الوطنية السودانية واستقلال السودان (1 -2)
تاريخ النشر: 14th, September 2024 GMT
الوطنية السودانية واستقلال السودان (1 -2)
Sudanese Nationalism and the Independence of the Sudan (1-2)
G.N. Sanderson جورج نيفيل ساندرسون
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذا هو الجزء الأول من ترجمة لفصل في كتاب حرره مايكل بريت (Michael Brett)، صدر عام 1973م بعنوان: "Northern Africa: Islam and Modernization" (شمال أفريقيا: الإسلام والتحديث) عن دار نشر Frank Cass بلندن، في صفحات 97 -109.
وسبق لنا ترجمة مقال لساندرسون عنوانه: مجلة "السودان في رسائل ومدونات" كمصدر من مصادر أبْحَاث السودان، يمكن الاطلاع عليه في هذا الرابط: https://shorturl.at/LPlbH
المترجم
********* ********** ********
إن النموذج (model) المفرط البساطة الذي تم بموجبه في نهاية المطاف تحقيق الاستقلال من خلال ضغط حركة وطنية "جماهيرية" لا تقاوم هو نموذج غير مناسب في السودان بصورة أكثر من المعتاد. ولو كان مثل ذلك الضغط موجوداً بالفعل، لكان البريطانيون قد أصبحوا عُرضة له في أي وقت بعد عام 1945 تقريباً. ومنذ أوائل أربعينيات القرن العشرين، شرعت حكومة السودان في السعي للحصول على الدعم السياسي النشط من السودانيين، رغماً عن تحفظات بعض عناصرها الأكثر استبدادية. وتحقيقاً لتلك الغاية، حشدت الحكومة أقدم أصدقائها من زعماء الأرياف والأعيان الأثرياء الذين سيطروا على "المجلس الاستشاري" الذي أُنْشِئَ في عام 1943م؛ وتحالفت أيضاً مع السيد عبد الرحمن المهدي، زعيم طائفة "المهدية الجديدة"، ومع من يبدو أنهم من الوطنيين المعتدلين ظاهرياً. ولا ريب أنه لم يكن هناك خلاف على قيمة وأهلية وصلاحية أعضاء المجلس الاستشاري، فهم من ذوي العقليات المحافظة؛ ومن المؤكد أيضاً أن السيد عبد الرحمن المهدي كان في حاجة ماسة إلى البريطانيين إن كان يرغب في تحقيق طموحه غير الخفي في أن يصبح وريثهم السياسي. ولكن لم يكن للمجلس الاستشاري، ولا للسيد عبد الرحمن، أن يوافقا على القمع القسري لحركة وطنية قوية، لو كانت مثل تلك الحركة موجودة بالفعل.
لقد أصبح لدعم السيد عبد الرحمن المهدي وزعماء المجتمع السوداني التقليديين (الذي كان في البداية مجرد دعم سهل ومُوَائِم لهم) أهمية حاسمة بعد انتهاء الحرب وحلول السلام. وأعاق ذلك الدعم البريطانيين أكثر من أي وقت مضى من السعي نحو الحصول على مجرد حل تمثيلي (representative solution) لصعوباتهم السياسية في السودان. وفي عام 1947، وبعد عرض النزاع الإنجليزي - المصري بشأن السودان أمام مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، غدا الدعم السوداني لا غنى عنه على الإطلاق. وبررت بريطانيا أمام مجلس الأمن وجودها في السودان بحجة أنها كانت تُعِدُّ شعب السودان للاستقلال الذي حرمتهم منه ادعاءات مصر بالسيادة عليه. ولكي يكون لذلك الادعاء مصداقية، كان على البريطانيين أن يثبتوا وجود دعم سوداني كبير لسياستهم القائمة على "تقدم دستوري" متدرج. غير أن ما حدث بالفعل هو أن ذلك "الدعم" لم يعد يأتي بعد عام 1952م، وحينها فقدت بريطانيا على الفور سيطرتها على الأحداث السياسية في السودان. ومع ذلك، فقد تمكنت الحكومة طوال تلك الفترة من الحكم، مستخدمةً الحد الأدنى من القوة، من احتواء التحريض والاضطراب الذي أحدثه الوطنيون بطرق ووسائل لم تشكل تهديداً حقيقياً للأمن العام، أو حتى للروتين الإداري. وظلت حكومة السودان حتى الخمسينيات - ورغماً عما بدا من أن وضعها كان معرضاً للهجوم – واثقة من قدرتها أن تمضي في سياستها من أجل "كسب الوقت"، وأن تعمل من كثب على تنظيم مسيرة "التقدم الدستوري". ولم تواجه الحكومة حتى منتصف عام 1952م الكثير من الصعوبات في الحصول على ما يكفي من تأييد السودانيين. بل تمكنت الحكومة في الواقع، وبشكل مؤقت، خلال عام 1951م من تأمين نطاق تعاون أوسع من أي وقت مضى منذ عام 1945م، وذلك من خلال تراجع تكتيكي غير ملزم إلى حد ما عن موقفها السلبي الذي اتخذته في العام السابق.
إن إحدى الطرق لتفسير ذلك الوضع الغريب إلى حد ما هي الإشارة إلى أن الانقسامات الطائفية، وخاصة التنافس الحاد بين زعيم طائفتي الختمية (السيد على الميرغني) والأنصار (السيد عبد الرحمن المهدي) قد "أضعفت" الحركة الوطنية. وضاعف استغلال البريطانيين والمصريين لتلك الحالة من الصراع والانقسام في صفوف الحركة الوطنية. فقد كانت مصر تساند الطائفة الختمية، أو على الأقل حلفاءها السياسيين؛ بينما عملت بريطانيا بشكل أكثر تحفظاً - ولكن بفعالية كبيرة - على تأييد ومساندة السيد عبد الرحمن المهدي وحزب الأمة، الذي لم يكن سوى منظمة "جبهة سياسية" للسيد عبد الرحمن. ولا غبار على ذلك التفسير، ولكنه ليس تفسيراً كاملاً يغطي كل جوانب الوضع. فهو لا يفسر مثلاً استعداد الإدارة بالسودان بين عامي 1936 و1940م لتبني "الحركة الوطنية العلمانية"، وليس فقط مجرد القبول بها واحتمالها. ولا يفسر كذلك التقارب الذي حدث في سنة 1941م وما بعدها بين الحكومة والسيد عبد الرحمن المهدي، على الرغم من أن الحكومة كانت من قبل ذلك تنظر إليه بعين الشك والتوجس، خاصةً بين عامي 1935 و1940م. وكذلك لا يفسر سبب اعتبار الإدارة السيد علي الميرغني في الفترة بين الحربين العالميتين من أقوى المؤيدين لحكومة السودان ويمكنها الاعتماد عليه تماماً؛ ثم صارت تعده في عام 1944م حليفاً لمصر وأكبر زعيم للوطنيين الأكثر تطرفا. وزادت نظرية ذلك "الضعف" المفترض في الحركة الوطنية من صعوبة تفسير لماذا اضطرت حكومة السودان حتى قبل عام 1945م إلى التخلي عن وضعها كمُحَكّمة أو وسيطة (arbiter) ومناورة (manipulator) في السياسة السودانية، والنزول إلى الساحة لمناصرة عبد الرحمن المهدي مناصرة علنية - وهو الموقف الذي أدى في أكتوبر 1946م إلى أن يقوم السيد عبد الرحمن المهدي وحكومة السودان بشكل ضمني بمعارضة، بل تحدي، حكومة صاحب الجلالة، وإجبار وزير الخارجية المُهاب ايرنست بيقن على التراجع عن سياسته في السودان على الفور بشكل مفاجئ وحاد (1).
وكانت أزمة أكتوبر 1946م واحدة من مناسبتين حدثتا إبان حركة "النضال الوطني"، عندما كان النظام العام مهدداً بشكل خطير، أو بدا أنه كان كذلك. أما المناسبة الثانية فهي مظاهرات "الأنصار" العارمة في الأول من مارس عام 1954م. لقد كانت الوطنية الواعية بذاتها في أكتوبر 1946م لا تزال مجرد مُعتَقَد cult لنخبة صغيرة؛ وبحلول شهر مارس 1954م كان "النضال" ضد البريطانيين قد انتصر بشكل حاسم. ولم تكن لـ "الوطنية" في حد ذاتها علاقة كبيرة بأي من هاتين الأزمتين؛ غير أنه كان للسيد عبد الرحمن علاقة كبيرة بكل منهما. كانت المظاهرتان شديدتا الفعالية وأثبتتا أن "قضية السودان" لا يمكن تسويتها سلمياً دون مراعاة رغبات وتطلعات السيد عبد الرحمن.
لقد حان الوقت لتغيير التركيز. ربما لم يكن لتنامي "الوطنية"، برغم كل ما قِيلَ أو كُتِبَ عنها، هو الموضوع المركزي في عملية تقدم السودان نحو الاستقلال. وربما يكون من الأكثر فائدةً وتنويراً أن ننظر إلى "الوطنية" بحسبانها مجرد مُدْخَل (input) جديد (وكانت حتى عام 1951 مُدْخَلاً له أهمية ثانوية نسبياً) في صراع متطور بالفعل من أجل نيل نفوذ سياسي في السودان. وكلما اقترب السودان من تقرير المصير، كلما زادت المخاطر في ذلك الصراع الداخلي. وليس من المستغرب أن يتجه الصراع على إرث السلطة البريطانية إلى أخذ الأسبقية على "النضال الوطني" الحقيقي. وكانت ردود الفعل السلبية القوية تلك هي التي أبقت حكومة السودان مسيطرة حتى أواخر عام 1952م، حين أفلح المنافسون السودانيون في عكس / قلب أولوياتهم مؤقتاً، وبالتالي حاصروا البريطانيين.
لم يكن الوطنيون في حالة "انقسام" و"ضعف" بسبب ذلك الصراع على السلطة فحسب؛ بل كانوا أيضاً منغمسين تماماً في تلك الحالة. ففي بداية الأربعينيات لم يكن للوطنية العلمانية أي صدى (أو حتى معنى) في خارج دائرة أصحاب الياقات البيضاء "الانتلجنسيا" الضيقة نسبياً. وسعى قادة الحركة الوطنية لنيل تأييد شعبي بديل، ووجدوا ضالتهم في طائفتي الختمية والأنصار، وربطوا حركتهم بعجلات عربتيها. غير أن تبعية وخضوع الحركة الوطنية للطائفية لم يكن في الواقع كاملاً. فقد جمع إسماعيل الأزهري مثلاً بين "الوطنية العلمانية المتشددة" وبين "حدة المشاعر المضادة" للبريطانيين، إضافةً إلى قدر كبير من المهارة التكتيكية أهلته ليكون قوةً سياسية مهمة ومستقلة بذاتها. غير أن حتى الأزهري نفسه كان فقد الكثير من نفوذه عندما سحبت طائفة الختمية تأييدها له بين عامي 1948 و1952م. ولم يكن مصير الحركة الوطنية مستغرباً بعد ذلك، إذ تقاسمته دولتي الحكم الثنائي. وشرعت بريطانيا ومصر في تبني ورعاية جناحي الحركة الوطنية السودانية. ولكن وجدت الدولتان أنهما خاضعتين أيضاً للصراع بين الأنصار والختمية. وانتهى بهما الأمر كمساعدين يمكن التضحية بهما؛ وتم التخلص منهما عندما تجاوزا فترة صلاحيتهما - البريطانيون عن طريق عبد الرحمن المهدي في أكتوبر 1952م، والمصريون مِنْ قِبَل الختمية في نهاية عام 1954م. وكان لب الصراع في السودان يكمن في طموحات السيد عبد الرحمن المهدي. وكان صعود ذلك الرجل من حالة خمول الذِّكر إلى حين وقوع الحرب العالمية الأولى قد حدث عندما عرض على الحكومة (التي كانت في حالة حرب ضد الترك) ولاء أنصاره في الأرياف، وأوفى بما وعد به. وأجزلت له الحكومة العطاء ومنحته الأراضي والعقود الحكومية المربحة، وغدا السيد عبد الرحمن المهدي نتيجةً لذلك رجلاً واسع الثراء (2). وأصاب الرَّوْع الإدارة البريطانية بالسودان وهي ترى أن السيد عبد الرحمن يستخدم ثروته في توسيع نفوذه الديني والسياسي، ويستغل "بركاته" في مضاعفة ثروته. وشرع السيد عبد الرحمن في الظهور كمركز للقوة والسلطة ينافس الحكومة، وذلك عبر قيامه ببناء شبكة سرية من العملاء، وفرض جزية (على شكل زكاة) على أتباعه وتشغيلهم في مزارعه من غير منحهم أجوراً محددة، وعقده للمحاكم بأسلوب شبه قانوني (quasi- legal) في الجزيرة أبا، ثم في الخرطوم لاحقاً. ومنذ أوائل عشرينيات القرن العشرين فصاعداً، كانت حكومة السودان من وقت لآخر تبدي انزعاجها الشديد من سلوكه السياسي. وعندما سعى حاكم عام عديم الخبرة (اسمه آرشر) في عام 1926م للتقرب من السيد عبد الرحمن، عد رجال القسم السياسي بالحكومة أن ذلك عمل غير مناسب ولم يحن وقته بعد، ولم تتردد مجموعة من كبار المسؤولين في العمل على طرده من وظيفته (3).
وعلى الرغم من ذلك كان السيد عبد الرحمن شديد الحرص على تحاشي أي صراع مباشر له مع الحكومة. بل في الواقع، كان قد أظهر في غالب الحالات استعداداً محرجاً للتعاون معها. ولما حاولت الحكومة "وضعه في حجمه الحقيقي" تظاهر ببراءة مجروحة. وكان يطيع دوما - مظهراً كل علامات الاحترام والتقدير - ولفترة من الوقت، أي أوامر محددة تُعْطَى له، إذ لم تكن المواجهة المباشرة من ضمن تكتيكاته قط. وكان كل سلوك يسلكه يشي بأنه يعمل على بناء نفسه ليغدو "الرجل الذي لا مفر منهl'homme inevitable " في يوم قادم، إن آجلاً أو عاجلاً، يتخلى فيه البريطانيون عن، على الأقل، بعض سلطتهم. ولما أتضح جلياً للسيد عبد الرحمن بأن البريطانيين ليسوا بقادرين على نقل السلطة له (أو حتى التعهد بذلك) وقف ضدهم بشكل حاسم.
وفي أواخر سنوات الثلاثينيات كان سلوك وموقف السيد عبد الرحمن مربكاً بشكل أكثر من المعتاد. فقد بدا أنه كان يسعى لإضافة وتر جديد لقوسه السياسي (بمعنى أنه كان يرغب في زيادة خياراته) وذلك بجذبه انتلجنسيا الجيل الجديد من الشباب السودانيين الذين تلقوا تعليماً غربياً، وهذه مجموعة يُكِنُّ لَها الزعماء التقليديون بغضاً شديداً، ولا تثق فيها الإدارة الحكومية، إذ أنهم كانوا يحملون "جرثومة سامة" هي المناداة بالديمقراطية والوطنية. ورغم كل ذلك، فقد كانت الحكومة تحتاج لخدماتهم لشغل الوظائف المكتبية وتسيير أعمال النظام. وكانت محاولة السيد عبد الرحمن جذب أولئك الشباب المتعلم إلى صفه مصدر قلق عظيم عند البريطانيين.
وكان قادة أولئك الانتلجنسيا في ذلك الوقت من الوطنيين المعتدلين، وكان مطلبهم الوحيد هو منحهم الفرصة للتدريب كي يحلوا محل البريطانيين في المستقبل البعيد، نوعاً ما. ولم يكن هناك شيء يجمعهم مع الثوار الوطنيين الذي قاموا بحركة 1924م – حتى بعد أن بقي من كان ناشطاً معهم عام 1924م في الحياة السياسية وصار يُعَدُّ (لاحقاً) من أصلح "العناصر الصالحة" مثل عبد الله خليل، أو من العناصر المعتدلة مثل عرفات محمد عبد الله. وفي رد فعل على النزاعات الطائفية الصغيرة التي عقمت السياسة "المتعلمة" في السودان منذ عام 1931م، رفض أولئك القادة حتى ذلك التاريخ مبادرات عبد الرحمن المهدي: حتى أنهم ظلوا ينفقون على "مجلاتهم الصغيرة" من جيوبهم الخاصة عوضاً من قبول الدعم الذي عرضه عليهم السيد عبد الرحمن المهدي.
وكان السير ستوريت سايمس، حاكم عام السودان منذ عام 1934م (4) حريصاً على تشجيع الوطنية العلمانية "المعتدلة" كإجراء وقائي لمنع إحياء النفوذ المصري في أوساط المتعلمين السودانيين. وكانت مناورات السيد عبد الرحمن المهدي قد ضاعفت من الحاجة لانتهاج تلك السياسة بحسبانها أمراً عاجلاً لا يحتمل التأخير. وعلى الرغم من التحفظات والشكوك التي أبداها حكام المديريات على تلك السياسة، أصر الحاكم العام على إحباط مخططات السيد عبد الرحمن الرامية لاستقطاب وتشجيع أولئك "الشبان الوطنيين الرائعين المعتدلين الرفضين للطائفية". واعترفت الحكومة في عام 1938م بمؤتمر الخريجين العام (الذي كانت الحكومة قد شجعت على قيامه، رغم عدم اعترافها به رسميا كجسم سياسي يمثل المتعلمين). وتمت مناقشة تفاصيل قيام المؤتمر في جو تعاون ودي بين إسماعيل الأزهري (الذي سيغدو لاحقاً عدواً لـ "الإمبريالي المُضطهِد") وجي. سي. بيني (J.C. Penny)، مسؤول الأمن العام، الذي كان مسؤولا عن اكتشاف ومراقبة الأنشطة السياسية "الهدامة".
ولم تكن تلك التجربة تجربةً ناجحة بأي حال من الأحوال. فقد تأبت الحكومة على مشاورة المؤتمر في الأمور المهمة بالبلاد. ووجد أعضاء المؤتمر أنهم وُضِعُوا في موقف غير مريح وتحت الكثير من القيود بسبب الترتيبات والتفاهمات التي اتفق عليها الأزهري مع بيني، وطَفَقُوا يعيدون شكواهم من مسائل محددة أهمها بطء عمليات "السودنة" والتنمية، خاصة في مجال التعليم. ولم يكن سلوك ومواقف مؤتمر الخريجين تجد القبول عند الحكومة؛ فقد كانوا يصرون على أنهم جهة "ممثلة" للشعب، وكانوا يتوددون لمصر. إن أسوأ ما في الأمر كانت هي خيبة أملهم في الحكومة، وإظهارهم لكل علامات الاستسلام من أجل إرضاء السيد عبد الرحمن. وفي غضون عام 1940 بدأت الصحف الموالية للسيد عبد الرحمن تزعم أن مؤتمر الخريجين يجب أن "يُوسَع" ليشمل "التجار وغيرهم"؛ وبدا أن السيد عبد الرحمن في طريقه للاستيلاء على نفس التنظيم الذي خططت له الاستراتيجية الرسمية لتعمل كقوة مضادة له. وفي أكتوبر 1940م وبّخ السكرتير الإداري (نيوبوولد) زعماء مؤتمر الخريجين على ادعاءاتهم السياسية بلغة فظاظة محسوبة على ما يبدو؛ وربما كان قد استبعد بالفعل أن يظل المؤتمر أداةً سياسية قابلة للاستخدام.
غير أن الزجر والتوبيخ للمؤتمر لم يفض لحل مشكلة السيد عبد الرحمن، الذي أظهر نفوذه عندما عقد المؤتمر انتخاباته في نهاية 1940م. على أسس طائفية. وفاز ممثلو الأنصار في تلك الانتخابات. وفي غضون أشهر عام 1941م حاولت الحكومة حل ذلك الاشكال عن طريقة معاملة السيد عبد الرحمن بحسبانه حليفاً، بأكثر من كونه عدواً محتملاً. وكانت لتلك المحاولة العديد من المزايا الواضحة، كان من أبرزها أن ينجح السيد عبد الرحمن في جعل المؤتمر أكثر اعتدالاً؛ فقد كان السيد عبد الرحمن معارضاً لمصر بشكل ثابت، وهذا اعتبار يكتسب أهمية متزايدة مع تزايد النفوذ المصري في السودان بشكل مطرد. غير أن حقيقة أن السيد عبد الرحمن قد أفلح في إجبار الحكومة على القبول بتحالفه (مع مؤتمر الخريجيين) كانت تشير إلى كسبه للمبادرة في تلك الاستراتيجية السياسية. وبعد مرور خمس أو ست سنوات، عندما أصبح الاحترام السياسي للحكم البريطاني يعتمد بشكل شبه كامل على تعاون السيد عبد الرحمن المهدي، لا بد أن قرار عام 1941م بدا وكأنه تطبيق للمبدأ القائل: "إن لم تتمكن من هزيمته، فانضم إليه". ففي عام 1941م أوقفت حكومة السودان حملتها الإدارية والمالية التي كانت تهدف لمضايقة السيد عبد الرحمن المهدي، والتي كانت قد بدأتها في عام 1936م؛ وبقي مؤتمر الخريجين (ولجانه المكونة من أنصار المهدي "المعتدلين") هادئاً بشكل ملائم. غير أن الحكومة سرعان ما توقفت عن جني تلك المكاسب السياسية من تحالفها الجديد، عندما لم تعمر سيطرة السيد عبد الرحمن على المؤتمر طويلاً. ففي عام 1942م قامت مجموعة أصدقاء من الشباب المتشددين من ذوي التوجهات العلمانية (عُرفوا بـ "الأشقاء") بمخادعة لجنة المؤتمر التي كانت تتكون من أفراد ذوي ميول أنصارية واقنعتهم بتقديم الإثني عشر مطلبا المشهورة التي تضمنت المطالبة بمنح السودان حق تقرير المصير، والتأكيد على ذلك، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتوسيع عمليات "السودانة" في تلك السنوات. ورفض نيوبوولد مطالب المؤتمر بطريقة تخلو من أي نوع من الكياسة، وقطع كل علاقة رسمية للحكومة به. وفي انتخابات المؤتمر التي عقدت في نهاية عام 1942م، سيطر "الأشقاء" تحت قيادة إسماعيل الأزهري على المؤتمر. وكان نجم الأزهري – حتى قبل فوزه بقيادة المؤتمر - قد بدأ في الصعود بحسبانه رجل "دولة" المؤتمر الأكبر، وكان يُعَدُّ في ذات الوقت على الأقل "عضواً هامشياً fringe member" في حاشية السيد عبد الرحمن. وقد ذكرت بعص المصادر المعتمدة أن إسماعيل الأزهري كان قد سعى للحصول على "رعاية /مناصرة " لمجموعته المتشددة من السيد عبد الرحمن المهدي. غير أن مثل تلك الرعاية والمناصرة كان من الواضح أنها ستكون متنافرة ولا تؤام العلاقة الجديدة التي أقامها السيد عبد الرحمن مع الحكومة، ولذا رُفِضَتْ. والأهم من ذلك، شرع المعتدلون من أعضاء المؤتمر الذين كانوا من أنصار السيد عبد الرحمن في الانسحاب من المؤتمر في شهور عام 1943م.
وقام "الأشقاء" بتنظيم أنفسهم رسمياً كحزب سياسي، وغدا هو أول حزب يظهر في السودان. غير أن ذلك الحزب لم يكن له مستقبل كمنظمة جماهيرية إن لم يتمكن من جذب بعض الدعم الطائفي من السيد علي الميرغني. وقد ظل البريطانيون يتجاهلون السيد علي بشكل غريب منذ أواخر الثلاثينيات. وكان لذلك الزعيم الطائفي في دعم النظام الحاكم سجل تليد وحافل ما فيه شائِبَةٌ، لدرجة أن البريطانيين كانوا يأخذون "مصداقيته" ودعمه للنظام باعتبارهما أمراً مفروغاً منه. غير أن "مصداقيته" تلك لم تكن كافية كدليل ضد التوجه الجديد للحكومة للتحالف مع السيد عبد الرحمن المهدي. وكان للسيد علي الميرغني أكثر من سبب شخصي وتاريخي لاعتبار أن السيادة المحتملة / الممكنة لعبد الرحمن المهدي على السودان ستكون هي "الطَّامَّة الكُبْرَى" على السودان. وبالإضافة لذلك، كان للختمية تاريخ وإرث في التعاون مع قوى علمانية يعود لعهد الدولة التركية – المصرية. لذا فقد كان السيد علي قانعاً وسعيداً بمساندة إدارة كانت نظرياً "نصف – مسلمة"، وتبدي احتراماً للإسلام "التقليدي"، الذي كان ينظر لسياسة عبد الرحمن المهدي نظرة شك وتوجس.
لقد كان السيد علي الميرغني رجلاً شديد التحفظ في أفكاره ورؤاه، وليس لديه أي قدر من التعاطف مع الوطنية العلمانية المتطرفة. وكانت رعايته ومساندته لحزب "الأشقاء" والحزب الذي خلفه مشروطة وحذرة للغاية، بل قام بتعطيل تلك الرعاية والمساندة لفترات طويلة من الزمن. غير أنه لم يحتمل في عام 1944م القبول صامتاً وهو يرى احتكار السيد عبد الرحمن المهدي للرعاية والمساندة من البريطانيين، التي أظهرته كـ "سلطان السودان" المحتمل، الذي يحكم تحت نوع من أنواع الحماية أو السيطرة البريطانية. وكان السيد علي في حاجة ماسة لسلاح يحارب به منافسه؛ وكان يرى أن "مصداقيته" و"دعمه" للنظام فيما يبدو لم تكسبه شيئاً عند البريطانيين، فقرر أن يحذو حذو السيد عبد الرحمن ويجعل من نفسه مصدر إزعاج وهو في جناح المعارضة.
********* ********* *********
إحالات مرجعية
1/ للمزيد عن صراع وزير الخارجية البريطانية في تلك الأيام مع حاكم عام السودان هدلستون يمكن الاطلاع على ترجمة هذا المقال (من ثلاثة أجزاء) https://shorturl.at/V0Ip3
2/ يمكن النظر هنا إلى ما ذكره المؤرخ مارتن دالي في أحد كتبه بعنوان "بزوغ نجم السيد عبد الرحمن المهدي" في الرابط: https://shorturl.at/yoSiq، ومقالة فيرقس نيكول عن "دائرة المهدي" https://shorturl.at/QjP9f
3/ للمؤرخ مارتن دالي مقال صغير عن استقالة جيفري آرشر عن منصبه https://shorturl.at/1SBgn
4/ تجد في هذا الرابط تلخيصا للتقرير السنوي الذي قدمه ستيوارت سايمس عن أحوال السودان بين عامي 1936- 1937م: https://shorturl.at/LnwNn
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: السید عبد الرحمن فی مؤتمر الخریجین الحرکة الوطنیة حکومة السودان علی المیرغنی فی السودان السودان من کان السید فی أکتوبر السید علی التی کانت الذی کان فی نهایة بین عامی فقد کان أکثر من أنه کان غیر أن لم یکن کانت ت فی تلک فی عام لم تکن
إقرأ أيضاً:
( نص ) كلمة السيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي بمناسبة يوم الولاية
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:
السَّـلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
بمناسبة عيد الغدير الأغر، يوم الولاية المبارك، أتوجَّه إلى شعبنا اليمني المسلم العزيز، وإلى كل المؤمنين والمؤمنات، الذين يحتفلون بهذه المناسبة، في كل البلدان التي تحتفل بها، بأطيب التهاني والتبريك، ونسأل الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" أن يتقبَّل مِنَّا ومنهم كل الأعمال المشروعة لإحياء هذه المناسبة.
شعبنا اليمني العزيز هو يحتفل بهذه المناسبة كل عام، وهذا من ضمن إرثه الإيماني الذي ورثه عبر الأجيال، واستمر عليه قرناً بعد قرن، على مدى الزمان الماضي وإلى اليوم، والاحتفــال بهــذه المناسبـــة هـو:
- أولاً: من الفرح بنعمة الله تعالى وفضله، كما قال "جَلَّ شَأنُهُ": {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}[يونس:58]، وهذا- إحياء هذا اليوم والاحتفال به- هو من اظهار الفرح بنعمة الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" وبفضله.
- ويصاحبه أمورٌ مهمةٌ جدًّا، في مقدمتها: الشهادة لله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" بكمال دينه، وأنه ليس ديناً ناقصاً، والشهادة لرسول الله "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ" بأنه بلَّغ ما أمره الله بتبليغه، في الآية المباركة التي سيأتي الحديث عنها: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}[المائدة:67].
- وهو أيضاً عملية توثيقية في غاية الأهمية، لذلك البلاغ التاريخي العظيم، تتناقله الأجيال من جيلٍ إلى جيل؛ لأهميته الكبيرة جدًّا.
- وهو- في نفس الوقت- ترسيخٌ للمبدأ الإسلامي العظيم، في ولاية الله تعالى على عباده، في مختلف شؤون حياتهم، وفي التولِّي لله، وامتداد هذا التولِّي وفق الآيات القرآنية المباركة، وما يترتب على ذلك من نتائج مهمة، ومن ضمنها: التحصين للأُمَّة (للمسلمين) من الولاية والولاء لليهود وأوليائهم من النصارى، والأمة في هذه المرحلة أحوج ما تكون إلى ذلك.
والبدايــــة هي: في الحديث عن مضمون هذه المناسبة، وعن محتوى البلاغ التاريخي العظيم، الذي بلغه الرسول "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ" في يوم الثامن عشر من شهر ذي الحجة، من السنة العاشرة للهجرة.
الرسول "صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ"، وفي السنة العاشرة للهجرة، عندما اقترب موسم الحج، عَمِلَ نفيراً واسعاً، واستنهاضاً كبيراً للمسلمين، للمشاركة في أداء فريضة الحج في ذلك العام، وبشكلٍ ملفت، واهتمامٍ استثنائي غير مسبوق، فقد كان يرسل رسله إلى القبائل العربية، إلى المسلمين في مختلف المجتمعات، يدعوهم إلى المشاركة في الحج في تلك السنة، في ذلك العام، ويحثُّهم على ذلك، ويستنفرهم لذلك، وفعلاً كانت النتيجة: أن ذلك الحج، في ذلك العام، لربما كان من حيث كثرة الحجاج وتوافدهم غير مسبوق ما قبله في تاريخ الجزيرة العربية، يعني: لم يسبق أن حج العرب إلى بيت الله الحرام بتلك الأعداد الكبيرة، والجموع الغفيرة، في السنوات الماضية ما قبل ذلك، سواءً ما قبل الإسلام في العصر الجاهلي، أو ما قبل ذلك أيضاً، في الامتداد الذي كان امتداداً لنبي الله إسماعيل "عَلَيْهِ السَّلَامُ"، ونبي الله إبراهيم، ومِلَّة نبي الله إبراهيم "عَلَيْهِ السَّلَامُ"، أو حتى في المرحلة الإسلامية، كان ما قبل ذلك هو الحج الإسلامي في السنة التاسعة للهجرة، لم يكن الحضور فيه بذلك الشكل، ولم يحضر فيه النبي "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ".
فعملية الاستنفار الواسع، والتحشيد الكبير، للمشاركة في أداء الحج في ذلك الموسم نجحت بشكلٍ كبير، وكان الحضور بعشرات الآلاف، وبأكثر من مائة ألف حاج، وكانت هذه الأعداد، مقارنةً بالتعداد السكاني لذلك العصر، نسبةً مهمة، يعني: على مستوى الجزيرة العربية لربما قد تكون خمس السكان، أو قريباً من ذلك، يعني: نسبة ضخمة جدًّا من الحجاج مقارنةً بعدد الناس آنذاك في ذلك الزمن.
رسول الله "صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ" حج في تلك السنة بنفسه، وحشد الناس للحج بأقصى ما أمكن، وسُمِّي ذلك العام، وسُمِّي حج النبي "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ" في ذلك العام بحجة الوداع، وهذا الاسم له مدلوله، لماذا؟ لأن النبي "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ" ودَّع أمته في ذلك الحج، ودَّعها وأشعرها بقرب رحيله من هذه الدنيا الفانية إلى عالم الآخرة، وهذا شيءٌ محزنٌ وكبير، يعني: حدث كبير بالنسبة للأُمَّة، له التزاماته، وما يترتب عليه أيضاً من مخاطر، ومن التزامات مهمة جدًّا في واقع الأُمَّة، بما يضمن لها الاستمرار على نهج الإسلام والاتِّباع لرسول الله "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ"، المسألة كبيرة جدًّا بالنسبة للأُمَّة، وفعلاً كبيرة، وكان لها تداعياتها، وآثارها... إلى غير ذلك.
في حَجَّة الوداع هو ودَّعهم، قال لهم: ((وَلَعَلِّي لَا أَلْقَاكُم بَعْدَ عَامِي هَذَا))، وعبارات أخرى، من ضمنها: ((يُوشِكُ أَنْ أُدعَى فَأُجِيب))، ((يُوشِكُ أَنْ يَأتِيَنِي رَسُوْلُ رَبِّي فَأُجِيب))، عبارات وجُمَل في مقامات متعدِّدة، كلها أشعرت هذه الأُمَّة بأنه على مقربةٍ من فراقها، من الوداع لها من المغادرة لهذه الدنيا الفانية.
الــوداع، لم يكن هكذا مجرَّد وداع عاطفي، يقول لهم: [أنا أوادعكم، أنا ذاهبٌ عنكم]، وانتهى الأمر، الرسول "صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ" في مهمته ومسؤوليته الرسالية (تبليغ رسالة الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى") هو يُقَدِّم للأُمَّة ما يرتبط بمستقبلها ومصيرها، فيما يمثِّل ضمانةً لها إذا تمسَّكت به بالاستقامة التَّامَّة على رسالة الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"؛ ولـذلك كان لكل ما يقدِّمه من التعليمات، ومن الحقائق، ومن الهدى، في حجة الوداع، وما بعدها، وما يرتبط بها، أهمية كبرى للأُمَّة فيما يتعلَّق بحاضرها آنذاك، وبمستقبلها، وبمستقبلها، فكانت المسألة مهمة.
يعني: هو عندما كان يخبرهم أنه على وشك الرحيل من هذه الحياة، يخبرهم في سياق ما يقدِّمه لهم من تعليمات ذات أهمية كبيرة جدًّا لهم في مستقبلهم، وفي ضمان استمراريتهم على منهج الله الحق ورسالة الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"؛ ولـذلك كانت هذه المسألة مهمة، فهو يوصيهم، ولكنَّها وصية الرسول "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ"، في تقديم أهم التعليمات، التي تتضمن أهم الضمانات للاستقامة لمسيرة الأُمَّة على أساس منهج الله الحق، وهديه القويم في صراطه المستقيم، وهذه مسألة في غاية الأهمية.
رسول الله "صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ" أقام الحج، وعلَّم الأُمَّة بنفسه أيضاً مناسك الحج بالتفصيل، وقدَّم التعليمات المهمة جدًّا في خطبة يوم عرفة، وهي خطبة شهيرة جدًّا، وكان من ضمن ما ورد فيها: (حديث الثقلين)، وغير ذلك من التعليمات المهمة: في تحريم حرمة دماء المسلمين على بعضهم البعض، وكذلك ما يتعلَّق بحرمة أعراضهم، وأموالهم، وممتلكاتهم، والحث على وحدتهم، وتعاونهم، واستقامتهم على منهج الله الحق... وغير ذلك.
بعد اكتمال الحج، والعودة من مكَّة، وصل رسول الله "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ" ومعه الحجيج، وهم عائدون من مكَّة، إلى (الجحفة)، وهي منطقة ما بين مكَّة والمدينة، وهي إلى مكَّة أقرب، في هذه البقعة (الجحفة) غدير يُدعى بـ(غدير خُم) في الوادي نفسه (وادي خم)، والوادي في نفس المنطقة، في هذه المنطقة، وما قبل افتراق الحجاج؛ لأن من بعدها سيتفرق الحُجَّاج في وُجُهاتهم إلى بلدانهم، فما قبل هذا الافتراق نزل على رسول الله "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ" قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}[المائدة:67].
هذه الآية المباركة من المُتَّفَق على أنها من الآيات الأخيرة في القرآن الكريم، من آخر الآيات نزولاً، ومع ذلك تتضمَّن هذا المنطق العجيب، وهذا التأكيد الكبير، الذي يُبَيِّن لنا نحن- نحن المسلمون- يُبَيِّن لنا أهمية محتوى ذلك البلاغ، أنه بلاغٌ في غاية الأهمية، مع أن الرسول "صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ" عندما نزلت عليه هذه الآية المباركة، قد بلَّغ مبادئ الإسلام الكبرى، وفي مقدِّمتها: التوحيد لله، وحارب الشرك، وعمل على إنهائه في الجزيرة العربية بشكلٍ كامل، وفي نفس الوقت بلَّغ بقية مبادئ الإسلام وشرائعه، وأركان الإسلام، كذلك ما يتعلَّق بالمواقف، المواقف الواضحة والصريحة من كل فئات الطغيان، والكفر، والشر، والضلال، والباطل، سواءً في مواجهته مع مشركي العرب، أو مع اليهود، أو مع النصارى، كل هذا قد بلَّغه كمواقف، أو تشريعات إلهية (شرائع، وفرائض)، أو مبادئ وأسس ومعتقدات، فهو في المرحلة الأخيرة من حياته، ما قبل وفاته بأقل من ثلاثة أشهر، إذاً يبقى هناك موضوعه في غاية الأهمية، وأهميته مرتبطةٌ بماذا؟ بكمال الدين، بقيام أمر الإسلام، واستقامة أمر الإسلام، وتمام هذا الدين؛ ولهـذا عبَّر عن هذه المسألة بِدِقَّة في قوله تعالى: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}[المائدة:67]، مما يوضِّح أن النقص المتعلِّق بهذه المسألة، لو لم يبلِّغ بها النبي "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ"، ليس نقصاً عادياً، ولا هامشياً، بل هو نقص يمتد كل أثره على محتوى الرسالة الإلهية، في فاعليتها، في دورها، في حضورها، في استقامة واقع الأُمَّة عليها، فهو نقصٌ خطيرٌ جدًّا، لو لم يتم الإبلاغ بهذا البلاغ العظيم؛ لكان ذلك نقصاً وثلماً كبيراً في هذا الدين، كذلك على مستوى الالتزام والاهتمام بمضمون هذا البلاغ في إقامة الدين، استقامة أمر الأُمَّة على أساسه، كل هذا يوضِّحه قول الله تعالى: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}[المائدة:67].
أمَّا قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}[المائدة:67]، وهي ضمانة قُدِّمت للنبي "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ" في العصمة، يعني: دفع شر الناس عنه، وتمكينه من أداء هذا البلاغ بنجاح، والمسألة هذه مسألة عجيبة؛ لأنه سَيُبَلِّغ هذا البلاغ في وسطٍ إسلامي، لم يبقَ للشرك أي حضور في الساحة العربية آنذاك، وفي الجزيرة العربية آنذاك، الجموع التي سينادي فيها بهذا البلاغ، ويبلِّغها بهذا البلاغ، وهي عشرات الآلاف من الناس، جموعٌ من المسلمين الذين دخلوا في الإسلام، وهم أيضاً سيقومون بنقل هذا البلاغ إلى بلدانهم، ومجتمعاتهم، وقبائلهم، التي قد دخلت في الإسلام، في دين الله أفواجاً؛ ولكن يتَّضح أن هذه المسألة هي مسألة ذات حساسية كبيرة، محتوى البلاغ الذي سيبلِّغه ذات حساسية كبيرة لدى الناس بكل فئاتهم؛ لأن التعبير هنا جاء عاماً: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}[المائدة:67]، لم يقل- مثلاً- فقط: [والله يعصمك من الكافرين، أو يعصمك من فئات معيَّنة]، (مِنَ النَّاسِ) بكل فئاتهم.
كذلك الختام لهذه الآية المباركة: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}[المائدة:67]، يُبَيِّن أيضاً أن الموقف من محتوى هذا البلاغ، حينما يكون موقف الجحود، أو موقف الرفض العملي، هو خطيرٌ جدًّا؛ لأنه ليس موقفاً من مسألة عادية، هامشية، بسيطة، ليست ذات أهمية، تعتبر من المسائل التي يمكن التغاضي عنها واللامبالاة بها؛ بل هو موقفٌ سيءٌ جدًّا تجاه قضية ذات أهمية، وازنة، كبيرة، عظيمة، مهمة في دين الله وفي رسالة الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"؛ ولهـذا أتى الحديث بهذه الصيغة: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}[المائدة:67]، في التشديد على قبح وسوء أي موقف سلبي جاحد، أو رافض، لمحتوى هذا البلاغ العظيم، كما في قوله تعالى في قصة الحج: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[آل عمران:97].
الموقف المتمثل إمَّا بالجحود، أو الرفض العملي، لأمر من أمور الدين الإسلامي المهمة، العظيمة، الكبيرة، ركن من أركان الإسلام، أو مبدأ مهم وعظيم من مبادئ الإسلام، لا يعتبر حينما يكون موقفاً سلبياً سيئاً: إمَّا جاحداً، وإمَّا رافضاً على مستوى العمل؛ لا يعتبر موقفاً هيناً عند الله، وموقفاً عادياً عند الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، بل يعتبر موقفاً خطيراً؛ ولهـذا يأتي التصنيف عند الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" لخطورة هذا الموقف بهذه التسمية: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[آل عمران:97]، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}[المائدة:67]... وغير ذلك؛ لأن بعض الأمور- فعلاً- الجحود بها، أو الرفض العملي لها، يمثِّل إساءة كبيرة إلى الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، ودلالةً على اختلال إيماني لدى الإنسان، اختلال في إيمانه بالله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، وفي جوهر هذا الدين الإلهي، وهو: التسليم لله، والقبول بأمر الله، بتوجيهات الله، بتعليمات الله، بما قرَّره الله، بما فرضه الله، بما شرعه الله، وهي الحالة الخطيرة بالنسبة للإنسان، إذا كان في اتِّجاه مباين لها، حالة انحراف خطير على الإنسان.
هذا كله يبيِّن أهمية المسألة؛ ولـذلك الرسول "صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ" حينما أتاه هذا الأمر العظيم، بالبلاغ بأمر له هذه الأهمية الكبيرة، الواضحة، والحساسة في نفس الوقت، في غاية الحساسية عند الناس، وهي- فعلاً- قضية لا يوجد مسألة أكثر حساسية منها عند الناس كمجتمعات واتِّجاهات، غير الحسابات الشخصية لدى كل إنسان لوحده، كمستوى عام يعني لدى الناس، وهذا سيتَّضح.
رسول الله "صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ" اتَّجه لتنفيذ أمر الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، وهو الذي له مرتبة عالية جدًّا بين رسل الله وأنبيائه، في أدائه الرسالي، في تبليغه لرسالات الله، في قيامه بمهامه ومسؤولياته الرسالية: في تبليغ رسالة الله، في إقامة دين الله، في العمل على هداية عباد الله، في إيصال هدى الله إلى الناس؛ على أرقى مستوى، له موقع متميِّز بين كل الرسل والأنبياء، هو متقدِّم، وهو راقٍ في مستوى هذا الأداء العظيم؛ ولـذلك هو كان يعرف أهمية كل مسألة، ويعطيها ما تستحقه من الأهمية:
- في كيفية إيصالها إلى الناس.
- في طريقته في التبليغ.
- في أسلوبه.
- وفي بيانه؛ لأن من ضمن مسؤولياته المهمة: البلاغ المبين، هذه من مسؤولياته: أن يُبَلِّغ بلاغاً مبيناً، يعني: واضحاً، لا لُبس فيه.
ولـذلك اتَّجه رسول الله "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ" إلى تنفيذ أمر الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، والإبلاغ بهذا البلاغ العظيم، الوقت آنذاك- حين نزول هذه الآية المباركة على رسول الله "صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ"- كان وقت الظهيرة، في حرارة الشمس الشديدة، في أشد حرارة الشمس، والمنطقة بنفسها حارَّة (منطقة الجُحْفَة)، الموضع الذي هو فيه حار جدًّا ونزل فيه.
فرسول الله "صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ" اتَّجه لتنفيذ أمر الله، وتبليغ ما أمره الله بتبليغه، بطريقةٍ تُشعِرُ كذلك بأهمية ما يريد أن يُبَلِّغه للناس، وتدل على ذلك دلالةً واضحة، فهو أعلن عن اجتماعٍ طارئٍ وعام، مطلوب من كل الحجيج أن يحضروا في ذلك الاجتماع الطارئ، والنداء لتلك الاجتماعات الطارئة، التي هي في غاية الأهمية، كان يُنادى لها بنداء (الصلاة جامعة)، فنودي بهذا النداء العظيم للاجتماع الطارئ، وأمر أن يتم إعادة من قد تقدَّموا من الحجيج ليعودوا إلى حيث هو، والانتظار للمتأخرين ليصلوا؛ حتى اجتمع كل الحجيج الذين كانوا ذاهبين من الحج، فهو أمر الذين كانوا قد تقدَّموا بالعودة، وعادوا، وانتظر للمتأخرين حتى وصلوا؛ حتى تكامل الجمع.
رسول الله "صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ"، أمر بتنظيف مكان تحت (دوحات) أشجار، وعادةً ما يكون تحتها الشوك، أَمَرَ؛ فَقُمَّ ما تحتهن، يعني: نُظِّفَ ما تحتهن من الشوك ونحوه، وأمر بأن تُرَصّ أقتاب الإبل، وهي كثيرة؛ لأن الجمع عشرات الآلاف من الحجاج؛ فَرُصَّت أقتاب الإبل؛ من أجل أن تكون بشكل مِنْبَر مرتفع وعالٍ، حينما يصعد من فوقه يشاهده الجميع، ويرونه ويسمعونه، وصلَّى بالحجيج صلاة الظهر.
بعد أن أكمل صلاة الظهر، استدعى علي بن أبي طالب "عَلَيْهِ السَّلَامُ"، وصعد وهو معه فوق أقتاب الإبل التي كانت قد رُصَّت، ثم خطب خطبةً عظيمةً ومهمة، والجميع يصغون له؛ لأن الأجواء كلها أجواء استثنائية، اجتماع طارئ، لأمرٍ مهم، وذكر لهم هو قبل أن يبدأ حتى بخطابه، أن الله أمره بإبلاغ أمرٍ مهم، وقرأ عليهم الآية المباركة، وخطب خطبته العظيمة والمهمة؛ حتى وصل إلى الموضوع المهم، وهو: محتوى البلاغ الذي أمره الله بإبلاغه.
في تلك الخطبة، أخبرهم من جديد أنه على وشك الرحيل من هذه الدنيا، وهذا- كما قلنا- ليس مجرَّد وداع عاطفي؛ بل ليربط المسألة بما بعدها، بالبلاغ نفسه، البلاغ له علاقة بالموضوع، ورغم أنه على وشك الرحيل من هذه الدنيا، قائلاً: ((أَلَا وَإِنِّي يُوْشِكُ أَنْ أُفَارِقَكُم))، هذا خبر مُحزن جدًّا ومؤلم؛ لأن رحيل رسول الله "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ"، وإن كان قد أتمَّ الرسالة وبلَّغ، وأتى بالقرآن الكريم، ويبقى القرآن بين هذه الأُمَّة، والتعليمات العظيمة التي بلَّغهم بها رسول الله "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ"؛ إلَّا أن غيابه نقصٌ لا يُعَوِّضه شيء، نقص كبير جدًّا على الأُمَّة.
((أَلَا وَإِنِّي يُوْشِكُ أَنْ أُفَارِقَكُم))، يعني: على مُقْرُبة، مقربة من الرحي (يُوْشِك)، ((أَلَا وَإِنِّي مَسْؤُول، وَأَنْتُم مَسْؤُولُون))، وفعلاً كما قال الله في القرآن الكريم: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ}[الأعراف:6]، يعني: في يوم القيامة، الله يسأل الرسل، ويسأل الأمم أيضاً، ((أَلَا وَإِنِّي مَسْؤُول، وَأَنْتُم مَسْؤُولُون، فَهَل بَلَّغْتُكُم؟ فَمَاذَا أَنْتُم قَائِلُون؟))، لنلحظ هنا، كل هذا التعبير هو يدل على تركيز رسول الله "صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ" على إقامة الحُجَّة بشكلٍ كامل.
فقام من كل ناحية من القوم مجيب؛ لأن الاجتماع كبير جدًّا، عشرات الآلاف من الحجيج، يقولون: (نَشْهَدُ أَنَّكَ عَبْدُ اللهِ وَرَسُوْله، قَدْ بَلَّغتَ رِسَالَاتِه، وَجَاهَدتَ فِي سَبِيلِه، وَصَدَعت بِأَمرِه، جَزَاكَ اللهُ خَيرَ مَا جَزا نَبِيّاً عَن أُمَّتِه)، وهذا شهادة له، شهادة له بالإبلاغ، وبما هو أكثر من الإبلاغ، وهو مسألة: العمل على إقامة دين الله، وهداية عباد الله، وإرساء دعائم الإسلام... وغير ذلك.
ثم واصل خطبته، إلى أن قال: ((يَا أَيُّهَا النَّاس، إِنَّ اللَّهَ مَوْلَايَ، وَأَنَا مَولَى المُؤمِنِين، أَولَى بِهِم مِنْ أَنفُسِهِم، فَمَن كُنْتُ مَولَاهُ، فَهَذَا))، وأخذ بيد عليٍّ "عَلَيْهِ السَّلَامُ" ورفعها مع يده، ((فَهَذَا عَلِيٌّ مَولَاه، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاه، وَعَادِ مَنْ عَادَاه، وَانصُر مَنْ نَصَرَه، وَاخذُل مَنْ خَذَلَه))، واستمر في خطابه، مؤكِّداً أهمية الموضوع، ومستشهداً عليهم بالبلاغ، قائلاً لهم، وهو يكرر الاستشهاد عليهم بأنه قد بلَّغهم: ((أَلَا هَلْ بَلَّغْت؟))، وهم يجيبونه: (اللَّهُمَّ بَلَى)، فيقول: ((اللَّهُمَّ فَاشْهَد))، ويكرِّر ذلك لثلاث مرَّات: ((أَلَا هَلْ بَلَّغْت؟))، وهم يقولون: (اللَّهُمَّ بَلَى)، فيقول: ((اللَّهُمَّ فَاشْهَد))، ويحرص مع ذلك على أن يصل هذا البلاغ إلى مجتمعاتهم وقبائلهم، وأن يستمر في الأُمَّة جيلاً بعد جيل؛ ولهـذا قال: ((فَليُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الغَائِب))؛ لأنه مطلوب أن يصل هذا البلاغ إلى الآخرين، فنزل قول الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى": {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}[المائدة:3].
الآية المباركة في الأمر بالبلاغ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}[المائدة:67]، ونص خطبة الغدير، الخطبة بكلها، وفي خلاصتها وجوهرها وأهمها: النص المتعلِّق بمسألة الولاية: ((يَا أَيُّهَا النَّاس، إِنَّ اللَّهَ مَوْلَايَ، وَأَنَا مَولَى المُؤمِنِين، أَولَى بِهِم مِنْ أَنفُسِهِم، فَمَن كُنْتُ مَولَاهُ، فَهَذَا عَلِيٌّ مَولَاه، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاه، وَعَادِ مَنْ عَادَاه، وَانصُر مَنْ نَصَرَه، وَاخذُل مَنْ خَذَلَه))، ثم النص القرآني المبارك، في كمال الدين وتمام النعمة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}[المائدة:3]، كل هذا يدل على الأهمية الكبرى لموضوع الولاية، والواقع يشهد على ذلك، واقع المسلمين يشهد على الأهمية الكبيرة لذلك.
هناك أيضاً السياق القرآني، الآيات القرآنية؛ لأن هذا الموضوع أيضاً أتت الآيات المباركة عنه في (سورة المائدة)، وأيضاً في سياقٍ مهمٍ جدًّا لهذه الأُمَّة، كله يدل على أهمية الموضوع، السياق الذي أتى الحديث فيه عن مسألة الولاية وأهميتها في (سورة المائدة)، هو سياق يوضِّح لنا بشكلٍ تام كمسلمين، المخاطر الكبرى علينا في كل عصر، ولاسيَّما في العصور المتأخرة، ولكن في كل عصر؛ لأن واقع الأُمَّة مترابط، وكل مرحلة تؤثِّر على ما بعدها، الخطر الكبير على هذه الأُمَّة من جهة اليهود، وأوليائهم من النصارى، ومخاطر التَّوَرُّط في التَّوَلِّي لهم، وفي الخضوع لولايتهم، وحاجة الأُمَّة الكبيرة جدًّا إلى ما يُحَصِّنها من ذلك، ويحميها من ذلك.
الآيات المباركة في (سورة المائدة) من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[المائدة:51]، هي تُحَذِّر بأشد التحذير من التَّوَلِّي لهم، من اتِّخاذهم أولياء، اتِّخاذهم أولياء:
- يشمل التأييد لهم في الموقف.
- يشمل كل أشكال التعاون معهم ضد الإسلام والمسلمين.
- يشمل أيضاً الخضوع لهم، والطاعة لهم، والتعامل معهم كجهة آمرة، مُقَرِّرة، مُوَجِّهة في مختلف شؤون الحياة.
وهذه حالة خطيرة جدًّا، إلى درجة أنه يقول: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}[المائدة:51]، يعني: يصبح حكمه عند الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" وفي كتاب الله كحكمهم، كما لو كان يهودياً، أو نصرانياً، يعني: قضية خطيرة جدًّا، إخلال كبير جدًّا في انتمائك الإيماني وانتمائك الإسلامي، إلى أسوأ مستوى يمكن أن تتصوره، وتصبح محسوباً منهم في ما هم عليه: من إجرام، من إضلال، من طغيان، من فساد، وشريكاً لهم في كل ذلك، فالمسألة في غاية الخطورة.
الكثير من الناس يستبسطونها، ويتهاونون تجاهها، ولاسيَّما مع غياب التثقيف الديني، والتعليم الديني، والتوجيه الديني الذي يبيِّن أهميتها ويركِّز عليها، في كثيرٍ من أبناء الأُمَّة، ليس هناك نشاط توضيحي، تبيني، تفهيمي للناس، فمع غياب هذه المسألة من أوساط الناس، يستبسطها الكثير من الناس:
- يستبسطها في واقعه هو؛ فيتحرَّك بما فيه خدمة لليهود والنصارى، أو تأييد لمواقفهم ويستبسط المسألة، أو رضا لما يفعلونه، أو أي شكلٍ من أشكال الموالاة لهم.
- أو لديه تقبُّل بمسألة سيطرتهم على هذه الأُمَّة، وفرض إملاءاتهم على هذه الأُمَّة، وتدخُّلهم في كل شؤون هذه الأُمَّة، وهذا التَّقَبُّل هو بعينه مسألة التَّوَلِّي لهم واتِّخاذهم أولياء.
- أو تَقَبُّل المسألة لمن هم لديهم سلطة، نفوذ، أمر ونهي فيه، وهو خاضعٌ لهم، يتقبَّلها لغيره، لكن فيما يؤثِّر عليه أيضاً.
الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" في التحذير منهم، أيضاً حذَّر من هذه المسألة في آيات كثيرة، آيات أخرى، منها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ}[آل عمران:100]، لأن المسألة ليست مسألة عادية وبسيطة؛ لأنها تتَّجه في تأثيراتها السيئة على التزاماتنا الدينية، والإيمانية، والأخلاقية: في المبادئ، في المواقف، في الأخلاق... في كل شيء.
القرآن الكريم، كتاب الهداية من الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، الذي قال الله عنه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}[الإسراء:9]، هو يُقَدِّم الهداية الواسعة لنا، في كل ما نحتاج إلى الهداية فيه، هو يُرَسِّخ لدينا نحن كمسلمين النظرة الصحيحة تجاههم كأعداء، تجاه اليهود وأوليائهم من النصارى؛ باعتبارهم أعداء لنا بكل ما تعنيه الكلمة؛ بل اليهود أشد عداءً من غيرهم من كل الأعداء لهذه الأُمَّة كأعداء؛ ولهـذا يقول عنهم: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ}[المائدة:82]، فكيف تتولى عدوك، الذي هو يعاديك، كل أنشطته، كله برامجه، كل توجهاته، كل سياساته، هي عدائية، تستهدفك بشكلٍ عدائي، وإن كانت مخادعة، وإن كان فيها تلبيس، أو خداع؟!
يُقَدِّمهم كأعداء حاقدين جدًّا، أشد حالات الحقد؛ ولهـذا قال عنهم: {وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ}[آل عمران:119]، هذا يُعَبِّر عن حقد شديد؛ بل قال عنهم أيضاً: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ}[البقرة:105]، وهذا من الحقد الشديد، أنه لا يريد لك أي خيرٍ إطلاقاً حتى من الله، أي خير مهما كان، كل أنواع الخير، يعني: لو تمكَّنوا من أن يمنعوا عنَّا الأوكسجين الذي نتنفسه لمنعوه، لا يريدون لنا أي خير، أي عِزَّة، أي كرامة، أي نهضة، أي خير في أي شأنٍ من شؤون الحياة، في كل ما تتناوله أيَّ خير.
وهم- في نفس الوقت- مخادعين ومضلِّين، يعني: أعداء يستخدمون أسلوب الإظلال، قال عنهم: {وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ}[النساء:44]، وهم يعملون على هذا الأساس: الإضلال، والخداع للأُمَّة، وكل العناوين التي يخادعون بها الأُمَّة كعناوين جذَّابة ومغرية؛ إنما يستخدمونها للإظلال لهذه الأُمَّة، فهم يريدون لهذه الأُمَّة أن تضل، أن تضيع في كل شيء: في دينها ودنياها، أن تكون أمها ضائعة.
وكأعداء مفسدين أيضاً، قال عنهم: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا}[المائدة:64]، (يَسْعَوُنَ): لديهم نشاط مكثَّف، وجاد، ومتسارع، ومستمر، في الإفساد الشامل، الإفساد في الأرض في كل مناحي الحياة.
كذلك القرآن الكريم يبيِّن لنا كثيراً عن أساليبهم الخطيرة، الهادفة إلى تطويع الأُمَّة، يعني: هم يعملون إلى أن تتحوَّل هذه الأُمَّة إلى أُمَّة مطيعة لهم، التطويع أسلوب خطير جدًّا، وهم أعداء في نفس الوقت، لكنهم يعملون على تحويل هذه الأُمَّة إلى أُمَّة مطيعة لهم: حكوماتها مطيعة لهم، شعوبها مطيعة لهم، احزابها، سياسيوها، كوادرها بكل أشكالهم، نخبها... الكل يكون مطيعاً لهم، ويتحوَّل إلى مطيع لهم: يتقبَّل بإملاءاتهم، يتأثَّر بأفكارهم، يتقبَّل ما هو منهم، يتَّجه الاتِّجاه الذي يريدونه هم... وهكذا.
ومع هذا الخطر من جهتهم هم، هناك حالة خطيرة من داخل الأُمَّة تلتقي بهذا الخطر، هي: حالة الانحراف في داخل الأُمَّة، المتمثلة بحركة النفاق، وما يتماهى معها، ممن يشملهم العنوان القرآني: في قول الله تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ}[المائدة:52]، وهو عنوان يشمل فئات واسعة، من الذين لديهم اختلال كبير في عمق إيمانهم، في واقعهم النفسي، في قلوبهم، وأنواع المرض التي تعني: اعتلال معنوي، وإيماني، وأخلاقي، خلل في هذه الجوانب، أنواع كثيرة جدًّا:
- لدى البعض من الناس هو: الشك، هو الريب.
- لدى البعض من الناس هي: الأطماع والأهواء.
- لدى البعض من الناس هي: المخاوف.
- لدى البعض من الناس هو: الميل بدوافع أو بأخرى.
الأنواع كثيرة جدًّا، ليس السياق في كلامنا هو الحصر لها، لكن البيان على أنها حالة تتَّجه من داخل الأُمَّة، يعني: حالة تتحرَّك من داخل الأُمَّة على هذا الأساس: تدفع بالأُمَّة نحو اتِّخاذ اليهود والنصارى أولياء، فهي تُرَوِّج لذلك، تسعى لذلك، تضغط لذلك، تتحرَّك بقدراتها بإمكاناتها، بوسائلها الإعلامية؛ لإقناع الآخرين بذلك، للدفع بالآخرين بذلك؛ لأنها تركِّز على أن تُقَدِّم ما تعتبره تودُّداً إليهم، خدمةً لهم، تَقَرُّباً إليهم، وبمسارعة، (مسارعة) اهتمام كبير، المفترض بحسب النظرة القرآنية هي المسارعة إلى العداء لهم، إلى اتِّخاذ موقف منهم، والمسارعة إلى طريق مرضاة الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"؛ لكنَّ هذه المسارعة معاكسة، في اتِّجاه يخدمهم.
فالآيات القرآنية هي تبيِّن خطورة هذه الحالة من الانحراف، والسلبيات الكبيرة لها، وتبيِّن- وبيان ممن؟ من الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، الذي له عواقب الأمور، القائل "جَلَّ شَأنُهُ": {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}[الحج:41]، {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}- كيف النتيجة لهذه الحالة من الانحراف، التي تتَّجه نحو اتِّخاذهم أولياء، بالولاء لهم في الموقف، وبتمكينهم من السيطرة على هذه الأُمَّة، والانصياع لمؤامراتهم، لتوجهاتهم، للمواقف التي يدفعون إليها، والتَّقبُّل بما يقدِّمونه على كل المستويات، وبمسارعة واهتمام كبير، الله يؤكِّد أنَّ العاقبة لهذا التَّوَجُّه، لهذا الانحراف، للذين يسيرون وفق ذلك: في المسارعة فيهم، العاقبة هي الندم والخسران، أن يصبحوا نادمين وخاسرين، وهذه حقائق قرآنية، مهما- في ظروف معيَّنة- كان الواقع بالنسبة للبعض واقعاً يطمئنون إليه، في حساباتهم السياسية وغيرها، لكن الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" هو من يملك أن يصنع المتغيرات الكبيرة، وأن يُنَفِّذ وعيده الحق، وأن تجري سنَّته التي تجري في مسيرة الحياة، وهو القادر "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" على تنفيذ ما توعَّد به؛ ولـذلك هذه حقائق حتمية، حقائق حتمية، تتحقق بلا شك: أن يصبحوا خاسرين، وأن يصبحوا نادمين.
الآيات القرآنية، التي رسَّخت كيف تكون نظرتنا ورؤيتنا صحيحة وفق هداية الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، كيف يكون اتِّجاهنا كَأُمَّة، كمسلمين، بما يحمينا، يحمينا من الانزلاقة والتَّوَرُّط في الاتِّجاه الذي لا يفيدنا؛ إنما يمكِّن الأعداء، وفي نفس الوقت تكون عاقبته الخسارة والندم، الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" في هذا السياق قال "جَلَّ شَأنُهُ": {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ}[المائدة:54]؛ لأنه سياق ارتداد، الخضوع لليهود وأوليائهم من النصارى، والاتِّجاه لموالاتهم على مستوى الموقف، وعلى مستوى التعاون معهم في إطار الموقف، والمساندة لهم في إطار الموقف، وعلى مستوى التَّقَبُّل بهم كجهة آمرة، مقرِّرة، متحكِّمة، تفرض إملاءاتها، تتدخَّل في شؤون حياتنا المختلفة: في التعليم، في التثقيف، في الخطاب الديني، في الإعلام، في التأثير على الرأي العام، في الاقتصاد... في مختلف شؤوننا، وهم يحرصون على ذلك، يعملون على أن يقولبوا وينظِّموا واقع هذه الأُمَّة بما يخدم مصالحهم، والذي يخدم مصالحهم ما هو؟ ما يكون ضلالاً، ما يكون انحرافاً، ما يكون تحريفاً، ما يكون زيغاً، ما يكون انصرافاً عن هدي الله وعن الحق، فالحالة ستكون حالة ارتداد، {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[المائدة:54]، ثم قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}[المائدة:55-56]، فالآيات المباركة قدَّمت الولاية كأساس إيماني، يحمي الأُمَّة من ولاية أعدائها اليهود والنصارى، أساس إيماني يمثِّل حماية للأُمَّة، وتحصين للأُمَّة في هذا السياق نفسه، وأيضاً يصلها: يصل الأُمَّة التي تتَّجه على هذا الأساس، ومن يتَّجهون على هذا الأساس برعاية الله، وهدايته، ونصره، ويجعلها في موقع الصراع مع أولئك الأعداء، الذين هم أعداء مضلُّون، مفسدون، حاقدون، مجرمون، ظالمون، أبرز عنوان هو الظلم من عناوينهم، مما يعبِّر عن توجُّهاتهم، أعمالهم، سياساتهم، مواقفهم.
فالأُمَّة في إطار الصراع معهم، تكون في إطار مهمة مُقدَّسة؛ ولهـذا قال: {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ}[المائدة:56]، تواجه شر، وطغيان، وإجرام، وظلم، وإضلال، وفساد اليهود، وأوليائهم من النصارى، في إطار مهمةٍ ومسؤوليةٍ مقدَّسة، ومنطلقٍ إيماني، ومهمة مُتَّصِلَة بالله في هديه وتعليماته، وهذا ما أراده الله للأُمَّة الإسلامية: أن يكون لها هذا الموقع في الصراع مع اليهود، موقع أنها تؤدِّي مسؤوليةً مهمةً مقدَّسة:
- فهي أُمَّة الخير، التي تواجه شرَّ اليهود.
- وهي الأُمَّة القائمة بالقسط والعدل، التي تواجه ظلم اليهود، وهم أظلم الناس، وأسوأ الناس ظلماً، وأشدُّ الناس ظلماً.
- وهي الأُمَّة التي تتحرَّك بقيم الحق، تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، في مواجهة منكرهم، وفسادهم، وإجرامهم.
- وهي الأُمَّة التي تحمل الهدى والنور للبشرية، في مواجهة ضلالهم، وإضلالهم، وظلماتهم.
هذا الموقع الذي أراده الله للأُمَّة، وهي في ذلك كله تكون مُتَّصِلةً بهدى الله، تتحرَّك على أساس تعليماته، وتعتمد عليه، وتثق به، وتحظى برعايته ونصره؛ فتؤدِّي هذا الدور وهي في واقع الحال حزب الله، {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}[المائدة:56]، {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}[المائدة:56]، يكون التَّوَلِّي لله، ولرسوله، وللذين آمنوا في هذا السياق، هو هذا الاتِّجاه: هو التَّحَرُّك من هذا الموقع الذي أراده الله للأُمَّة في أداء مسؤولياتها الإيمانية والمقدَّسة والعظيمة.
الأعداء هم يسعون- اليهود، وأولياؤهم من النصارى، ومعهم حركة النفاق في الأُمَّة- هم يعملون دائماً على تجريد الأُمَّة وفصلها من هذه القيم، وهذه العناوين، وإبعادها عن هذا الموقع، فلو خاضت صراعها مع اليهود، يكون اليهود من جانبهم هم دائماً ما يركِّزون على أن يحملوا تلك العناوين: عناوين (النور في مواجهة الظلام)، (الخير في مواجهة الشر)، وحتى العنوان الديني، ثم كذلك التَّذَرُّع والاحتجاج بنصوصهم المُحَرَّفة، التي هي بعيدة كل البعد عن دين الله، ويكون للآخرين موقع آخر: عناوين سياسية مجرَّدة، أو عناوين حقوقية مجرَّدة، بمعنى: حينما تتحرَّك الأُمَّة في المواجهة لهم، يكون العنوان الذي تتحرَّك به- حصرياً- محدوداً جدًّا في نطاق أن تكون مطالبة بالأرض: [لا تأخذوا عليَّ أرضي]، ولا تُسنِد هذا الحق- هو حق، لكن لا تسنده- إلى قيمها الإيمانية، الدينية، ولا تتحرَّك فيه كأُمَّة تتمسَّك بقضية عادلة، تنطلق في إطار العدل، الحق، الخير، ولا ترتبط بصلتها الإيمانية والدينية، وهذا من خبث اليهود، يعني: عندما تتأملون- مثلاً- وتسمعون كلمات قادتهم من كبار المجرمين، وأسوأ المجرمين، وأفظع الناس إجراماً، وظلماً، وسوءاً، وقبحاً، وضلالاً، كيف يحاول أن يأتي في حديثه بتلك العبارات: عبارات أنهم هم الجهة التي تمثِّل الخير، والنور، ويواجهون الحركات الظلامية، والإرهابية، والمخربين... وتلك العناوين.
الشيء المؤسف: أنَّ أسلوبهم في تجريد الأُمَّة من تلك العناوين، التي عليها أن تمثِّلها بحق، بحق، وصدق، وواقع، وإزاحتها عن الموقع الذي ينبغي أن تنطلق فيه، وهو موقع مشرِّف عظيم، تؤدِّي فيه مسؤولية مقدَّسة وعظيمة، ومسؤولية إيمانية ورسالية، في إطار رسالة الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" وتعاليمه وإرث الأنبياء "عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ واَلسَّلَامُ"؛ تقبل بأن تترك كل ذلك، تتحرَّك في إطار عناوين حقوقية مجرَّدة، أو عناوين سياسية مجرَّدة، وتترك لأولئك أن يحملوا كل تلك العناوين، هذا من مكر الأعداء، لماذا؟ لأن الأُمَّة إذا جُرِّدَت من كل ذلك؛ تفقد أشياء كثيرة جدًّا:
- في مقدِّمتها: الاتِّصال والارتباط بالله، في أداء مسؤولية عظيمة مقدَّسة.
- كذلك تهبط في مستوى القضية، يعني: من قضية- مثلاً- إقامة العدل في الحياة، إقامة القسط في الحياة، إقامة الحق في الحياة، إقامة الخير في الحياة، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التَّصَدِّي للظلم، للشر، للطغيان، للإجرام، للفساد، للإضلال؛ تُجَرَّد من كل ذلك، فتهبط إلى عنوان بسيط جدًّا، وكأنها مُنَازَعة على قضية مجرَّدة عن كل هذه العناوين، يعني: ليس فيها مسألة حق، عدل، ليس فيها مسألة خير، ليس... كل هذه العناوين مفصولة عنها؛ مجرَّد عنوان (الأرض) مثلاً، المطالبة بالأرض، المطالبة بهذه العناوين مجرَّدةً عن كلِّ ما يعطيها قدسية، أهمية، اعتبار مهم، وهذا هبوط له تأثيره النفسي، حتى على المستوى النفسي؛ وبالتـالي حتى هم عندما يأخذون ما يأخذونه على الآخرين، وكأنهم أخذوا شيئاً عادياً، وفعلوا شيئاً عادياً، والخلاف بينك وبينهم على مسألة عادية جدًّا، فهم يهبطون بك في قضيتك؛ بما يؤثِّر حتى على المستوى النفسي والمعنوي، وعلى مستوى الرعاية الإلهية، والتأييد الإلهي، والنصر الإلهي... وعلى اعتبارات كثيرة جدًّا.
أمَّا هم فلا يفعلون ذلك، هم يأتون ليحملوا كل تلك العناوين، ويحشدونها بغير حق، في غير محلها، بل يسيئون إليها؛ حينما يحاولون أن يقدِّموها عناوين لإجرامهم، لفسادهم، لظلمهم، لطغيانهم، لظلماتهم وفسادهم.
- ثم هم يحاولون أن يسلبوا الأُمَّة عن كل ما يؤهِّلها لتكون بمستوى مواجهة تلك التحديات؛ لأن الارتباط بهدى الله وتعليمات الله يبني هذه الأُمَّة: على مستوى البصيرة، والوعي، والنور، على مستوى الحالة المعنوية، على مستوى زكاء النفوس، يُحَصِّن الأُمَّة من تأثيرات أولئك، في نشاطهم في الإضلال والإفساد، والحرب الفكرية، الحرب الناعمة، الشيطانية، المفسدة، المضلَّة... كل أشكال الاستهداف الفكري، والثقافي، والنفسي، والمعنوي... وغير ذلك، فهم يريدون أن يضربوا هذا الجانب؛ ليسهل عليهم كل شيءٍ بعد ذلك، وهذا فعلاً يحصل.
ولـذلك فالإيمـــان بولايـــة الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" هو:
- يصل الأُمَّة بهدى الله وتعليماته الهادية، والمباركة، والحكيمة.
- ويربطها في مختلف شؤون حياتها بذلك، يعني: تجعل مسيرتها في الجانب السياسي، في الجانب الاقتصادي، في الجانب الاجتماعي... في مختلف الجوانب الحضارية، على أساس تعليمات الله وتوجيهاته القيِّمة والحكيمة.
- ويربطها بنهج الله الحق، وهذا شيءٌ مهمٌ للأُمَّة: أن تتَّجه على أساس نهج الله وهديه وكتابه؛ وبالرموز الهداة، الذين يتحرَّكون بها على هذا الأساس، يسيرون بها على أساس هدى الله وتعليمات الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى".
- ويحميها من الموالاة لليهود، ومن الخضوع لأمرهم.
الولاية لليهود، التَّوَلِّي لهم هو التَّوَلِّي للعدو، المضل، المجرم، الطاغوت، الطاغوت، هم طاغوت، طغاة، وهم ومن اتَّجه معهم طغاةٌ عن نهج الله وعن هدية، منهجهم: هو الطغيان، هو الظلم، هو الانحراف، هو التجاوز لأمر الله، لهدي الله، لنور الله، للحق، للعدل، للخير، تجاوز لكل ذلك، فمن يسير في نهجهم يطغى، يتحوَّل إلى طاغية، هو طاغٍ، متجاوز لحدود الله، وأوامر الله، مفسد، مضل، ظالم، يتَّجه الاتِّجاه المنحرف في هذه الحياة؛ وهم- بالتالي- امتداد لولاية الشيطان، وكلهم من أولياء الشيطان، وولاية الطاغوت هي ولاية الشيطان، أبرز عنوان لها هو: الظلم، وكذلك الظلمات:
- ولهذا قال الله عنهم: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[المائدة:51]، وكذلك هو حال من يواليهم، يتحوَّل إلى ظالم، ومن أظلم منهم! هل تشاهدون أظلم مما يفعله العدو الإسرائيلي في قطاع غزَّة بالشعب الفلسطيني؟! منتهى الظلم، أبشع أنواع الظلم، والظلم واسع، ليس على مستوى فقط الإجرام بالقتل:
o إضلالهم للناس، نشرهم للضلال في العالم: الضلال العقائدي، والفكري، والثقافي، والسياسي... كل أشكال الضلال، هو من الظلم للناس، وظلم رهيب جدًّا.
o نشرهم للفساد للناس: الإفساد للناس، الإفساد للمجتمعات البشرية بكل أشكال الإفساد، ومنه: الإفساد اللاأخلاقي، للترويج للفواحش والرذائل، هو أيضاً من الظلم للناس.
وهكذا يمتد ظلمهم إلى كل مجال.
- وأيضاً الظلمات، في إضلالهم للناس، في حجبهم للناس عن الحق والحقائق، وإبعادهم للناس عن نور الهدى، عن التعليمات الإلهية، عن القرآن الكريم، الذي هو نور الله، الذي يحتوي رسالة الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، وإرث الأنبياء "عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ واَلسَّلَامُ"، هو أيضاً من الاتِّجاه بالناس في الظلمات؛ ولهـذا يقول الله في القرآن الكريم، للتفريق بين الولايتين (ولاية الله، ولاية الطاغوت): {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ}[البقرة:257]؛ ولـذلك هم الظلاميون، هم الظلاميون، وهم الطغاة المجرمون، المضلُّون، المفسدون.
هم يعملون على أن يجرِّدوا الأُمَّة من كل القيم، ومن كل عناوين الخير؛ بينما هم يحملونها بشكلٍ زائف، ومتباين معها تماماً، وكل اتِّجاههم لضرب هذه الأُمَّة في روحها المعنوية، وفي أن يجرِّدوها من كل الأسس الإيمانية الدينية؛ حتى تبقى أُمَّة بدون جذور، يسهل عليهم أن يقلعوها.
اتِّجاههم في هذا العصر للارتداد بها عن دينها، اتِّجاههم أيضاً لأن يقولبوها في كل شؤون حياتها على أساس ما يخدموا مصالحهم، حتى في الثقافة والمفاهيم، حتى في الخطاب الديني، شيءٌ واضح.
اليهود في هذا العصر، وفي هذه المرحلة، ومعهم من معهم من النصارى، {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}[المائدة:51]، يتَّجهون وبشكلٍ واضح إلى فرض ولايتهم على المسلمين، هم يعملون على ذلك، اتِّجاههم لتحقيق هذا الهدف هو اتِّجاه واضح، والسيطرة التَّامَّة على الأُمَّة الإسلامية، وهذه السيطرة ما الذي فيها؟ هل هي مجرَّد سيطرة عسكرية، أو مجرَّد احتلال أرضي لمواقع عسكرية هنا أو هناك؟! هم يتَّجهون لبرمجة دينها، وهويتها، وثقافتها، وفكرها، وولاءاتها، وعداواتها، وفق ما يحقق لهم هذا الهدف؛ لأن هذا من متطلبات سيطرتهم التَّامَّة على هذه الأُمَّة، وأن تكون متقبِّلةً لإملاءاتهم، ومطيعةً لهم.
هناك في ثقافة هذه الأُمَّة، في قرآنها، في دينها، في مبادئها، ما يمنع ذلك، إذا بقيت الأُمَّة واعيةً له، وملتزمةً به، ما يمنع من تقبُّل الطاعة لهم، الخضوع لهم؛ لأنهم- كما قلنا- عدو، مجرم، ظالم، مضل، مفسد، سيء، امتداد لولاية الشيطان، الطاعة له خسارةٌ في الدنيا والآخرة، فهم يحاولون أن يُقَولِبُوا ذلك، وللأسف تلتقي معهم أيضاً- كما قلنا- حركة النفاق والانحراف المسارعة فيهم.
فهم- في هذا السياق- يتَّجهون عملياً في هذه المرحلة لتحقيق خطوات متقدِّمة في هذه السيطرة؛ ولـذلك يحاولون أن يعملوا على تصفية القضية الفلسطينية بشكلٍ نهائي، وما يرتكبونه من إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني هو في هذا السياق، يريدون أن يحسموا المسألة في فلسطين، ومن ثم ما بعد فلسطين، لا يقتصر الأمر على فلسطين فقط، هم يحاولون أن يعملوا على إزاحة أيِّ عائق أمامهم، العائق في فلسطين، والعائق فيما بعد فلسطين.
يجب أن تكون النظرة إليهم من كل أبناء أُمَّتنا الإسلامية على أساس- في مسألة ما هو توجههم تجاه هذه الأُمَّة- على أساس:
- الحقائق القرآنية التي ذكرها الله عنهم في القرآن الكريم، ومصاديقها في واقعهم بيِّنة وواضحة تماماً: في مخططهم الصهيوني، هو مخطط- بالنسبة لهم- يسيرون عليه، ويلتزمون به، ويؤكِّدون ارتباطهم به، هم يتبنونه بشكل صحيح، هم لا ينكرونه، خطواتهم العملية هي لتنفيذه، ومع ذلك المخطط أيضاً: العنوان الذي يكرِّرونه باستمرار، من أعلى مستوياتهم في قادتهم، وهو: [تغيير وجه الشرق الأوسط]، أليسوا يتحدَّثون عن تغيير وجه الشرق الأوسط، ماذا يعني هذا التعبير؟ التغيير إلى إخضاع هذه المنطقة بكل شعوبها تحت سيطرتهم، وإخضاعها لهم، والتَّحَكُّم بها، والسيطرة التَّامَّة في كل المجالات.
- النظرة إليهم أيضاً من خلال جرائمهم: حجم الإجرام الذي يحصل في قطاع غزَّة، ليست المسألة فقط أن يكون موقفنا منه الموقف النفسي والعاطفي، هذا شيء ضروري لكل ذي ضمير إنساني، أن يغضب من اليهود، أن يستاء منهم، وأن يحزن ويتألم للشعب الفلسطيني على ما يعاني من الظلم والاضطهاد عندما يشاهد تلك المآسي، ولكن مع ذلك: النظرة، الفكرة، الرؤية، هذا شيءٌ مهم، أن تعرف أنهم هكذا، اليهود الصهاينة هم بذلك الإجرام، يعني: أنهم سيئون جدًّا، مجرمون جدًّا، يشكِّلون خطراً على كل المجتمعات، على كل من يسمُّونهم هم بـ [الأغيار]، يسمُّون غيرهم من المجتمعات البشرية بـ [الأغيار]، ولا يعترفون لهم بأنهم من البشر.
- بثقافتهـــم، انظروا ما هي ثقافتهم؟ ما هي محتويات ومضامين التلمود، الذي يعتمدون عليه ككتاب بالنسبة لهم، يتضمَّن الثقافة اليهودية، الرؤية اليهودية، المعتقدات اليهودية المقدَّسة لديهم، التي يؤمنون بها، يعتقدون بها، ينظرون من خلالها إلى الآخرين، يتحرَّكون على أساسها.
هذا ما ينبغي أن تكون من خلاله النظرة والرؤية، ويبنى على أساسها الموقف، لا أن يخدع الإنسان نفسه، ويخالف القرآن، ويخالف الواقع، ويقبل بنظرة ساذجة، غبية، جاهلة، ظلامية، ترى فيهم أنهم: فئة يمكن السَّلام معها، التفاهم معها، التعايش معها، التطبيع معها، العلاقة معها.
نحن في مرحلة مهمة، مرحلة حسَّاسة جدًّا في الصراع معهم، الصراع ما بين أُمَّتنا وما بينهم، هي مرحلة- هذه بالتحديد- مرحلة مهمة للغاية، وليس هناك إلَّا خيار من خيارين:
- إمَّا الخنوع لهم، والخضوع لهم، واتِّخاذهم أولياء، والقبول بولايتهم، بسيطرتهم، بتحكمهم، بإملاءاتهم، وفي هذا خسارة الدنيا والآخرة، وفيه الشقاء، والهوان، والخزي، فيه الخسارة للكرامة الإنسانية، والعِزَّة الإيمانية، والاستقلال، والحُرِّيَّة، وفيه خسارة لكل شيء، وتمكينهم من كل شيء، لا يبقى للأُمَّة لا أمن، ولا استقلال، ولا كرامة، ولا حُرِّيَّة، ولا خير، وتخسر مع ذلك مستقبلها في الآخرة، وهذا شيء فظيع جدًّا، أي إنسان يختار هذا الخيار؛ فهو شقي بكل ما تعنيه الكلمة، وضال، وتائه، وغبي، أغبى الأغبياء، وأضل حتى من حمار أهله، هو في حالة رهيبة من الغباء؛ لأنه شيء ليس وراءه أي خير للإنسان، يعني: حتى الإنسان حينما يضحي هذه التضحية من أجل مَنْ؟ من أجل مجرمين، سيئين جدًّا، أسوأ خلق الله، أشرِّ الناس، فتخسر من أجلهم كل شيء: كرامتك الإنسانية، عِزَّتَك الإيمانية، خير الدنيا والآخرة، ومستقبلك في الآخرة.
- الخيار الآخر هـو: ألَّا تقبل بولايتهم، ألَّا تخضع لهم، ألَّا تقف معهم، ألَّا تؤيِّدهم، ولا تقبل أن يسيطروا على أُمَّتك، أن يهيمنوا على أُمَّتِك، أن يُخْضِعوا هذه الأُمَّة ويتحكَّموا بها، وأنت منها، وأن يكون الاتِّجاه الآخر هو الاتِّجاه لمواجهة مؤامراتهم، شرِّهم، وطغيانهم وإجرامهم، وضلالهم، وإفسادهم في كل المجالات، وعلى أساسٍ من الوعي، والبصيرة، والشعور بالمسؤولية، وأن نتَّجه في إطار الموقع الذي أراده الله لنا؛ لنكون أُمَّة الخير، في مواجهة شرِّهم، وأُمَّة الحق والعدل، في مواجهة باطلهم، وظلمهم، وإجرامهم، وأُمَّة القيم والأخلاق العظيمة الفطرية والإلهية، في مواجهة إفسادهم... وهكذا، نكون في الموقع الذي أراده الله لنا، وفيه الحفاظ على كل الحقوق، وعلى الأوطان، وعلى الممتلكات... وعلى كل شيء، يحفظ لنا كل شيء من موقع أرقى وأعظم، يصلنا بالله، بهدية، بتعليماته، برعايته، بنصره، بمعونته، وهو خير الناصرين، نعم المولى ونعم النصير.
المرحلة- كما قلنا- هي: أنَّ الأعداء يتَّجهون إلى إزاحة أيِّ عائق قبلهم في هذه الأُمَّة؛ لأنهم يريدون أن يُحْكِموا هذه السيطرة، وفي هذا السياق نفسه أتى العدوان الإسرائيلي على الجمهورية الإسلامية في إيران؛ لأن العدو الإسرائيلي يرى في الجمهورية الإسلامية، ومن خلفه الغرب، من خلفه أمريكا، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا... ومن معهم، يرون في الجمهورية الإسلامية في إيران نموذجاً مستقلاً، حُرّاً إسلامياً، داعماً للقضية الفلسطينية، حاملاً لقضايا الأُمَّة، مناصراً للمظلومين والمستضعفين، ويرون في الجمهورية الإسلامية دولة تبني نهضةً حضارية، ويرون فيها أيضاً قوةً إسلامية، وهذا كله ما لا يريده الإسرائيلي، ولا الأمريكي، ولا البريطاني... ومن معهم، لا يريدون أبداً أن يكون في وسط المسلمين، أو في واقع المسلمين، أي دولة بهذه المواصفات: مستقلة، لا تخضع لهم، لا تخنع لهم، لا تقبل بالتبعية لهم في اتِّجاهها السياسي ومواقفها، وفي شؤونها الاقتصادية وغيرها، وتكون حُرَّةً، مستقلةً، عزيزةً، داعمةً للقضية الفلسطينية، داعمةً لقضايا المظلومين والمستضعفين، تبني نهضةً حضاريةً إسلامية، هذه هي القضايا الحسَّاسة جدًّا، وهي- في نفس الوقت- القضايا المهمة، التي يمكن أن تحفظ للأُمَّة كل شؤونها، تجاه الدين ومصالحها الحقيقية، فهم يحاربون أي توجُّهٍ على هذا الأساس في واقع المسلمين.
العدوان الإسرائيلي على إيران عدوان مكشوف، واضح، بلطجي، وقح، لا يراعي أي اعتبارات، حتى القانون الدولي، والمواثيق التابعة للأمم المُتَّحِدة وغيرها، اعتداء على دولة ذات سيادة، وهي دولة مستقلة، وفي نفس الوقت اعتداء ظالم وإجرامي:
- استهدف قادة عسكريين إيرانيين.
- استهدف علماء في المجال النووي.
- واستهدف أيضاً أبناء الشعب الإيراني، وهناك شهداء وجرحى من بقية أبناء الشعب الإيراني من غير العسكريين أيضاً.
- واستهدف منشآت عسكرية، ومنشآت متنوعة.
- واستهدف- في خطوة عدوانية خطيرة جدًّا- منشأةً نووية، ومعنى ذلك: أنه لم يكن يبالي بما قد يحدث نتيجةً لذلك من تلوثٍ إشعاعيٍ نوويٍ له مخاطره الواسعة، يعني: لم يكن عنده أي تَحَرُّج من ارتكاب جريمة كبيرة جدًّا، قد تكون لها تداعيات وآثار ومخاطر كبيرة، لولا أنَّ هناك إنشاءات أرضية كبيرة في تلك المنشأة النووية؛ لربما كانت النتائج خطيرة جدًّا لعدوانه عليها، فهو متقدِّمٌ وجريءٌ لارتكاب جريمة فظيعة جدًّا.
العدو الإسرائيلي ليس له أي تبرير صحيح أبداً لعدوانه على الجمهورية الإسلامية في إيران، كل ما يرفعه من تلفيقات، وذرائع، ومبررات، هي سخيفة للغاية، سخيفة جدًّا جدًّا جدًّا.
المواقف بالنسبة للدول العربية والإسلامية: هي مجمعة على إدانة العدوان الإسرائيلي على إيران، وهذا شيء جيد وإيجابي، وهو المفترض بكل المسلمين جميعاً في البلاد العربية وغيرها، أن يكون موقفهم على المستوى السياسي، وعلى المستوى الإعلامي... وعلى كل المستويات، هو مساند للجمهورية الإسلامية؛ باعتبارها معتدى عليها، ومظلومةً، العدو الإسرائيلي في عدوان غاشم إجرامي، له مخاطره حتى على مستوى المنطقة بكلها.
المهم من الجميع، من كل الأنظمة العربية والإسلامية: أن تكون ثابتةً على موقفها في إدانة العدوان الإسرائيلي، مستمرةً على ذلك، أن يبقى موقفها السياسي، والإعلامي... وعلى كل المستويات، داعم للموقف الإيراني، وألَّا تخضع للإملاءات الأمريكية والغربية في اتِّخاذ موقف مغايِّر سراً أو علناً.
بالنسبة للموقف الغربي، فهو واضحٌ في انحيازه- كالعادة- مع العدو الإسرائيلي، وكل ما يسعى له الأمريكي، البريطاني، الفرنسي، المجتمع الغربي بشكلٍ عام، هو: احتواء الرد الإيراني، الشيء الذي يركِّزون عليه: احتواء الرد الإيراني، وإذا لم يتمكنوا من احتوائه بالضغط السياسي وغيره، فمحاولة التعاون مع العدو الإسرائيلي في التَّصَدِّي للرد الإيراني، هذا هو التَّوَجُّه الواضح بالنسبة لهم، وهذا من الشواهد الواضحة على توجُّهاتهم العدوانية ضد أُمَّتنا، وأنهم بعيدون كل البعد- بل ومتباينون تماماً- مع العناوين التي يرفعونها: عن حقوق الشعوب، عن حقوق الإنسان، عن حقوق الدول، حتى فيما يتعلَّق بالقانون الدولي وغيره.
فيما يتعلَّق بالموقف الإيراني، فهو قوي، ومتكامل (رسمياً، وشعبياً)، وهو يمتلك المقومات اللازمة لقوة الموقف (معنوياً، ومادياً)، وبدأ الرد فعلياً بـ(عملية الوعد الصادق 3)، وأمطر كيان العدو الإسرائيلي بالصواريخ المدمِّرة والفتَّاكة، وبزخمٍ كبير.
وضع الجمهورية الإسلامية في إيران متين، ومتماسك: عسكرياً، اقتصادياً، اجتماعياً، شعبياً، رسمياً، قيادياً، بنية النظام الإسلامي بنية قوية ومتماسكة، والعدو الإسرائيلي تورَّط في عدوانه على الجمهورية الإسلامية، وهذا العدوان هو لن يتَّجه بالجمهورية الإسلامية إلى الانهيار والضعف، بل هو فرصةٌ لها؛ لإلحاق الهزائم الكبيرة بالعدو الإسرائيلي، والتنكيل به، وإعادة الاعتبار للجمهورية الإسلامية، ولهذه الأُمَّة بكلها، تجاه غطرسة، وبلطجة، ووحشية، وإجرام، وطغيان العدو الإسرائيلي.
انتصار الجمهورية الإسلامية في هذه المواجهة هو لمصلحة القضية الفلسطينية، أول مستفيد من الرد الإيراني ضد العدو الإسرائيلي، ومن قوة هذا الرد، ومن تأثير هذا الرد، هو: الشعب الفلسطيني المظلوم، المعاني، المضطهد، الذي يواجه العدوان والغطرسة الإسرائيلية بدون إمكانات، بدون دعم ومساندة من مختلف الدول العربية والإسلامية، الذي يتفرَّج عليه معظم العرب، ومعظم المسلمين، وهو يواجه كل الوحشية والإجرام الصهيوني اليهودي بدون أي إمكانات، سوى إمكانات بسيطة جدًّا ومحدودة، بل هو محاصر بإسهام في الحصار من دول إسلامية وعربية.
الجمهورية الإسلامية، من أكبر ما يغيظ الأعداء منها، هو: أنَّها من بين كل هذا المحيط من التخاذل العربي والإسلامي، لها موقف متميِّز في نصرة الشعب الفلسطيني ودعمه.
الانتصار في الرد الإيراني هو أيضاً مصلحة لكل دول المنطقة؛ لأن العدو الإسرائيلي هو خطرٌ عليها بكل، خطر على الدول العربية في المقدِّمة قبل غيرها، وعلى بقية الدول في المنطقة؛ ولـذلك من المهم لكل دول المنطقة: أن تفرح بالموقف الإيراني، وبالرد الإيراني، أن تؤيِّد هذا الرد، أن تدرك أنه لمصلحتها جميعاً؛ لأن الكل في المنطقة بحاجة أن يكون هناك ردع للعدو الإسرائيلي، ومسألة الردع ومنع العدو الإسرائيلي من الانفلات والبلطجة، ومنعه من فرض معادلة الاستباحة، مسألة مهمة للجميع، ولمصلحة الجميع.
العدو الإسرائيلي يسعى بدعمٍ أمريكي، ودعمٍ فرنسي، بريطاني، ألماني... وبعض الدول الأوروبية والغربية، إلى فرض معادلة الاستباحة على هذه الأُمَّة، على هذه الشعوب والبلدان والأنظمة، أن تكون يده مطلقةً ليفعل ما يشاء ويريد ضد أيِّ بلد عربي ومسلم، ضد أيِّ بلد في هذه المنطقة، ما رأى في أنه يمثِّل مصلحةً له، وإن كان انتهاكاً لحقوق الآخرين، وظلماً للآخرين، وعدواناً على الآخرين، وإجراماً بحق الآخرين؛ يفعله.
وأخطر شيء على المسلمين، على أُمَّتنا، على شعوبنا في هذه المنطقة، على حكوماتها وأنظمتها، على الجميع بدون استثناء: هو القبول بمعادلة الاستباحة لمصلحة الإسرائيلي والأمريكي، هذه مسألة خطيرة جدًّا، هذه معناها التنازل- كما قلنا- عن الكرامة الإنسانية، عن العِزَّة، عن الاستقلال، عن الحُرِّيَّة... عن كل شيء، قضية خطيرة للغاية للغاية؛ لأن العدو الإسرائيلي هو عدوٌ مجرم، وحقود، ومستهتر بالدماء، وإذا أصبحت يده مطلقة لفعل ما يشاء في هذه المنطقة؛ فهو لن يتردد في فعل أسوأ الأشياء، وأقبح الأشياء، يمارس أشد الظلم والإجرام، يرتكب أقبح، وأشنع، وأفظع الجرائم دون اكتراث، وتكون الأُمَّة ضحية، ولا مبرر لأن تقبل بذلك أبداً، هو عدوٌ مستهتر، بدون الردع لن يتوقف عن الإجرام.
الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" فرض الجهاد في سبيله ليس للدفاع عنه، هو غنيٌ عن العالمين، وهو القوي العزيز، وهو المهيمن على العباد والخلائق، فرض الجهاد في سبيله لدفع الشرِّ والطغيان، ووعد بالنصر لمن يجاهد في سبيله، وهو لا يرضى لعباده المؤمنين أن يقبلوا بمعادلة الاستباحة لصالح أعدائه المجرمين، الظالمين، الفاسقين، السيئين، فلماذا، لماذا يمكن القبول بذلك؟! الله يقول: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}[المنافقون:8].
القبول بمعادلة الاستباحة: أن يقتل الإسرائيلي أبناء هذه الأُمَّة، أن يكون دماء المسلمين، وأموالهم، وأعراضهم، وأوطانهم، ومقدَّساتهم، ودينهم، ودنياهم، مستباحاً له، هذا غير مقبول، وليس له أي مبرر أن يكون ذلك متاحاً له، ومباحاً له، على أي أساس تقبل الأُمَّة بذلك، وتستسيغ ذلك؟! من يستسيغ ذلك؛ لم يبقَ في نفسه أي إنسانية، ولا كرامة.
الله قال في القرآن الكريم في (سورة الحج): {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}[الحج:60-61]، فليس هناك أي مبرر إطلاقاً للقبول بالاستباحة، الله قدَّم هنا ضمانة بالنصر، بالعون، بالتأييد: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ}[الحج:60]، هذا وعد مؤكَّد من الله بكل عبارات التأكيد: {لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ}[الحج:60]؛ ولـذلك لا ينبغي القبول أبداً بمعادلة الاستباحة.
فيما يتعلَّق بموقفنا نحن فيما حصل من عدوان إسرائيلي ضد الجمهورية الإسلامية في إيران: نحن نؤيِّد الرد الإيراني، وشركاء في الموقف بكل ما نستطيع، ونحن نتوجَّه بالعزاء إلى القيادة الإيرانية، والشعب الإيراني، والمباركة للشهداء فيما فازوا به من الشهادة، نحن نؤكِّد أنَّ أي بلد إسلامي يدخل في مواجهة مع العدو الإسرائيلي؛ فإنَّ المسؤولية الدينية، والإنسانية، والأخلاقية، والمصلحة الحقيقية للأُمَّة، هي في مساندته، وتأييد موقفه في التَّصَدِّي للعدو.
نحن أيضاً مستمرون في الإسناد لِغَزَّة، ونصرة الشعب الفلسطيني، وفي حرب مفتوحة مع العدو الإسرائيلي في هذا السياق، وموقفنا ثابت ومستمر في إطار مهامنا الجهادية في سبيل الله تعالى.
العدو الإسرائيلي أيضاً في عدوانه على الجمهورية الإسلامية في إيران، هو في نفس الوقت وبنفس العدوان معتدٍ على دول عربية متعددة، على: الأردن، وسوريا، والعراق، يستبيح أجواءها، وينفِّذوا كل اعتداءاته من أجوائها، وهو في ذلك في حالة عدوان عليها، على هذه الدول العربية، ولا يبالي بها، بل هي من ضمن البلدان التي يعتبرها في مخططه الصهيوني من البلدان التي يسعى إلى احتلالها، والسيطرة عليها، ليس فقط في الجو، واستباحة الأجواء؛ بل السيطرة الكاملة عليها، وهذا يبيِّن حاجة هذه الأُمَّة- فعلاً- إلى الردع، إلى استعادة معادلة الردع في مواجهة العدو الإسرائيلي، وليس القبول بمعادلة الاستباحة.
نَسْألُ اللَّهَ "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيه عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهْدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسْرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيْعُ الدُّعَاء.
وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛