يمن مونيتور:
2025-06-04@11:00:27 GMT

علي عبدالمغني.. بطلنا الخالد

تاريخ النشر: 24th, September 2024 GMT

علي عبدالمغني.. بطلنا الخالد

 

والشمس تتحدّر دمعة حمراء في خد السّماء، يضطجع البطل مضرجاً بدمائه جوار المدرّعة التي كانت تقلّه ليؤدي مهمته المقدّسة في “حريب” بمأرب.

في جسده بضع رصاصات وعدد من الشظايا، وعلى محياه ابتسامة. تمر حياته الآن أمام ناظريه. تهفهفه نسائم طفولته من هناك، من ذاك المرج الأخضر من ريف إب، من مديرية السدّة، من قريته “المسقاه”.

يشعر بكف أخته “فاطمة” تمسك بيده ليرتعا معاً في حدائق من بهجة الطفولة بقريته الجنّة. يحملق في وجه أمّه الذي ما كف يرضعه حناناً مضاعفاً استعاض به عن احتواء أبيه الذي فقده وهو لمّا يدلف الخامسة بعد.

ها هم المسوخ يمضون أمام ناظريه، ترتسم على ملامحهم المشوهة لذاذة نصر يتوهّمونه، وها هي الدماء تشخب من جروحه لتضمخ تراب وطنه، معشوقه الأوحد، قدس أقداسه، قضيته الكبرى والوحيدة. يستمر شريط حياته يمر أمام عينيه، وعلى شفتيه الابتسامة لا تزال.

هو الآن في “نيعان”، يتلقى أول تعليمه في “الكُتّاب”، ذلك النوع من التعليم البدائي، حيث الكتاب لوح من خشب، والقلم ريشة أو فحمة والأستاذ لا يدرك ما يلي حدود قريته.

ينظر إلى نفسه والأطفال من أقرانه وكذا الكبار من أقربائه يحتفلون به في السابعة من عمره بمناسبة ختمه للقرآن قراءةً.

يمر على كل تلك التفاصيل التي يعيشها طفل مُثقَل بالحرمان من دفء الأسرة المتماسكة في بلدٍ يئن تحت أطنان من الجهل والخرافة تسحقه حتى العظم.

وها هو في صنعاء وعمره تسع سنوات، يتقدم لمدرسة الأيتام فترى اللجنة المختصة للقبول أنّه مهيأ لاجتياز ثلاث سنوات دراسية. ليس طفلاً عاديّاً. إنه من ذلك النوع الذين تأتي أقدارهم مرتسمة على ملامحهم، تنطق بها حركاتهم وسكناتهم وكل تفاصيلهم. ليس طفلاً عاديّاً. ترتسم يمنيّته على سحنته بجلاء، بنشاطه الدؤوب، بحذقه الظاهر وبميله للعطاء والخير.

الشمس تحث خطاها مستعجلة الغرق وراء الأفق، وما يزال دمه ينثال ثجاجاً على تربة معشوقته اليمن. يمد كفه المضرجة بالدم، يعجن ببعض دمه قبضة من التراب يرفعها إلى أنفه ويتنشقها ملء صدره، ملء وجدانه، ملء قلبه المفعم بالوطنية والإباء.

يلتقي بالمناضل “جمال جميل” وعمره إحدى عشرة سنة، قبل أيّام فقط من ثورة 48، بعد مضي سنتين من دراسته بمدرسة الأيتام. يقرّبه المناضل الكبير منه ويسأله: فيم تكون السعادة يا بني؟! يجيبه الطفل علي، ببداهة الواعين الكبار وبصدق الأنقياء الصغار: في الحرية.

يبتسم المناضل، يضمه إليه كولده ويقول وهو يحدّق في عينيه: “لو فشلت ثورتنا، لا سمح الله، فهذا الشبل هو من سيسحقهم”، ويوصيه بالاستمرار بالتعلم ويعطيه جائزة مالية ستعينه على مراحله القادمة.

حين فشلت ثورة الـ 48، والطاغية يدحرج بسيفه رؤوس المناضلين، يقول جمال جميل، مبتسماً، والسيف مسلط على عنقه: “حبّلناها، وستلد!”.

لم يفهم أحد مغزى هذه الجملة، فقط علي فهمها، وظلّت تتردد بين جنبيه أصداء تشعل فيه كل جذوة ثورة وتمرّد.

وظل الفتى عبد المغني هو الأوّل دوماً، في كل شيء وبكل مكان، ككل الأبطال الذين كانوا لأوطانهم أقدار ابتعاث وعز: الأول في مدرسة الأيتام ثم الأول بالمدرسة المتوسطة ثم الأول في المدرسة الثانوية، وتكون جائزته قلماً من الذهب من البدر المظلم ابن بيت حميد الدين الظلّام.

توشك الشمس أن تتوارى خلف الأفق، مِزقٌ محمرّةٌ من السحب تتوزع على الأفق الدامي كأنّما انعكاس جسد البطل المضرّج، ويستمر شريط حياته بالمضي أمام عينيه العبقريتين.

يلتحق بالكلية الحربية عام 1958م، وكعادته يكون الأوّل، وها هو يزمجر من على المنصة يلقي كلمة الخريجين تُبّعاً يمانيّاً حتى النخاع. يكمل كلمته فيهب إليه وجه الإمامة الأكثر شناعة “أحمد” ويهديه قلمه الذهبي. يبتسم البطل واضعاً القلم في جيبه مردداً في نفسه: “بقلمك هذا سأكتب خاتمتك أيها الغشوم”!

يلتحق بمدرسة الأسلحة بمعية نخبة من أكفأ الضباط الذين صاروا رفاق نضاله تالياً. وبعد تخرجه يعود إلى القرية، إلى حقل صباه، إلى حضن أمّه.  هكذا يفعل الأبطال دوماً، بعد أن يحسنوا إعداد ذواتهم بما تستلزمه قضيتهم من أدوات نضال يهرعون لمخازن العاطفة يتزودون منها ما يعينهم على استمرارية المسير.

يسأل أمه: “أيش رأيش ببيت حميد الدين؟!”. تجيبه: “والله يا ولدي إن أعمالهم لا ترضي الله ولا رسوله”، وبحرقة من ذاق مرارة الظلم تزيد: “أمرهم إلى الله”. يقبّل جبينها ثم ينظر في عينيها وابتسامته العذبة ملء وجهه: “والله ما تسمعي عني إلا ما يسر خاطرش يا اماه. أما بيت حميد الدين والله ما يذلوني، وسأموت موتة الأبطال”.

بعد أن تشرّبت روحه هذا الفيض المعنوي اتجه البطل إلى “تعز” ثم إلى “الحديدة” متواصلاً مع مجموعة من الضباط الأحرار. ثم يعود إلى صنعاء ليتم تشكيل “تنظيم الضباط الأحرار” بعد محاولات عديده لإنشائه، ويكون البطل أبرز قادته ومسؤولاً عن خلية تتكون من عشرة ضباط.

يعود بعدها لينظم مظاهرات للطلاب في كل من صنعاء وتعز والحديدة. يؤمن بأن الفعل الثوري لا يكون كاملاً إن اكتفى بنخبويته، وأنه يكسب فاعلية أكبر كلما سبقته إرهاصات تجعل من كل فئات الشعب فاعلة فيه، وقد كانت قناعته هذه هي التي دفعته في 55م، بعد العدوان الثلاثي على مصر، إلى تنظيم مظاهرة طلابية تزعمها هو، وكانت أول مظاهرة من نوعها نادى فيها الطلاب بالجمهورية فدخل على إثرها السجن ليعتصم الطلاب فلا يعودون إلا به.

غشاوة بدأت تخامر بصره هذه اللحظات. يشعر بخدر ينتاب أطرافه. باتت حياته تعرض مشاهدها أمام عينيه بتقطُّع: في الخامس والعشرين من سبتمبر يجتمع مع رفاقه من الضباط، يُخرِج من جيبه الورقة التي سطّر فيها أهداف الثورة بالقلم نفسه الذي كان جائزة تخرجه، تلك السطور التي فتحت لليمنيين عصراً جديداً، الأسطر التي تنضح أكاليل ضياء تمزق دياجير الإمامة. ِيكمل كتابتها ويرفع رأسه للسماء مردداً: “اللهم لا تمتني قبل أن أسمع إعلان الجمهورية”.

وفي الحادية عشرة مساءً يقود قوات الجيش التي أعدّها تنظيم الضباط الأحرار إلى “دار البشائر” التي كان يقطنها “البدر بن أحمد”، يحوطونها بالمدرعات ويطلبون منه وحاشيته الاستسلام  فيكون الرد وابلاً من الرصاص يضطر بعده البطل ورفاقه إلى قصف تلك الدار.

وفي صباح الـ 26 من سبتمبر تتحقق أمنية البطل إذ ارتقى “محمد الفسيل” منصة إذاعة صنعاء مرتلاً بيان الثورة معلناً الجمهورية وموارياً الإمامة.

يشعر البطل بانسلال روحه رويداً رويداً. ترتخي أصابعه عن قبضة التراب المنعجنة بدمه وهو يمر على آخر أيامه التالية لإعلان الثورة. أسبوعان من التصميم الثوري، من الحنكة في توزيع المهام. وها هو اليوم يخرج بنفسه، كعادة القادة الأبطال المغاوير في كل زمن، على طليعة قوة لمواجهة وهم الإمامة وبقايا الخرافة والجهل المتجمعين في “بيحان” بنيّة الهجوم على الجمهورية مروراً بمأرب فصنعاء.  وكعادة الجبناء ينصبون له كميناً ويمطرونه برصاص الحقد.

تغرب الشمس تماماً، ومع تبخر آخر قطرات الحياة من جسده الممتلئ باليمن، مع انسلال آخر ضوء من روحه المشبعة باليمن لأعالي السماء، لوطنها الأبدي الخالد، يلوح في وعيه أبوه المعنوي “جمال جميل”. يبتسم ويردد ملء الأرض: “قد ولِدَت يا أبي.. ولِدَت ولن تموت أبداً”.

عبدالله شروح24 سبتمبر، 2024 شاركها فيسبوك تويتر واتساب تيلقرام "سي ان ان": سفينة حربية أمريكية تتعرض لأضرار بالشرق الأوسط ٢٦ سبتمبر.. ثورة تتجدد وكهنوت يلفظ الانفاس مقالات ذات صلة الحكومة اليمنية: اختطاف الحوثيين لمواطنين يهدف إلى منع الاحتفال بذكرى ثورة 26 سبتمبر 24 سبتمبر، 2024 ٢٦ سبتمبر.. ثورة تتجدد وكهنوت يلفظ الانفاس 24 سبتمبر، 2024 “سي ان ان”: سفينة حربية أمريكية تتعرض لأضرار بالشرق الأوسط 24 سبتمبر، 2024 تخرج دفعة جديدة جامعيين من الكليات العسكرية في مأرب 24 سبتمبر، 2024 اترك تعليقاً إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التعليق *

الاسم *

البريد الإلكتروني *

الموقع الإلكتروني

احفظ اسمي، بريدي الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح لاستخدامها المرة المقبلة في تعليقي.

Δ

شاهد أيضاً إغلاق آراء ومواقف المملكة واليمن شراكة ومواقف ثابتة 23 سبتمبر، 2024 الأخبار الرئيسية الحكومة اليمنية: اختطاف الحوثيين لمواطنين يهدف إلى منع الاحتفال بذكرى ثورة 26 سبتمبر 24 سبتمبر، 2024 ٢٦ سبتمبر.. ثورة تتجدد وكهنوت يلفظ الانفاس 24 سبتمبر، 2024 علي عبدالمغني.. بطلنا الخالد 24 سبتمبر، 2024 “سي ان ان”: سفينة حربية أمريكية تتعرض لأضرار بالشرق الأوسط 24 سبتمبر، 2024 تخرج دفعة جديدة جامعيين من الكليات العسكرية في مأرب 24 سبتمبر، 2024 الأكثر مشاهدة واللاتي تخافون نشوزهن 14 مارس، 2018 التحالف يقول إن نهاية الحوثيين في اليمن باتت وشيكة 26 يوليو، 2019 الحكومة اليمنية تبدي استعدادها بتوفير المشتقات النفطية لمناطق سيطرة الحوثيين وبأسعار أقل 12 أكتوبر، 2019 (تحقيق حصري) كيف تحوّلت مؤسسات صنعاء إلى “فقَّاسة صراع” الأجنحة داخل جماعة الحوثي؟ 29 أغسطس، 2021 مجموعة العشرين تتعهّد توفير “الغذاء الكافي” في مواجهة كورونا 22 أبريل، 2020 اخترنا لك ٢٦ سبتمبر.. ثورة تتجدد وكهنوت يلفظ الانفاس 24 سبتمبر، 2024 المملكة واليمن شراكة ومواقف ثابتة 23 سبتمبر، 2024 خطاب المستقبل في قمة المستقبل 23 سبتمبر، 2024 المملكة العربية السعودية: قيادة وريادة سياسياً واقتصاديا وإنسانياً! 22 سبتمبر، 2024 الحوثيون ورهاب ثورة ٢٦ سبتمبر 22 سبتمبر، 2024 الطقس صنعاء غيوم متفرقة 22 ℃ 22º - 21º 25% 5.25 كيلومتر/ساعة 22℃ الثلاثاء 26℃ الأربعاء 26℃ الخميس 26℃ الجمعة 26℃ السبت تصفح إيضاً الحكومة اليمنية: اختطاف الحوثيين لمواطنين يهدف إلى منع الاحتفال بذكرى ثورة 26 سبتمبر 24 سبتمبر، 2024 ٢٦ سبتمبر.. ثورة تتجدد وكهنوت يلفظ الانفاس 24 سبتمبر، 2024 الأقسام أخبار محلية 27٬954 غير مصنف 24٬182 الأخبار الرئيسية 14٬616 اخترنا لكم 7٬003 عربي ودولي 6٬843 غزة 6 رياضة 2٬319 كأس العالم 2022 72 اقتصاد 2٬228 كتابات خاصة 2٬069 منوعات 1٬985 مجتمع 1٬833 تراجم وتحليلات 1٬757 ترجمة خاصة 44 تحليل 10 تقارير 1٬592 آراء ومواقف 1٬520 صحافة 1٬480 ميديا 1٬388 حقوق وحريات 1٬306 فكر وثقافة 893 تفاعل 811 فنون 477 الأرصاد 301 بورتريه 63 صورة وخبر 36 كاريكاتير 32 حصري 21 الرئيسية أخبار تقارير تراجم وتحليلات حقوق وحريات آراء ومواقف مجتمع صحافة كتابات خاصة وسائط من نحن تواصل معنا فن منوعات تفاعل English © حقوق النشر 2024، جميع الحقوق محفوظة   |   يمن مونيتورفيسبوكتويترملخص الموقع RSS فيسبوك تويتر واتساب تيلقرام زر الذهاب إلى الأعلى إغلاق فيسبوكتويترملخص الموقع RSS البحث عن: أكثر المقالات مشاهدة واللاتي تخافون نشوزهن 14 مارس، 2018 التحالف يقول إن نهاية الحوثيين في اليمن باتت وشيكة 26 يوليو، 2019 الحكومة اليمنية تبدي استعدادها بتوفير المشتقات النفطية لمناطق سيطرة الحوثيين وبأسعار أقل 12 أكتوبر، 2019 (تحقيق حصري) كيف تحوّلت مؤسسات صنعاء إلى “فقَّاسة صراع” الأجنحة داخل جماعة الحوثي؟ 29 أغسطس، 2021 مجموعة العشرين تتعهّد توفير “الغذاء الكافي” في مواجهة كورونا 22 أبريل، 2020 أكثر المقالات تعليقاً 1 ديسمبر، 2022 “طيران اليمنية” تعلن أسعارها الجديدة بعد تخفيض قيمة التذاكر 30 ديسمبر، 2023 انفراد- مدمرة صواريخ هندية تظهر قبالة مناطق الحوثيين 21 فبراير، 2024 صور الأقمار الصناعية تكشف بقعة كبيرة من الزيت من سفينة استهدفها الحوثيون 4 سبتمبر، 2022 مؤسسة قطرية تطلق مشروعاً في اليمن لدعم أكثر من 41 ألف شاب وفتاه اقتصاديا 4 يوليو، 2024 دراسة حديثة تحلل خمس وثائق أصدرها الحوثيون تعيد إحياء الإمامة وتغيّر الهوية اليمنية 26 فبراير، 2024 معهد أمريكي يقدم “حلا مناسباً” لإنهاء هجمات البحر الأحمر مع فشل الولايات المتحدة في وقف الحوثيين أخر التعليقات Abdaullh Enan

نور سبتمبر يطل علينا رغم العتمة، أَلقاً وضياءً، متفوقاً على...

SALEH

تم مشاهدة طائر اللقلق مغرب يوم الاحد 8 سبتمبر 2024 في محافظة...

محمد عبدالله هزاع

يا هلا و سهلا ب رئيسنا الشرعي ان شاء الله تعود هذه الزيارة ب...

.

نرحو ايصال هذا الخبر...... أمين عام اللجنة الوطنية للطاقة ال...

issam

عندما كانت الدول العربية تصارع الإستعمار كان هذا الأخير يمرر...

المصدر: يمن مونيتور

إقرأ أيضاً:

ثورة التعليم الذاتي: هل مات التعليم التقليدي؟

 

 

محمد بن زاهر العبري

في زمنٍ تتسارع فيه عجلة التكنولوجيا وتتشكل ملامح المُستقبل بوتيرة غير مسبوقة، تتصدر عبارة "التعليم الذاتي" المشهد؛ كعنوانٍ لتحوّل جذري في طريقة اكتساب المعرفة.

ولم يعد المُتعلِّم أسير جدران الفصول الدراسية أو رهينًا لجداول المحاضرات؛ بل أصبح قائدًا لمسيرته المعرفية، ينتقي المصادر، ويختار الوقت، ويرسم الطريق وفقًا لإيقاعه الخاص. ولكن، هل يعني هذا أن التعليم التقليدي قد لفظ أنفاسه الأخيرة؟ أم أننا نعيش لحظة تصادم بين منهجين لا بد أن يتكامل أحدهما مع الآخر؟

شهد العقد الأخير قفزات نوعية في أدوات التعليم الذاتي، بداية من المنصات الرقمية إلى الدورات المفتوحة (MOOCs)، مرورًا بقنوات المعرفة المرئية والتفاعلية. بات الهاتف الذكي مكتبة متنقلة، وبات اليوتيوب أستاذًا متعدد التخصصات، وأصبح الوصول إلى المعرفة أكثر ديمقراطية من أي وقت مضى. هذا التحول لم يعد مقتصرًا على المهارات العملية أو الهوايات؛ بل أصبح يشمل التخصصات الأكاديمية العميقة، مثل علوم الحاسوب، والفيزياء، وحتى الفلسفة.

ومع هذا الزخم، بدأ كثيرون ينظرون إلى التعليم التقليدي كهيكل متقادم، يرزح تحت وطأة البيروقراطية والمناهج الجامدة، ولا يواكب روح العصر. يتساءل البعض: لماذا أضيع سنوات طويلة في قاعات جامعية أستمع لمحاضرات قديمة، بينما أستطيع تعلم نفس المادة – وربما بطريقة أكثر تشويقًا – عبر منصة إلكترونية وأنا في غرفة نومي؟ ولماذا أدفع مبالغ طائلة للحصول على شهادة، بينما يُمكنني إتقان المهارة عمليًا عبر التدريب الذاتي والعمل الحر؟

غير أن الصورة ليست بتلك البساطة. التعليم التقليدي، رغم عيوبه، لا يزال يحتفظ بجوانب لا تعوّض: التفاعل البشري، بيئة التعلم الجماعي، التأطير المنهجي، والتقييم الأكاديمي المحكوم بمعايير دقيقة. ففي حين يُغري التعليم الذاتي بالمرونة، إلا أنه يتطلب انضباطًا ذاتيًا عاليًا، لا يتوافر للجميع. كما أن هناك تخصصات- كالطب، والهندسة، والقانون- لا يمكن إتقانها بالكامل دون إشراف مباشر وتجربة ميدانية مضبوطة.

في الحقيقة، لا يتعلق الأمر بموت التعليم التقليدي؛ بل بإعادة تشكيله. فالعالم لا يسير نحو إلغاء الجامعات؛ بل نحو إعادة تعريف دورها. في هذا السياق، ظهرت نماذج هجينة تجمع بين التعليم الذاتي والمنهجي، وتُعيد توزيع الأدوار بين المعلم والمُتعلِّم. أصبح الأستاذ موجهًا بدلًا من ملقّن، وأصبح الطالب شريكًا نشطًا في بناء المعرفة. وأضحت الجامعات الذكية تدمج المنصات الرقمية في برامجها، لتجعل التجربة التعليمية أكثر تشاركية وتكيّفًا مع احتياجات كل طالب.

ما نعيشه اليوم ليس إعلان وفاةٍ لنظام؛ بل ولادة جديدة له. التعليم التقليدي لم يمت، لكنه يُجبَر على أن يتطوّر، ليواكب جيلًا لا يرضى إلا بما هو مرن، متجدد، ومحفّز. أما التعليم الذاتي، فليس بديلًا كاملًا؛ بل أداة تمكين، تكشف عن القدرات الفردية، وتفتح نوافذ التعلم المستمر في عالم لا يعترف بالجمود.

لقد غيّرت ثورة التعليم الذاتي شكل العلاقة بين الإنسان والمعرفة، لكنها لم تقطع صلتنا بالتعليم المنظّم. السؤال اليوم لم يعد: أيّ النظامين هو الأفضل؟ بل: كيف نصنع تعليمًا يدمج بين حرية التعلم الذاتي وصلابة الإطار الأكاديمي؟ المستقبل لا يُقصي طرفًا؛ بل يصهر التجارب ليولد منها نظامًا أكثر شمولًا وإنسانية. فالتعليم في جوهره ليس مجرد طريقة؛ بل رحلة تستحق أن تكون مرنة، عميقة، ومستمرة مدى الحياة

والسؤال الذي يتعلق بنا نحن العُمانيين هو: إلى أين يمضي بنا نظامنا التعليمي الحالي؟ ومتى ستشهد أنظمته التطور؟

مقالات مشابهة

  • جمعية أصدقاء السكري تختتم برنامج البطل الخارق
  • ثورة التعليم الذاتي: هل مات التعليم التقليدي؟
  • واشنطن تجدد تهديداتها لسفن الوقود التي تصل مناطق الحوثيين بـ "عقوبات قاسية"
  • رحمة محسن تكشف حقيقة الارتباط بـ أحمد العوضي.. فيديو
  • رحمة محسن عن أحمد العوضى: حبيب قلبي وان شاء الله هشتغل معاه تانى
  • برفقة عمرو أديب.. رحمة محسن تنشر صورتها في برنامج «الحكاية»
  • باريس سان جيرمان.. البطل 24 على جدران «ذات الأذنين»
  • تكريم إمام عاشور بمهرجان همسة للآداب والفنون فى دورته الــ 13 سبتمبر المقبل
  • "البترول": القارة الإفريقية تمتلك احتياطيات كبيرة من الغاز الطبيعي والبترول
  • لماذا الرعب من ثورة النسوان؟