لجريدة عمان:
2025-12-01@21:24:36 GMT

إيذاء «الرِّيف» والمدن المعبأة بالتَّائِهِين

تاريخ النشر: 25th, August 2024 GMT

المجتمع ينتج بنفسه وحدته وتحولاته - (ميشال فريتاغ)

إن السمة الغالبة للمجتمعات الريفية أن أنشطتها الإنتاجية تقوم على قاعدة ثقافية هي هوية ساكنيها، فالهوية الثقافية هي المصدر الجوهري لنشاط المجتمعات، إذ نلاحظ أن منشأ فكرة «التعاونيات» الزراعية مثلا، هو مظهر جلي لمعنى العمل التضامني، قالب تنظيمي ليس لصالح تطوير البنية الإنتاجية فقط بل أكثر للحفاظ على الخصائص الثقافية لجغرافيا الريف، إبداع حقيقي ناحية تنمية المجتمع المصغر عبر تحسين معالم التكيف توظيفا لأساليب معرفية قد لا تنتمي إليه لكنها تعزز من شعوره بالأرض كسمة مركزية في الهوية الريفية.

إن ما يقال في غالب دراسات الاجتماع الاقتصادي حول تطوير الريف، والانتقال بفضائه الإنتاجي إلى معنى حداثي تغفل عن حقيقة مهمة، وهي أن الريف هو أكثر مكون اجتماعي استجابة للمتغيرات الاقتصادية والسياسية، كون بنيته المركزية تقوم على معنى جماعي، فسكان المناطق الريفية (بالذات الزراعية منها) يرتبطون ببعضهم البعض عبر التضامن والتكافل وتقوم أشغالهم على قاعدة صلبة من توظيف لمنظومتهم الثقافية وعدم التفريط في حقيقة وجودهم الاجتماعي، والدعوات لصالح إلحاق الريف بالمدينة تؤذي الريف إذ تنخرط في محاكاة مؤسلبة لطبيعة الحياة فيه، وتنتخب من مدخرات التنظير في الاقتصاد مظاهر لا تنطبق البتة على واقعه، وهو تنظير يعتقد بأنه ولتطوير البنى الاجتماعية الموصوفة بالتأخر فإنه لزاما على صناع السياسات أن ينتقلوا بالريفيين من منطقة منخفضة التمدين إلى «حضرنة» أثبت واقعنا العربي أنها تنتهي إلى مدن معبأة بالتائهين، وهنا مكمن الأذى.. كيف؟

إن صورة الريف في الذاكرة العربية رومانسية، كونها منطقة تعيش حالة من العزلة عن عقيدة التطور الحضاري، أي أنها مظهر تذكاري أو نسخة مؤجلة لحقيقة ساكني المدينة، وهذا ما صنع صورة سلبية عن حقيقة الريف، صحيح أنه يستدعى في الذاكرة متى ما تعانفت المدينة على أهلها، ليستعاد كحالة مؤيتبة (من يوتوبيا) يستعاد باستمرار عبر العودة إليه هربا من هيجان المدينة، هجيانها الحضري، لكن هذا الأمر خلق حالة من الثنائية في التفكير الاجتماعي العربي، فمن ناحية نعود إلى الريف كحالة هروب إلى الجذور، دون أن نفكر بصورة موضوعية عن الطريقة التي يتدبرها أهلنا الذين ظلوا على وفاء مجيد للأرض، وعرفوا كيف يمتنون معاشهم بالصورة التي توافق احتياجاتهم ما منع عنهم إغواء الحضر فيهربوا إليه، ومن ناحية أخرى ظلت سياساتنا التنموية لا تتفهم حقيقة الريف والذي تغيب فيه فكرة التسليع بالمعنى الاستهلاكي، وتحضر بالمعنى الاكتفائي.

وعندما يتدخل العقل المستلب بمظاهر الحضرنة ليقول بضرورة تطوير الريف وتحسين معاش أهله، فإنه يتغافل عن حقيقة علنية، وهي أن القرية كوحدة من وحدات المجتمع الريفي وبسبب من هذا النوع من التدخلات تتفكك من كونها مجتمعا ويعيش توافقها حالة من القمع تتبدى في (الهجرة من الريف إلى المدينة) وهي هجرة مكلفة للريف والمدينة، إذ في الأولى تقطع سلاسل من انتماء ثقافي قادر على تطوير أدواته الإنتاجية، انتماء يعيشه أشخاص يستثمرون في هوية تمنع عنهم غوائل الحاجة والشظف، وفي الثانية تعجز المدينة أيا كانت بلاغتها الخدمية عن استيعاب هجرة سكان الريف إليها، ليعيشوا حالة من الغربة عن الإنتاج، حالة تتدرج حتى تقطع في القادم من هذا التكوين المتماسك والمتوفر على تمتين أدواته في الكفاية، تقطع فيه قدرته على العطاء.

إن الاشتغال على نظرية التنمية المستدامة ينبغي أن يعود في تأسيساته إلى معرفة نوع النمط الاجتماعي الذي يعيشه سكان كل منطقة، ففكرة الخدمات والتي غالبا ما يشار إلى حاجة الريف إليها يتم تقديمها بشكل لا يراعي الطبيعة الثقافية، نعم يحتاج الريف إلى المستشفيات مثلا، لتوفير خدمة طبية متقدمة يستفيد منها كبار السن، لكن أيضا يفضل أن يكون القائمون على أمر استشفاء هذه الفئة ممن ينتمون إلى هذا المجتمع ويعرفون طبائعه الغذائية والبدنية، وحينها ستصبح فاتورة تقديم هذه الخدمة أقل مما هي عليه بكثير، إذ ستجمع بين فئات متباينة القدرات لكنها متكاملة في التوجه، فالحياة في الريف تملك خصوصيتها عن المدينة وهذا من نافلة القول، لكن الجوهري أنه لو قمنا بتطوير سياساتنا الخدمية بحيث يصبح الجانب الثقافي قاعدة لتحسين الخدمات على تنوعها، فبهذا سنكون قد حافظنا على تماسك البنية الاجتماعية في جملة الجغرافيا التي نعيش، وسنصنع سياسات خدمية ترتكز على الخصوصية الثقافية في المنطقة محل الخدمة، ودعوتنا تقوم على الاهتمام أكثر بالاقتصاد الاجتماعي في الريف، وتوطين سياسات التنمية وتجديد السياسات الوطنية لتغيير وعيها بالريف.

أما تطور المدينة فسيظل يعتمد على بناء مستقبل متين ومتقدم في البيئة الريفية، فالمجتمعات قادرة على الإجابة عن أسئلة واقعها، واقعها كما عاشته وتفهمه، لكنها تفشل في إحسان إنتاجها وتوفيره لنفسها والآخرين عندما تتدخل سياسات تقضي على تنوع المجتمعات وتفصل أفرادها عن جذورهم المحلية، ولن نأتي بجديد إن قلنا إن التطور الاجتماعي بحاجة إلى فاعلية إبداعية وهي فاعلية لا يمكن تضمينها وعي الناس بل تنطلق من فهمهم لذاتهم وواقعهم.

والسؤال هنا: من يحتاج إلى التطوير، الريف أم المدينة (مدينة صنع السياسات)؟..

غسان علي عثمان كاتب سوداني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: حالة من

إقرأ أيضاً:

قانون ترامب يضرب الريف الأمريكي.. عيادات تُغلق وبلدات بلا رعاية طبية

مع تفاقم أزمة الرعاية الصحية في الولايات المتحدة، تعيش بلدة تشيرشفيلا الصغيرة في فرجينيا صدمة حقيقية بعد إغلاق عيادتها الريفية الوحيدة، في خطوة عزتها مجموعة “أوغوستا ميديكال” إلى التخفيضات الواردة في قانون الرئيس دونالد ترامب المعروف بـ “قانون الفاتورة الواحدة الجميلة”، الذي خفّض الإنفاق الفيدرالي على الصحة بمئات المليارات وفرض قيوداً جديدة على أهلية “ميديكيد”.

القرار ترك السكان، البالغ عددهم نحو 200 شخص فقط، في حالة ارتباك وقلق مع غياب البديل القريب.

سكان البلدة يؤكدون أن تأثير الإغلاق كان فورياً. تيريزا ليتش، 56 عاماً، المصابة بالربو، قالت إنها حاولت حجز موعد طبي “حتى لفحص روتيني”، لكن أقرب موعد كان في نهاية يناير، رغم أنها كانت من بين من صوتوا لترامب العام الماضي.

على الجانب الآخر، يخشى ديمقراطيون مثل جينا كريسْلر — التي خسرت سباق مجلس النواب المحلي بفارق كبير رغم فوز الديمقراطيين على مستوى الولاية — من أن تؤدي هذه التطورات إلى مزيد من التراجع في ثقة المناطق الريفية بحزبها

ورغم أن الكثيرين في تشيرشفيلا بدؤوا يربطون بين القانون الصحي الجديد وإغلاق العيادة، فإن آخرين يلتزمون الصمت خوفاً من مناخ سياسي متوتر.

امرأة في المقهى المحلي قالت إنها دعمت كامالا هاريس لكنها لا تجرؤ على إعلان ذلك. لافتة على متجر قريب تقول: “شكراً ترامب.. أنقذ أمريكا مرة أخرى”، ما يعكس الانقسام الحاد داخل المجتمع الصغير.

ومع أن سكان الريف اعتادوا السفر إلى مدن مثل شارلوتسفيل وستاونتن للحصول على العلاج، يبقى غياب مركز محلي للرعاية الصحية ضربة قاسية لكبار السن والمرضى المزمنين.

وتؤكد منظمات ديمقراطية مثل “رورال غراوند غايم” أنها ستواصل التركيز على ملف الرعاية الصحية عبر لقاءات ميدانية وزيارات للمنازل لمحاولة استعادة الثقة.

وترى لينلي ثورن، مديرة المنظمة، أن السكان “يريدون محادثات حقيقية لا دعاية سياسية”، معتبرة أن الخسائر في الخدمات الصحية ستدفع المجتمع تدريجياً لإعادة التفكير في خياراته السياسية.

في المقابل، يرى سكان مثل ديل وايت أن القلق مبالغ فيه، ويؤكد أن الناس اعتادوا دائماً على السفر لتلقي العلاج. لكن آخرين، مثل إيرين هولمز التي تعتمد على العيادة بسبب مشاكل صحية معقدة، يحمّلون ترامب المسؤولية قائلين إن سياساته “تدمر المناطق الريفية”.

وسط هذا الجدل، يقترح أصحاب الأعمال المحليون حلولاً مبتكرة، مثل استقدام طبيب يجري زيارات منزلية لتعويض الفراغ. ومع غياب أي خطة واضحة لإعادة فتح العيادة، تبدو تشيرشفيلا نموذجاً مصغراً للأزمة الوطنية المتصاعدة في الريف الأمريكي.

طباعة شارك ترامب سكان الريف الأمريكيين اوغستال ميديكال ايرين هولمز سياسي دونالد ترامب الرئيس الامريكي

مقالات مشابهة

  • رئيس هيئة سلامة الغذاء يرد على فيديو “بلوجر” عن المياه المعبأة: نراقب كل الخطوات
  • المبادرات الثقافية.. الأدوار والأنشطة المرجوة
  • الجيزة تطلق مسابقة لاختيار أفضل الأحياء والمراكز والمدن- تفاصيل
  • محافظ الجيزة يعلن إطلاق مسابقة دورية لاختيار أفضل الأحياء والمراكز والمدن
  • محافظ الجيزة: مسابقة دورية لاختيار أفضل الأحياء والمراكز والمدن والوحدات القروية
  • طلب إحاطة بشأن أزمة المقطع المرئي حول شائعة وجود تلوث بمياه الشرب المعبأة
  • نائب محافظ الجيزة والسكرتير العام يتابعان تنفيذ الخطة الاستثمارية وملف تقنين أراضي الدولة
  • الريف المصري تقدم 1000 كشف عيون مجانى لأهالي سيناء
  • قانون ترامب يضرب الريف الأمريكي.. عيادات تُغلق وبلدات بلا رعاية طبية
  • الأول بالتقييم الشهري.. محافظ كفر الشيخ يكرم رئيس مدينة دسوق | صور