدهم، فالمسجد هو المدخل إلى إصلاح ما بين الناس وبين خالقهم عز وجل، فعليهم أن يحولوها إلى منابر النور وأن يلتزموا بالانضباط والالتزام.  

وفي ختام اللقاء قام وزير الأوقاف، و رئيس الجامعة، بتسليم شهادات التقدير للأئمة والواعظات، والتقاط الصور معهم.

طباعة شارك وزير الأوقاف ورئيس جامعة القاهرة وزير الأوقاف جامعة القاهرة

مقالات مشابهة

  • ختام البرنامج التدريبي لمعلمي العربية للناطقين بغيرها بمنح
  • مراجعة نهائية الصف الخامس الابتدائي الترم الثاني 2025 مادة اللغة العربية
  • ختام الدورة الرابعة للأئمة والواعظات في اللغة العربية والإعلام والعلوم البينية بجامعة القاهرة
  • لماذا طال اجتماع أمير قطر وترامب أكثر من وقته المحدد؟
  • لماذا طال اجتماع أمير قطر وترامب أكثر من وقته المخصص؟
  • المؤرخ الأميركي يوجين روغان: الاستعمار سلّح الاستشراق والعثمانيون أولوا الحداثة عربيا
  • اللغة العربية والذكاء الاصطناعي.. معركة للبقاء في المشهد الرقمي العالمي
  • الإدارية العليا تؤيد قرار التعليم بتدريس مواد الهوية القومية بالمدارس الأجنبية
  • شما بنت محمد تطلق مشروع «إتقان القراءة باللغة العربية»
  • عراقنا… الهوية التي لا تتجزأ !!