لجريدة عمان:
2025-05-16@17:46:10 GMT

إيذاء «الرِّيف» والمدن المعبأة بالتَّائِهِين

تاريخ النشر: 25th, August 2024 GMT

المجتمع ينتج بنفسه وحدته وتحولاته - (ميشال فريتاغ)

إن السمة الغالبة للمجتمعات الريفية أن أنشطتها الإنتاجية تقوم على قاعدة ثقافية هي هوية ساكنيها، فالهوية الثقافية هي المصدر الجوهري لنشاط المجتمعات، إذ نلاحظ أن منشأ فكرة «التعاونيات» الزراعية مثلا، هو مظهر جلي لمعنى العمل التضامني، قالب تنظيمي ليس لصالح تطوير البنية الإنتاجية فقط بل أكثر للحفاظ على الخصائص الثقافية لجغرافيا الريف، إبداع حقيقي ناحية تنمية المجتمع المصغر عبر تحسين معالم التكيف توظيفا لأساليب معرفية قد لا تنتمي إليه لكنها تعزز من شعوره بالأرض كسمة مركزية في الهوية الريفية.

إن ما يقال في غالب دراسات الاجتماع الاقتصادي حول تطوير الريف، والانتقال بفضائه الإنتاجي إلى معنى حداثي تغفل عن حقيقة مهمة، وهي أن الريف هو أكثر مكون اجتماعي استجابة للمتغيرات الاقتصادية والسياسية، كون بنيته المركزية تقوم على معنى جماعي، فسكان المناطق الريفية (بالذات الزراعية منها) يرتبطون ببعضهم البعض عبر التضامن والتكافل وتقوم أشغالهم على قاعدة صلبة من توظيف لمنظومتهم الثقافية وعدم التفريط في حقيقة وجودهم الاجتماعي، والدعوات لصالح إلحاق الريف بالمدينة تؤذي الريف إذ تنخرط في محاكاة مؤسلبة لطبيعة الحياة فيه، وتنتخب من مدخرات التنظير في الاقتصاد مظاهر لا تنطبق البتة على واقعه، وهو تنظير يعتقد بأنه ولتطوير البنى الاجتماعية الموصوفة بالتأخر فإنه لزاما على صناع السياسات أن ينتقلوا بالريفيين من منطقة منخفضة التمدين إلى «حضرنة» أثبت واقعنا العربي أنها تنتهي إلى مدن معبأة بالتائهين، وهنا مكمن الأذى.. كيف؟

إن صورة الريف في الذاكرة العربية رومانسية، كونها منطقة تعيش حالة من العزلة عن عقيدة التطور الحضاري، أي أنها مظهر تذكاري أو نسخة مؤجلة لحقيقة ساكني المدينة، وهذا ما صنع صورة سلبية عن حقيقة الريف، صحيح أنه يستدعى في الذاكرة متى ما تعانفت المدينة على أهلها، ليستعاد كحالة مؤيتبة (من يوتوبيا) يستعاد باستمرار عبر العودة إليه هربا من هيجان المدينة، هجيانها الحضري، لكن هذا الأمر خلق حالة من الثنائية في التفكير الاجتماعي العربي، فمن ناحية نعود إلى الريف كحالة هروب إلى الجذور، دون أن نفكر بصورة موضوعية عن الطريقة التي يتدبرها أهلنا الذين ظلوا على وفاء مجيد للأرض، وعرفوا كيف يمتنون معاشهم بالصورة التي توافق احتياجاتهم ما منع عنهم إغواء الحضر فيهربوا إليه، ومن ناحية أخرى ظلت سياساتنا التنموية لا تتفهم حقيقة الريف والذي تغيب فيه فكرة التسليع بالمعنى الاستهلاكي، وتحضر بالمعنى الاكتفائي.

وعندما يتدخل العقل المستلب بمظاهر الحضرنة ليقول بضرورة تطوير الريف وتحسين معاش أهله، فإنه يتغافل عن حقيقة علنية، وهي أن القرية كوحدة من وحدات المجتمع الريفي وبسبب من هذا النوع من التدخلات تتفكك من كونها مجتمعا ويعيش توافقها حالة من القمع تتبدى في (الهجرة من الريف إلى المدينة) وهي هجرة مكلفة للريف والمدينة، إذ في الأولى تقطع سلاسل من انتماء ثقافي قادر على تطوير أدواته الإنتاجية، انتماء يعيشه أشخاص يستثمرون في هوية تمنع عنهم غوائل الحاجة والشظف، وفي الثانية تعجز المدينة أيا كانت بلاغتها الخدمية عن استيعاب هجرة سكان الريف إليها، ليعيشوا حالة من الغربة عن الإنتاج، حالة تتدرج حتى تقطع في القادم من هذا التكوين المتماسك والمتوفر على تمتين أدواته في الكفاية، تقطع فيه قدرته على العطاء.

إن الاشتغال على نظرية التنمية المستدامة ينبغي أن يعود في تأسيساته إلى معرفة نوع النمط الاجتماعي الذي يعيشه سكان كل منطقة، ففكرة الخدمات والتي غالبا ما يشار إلى حاجة الريف إليها يتم تقديمها بشكل لا يراعي الطبيعة الثقافية، نعم يحتاج الريف إلى المستشفيات مثلا، لتوفير خدمة طبية متقدمة يستفيد منها كبار السن، لكن أيضا يفضل أن يكون القائمون على أمر استشفاء هذه الفئة ممن ينتمون إلى هذا المجتمع ويعرفون طبائعه الغذائية والبدنية، وحينها ستصبح فاتورة تقديم هذه الخدمة أقل مما هي عليه بكثير، إذ ستجمع بين فئات متباينة القدرات لكنها متكاملة في التوجه، فالحياة في الريف تملك خصوصيتها عن المدينة وهذا من نافلة القول، لكن الجوهري أنه لو قمنا بتطوير سياساتنا الخدمية بحيث يصبح الجانب الثقافي قاعدة لتحسين الخدمات على تنوعها، فبهذا سنكون قد حافظنا على تماسك البنية الاجتماعية في جملة الجغرافيا التي نعيش، وسنصنع سياسات خدمية ترتكز على الخصوصية الثقافية في المنطقة محل الخدمة، ودعوتنا تقوم على الاهتمام أكثر بالاقتصاد الاجتماعي في الريف، وتوطين سياسات التنمية وتجديد السياسات الوطنية لتغيير وعيها بالريف.

أما تطور المدينة فسيظل يعتمد على بناء مستقبل متين ومتقدم في البيئة الريفية، فالمجتمعات قادرة على الإجابة عن أسئلة واقعها، واقعها كما عاشته وتفهمه، لكنها تفشل في إحسان إنتاجها وتوفيره لنفسها والآخرين عندما تتدخل سياسات تقضي على تنوع المجتمعات وتفصل أفرادها عن جذورهم المحلية، ولن نأتي بجديد إن قلنا إن التطور الاجتماعي بحاجة إلى فاعلية إبداعية وهي فاعلية لا يمكن تضمينها وعي الناس بل تنطلق من فهمهم لذاتهم وواقعهم.

والسؤال هنا: من يحتاج إلى التطوير، الريف أم المدينة (مدينة صنع السياسات)؟..

غسان علي عثمان كاتب سوداني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: حالة من

إقرأ أيضاً:

سها النقاش رئيسا لقناة النيل الثقافية

كتب- محمد سامي:

أصدر الكاتب أحمد المسلماني رئيس الهيئة الوطنية للإعلام قرارا بتكليف الإعلامية سها النقاش برئاسة قناة النيل الثقافية.

وبحسب بيان، ولدت سها النقاش في باريس عام ١٩٦٩، وتخرجت في قسم الصحافة بكلية الإعلام جامعة القاهرة عام ١٩٩١، ثم التحقت بالتليفزيون المصري عقب تخرجها، حيث شغلت مواقع متعددة في قنوات النيل للأخبار والنيل الدولية والنيل الثقافية، كما عملت خارج ماسبيرو في قناة أون تي في ومؤسسة طومسون رويترز.

لمعرفة حالة الطقس الآن اضغط هنا

لمعرفة أسعار العملات لحظة بلحظة اضغط هنا

الكاتب أحمد المسلماني سها النقاش قناة النيل الثقافية

تابع صفحتنا على أخبار جوجل

تابع صفحتنا على فيسبوك

تابع صفحتنا على يوتيوب

فيديو قد يعجبك:

الأخبار المتعلقة تفاصيل لقاء "المسلماني" مع رئيس مؤسسة الإنتاج البرامجي لمجلس التعاون الخليجي أخبار ملتقى الإعلام العربي بالكويت يهدي قناة الأطفال بماسبيرو 5 مسلسلات أخبار عائلة الشيخ الشعشاعي تهدي إذاعة القرآن الكريم تلاوات تذاع لأول مرة أخبار "المسلماني" يعلن تدشين منتدى القاهرة للإعلام.. الانطلاق في خريف 2025 أخبار

إعلان

إعلان

أخبار

سها النقاش رئيسا لقناة النيل الثقافية

روابط سريعة

أخبار اقتصاد رياضة لايف ستايل أخبار البنوك فنون سيارات إسلاميات

عن مصراوي

اتصل بنا احجز اعلانك سياسة الخصوصية

مواقعنا الأخرى

©جميع الحقوق محفوظة لدى شركة جيميناي ميديا

بالصور- رفع كسوة الكعبة المشرفة استعدادًا لموسم الحج هل العاصفة شيماء دخلت مصر؟.. الأرصاد: موجة حارة جديدة بعد أيام مصر تحذر رعاياها في ليبيا وتخصص رقم هاتف للطوارئ 27

القاهرة - مصر

27 14 الرطوبة: 17% الرياح: شمال شرق المزيد أخبار أخبار الرئيسية أخبار مصر أخبار العرب والعالم حوادث المحافظات أخبار التعليم مقالات فيديوهات إخبارية أخبار BBC وظائف اقتصاد أسعار الذهب أخبار التعليم فيديوهات تعليمية رياضة رياضة الرئيسية مواعيد ونتائج المباريات رياضة محلية كرة نسائية مصراوي ستوري رياضة عربية وعالمية فانتازي لايف ستايل لايف ستايل الرئيسية علاقات الموضة و الجمال مطبخ مصراوي نصائح طبية الحمل والأمومة الرجل سفر وسياحة أخبار البنوك فنون وثقافة فنون الرئيسية فيديوهات فنية موسيقى مسرح وتليفزيون سينما زووم أجنبي حكايات الناس ملفات Cross Media مؤشر مصراوي منوعات عقارات فيديوهات صور وفيديوهات الرئيسية مصراوي TV صور وألبومات فيديوهات إخبارية صور وفيديوهات سيارات صور وفيديوهات فنية صور وفيديوهات رياضية صور وفيديوهات منوعات صور وفيديوهات إسلامية صور وفيديوهات وصفات سيارات سيارات رئيسية أخبار السيارات ألبوم صور فيديوهات سيارات سباقات نصائح علوم وتكنولوجيا تبرعات إسلاميات إسلاميات رئيسية ليطمئن قلبك فتاوى مقالات السيرة النبوية القرآن الكريم أخرى قصص وعبر فيديوهات إسلامية مواقيت الصلاة أرشيف مصراوي إتصل بنا سياسة الخصوصية إحجز إعلانك خدمة الإشعارات تلقى آخر الأخبار والمستجدات من موقع مصراوي لاحقا اشترك

مقالات مشابهة

  • وزير التربية بحث مع «الإيسيسكو» سبل تطوير البرامج التعليمية والمشاريع الثقافية المشتركة
  • الإحصاء : 26.5 مليون أسرة في مصر و55.6% من سكان الريف
  • محافظ الإسكندرية لسفراء أوروبا: تطوير المدينة لتحسين جودة حياة المواطنين
  • محافظ أسيوط يوجه بمتابعة نسب تنفيذ المشروعات التنموية بالمراكز والمدن
  • ترامب "لا يريد إيذاء" إيران.. ويطلب منها الإسراع
  • سها النقاش رئيسا لقناة النيل الثقافية
  • قرار بتعيين رئيس جديد لقناة النيل الثقافية.. من هي سها النقاش؟
  • سها النقاش رئيسًا لقناة النيل الثقافية
  • محافظ الدقهلية يقود حملة تفتيشية على المخابز بقرية أوليله ويتابع التراخيص البنائية ميدانيًا
  • ما حقيقة تعرض مصر للعاصفة شيماء؟ الأرصاد تفجر مفاجأة (فيديو)