كيف وصل الصاروخ اليمني إلى عمق إسرائيل؟.. إليك ما نعرفه عن حاطم2
تاريخ النشر: 15th, September 2024 GMT
استفاقت "تل أبيب" على صوت انفجار كبير سبقته صافرات إنذار دوت فجر الأحد، لكن هذه المرة مصدر التهديد لم يكن قطاع غزة كما جرت العادة، بل اليمن، الذي شن هجوما بصاروخ باليستي سقط في ضواحي عاصمة دولة الاحتلال.
وقال جيش الاحتلال الإسرائيلي، إن صاروخا من نوع "أرض-أرض" أطلق على وسط "إسرائيل" من اليمن وسقط في منطقة غير مأهولة قرب "تل أبيب"، إلا أن الصور الواردة من مكان القصف كشفت غير ذلك.
سجلت القوات المسلحة اليمنية نجاحاً جديداً، بعد أن استهدفت سابقاً “إيلات” و”تل أبيب”، اليوم كان مطار “بن غوريون” هو الهدف الثالث وقد قطع الصاروخ مسافة 1800 كلم وسقط بالقرب من المطار.
ما يميز هذا الصاروخ هو قدرته على تغيير مساره فجأة، ما جعل الدفاع الجوي الصهيوني غير قادر على… pic.twitter.com/tI6QIKOrJ1 — بلال نزار ريان (@BelalNezar) September 15, 2024
وعلى صعيد الخسائر الأولية، ذكر الإسعاف الإسرائيلي أن تسعة إسرائيليين أصيبوا أثناء اندفاعهم نحو الملاجئ بعد انطلاق صافرات الإنذار.
فكيف وصل الصاروخ لعمل الأراضي المحتلة؟
إخفاق الاعتراض
ذكرت القناة 12 الإسرائيلية أن دفاعات جوية أخفقت في اعتراض الصاروخ الذي سقط على مقربة من مطار "بن غوريون".
سقوط الصاروخ مثل تفنيدا لرواية جيش الاحتلال الذي أعلن أنه اعترضه خارج الأجزاء الإسرائيلية عبر منظومة "حيتس3".
لقطات حية من مدينة تل أبيب المحتلة الآن.
Live footage from the occupied city of Tel Aviv now. pic.twitter.com/o0uJnl22YW — غزة الآن - Gaza Now (@nowgnna) September 15, 2024
إذاعة جيش الاحتلال قالت إن مسار الصاروخ بلغ حوالي 2000 كيلومتر، فيما احتاج نحو 15 دقيقة لقطع هذه المسافة.
وأكدت الإذاعة، إطلاق عدد من الصواريخ الاعتراضية على الصاروخ، سواء من نظام "حيتس" أو من القبة الحديدية، لكنها فشلت في اعتراضه.
من جانبه قال المحلل العسكري الإسرائيلي، نوعام أمير: "في النهاية اجتاز الصاروخ الطريق من اليمن إلى إسرائيل، فعلى ماذا أطلقت كل هذه الصواريخ الاعتراضية؟ هذا عرض لقيادة الجبهة الداخلية وأنظمة الدفاع الجوي بدلاً من الحوثيين... لم يكن من المفترض أن يوقظوا غوش دان هكذا هذا الصباح".
ووصفت وسائل إعلام عبرية، أن ما حدث هو فشل للجبهة الداخلية والدفاع الجوي أمام هذا الصاروخ، حيث كان يجب أن يتم التعامل مع التهديد خارج حدود "إسرائيل".
وأفادت الشرطة الإسرائيلية بأن الصاروخ اليمني سقط في بلدة كفار دانيال في منطقة قريبة من مطار "بن غوريون بتل أبيب".
وأضافت أن الصاروخ تسبب في حرائق بمناطق حرجية وأضرار مادية في محطة رئيسية للقطار قرب بلدة موديعين.
صاروخ "حاطم 2"
يبدو من سرعة الصاروخ والمسافة التي قطعها أنه صاروخ "فرط صوتي" بعيد المدى، وقد أعلنت مؤخرا جماعة الحوثي امتلاكها لهذه النوعية من الصواريخ.
أول إعلان عن هذه الصواريخ، كان في منتصف آذار/ مارس الماضي، حينها نقلت وكالة "نوفوستي" الروسية عن مصدر عسكري مقرب من جماعة "أنصار الله" (الحوثيين) في اليمن أن الجماعة أجرت تجربة لصاروخ فرط صوتي.
وقال المصدر إن القوة الصاروخية التابعة للحوثيين أجرت تجربة على صاروخ، قيل إنه يعمل على الوقود الصلب، وإن سرعته تبلغ 8 ماخ (نحو 10 آلاف كلم في الساعة)، وهذا يفسر على ما يبدو وصول الصاروخ فجر الأحد إلى "تل بيب" في غضون 15 دقيقة قاطعا نحو 2000 كيلومتر انطلاقا من اليمن.
وأضاف المصدر وقتها، أن "هناك نية لإطلاق إنتاجه للاستخدام في الهجمات في البحر الأحمر وبحر العرب وخليج عدن واستهداف مواقع في الكيان المحتل".
وفي حزيران/ يونيو الماضي، كشف الحوثيون عن استخدام الصاروخ الباليستي الفرط صوتي الجديد "حاطم 2" ضد سفينة "MSC SARAH V" الإسرائيلية في بحر العرب.
مشاهد من إطلاق القوة الصاروخية اليمنية صاروخا باليستيا فرط صوتي من نوع (حاطم 2) على سفينة MSC SARAH V الإسرائيلية في البحر العربي يُكشف عنه لأول مرة
يالقووة الصاروخ ???? معلومة: دول بعدد اصابع اليد تمتلك صواريخ فرط صوتية وهي روسيا وايران والصين وكوريا الشمالية والان اليمن ". pic.twitter.com/Qbpwu5gxhy — ÖZBEKLER (@Ozbeknews) June 27, 2024
وقالت الجماعة إن الصاروخ يعمل بالوقود الصلب، كما أنه يتمتع بنظام تحكم ذكي وقدرة على المناورة، ويمتلك عدة أجيال بمديات مختلفة، وتم تصنيعه في هيئة التصنيع العسكري اليمنية.
وتمتلك الجماعة، صواريخ "طوفان" الباليستية التي يتراوح مداها بين 1350و1950 كيلومترا، وتشبه في تصميمها صواريخ "قدر" الإيرانية، حيث يُعتقد أن لديها مرحلة أولى تعمل بالوقود السائل، ومرحلة ثانية تعمل بالوقود الصلب، ما يسمح لها بمدى كبير، ويبلغ طول الصاروخ نحو 16 مترا، وعرضه نحو متر ونصف.
الصواريخ الفرط صوتية
وتعرف الصواريخ الفرط صوتية، بأنها نوع من الأسلحة الفتاكة بسرعة تتجاوز خمسة أضعاف سرعة الصوت ولا تتبع مسارا مقوسا، كما أن بمقدورها المراوغة أثناء الطيران ما يسهل اختراقها للدفاعات الجوية، ويعيق تتبعها من قبل الرادارات، وتطير على ارتفاعات منخفضة مقارنة بالصواريخ الباليستية.
وتتصدر روسيا والصين والولايات المتحدة الأمريكية قائمة الدول التي تعمل على تطوير تكنولوجيا الأسلحة الفرط صوتية، وانضمت لها كل من إيران وكوريا الشمالية عام 2023، وتعمل المملكة المتحدة وأستراليا وفرنسا على البحث في هذه التكنولوجيا.
ويعمل الصاروخ وفق مبدأ السرعة الفائقة، حيث يتشكل قمع حوله عندما تصل سرعته إلى 350 مترا في الثانية، وهي سرعة الصوت، ثم يُسمع صوت انفجار عند اختراق حاجز الصوت، وهو ما يعرف بالغارات الوهمية، وتصبح سرعة الصاروخ حينها فوق صوتية.
وعقب اختراق سرعة الصوت بخمسة أضعاف يصل الهواء إلى حالة البلازما التي تكون على شكل سحابة محيطة برأس الصاروخ، ما يجعل من الصعب تتبعه على الرادارات أو اعتراضه من قبل الدفاعات الأرضية.
عمق الاحتلال
وبعد نجاح عملية اليوم الأحد، أكد نائب رئيس الهيئة الإعلامية لأنصار الله نصر الدين عامر، أن الدفاعات الجوية الإسرائيلية فشلت في اعتراض الصاروخ اليمني، مشددا على أنه بلغ هدفه.
وأضاف أن عمق الاحتلال أصبح مكشوفا بالكامل أمام القوات المسلحة اليمنية (الحوثيين)، مبينا أن مسيّراتهم وصلت سابقا إلى "إسرائيل" والآن تصل الصواريخ دون اعتراض، متوعدا الاحتلال بأن "المستقبل يخفي الكثير"، وفق تعبيره.
ويبدو أن تلك الرسالة التي أراد الحوثيون إيصالها هي أن "تل أبيب" باتت تحت نار صواريخهم ما ينقل المواجهة إلى مستوى آخر، خصوصا أن جماعة الحوثي هي الجهة الوحيدة التي تملك تقنية الصواريخ الفرط صوتية في المنطقة بالإضافة إلى إيران.
ويعتبر الهجوم نجاحا ثالثا لجماعة الحوثي في الوصول إلى الأراضي المحتلة بعد عمليتين استخدمت في إحداهما الطائرة المسيرة "يافا" في يوليو/ تموز الماضي، حيث قُتل إسرائيلي وأصيب 10 آخرون إثر سقوط مسيّرة وسط "تل أبيب"، على بعد مئات الأمتار من سفارة الولايات المتحدة، كما أن صواريخ الحوثيين وصلت عدة مرات إلى "إيلات" جنوب فلسطين المحتلة.
وسبق أن أعلن زعيم الحوثيين، عبد الملك الحوثي مرارا، أن قواتهم مستمرة في تطوير قدراتها العسكرية، مؤكدًا أن العالم سيشهد "مستوى من الإنجازات الاستراتيجية" تضع اليمن في مصاف الدول المتقدمة في هذا المجال.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة سياسة عربية مقابلات سياسة دولية تل أبيب اليمن الاحتلال الصاروخ الحوثيين فرط صوتي تل أبيب اليمن الاحتلال صاروخ الحوثي المزيد في سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الفرط صوتیة الفرط صوتی فرط صوتیة فرط صوتی تل أبیب
إقرأ أيضاً:
من سبأ إلى حمير .. اليمن التي علّمت التاريخ معنى السيادة
يُعدّ اليمن مهدًا لحضارات ضاربة في عمق الزمن، تشكّلت على أراضيه دول وممالك قديمة عظيمة لعبت أدوارًا محورية في تاريخ شبه الجزيرة العربية، والعالم القديم عمومًا، على امتداد آلاف السنين، ظهرت في اليمن ممالك مثل سبأ، ومعين، وقتبان، وحضرموت، وحِميَر، لم تقتصر إنجازاتها على الحدود الجغرافية للجنوب العربي، بل امتدت آثارها إلى أعماق الشام والعراق وشرق إفريقيا، وحتى الإمبراطوريات الكبرى مثل روما وفارس.
يمانيون/ تقرير/ طارق الحمامي
يتناول هذا التقرير استعراضًا لتاريخ الممالك اليمنية القديمة، بدءًا من النشأة والتطور، مرورًا بأهم إنجازاتها الحضارية في مجالات الري والزراعة والتجارة والكتابة، وانتهاءً بعلاقاتها المتشعبة مع الممالك والدول المجاورة، من الحبشة إلى فارس، ومن كندة إلى بيزنطة، كما يتوقف التقرير عند مواطن القوة التي جعلت من هذه الممالك حضارات مزدهرة قادرة على التأثير العالمي، وكذلك مواطن الضعف التي ساهمت في تراجعها وسقوطها، سواء بسبب الانقسامات الداخلية أو الأطماع الخارجية.
تكمن أهمية هذا التقرير في كونه يسلط الضوء على فترة تاريخية شديدة الغنى لكنها لا تحظى غالبًا بالاهتمام الكافي في الوعي العربي العام، رغم أنها تمثل أحد أهم جذور الهوية التاريخية والحضارية لليمن والمنطقة، فمن خلال دراسة هذه الممالك، نفهم ليس فقط كيف تشكّلت الدولة في جنوب الجزيرة، بل كيف كان للعرب دور فعّال في صناعة التاريخ الإقليمي والدولي منذ عصور مبكرة.
مملكة سبأ .. العظمة برائحة البخورقامت مملكة سبأ في الألف الأول قبل الميلاد، وكانت عاصمتها مأرب، اشتهرت ببناء سد مأرب، أحد أقدم وأعظم مشاريع الري في التاريخ، والذي سمح لها بالتحكم في الزراعة والمياه ، واستخدمت الخط المسند، ونشرت تأثيرها السياسي والديني في المنطقة ، وارتبطت بشخصية الملكة بلقيس، التي ورد ذكرها في القرآن الكريم ، وامتدّت بنفوذها إلى شمال الجزيرة وإفريقيا الشرقية.
مملكة معين .. إمبراطورية القوافلنشأت في منطقة الجوف، واتخذت من قرناو عاصمة لها، واشتهرت بتنظيم التجارة عبر طريق البخور ، وأنشأت شبكة قوافل تجارية محكمة تصل الهند بموانئ الشام ومصر كما حافظت على استقلالها رغم قربها من ممالك منافسة.
مملكة قتبان .. الازدهار الصناعي والتجاريتمركزت في وادي بيحان، وازدهرت من خلال الزراعة، والصناعة، وتجارة اللبان ، وكانت تمنع مركزًا سياسيًا وتجاريًا متقدمًا ، كما شاركت في التحكم بطريق التجارة بين حضرموت والبحر الأحمر.
مملكة حضرموت .. كنوز اللبان والموانئ الحيويةعاصمتها شبوة، وامتدت أراضيها إلى سواحل المحيط الهندي ،واشتهرت بإنتاج وتصدير اللبان ، كما أنشأت موانئ بحرية قوية مثل قنا، وعززت العلاقات مع الهند وشرق إفريقيا ،واحتفظت باستقلال طويل قبل أن تخضع لحمير.
مملكة حمير .. التوحيد والقوة العسكريةظهرت في القرن الثاني قبل الميلاد، ونجحت في توحيد اليمن السياسي تحت سلطتها ، وتحولت إلى اليهودية في القرن الرابع الميلادي ، حيث خاضت صراعات دينية وسياسية مع مملكة أكسوم المسيحية حتى تدخلت فارس لإسقاط الاحتلال الحبشي بطلب من الحميريين.
العلاقات الإقليمية والدولية للدول والممالك اليمنيةمع ممالك الجزيرة العربية ، تفاعلت مع كندة وبقية القبائل الكبرى في نجد والحجاز ، وساهمت في نشر ثقافتها ودياناتها شمال الجزيرة.
مع الحبشة (أكسوم) ، شهدت العلاقات تحولًا من التجارة إلى صراع مسلح ، حتى غزت أكسوم اليمن بدعم بيزنطي في القرن السادس الميلادي.
مع الإمبراطورية البيزنطية والرومانية ، كانت اليمن شريكًا تجاريًا هامًا ، وحاولت روما وبيزنطة الالتفاف على احتكار اليمنيين لطريق البخور.
مع فارس (الساسانيين) ، استجابت لحلفاء من حمير لمساعدتهم ضد الأحباش ، وأصبحت اليمن ولاية فارسية حتى الفتح الإسلامي.
التوازن بين الازدهار والتحديات في مسيرة الدول والممالك اليمنية القديمةلقد مرت الدول والممالك اليمنية القديمة، على مدار أكثر من ألف عام، بفترات ازدهار لافتة، جعلتها من أبرز الحضارات في جنوب الجزيرة العربية، لكن هذا الازدهار لم يكن خاليًا من التحديات، فقد جمعت هذه الدول والممالك بين عناصر القوة المتعددة، وبين نقاط ضعف كامنة ساهمت لاحقًا في إضعافها وتعرضها للتدخل الخارجي والانهيار.
لقد كان الموقع الجغرافي لليمن، المتاخم للبحر الأحمر والمحيط الهندي، وكونه عقدة رئيسية على طريق البخور واللبان، من أبرز العوامل التي ساعدت على صعود هذه الممالك، وقد مكّنها هذا الموقع من تطوير شبكات تجارية واسعة امتدت إلى الشام، وبلاد فارس، والهند، وشرق إفريقيا، مما جلب ثروات ضخمة عززت نفوذها السياسي والعسكري، كما أسهمت البنية الاجتماعية المنظمة، القائمة على القبائل المستقرة، والأنظمة الإدارية المركزية، في تعزيز الاستقرار الداخلي نسبيًا داخل بعض الممالك مثل سبأ وحمير.
في المقابل، واجهت هذه الممالك تحديات خطيرة، من أبرزها التنافس المستمر بينها، حيث أدت الصراعات الداخلية إلى إضعاف الجبهة اليمنية أمام الأطماع الخارجية. كما أن التحولات الدينية، خاصة في أواخر عهد مملكة حمير، أدت إلى تفكك النسيج الاجتماعي والسياسي، وخلقت مبررات للتدخل من قِبل قوى أجنبية، مثل مملكة أكسوم الحبشية، ثم الإمبراطورية الفارسية. يُضاف إلى ذلك اعتماد هذه الممالك بشكل كبير على التجارة العابرة، مما جعل استقرارها الاقتصادي هشًا في حال تغيرت طرق التجارة أو ظهرت موانئ بديلة.
ورغم كل ذلك، ظلت الممالك اليمنية قادرة في فترات طويلة من تاريخها على التكيّف مع هذه التحديات، بل وتحويلها أحيانًا إلى فرص للبقاء والتمدد ، كانت القوة تكمن في القدرة على إدارة الموارد، وبناء التحالفات، وتوظيف العقيدة والهوية في تعزيز الشرعية السياسية، أما مواطن الضعف، فقد كانت في الغالب نتيجة لعدم الاتفاق على وحدة مستدامة، مما سهّل اختراق البلاد في اللحظات الحرجة.
إن هذا التوازن بين القوة والتحديات، هو ما يضفي على تجربة الممالك اليمنية القديمة عمقها وثراءها، ويجعل من دراستها نموذجًا لفهم كيفية صعود وسقوط الحضارات في سياقات معقدة ومتشابكة.
القوة العسكرية المنظمة .. كيف أصبحت اليمن مقبرة الغزاة؟على امتداد العصور القديمة، لم تكن الدول والممالك اليمنية مجرد كيانات مزدهرة اقتصاديًا وثقافيًا، بل كانت تملك قوة عسكرية منظمة ومؤثرة جعلتها في فترات طويلة عصية على الاحتلال الخارجي، وصعبة الاختراق حتى على أعظم الإمبراطوريات في العالم القديم، أظهرت النقوش والآثار اليمنية القديمة إشارات واضحة إلى وجود هياكل عسكرية منظمة لدى معظم الممالك، حيث تشير نقوش مملكة سبأ وحمير إلى فرق عسكرية متخصصة، وقادة ميدانيين، واستخدام متقدم للأسلحة التقليدية في تلك المرحلة مثل السيوف، والرماح، والدروع، والعربات القتالية،
كما اتبعت بعض الممالك، خصوصًا حمير، سياسة التجنيد القبلي وتشكيل جيوش شبه دائمة، كان يتم تدريبها لحماية الطرق التجارية والمعابد والمدن، وكذلك لردع الغزوات الخارجية، مما ساعد على تأمين الاستقرار السياسي والاقتصادي
كما تميزت مدن اليمن القديمة بوجود تحصينات دفاعية قوية، فقد بُنيت كثير من العواصم والمراكز الحضرية فوق مرتفعات جبلية أو خلف أسوار عالية، كما في شبام، وقرناو، وظفار، وهو ما صعّب على الغزاة مهمة اختراقها، وكانت تلك المدن مجهزة بأنظمة إنذار ومراقبة، وتمتلك طرقًا ملتوية للدخول تجعل أي غزو مباشر محفوفًا بالمخاطر.
تاريخ اليمن القديم مليء بالأمثلة على التصدي الناجح لمحاولات الغزو الأجنبي ، حيث حاولت الإمبراطورية الرومانية إرسال حملة بحرية إلى اليمن في عهد الإمبراطور أغسطس، لكنها فشلت في تحقيق أي اختراق فعلي ، على الرغم من تمكن الأحباش من احتلال أجزاء من اليمن في القرن السادس الميلادي، إلا أن المقاومة الحميرية لم تهدأ، ونجحت في استدعاء الفرس لطرد الغزاة بعد معارك طويلة ،
وما تجدر الإشارة إليه أن الممالك اليمنية القديمة لم تُستعمر استيطانيًا من قبل أي قوة أجنبية قبل العصر الحديث، بل كانت تتمتع دائمًا بمساحة من الاستقلال والندية .
لقب “مقبرة الغزاة”… استحقاق له جذور تاريخيةما يُعرف اليوم بـ”مقبرة الغزاة” ليس مجرد وصف حديث، بل يعكس تراكمًا تاريخيًا طويلًا من الفشل الخارجي في إخضاع اليمن بالكامل ، فقد واجه اليمنيون الحملات الخارجية بالصبر والمقاومة، مستخدمين وعورة التضاريس، وتماسك القبائل، والخبرة القتالية في الجبال والصحارى، لتحويل أرضهم إلى شَرَكٍ للمعتدين ، وكانت القوة العسكرية المنظمة أحد أعمدة الصمود في الممالك اليمنية القديمة، ولم تكن هذه القوة تعتمد فقط على العدد والعدة، بل على الاستراتيجية، والتحصينات، وروح المقاومة، وقد ساهم هذا العامل، إلى جانب الهوية الثقافية المتجذرة، في جعل اليمن في نظر الغزاة أرضًا عسيرة لا تستسلم بسهولة، بل تقاوم وتنتصر، أو تموت واقفة.
الهوية اليمنية القديمة .. كيف حافظت على خصوصيتها الثقافية والسياسية والاجتماعية؟رغم تعاقب القوى، احتفظ اليمن القديم بهويته الخاصة التي تميزت عن باقي حضارات المنطقة ، حيث استخدموا الخط المسند، ورفضوا استيراد نظم كتابة أجنبية، ووثقت النقوش والمجسمات أزياء وزينة تقليدية ما تزال مؤثرة حتى اليوم ، كما أنها احتفظت بنمطها المعماري الفريد، أبرزها معابد أوام ومدينة شبام ، وحافظوا على طقوس محلية حتى مع دخول الديانات السماوية ، أما التقاليد الاجتماعية كالزواج والميراث والملكية القبلية، ساعدت في بناء تماسك اجتماعي قوي واستقلال إداري حتى في ظل الاحتلال، استمرت النظم المحلية في العمل، ورفض اليمنيون الانصهار في الثقافات المفروضة عليهم.
خاتمةإن الدول والممالك اليمنية القديمة لم تكن مجرد كيانات سياسية، بل حضارات متكاملة حافظت على خصوصيتها، وهويتها، وأسهمت في تشكيل ملامح المنطقة تاريخيًا وثقافيًا. واليوم، لا تزال آثارها شاهدة على ماضٍ مجيد، يستحق أن يُدرس ويُحتفى به، ليس كتراث محلي فقط، بل كجزء من ذاكرة الإنسانية المشتركة.